المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(3) تحرج الصحابة من كتابة الحديث وروايته - أخطاء وأوهام في أضخم مشروع تعسفي لهدم السنة

[عبد العظيم المطعني]

الفصل: ‌(3) تحرج الصحابة من كتابة الحديث وروايته

(3) تحرج الصحابة من كتابة الحديث وروايته

ومن الشبهات التي تذرع بها صاحب المشروع أن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يتحرجون من رواية الحديث وكتابته، وأن الخلفاء الراشدين كانوا ينهون حفاظ الحديث عن التحديث به، بل كانوا يزجرون من يكثر من التحديث عنه صلى الله عليه وسلم. وهذه الشبهه لم ينفرد بها صاحب المشروع بل قال بها غيره.

دحض هذه الشبهة:

لا تنازع في أن كثيراً من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يتحرجون من رواية الحديث - أي - من ترديده، وأنهم كثيراً ما كانوا يتثبتون حينما يسمعون حديثاً من أحد الرواة، وليس معنى هذا رفضهم للسنة، أو أنها ليست من الدين، بل كانوا يقفون هذا الموقف حتى يتأكدوا من صحة ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وهذا ظاهر من رواية ذكرها صاحب المشروع من أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان قد جمع أحاديث من غيره في صحيفة، ثم أمر بنته عائشة رضي الله عنها بحرقها. فقالت له: لم تحرقها؟!! فقال لها: خشيت أن أموت وهي عندي فيكون فيها أحاديث عن رجل قد أئتمنته ووثقت به، ولم يكن كما حدثني، فأكون قد نقلت ذلك، وهذا لا يصلح.

هذه الرواية تدل على حرص الصحابة - رضوان الله عليهم - على التدقيق فيما يروى عن صاحب الدعوة صلى الله عليه وسلم، وهذه محمدة لهم تبعث في

ص: 15

قلوبنا الإطمئنان بما ينسب عن الثقات إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أما صاحب المشروع التعسفي لهدم السنُّة النبوية فقد عقل عليها قائلاً:

"وحسب المصنف - يعني (نفسه) أن يرى هذه الرواية. . . ويتأمل فيها ليعلم حقيقة الكارثة التي أصابت الخلق - يعني (علماء الحديث) من هذه الأمة بترك منهاج السلف. . الذين لم يقبلوا - ليلة واحدة - أن يبيت أحدهم - يعني (أبا بكر) وعنده بعض الأحاديث المكتوبة. .".

ثم يقول: "وهل يمكن لأحد أن يجد بعد هذه الرواية مخرجاً لتبرير وجمع وتدوين الحديث".

وغير خاف على القارئ الكريم أن الواقعة في واد وأن ما بناه عليها صاحب المشروع في واد آخر. فأبو بكر أحرق الصحيفة خشية أن يكون فيها حديث لا يصح إسناده إلى الرسول صلى الله عليه وسلم. وصاحب المشروع عزا سبب إحراقها إلى أن بها أحاديث مكتوبة. وهذا ما يدعو إلى العجب من حال رجل يزعم أنه يسير على منهج بحث علمي دقيق. وكأن الشاعر عناه بقوله الحكيم:

سارت مشرقة وسرت مغرباً

شتان بين مشرق ومغرب

أما شبهة نهي الخلفاء عن الإكثار من التحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي كانت محفوظة في صدور الرجال، فكان نت الحيطة الاقتصاد في سوقها، وعدم الإسراف في التحديث بها. على أن هناك حقيقة يجب أن نضعها في الاعتبار هي:

ص: 16

أن كراهة كثرة التحديث في عصر الخلفاء لم تكن شاملة لكل الأحاديث، بل كانت مقصورة على أحاديث الرخُص خشية أن يركن إليها الناس ويتركوا أحاديث العزائم.

كذلك كانوا يكرهون ذكر الأحاديث التي قد يكون فيها "مشكلات" يصعب فهمها على عامة الناس. وقد اعتنى علماء الحديث من بعد بهذا النوع وعالجوه علاجاً علمياً جيداً، مثل "مشكل الآثار" للطحاوي، و"تأويل مختلف الحديث" لابن قتيبة.

هذا النوعان هما اللذان كانا موضع كراهة الإكثار منهما.

أما أحاديث العمل والأحكام الفقهية وكل ما يتعلق بأعمال المكلفين إيجاباً وحظراً، فهذه لم تكن محظروة ولا منهياً عنها.

وهذا ما غفل عنه، أو تغافل عنه دعاة هدم السنة النبوية ومنهم صاحب هذا المشروع التعسفي.

ثم من أين علم صاحب المشروع أن الخلف انحرفوا عن منهج السلف في رواية الحديث وتدوينه؟ مع أنهم - في حقيقة الأمر - ساروا على المنهج نفسه. ووضعوا ضوابط دقيقة لمن تقبل روايته ولمن ترد روايته. وفحصوا أحوال الرواة فحصاً دقيقاً، وصنفوهم طبقات على حسب سرتهم، ووضعوا درجات لكل طبقة - مثل:"ثقة - صدوق - مقبول - مردود.... إلخ"، وإذا روى الحديث عن ثقات وكان في سلسلة الرواة من ليس "ثقة" حكموا على الحديث بحكم يليق به من الضعف وغيره، وصنفوا الأحاديث أصنافاً ثلاثة: صحيح، وحسن، وضعيف.

ص: 17

كما وضعوا لسند الحديث ومتنه ضوابط حكيمة من خلالها نستطيع أن نحكم على الحديث بالقبول أو الرد.

وكان جُماع الحديث يشدون الرحال - أحياناً - ويقطعون آلاف الأميال طلباً لسماع حديث واحد من راويه.

ومن العجيب أن صاحب المشروع يعرف ذلك كله، وقد استفاد منه كثيراً في مشروعه، ومع هذا ينكر فضل علماء الحديث، ويرميهم بكل نقيصة، ويتوعدهم بالويل والثبور وعظائم الزمور؟ ولولا جهود علماء الحديث وثروتهم العلمية لضمر الجزء الأول من مشروعه "الوارم" إلى عُشر ما هو علية.

وعلى عكس ما يرمى به صاحب المشروع علماء الحديث من الخلف - بعد عصر الخلفاء الراشدين -، فإننا نقول بكل ثقة.

"إن أحاديث رسوا الله صلى الله عليه وسلم نالت من العناية والاهتمام والتمحيص على أيدي هؤلاء العلماء الأفذاذ ما لم تحظى به في عصر سابق أو لاحق".

وبخاصة حين ظهر الوضع والإفتراء في الحديث بعد عصر الخلفاء، فقيض الله جل وعلا لسنة رسوله صلى الله عليه وسلم جيشاً جراراً من العلماء الأتقياء الأبرار وجمعوا ما صح وما حسن من الأحاديث بسندها ومتنها بمختلف طرقها، ونصوا على أسباب الصحة والحسن فيها.

كما جمعوا الأحاديث الضعيفة وبينوا أسباب ضعفها، ثم جمعوا ما شاع من أحاديث مكذوبة ونصوا على أسباب وضعها.

وفي منهج الإمام البخاري ما يدحض إفتراءات صاحب المشروع على علماء الخلف رضي الله عنهم.

ص: 18

فقد توخى الإمام البخاري في "جامعه الصحيح" الروية والأناة، حيث صنفه في ستة عشر عاماً وقد جمع فيه تسعة آلاف واثنين وثمانين حديثاً (بالمكرر) وفي ذلك يقول:

"أخرجت هذا الكتاب - يعني (الجامع الصحيح) . . . من نحو ستمائة ألف حديث، وصنفته في ست عشرة سنة، وجعلته بيني وبين الله" وهذا يدل على حرصه الشديد على أنه لا يكتب في "صحيحه" حديثاً إلا بعد التحري عنه والتثبت منه، فكان يدون كل يوم حديثين فقط، وقد عهد على نفسه أن يتوضأ ويصلي ركعتين بنية الإستخارة لكل حديث - يقول:

"ما وضعت في الصحيح حديثاً إلا اغتسلت قبل ذلك وصليت ركعتين" فإذا شرح الله صدره للحديث المستخار من أجله كتبه، وإلا فلا، فأين التساهل في النقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند هؤلاء الأتقياء البررة.

إن من علامات الساعة الصغرى: "أن يسب أخر الأمة أولها".

نبرأ إلى الله - سبجانه وتعالى - من هذا السلوك الطائش.

* * *

ص: 19