الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(2) كتابة الحديث النبوي
أشرنا فيما سبق إلى أن أول خطأ نواجهه في المشروع التعسفي الضخم لهدم السنُّ النبوية، وإقصائها عن المجالات العملية في حياة الأمة، هو إدعاء صاحب المشروع أن كتابة الحديث النبوي وجمعه في كتب الحديث لم يكن مأذوناً فيه شرعاً. بل هو بدعة ضالة حدثت بعد صدر الإسلام الأول (عصر الرسول والخلفاء الراشدين) وأن هذه البدعة هي سبب نكبة المسلمين، وارتدادهم من الهدى إلى الضلال، وأن الأمة لم تكن في حاجة إلى أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولم يتورع صاحب المشروع من وصف ـأحديث النبي صلى الله عليه وسلم بأنها خرافات! بل قال - بالحرف الواحد -: "وهكذا يتضح لك كم غيبوا عقول الأمة - يقصد علماء الحديث - وحجبوها عن الحق، وطمسوا أعينها عن النور"!!
الخطأ والوهم في هذا الكلام:
هذا الكلام الذي نقلناه عن صاحب المشروع مبنى على خطأ شنيع، ووهم أوهى من بيت العنكبوت، فقد تصور المؤلف أن هناك عداء حاداً بين القرآن وبين السنُّة. القرآن يقول للسنُّة: إما أنا وإما أنت؟ والسنة تقول للقرآن: إما أنا وإما أنتظ فهما عند صاحب هذا المشروع التعسفي لهدم السنة النبوية نقيضان لا يجتمعان معاً في حياة الأمة وتوجيهها، ولو لم يكن هذا التصور هو عقيدة صاحب المشروع لما ضاق ذرعاً بمجاورة النة للقرآن.
وهذا - كما يدرك القارئ - خطأ شنيع، ووهم بالغ، فالقرآن والسنة خيطان في نسيج واحد.
فالقرآن - مثلاً - أعلن كلمة التوحيد مرات عديدة، وحث على الصلاة؛ والزكاة؛ والصيام؛ والحج في آيات متعددات.
فإذا جاء في الحديث الذي رواه الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان" يكون بين القرآن والسنة عداء ومخالفة؟! فأين العداء والمخالفة بين القرآن والسنة في هذا الحديث والآيات التي تقرر هذه الدعائم الخمس التي هي أركان الإسلام؟
هذا مثال. ومثال ثان:
القرآن يأمر بأداء الأمانات إلى أ÷لها، فيقول في ذلك {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} (النساء: 58)
فهل إذا جاء في الحديث النبوي قوله صلى الله عليه وسلم: "أدَ الأمانة إلى من إئتمنك، ولا تخن من خانك" يقال أن بين القرآن وبين السنة نفاراً شديداً، وأن أحدهما يحل محل الآخر، ومحال أن يجتمعا؟
ومثال ثالث:
ينهى القرآن الحكيم عن الفرار يوم الزحف من مواجهة العدو، فيقول:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ} (الأنفال: آية 10)
وجاءت السنة النبوية وعدت التولى يوم الزحف من الكبائر، فهل يكون بينها وبين القرآن اختلاف أم ائتلاف؟
لقد وهم صاحب المشروع التعسفي لهدم السنة. فأوقعه وهمه في هذا الخطأ الشنيع. ويقيناً أن هذا عمل عدواني متعمد من صاحب المشروع، ليس منشؤه الجهل بصلة السنة بالكتاب؛ لأننا قد تأكدنا من الإطلاع على الجزء الأول من مشروعه أنه يعلم ما قاله علماء الأمة عن صلة السنة بالكتاب. وهي:
*سنة شارحة لما في الكتاب من إجمال.
*وسنة مقررة مؤكدة لما في الكتاب من أوامر ونواه وغيرهما.
*وسنة مستقلة تقرر أحكاماً، أو تضيف قيداً لما في القرآن.
وهذا النوع قليل جداً، ومأذون فيه للنبي صلى الله عليه وسلم وسيأتي في موضعه - إن شاء الله تعالى.
أقول: مع علم صاحب المشروع بهذه الحقائق فقد أصر مئات المرات على رفض السنة، وعد اعتبارها والعمل بها زيادة في الدين. وأتهم السلف الصالح من علماء الأمة بالجها، والغفلة، والكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم..!!
النهي عن كتابة الحديث النبوي:
ومن الشبهات الني أستند إليها صاحب المشروع التعسفي الضخم لهدم السنة النبوية، ما ذهب إليه من أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى الصحابة عن أن يكتبوا عنه شيئاً غير القرآن، وأن الصحابة التزموا بهذا المنهاج حتى نهاية عصر
الخلفاء الراشدين، وكان ذلك هو سبب قوتهم، ولكن حين ابتدع التابعون وتابعوهم بدعة رواية الحديث وكتابته في صحف ومسانيد؛ حدث التحول الخطير من الهدى إلى الضلال -هذا ملخص ما قال.
دحض هذه الشبهة:
تمسك صاحب المشروع بشبهة ثانية نشأت عن قصور فهمه وفهم أمثاله لما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تكتبوا عني، ومن كتب عني شيئاً غير القرآن فليمحه، وحدثوا عني ولا حرج، ومن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار" رواه مسلم في "صحيحه".
وهذا الحديث لا تنازع في ثبوته، ومع هذا فإنه لا حجة فيه لصاحب المشروع؛ ولا لأمثاله من قبله ومن بعده على أن السنة ليست من الدين، أو أن الأمة ليست بحاجة إليها.
ولو أن صاحب المشروع التعسفي لهدن السنة النبوية تنبه إلى ما ورد في الحديث من الإذن بالتحديث عنه صلى الله عليه وسلم بلا أدنى حرج، ومن التحذير من الكذب عليه في الرواية، لو فطن إلى هذا لما ساغ له أن يقول حرفاً واحداً مما قاله في هدم السنة النبوية.
فالحديث ليس فيه إلا النهي عن الكتابة، أما السماع عنه صلى الله عليه وسلم ثم تبليغ ما قاله فليس هذا بمحظور، وإنما المحظور هو تعمد الكذب عليه صلى الله عليه وسلم.
فكان حرياً بصاحب المشروع أن يفطن إلى هذه "الخصوصية"، ثم يبحث عن علة النهي عن الكتابة، مع الإقرار برواية المكتوب.
وعلماء الحديث الذين رماهم صاحب المشروع بالسفه، والجهل،
والكذب، والخيانة لفت نظرهم النهي عن الكتابة، كما وقفوا على "الخصوصية" الدقيقة التي عجز فهم صاحب المشروع عن الوصول إليها، ثم انتهوا إلى غير ما انتهى هو إليه.
لم يفهموا كما فهم أن السنة "منكر" ليست من الدين، ولكنهم فهموا من النهي عن كتابة الحديث في أول الأمر أنه كان خشية أن يختلط نص الحديث بنصوص القرآن التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بكتابتها فور تلقيها من أمين الوحي جبريل عليه السلام وهذا هو الحق الذي يهدي الله إليه طالبي الحق، كما قال عز وجل:{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} .
فالنهي عن كتابة الحديث كان "سياسة مرحلية"، الحكمة فيه ما أشرنا إليه نقلاً عن علمائنا الأتقياء، وليس لأن الحديث ليس من الدين، وأن الأمة ليست في حاجة إليه - كما أدعى صاحب المشروع التعسفي.
ومن أقطع الأطلة على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر في مرحلة تالية لمرحلة النهي، أمر بكتابة الحديث عنه لما زال المانع منها وبانت خصائص القرآن وظهرت سماته المميزة له عن كلام البشر.
فقد أخرج ابن عبد البر في كتابه "جامع بيان العلم وفضله": أن عبد الله بن عمر بن العاص كان يكتب كل شيء يسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له بعض الصحابة: إنك تكتب كل شيء تسمعه من رسول الله. ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر قد يغضب فيقول ما لا يتخذ شرعاً عاماً. فرجع عبد الله بن عمرو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر له ذلك فقال له عليه الصلاة والسلام: "
أكتب عني، فوالذي نفسي بيده ما خرج من فمي إلا الحق".
علماء الحديث لم يرفضوا الحديث الأول الناهي عن الكتابة، وجمعوا بينه وبين حديث الإذن بالكتابة، فقالوا:
إن حديث النهي كان أولاً، وحديث الإذن كان ثانياً. فصار الإذن ناسخاً للنهي. وهذه هي سمة العلماء المخلصين.
أما صاحب المشروع التعسفي لهدم السنة النبوية فقد تمسك بحديث النهي وأنكر حديث الإذن. وليس هنا من شيم البحث العلمي النزية.
* * *