المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(4) الرواية بالمعنى - أخطاء وأوهام في أضخم مشروع تعسفي لهدم السنة

[عبد العظيم المطعني]

الفصل: ‌(4) الرواية بالمعنى

(4) الرواية بالمعنى

من الشبهات التي أثارها صاحب المشروع، متابعاً في إثارتها غيره من خصم السنة - قديماً - والمبشرين والمستشرقين - حديثاً -، مثل المستشرق اليهودي المجري: جولد تسيهر. عدو السنة الألد. ومحمود أبو رية صاحب كتاب: "أضواء على السنة المحمدية". من تلك الشبهات شبهة أن الأصل في رواية الحديث النبوي كانت بالمعنى لا باللفظ، - يعني - أن راوي الحديث كان بعد سماعه الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يردده بألفاظ من عنده لا بالألفاظ التي سمعها. وهي شبهة قديمة - كما تقدم -، وقد تصدى لها علماء الحديث وكشفوا عن زيفها.

يقول صاحب المشروع التعسفي لهدم السٌنة النبوية:

"إن الرواية بالمعنى كانت هي الأصل بالفعل عند السابقين، ولكن علماء الحديث ظلوا يخففون من ثقل هذه الحيقيقة على العقول، حتى لا يفزع الناس من تلقي أحكام تقال في الدين عبر أجيال متلاحقة بطريق الرواية بالمعنى، حتى أن الإمام الشافعي جعل ذلك أصلاً من الأصول الشرعية التي لا ينبغي أن يفزع الناس منها".

وقد رتب صاحب المشروع على هذا الأصل الذي أدعاه؛ وهو رواية الحديث بالمعنى أموراً، منها:

* أن ما اشتملت عليه كتب الحديث من أقوال منسوبة إلى

ص: 20

رسول الله صلى الله عليه وسلم هي ليست أقواله: وإنما هي أقوال رجال يخطئون ويصيبون ولا يوثوق بهم؟!.

* أن الأحكام التي تُفْهم من هذه الأقوال إنما هي آراء أولئك الرجال، وليست أحاكاً شرعية؟!.

* أن رجال الحديث خدعوا الأمة طوال أربعة عشر قرناً، وأوهموها بأن الأحاديث هي من كلام رسول الله، وهي ليست من كلامه، ولم يصرحوا للأمة بحقيقة الأمر لئلا تفزع من تلك الحقيقة؟!

* وأن الإمام الشافعي له ضلع في تلك الجرائم، وكذلك أئمة المذاهب الفقهية الأخرى؛ حيث جعلوا تلك الأحاديث المزورة أصلاً ثانياً من أصول التشريع؟!.

هذا ما يسعى إليه صاحب المشروع التعسفي لهدم السنة النبوية؛ حيث يروج في مشروعه الخبيث التشكيك في السنة جملة وتفضيلاً، وهو يزعم أنه حامل مشعل التبصير، ورائد المنهج العلمي الصحيح، الذي جهله أو تجاهله حماة السنة وعلماؤها الأفذاذ؟!.

دحض هذه الافتراءات:

الصواب الذي لا محيد عنه أن الأصل المجمع عليه في رواية الحديث أن روايته كانت بالألفاظ لا بالمعاني؛ كما زعم صاحب المشروع - ناعقاً بما نعق به أمثاله من قبل.

أما رواية الحديث بالمعنى فهو موضع حرج شديد عند الرواة، وهم جميعاً

ص: 21

من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم هم وحدهم الذين روَوا ونقلوا ما سمعوه منه، ولم يشاركهم في ذلك أحد.

أما التلبعون فهم الذين سمعوا الحديث من أصحابه، والصحابة مشهود لهم بالعدل والاستقامة بصريح القرآن في قوله تعالى:{لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 117]

وكذلك التابعون في قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100]

وفي الحديث الصحيح: "خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم".

وعن هؤلاء البررة الكرام وصل إلينا كتاب الله العزيز، وعنهم أخذنا السنة النبوية الطاهرة، فهل يقع في وًهْم واهم - غير صاحب المشروع - أن هؤلاء الصفوة من الأصحاب، ثم التابعين يتهاونون في النقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويزورون أحاديثه!!

ومن الذي قاوم ظاهرة وضع الحديث ووقف لها بالمرصاد إلا التابعون الذين رماهم صاحب المشروع بالسفة والكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم والتغرير بالأمة، وخداعهم إياها. والراوية بالمعنى التي استسمن صاحب

ص: 22

المشروع ورمها، واتخذ منها وسيلة لهدم السنة، لم تقع بالصورة التي زعم أنها شملت الأحاديق كلها؛ بل إن الثابت أنها كانت ضرورة، أو رخصة في أضيق الحدود إذا اضطر الراوي إليها. وأنها كانت تقع في بعض الألفاظ - أحياناً - مثل وضع كلمة مكان أخرى يؤدي معناها، أو في أداة من أدوات العطف. وأنها لم تقع تعمداً ولا اختياراً، بل إذا نسى الراوي لفظاً في حديث يسوقه للاستشهاد به على أمر. وأنها كانت تقع في الراوية الشفيهة العابرة لا في تدوين الحديث وكتابته، وأن من كان يروى أمراً بالمعنى كان ينبه إلى تلك الراوية حتى لا يفهم السامع أنها من كلام النبي عليه الصلاة والسلام.

وهذا كله كان في القرن الأول قبل تدوين الحديث، فلما أستقر تدوين الحديث بلفظه ومعناه منع العلماء روايته بالمعنى.

قال الماوردي: "إذا نسى اللفظ جاز - يعني (الرواية بالمعنى) - لا سيما أن تركه قد يكون كتماناً للأحكام، فإن لم ينسه لم يجز أن يورده بغيره؛ لأن في كلامه صلى الله عليه وسلم من الفصاحة ما ليس في غيره".

وقال السيوطى عن الصحابة إذا روَوْا بالمعنى:

"وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اضطروا إلى الرواية بالمعنى، أو شكوا في اللفظ النبوي، أو في بعضه، أوردوا عقب الحديث لفظاً يفيد التصون والتحوط، وهم أعلم الناس بمعاني الكلام، لعلمهم بما في الرواية بالمعنى من الخطر، - يعني - أن الصحابة - رضوان الله عليهم - كانوا إذا روَوْا شيئاً من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمعنى - اضطراراً لا اختياراً - نبهوا بعد الفراغ من سوق الحديث إلى ما رووه منه بالمعنى. ولهذا التنبيه قائدتان:

ص: 23

الأولي: دفع اعتقاد السامع أن اللفظ المروي بالمعنى من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم.

الثانية: الحث على التثبيت عند تدوين الحديث من اللفظ النبوي الذي عبر عنه بلفظ أخر يؤدي معناه.

كل هذه الحقائق الثوابت جهلها أو تجاهلها صاحب المشروع التعسفي لهدم السنة النبوية. فهل إذا أساء به الظن قراء مشروعه يكونون قد تجاوزوا الحقيقة؟

إن كلامه الذي نقلنا بعضاً منه دعوة صريحة وملحة إلى التشكيك في كل ما رواه حتى الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكفى بذلك هدماً للسنة النبوية: مع ما لها في حياة المجتمعات الإسلامية من رسوخ؛ وسعة توجيه في عظائم الأمور ودقائقها.

ويضيف إلى هذه الشبهة شبهة أخرى واهية؛ وهي أن علماء اللغة رفضوا الاستشهاد بالأحاديث لشكهم فيها؟!

وهذا غير مسلم على إطلاقه. فالذي تحرج من الاستشهاد بها نقرمنهم، والجمهور على خلافهم، ومن يطلع - ولو عابراً - على كتب النحو، والصرف، ومعاجم اللغة، وفقه اللغة يجد المئات من الأحاديث التي أوردها اللغويون في مصنفاتهم. ولولا خشية الإطالة لذكرنا بعضاً منها.

ولو فرضنا جدلاً أن هذا موقف اللغويين جميعاً - لا سمح الله - فإنه يكون موقفاً شاذاً لا تأثير على سلامه السنة من التزوير، وعلماء الحديث - بلا نزاع - كانوا أكثر ضبطاً، وأحكام مناهج، وأشد احتياطاً من علماء اللغة في تمحيص الرواية، والتمييز بين صحيحها وعليلها.

ص: 24