الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْيَدِ ثَابِتَةٌ لَهُ حَقِيقَةً لَا مَجَازًا، وَأَنَّ المدعين أَنَّهَا مجازهم خُصُومُهُ وَهُوَ خَصْمُهُمْ كَمَا تَرَى.
وَإِنَّمَا قَالَ رحمه الله: إِنَّهُ تَعَالَى مُتَّصِفٌ بِهَا حَقِيقَةً لَا مَجَازًا، لِأَنَّهُ لَا يَشُكُّ فِي أَنَّ ظَاهِرَ صِفَةِ اللَّهِ هُوَ مُخَالَفَةُ صِفَةِ الْخَلْقِ، وَتَنْزِيهُهَا عَنْ مُشَابَهَتِهَا كَمَا هُوَ شَأْنُ السَّلَفِ الصَّالِحِ كُلِّهِمْ.
فَإِثْبَاتُ الْحَقِيقَةِ وَنَفْيُ الْمَجَازِ فِي صِفَاتِ اللَّهِ هُوَ اعْتِقَادُ كُلِّ مُسْلِمٍ طَاهِرِ الْقَلْبِ مِنْ أَقْذَارِ التَّشْبِيهِ، لِأَنَّهُ لَا يَسْبِقُ إِلَى ذِهْنِهِ مِنَ اللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى الصِّفَةِ كَصِفَةِ الْيَدِ وَالْوَجْهِ إِلَّا أَنَّهَا صِفَةُ كَمَالٍ مُنَزَّهَةٌ عَنْ مُشَابَهَةِ صِفَاتِ الْخَلْقِ.
فَلَا يَخْطُرُ فِي ذِهْنِهِ التَّشْبِيهُ الَّذِي هُوَ سَبَبُ نَفْيِ الصِّفَةِ وَتَأْوِيلِهَا بِمَعْنًى لَا أَصْلَ لَهُ.
تَنْبِيهٌ مُهِمٌّ
(1)
فَإِنْ قِيلَ دَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ السَّلَفِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ وَصَفَ نَفْسَهُ بِصِفَةِ الْيَدَيْنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ} . وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} .
وَالْأَحَادِيثُ الدَّالَّةُ عَلَى مِثْلِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَاتُ الْمَذْكُورَةُ كَثِيرَةٌ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ، وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ جَلَّ وَعَلَا، لَا يَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ بِصِفَةِ الْأَيْدِي مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} فَلِمَ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَقْدِيمِ آيَةِ لِمَا خَلَقْتُ بيَدي على آيَة مِمَّا عملت أَيْدِينَا؟
(1) - حول وصف الْمولى عز وجل نَفسه بصيغ الجموع.
فَالْجَوَابُ: أَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنِ أَهْلِ اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ وَلَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ صِيَغَ الْجُمُوعِ تَأْتِي لِمَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا إِرَادَةُ التَّعْظِيمِ فَقَطْ، فَلَا يَدْخُلُ فِي صِيغَةِ الْجَمْعِ تَعَدُّدٌ أَصْلًا، لِأَنَّ صِيغَةَ الْجَمْعِ الْمُرَادَ بِهَا التَّعْظِيمُ، إِنَّمَا
يُرَادُ بِهَا وَاحِدٌ.
وَالثَّانِي أَنْ يُرَادَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ مَعْنَى الْجَمْعِ الْمَعْرُوفِ، وَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ، فَاعْلَمْ أَنَّ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ. يَكْثُرُ فِيهِ جِدًّا إِطْلَاقُ اللَّهِ جَلَّ وَعَلَا، عَلَى نَفْسِهِ صِيغَةَ الْجَمْعِ، يُرِيدُ بِذَلِكَ تَعْظِيمَ نَفْسِهِ، وَلَا يُرِيدُ بِذَلِكَ تَعَدُّدًا وَلَا أَنَّ مَعَهُ غَيْرَهُ، سبحانه وتعالى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} .
فَصِيغَةُ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّا} وَفِي قَوْلِهِ: {نَحْنُ} وَفِي قَوْلِهِ: {نَزَّلْنَا} وَقَوْلِهِ: {لَحَافِظُونَ} لَا يُرَادُ بِهَا أَنَّ مَعَهُ مُنَزِّلًا لِلذِّكْرِ، وَحَافِظًا لَهُ غَيْرَهُ تَعَالَى.
بَلْ هُوَ وَحْدَهُ الْمُنَزِّلُ لَهُ والحافظ لَهُ، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {أَفَرَءَيْتُمْ مَّا تُمْنُونَأَءَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ
الْخَالِقُونَ} وَقَوله {أَءَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ} . وَقَوْلُهُ: {أَءَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَآ أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ} ، وَنَحْوُ هَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ جِدًّا، وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ صِيغَةَ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ:{إِنَّا} . وَفِي قَوْلِهِ: (خَلَقْنَا) وَفِي قَوْلِهِ: {عَمِلَتْ أَيْدِينَآ} إِنَّمَا يُرَادُ بِهَا التَّعْظِيمُ، وَلَا يُرَادُ بِهَا التَّعَدُّدُ أَصْلًا.
وَإِذَا كَانَ يُرَادُ بِهَا التَّعْظِيمُ، لَا التَّعَدُّدُ عُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّهَا لَا تَصِحُّ بِهَا مُعَارِضَةُ قَوْلِهِ:{لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ} ، لِأَنَّهَا دَلَّتْ عَلَى صِفَةِ الْيَدَيْنِ، وَالْجَمْعُ فِي قَوْلِهِ:{أَيْدِينَآ} لِمُجَرَّدِ التَّعْظِيمِ.
وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى التَّعَدُّدِ فَيَطْلُبُ الدَّلِيلَ مِنْ غَيْرِهِ، فَإِنْ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّعْظِيمِ وَاحِدٌ حُكِمَ بِذَلِكَ، كالآيات الْمُتَقَدّمَة.
وَإِنْ دَلَّ عَلَى مَعْنًى آخَرَ حُكِمَ بِهِ.
فَقَوْلُهُ مَثَلًا: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} قَامَ فِيهِ الْبُرْهَانُ الْقَطْعِيُّ أَنَّهُ حَافِظٌ وَاحِدٌ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ:{أَم نَحْنُ الْخَالِقُونَ} ، {أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ} ، {أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ} فَإِنَّهُ قَدْ قَامَ فِي كُلِّ ذَلِكَ الْبُرْهَانُ الْقَطْعِيُّ عَلَى أَنَّهُ خَالِقٌ وَاحِدٌ، وَمُنْزِلٌ وَاحِدٌ، وَمُنْشِئٌ وَاحِدٌ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ} فَقَدْ دَلَّ الْبُرْهَانُ الْقَطْعِيُّ، عَلَى أَنَّ اللَّهَ مَوْصُوفٌ بِصِفَةِ الْيَدَيْنِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي قَوْلِهِ:{لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ} كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ قَرِيبًا.
وَقَدْ عَلِمَتْ أَنَّ صِيغَةَ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ: {لَحَافِظُونَ} ، وَقَوْلِهِ:{أَم نَحْنُ الْخَالِقُونَ} وَقَوْلِهِ: {أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ} وَقَوْلِهِ: {أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ} وَقَوْلِهِ: {خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ} لَا يُرَادُ بِشَيْءٍ مِنْهُ مَعْنَى الْجَمْعِ، وَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ التَّعْظِيمُ فَقَطْ.
وَقَدْ أَجَابَ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِ الْإِبَانَةِ بِمَا يَقْرُبُ مِنْ هَذَا فِي الْمَعْنَى.
وَاعْلَمْ أَنَّ لَفْظَ الْيَدَيْنِ، قَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ اسْتِعْمَالًا خَاصًّا، بِلَفْظٍ خَاصٍّ لَا تُقْصَدُ بِهِ فِي ذَلِكَ النِّعْمَةُ وَلَا الْجَارِحَةُ وَلَا الْقُدْرَةُ، وَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ مَعْنَى أَمَامٍ.
وَاللَّفْظُ الْمُخْتَصُّ بِهَذَا الْمَعْنَى هُوَ لَفْظَةُ الْيَدَيْنِ الَّتِي أُضِيفَتْ إِلَيْهَا لَفْظَةُ بَيْنَ خَاصَّةً، أَعْنِي لَفْظَةَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهَذِهِ اللَّفْظَةِ أَمَامُهُ. وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ عَرَبِيٌّ مَعْرُوفٌ مَشْهُورٌ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ لَا يُقْصَدُ فِيهِ مَعْنَى الْجَارِحَةِ وَلَا النِّعْمَةِ وَلَا الْقُدْرَةِ، وَلَا أَيَّ صِفَةٍ كَائِنَةٍ مَا كَانَتْ.
وَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ أَمَامٌ فَقَطْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن نُّؤْمِنَ بِهَاذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ}
أَيْ وَلَا بِالَّذِي كَانَ أَمَامَهُ سَابِقًا عَلَيْهِ مِنَ
الْكُتُبِ.
وَكَقَوْلِهِ: {وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ} أَيْ مُصَدِّقًا لِمَا كَانَ أَمَامَهُ مُتَقَدِّمًا عَلَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ.
وَكَقَوْلِهِ: {فَزَيَّنُواْ لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} ، فَالْمُرَادُ بِلَفْظِ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ مَا أَمَامَهُمْ.
وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِى يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرىً بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ} ، أَيْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ أَمَامَ رَحْمَتِهِ الَّتِي هِيَ الْمَطَرُ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَمِمَّا يُوَضِّحُ لَكَ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَأْوِيلُ الْيَدَيْنِ فِي ذَلِكَ بِنِعْمَتَيْنِ وَلَا قُدْرَتَيْنِ وَلَا جَارِحَتَيْنِ. وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ
مِنَ الصِّفَاتِ، فَهَذَا أُسْلُوبٌ خَاصٌّ دَالٌّ عَلَى مَعْنًى خَاصٍّ. بِلَفْظٍ خَاصٍّ مَشْهُورٍ، فِي كَلَامِ الْعَرَبِ فَلَا صِلَةَ لَهُ بِاللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى الْجَارِحَةِ، بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِنْسَانِ وَلَا بِاللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَى صِفَةِ الْكَمَالِ وَالْجَلَالِ الثَّابِتَةِ لِلَّهِ تَعَالَى. فَافْهَمْ.
وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ رحمه الله فِي كِتَابِهِ: مَقَالَاتُ الْإِسْلَامِيِّينَ وَاخْتِلَافُ الْمُصَلِّينَ، الَّذِي ذَكَرَ فِيهِ أَقْوَالَ جَمِيعِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ والبدع والمؤولين وَالنَّافِينَ لِصِفَاتِ اللَّهِ أَوْ بَعْضِهَا مَا نَصُّهُ:
جُمْلَةُ مَا عَلَيْهِ أَهْلُ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ الْإِقْرَارُ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا رَوَاهُ الثِّقَاتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لَا يَرُدُّونَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا.
وَأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَرْدٌ صَمَدٌ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ لَمْ يَتَّخِذْ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ الْجَنَّةَ حَقٌّ وَأَنَّ النَّارَ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا، وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ، وَأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ على عَرْشه كَمَا قَالَ {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وَأَنَّ لَهُ يَدَيْنِ بِلَا كَيفَ
كَمَا قَالَ: {خَلَقْتُ بِيَدَىَّ} . وَكَمَا قَالَ: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} إِلَى أَنْ قَالَ فِي كَلَامِهِ هَذَا، بَعْدَ أَنْ سَرَدَ مَذْهَبَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ. مَا نَصُّهُ: فَهَذِهِ جُمْلَةُ مَا يَأْمُرُونَ بِهِ وَيَسْتَعْمِلُونَهُ وَيَرَوْنَهُ، وَبِكُلِّ مَا ذَكَرْنَا مِنْ قَوْلِهِمْ نَقُولُ وَإِلَيْهِ نَذْهَبُ، وَمَا تَوْفِيقُنَا إِلَّا بِاللَّهِ، وَهُوَ حَسَبُنَا وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، وَبِهِ نَسْتَعِينُ، وَعَلَيْهِ نَتَوَكَّلُ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ، هَذَا لَفْظُ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ رحمه الله فِي كِتَابِ الْمَقَالَاتِ الْمَذْكُورِ.
وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّهُ يُؤْمِنُ بِكُلِّ مَا جَاءَ عَنِ اللَّهِ فِي كِتَابِهِ وَمَا ثَبَتَ عَنْ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم لَا يَرُدُّ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا وَلَا يَنْفِيهِ بَلْ يُؤْمِنُ بِهِ وَيُثْبِتُهُ لِلَّهِ، بِلَا كَيْفٍ وَلَا تَشْبِيهٍ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ.
وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ أَيْضًا فِي كِتَابِ الْمَقَالَاتِ الْمَذْكُورِ مَا نَصُّهُ:
وَقَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَأَصْحَابُ الْحَدِيثِ: لَيْسَ بِجِسْمٍ (1) وَلَا يُشْبِهُ الْأَشْيَاءَ وَإِنَّهُ على الْعَرْش كَمَا قَالَ عز وجل: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وَلَا نُقَدِّمُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ فِي الْقَوْلِ بَلْ نَقُولُ: اسْتَوَى بِلَا كَيْفٍ، ثُمَّ أَطَالَ الْكَلَامَ رحمه الله، فِي إِثْبَاتِ الصِّفَاتِ كَمَا قَدَّمْنَا عَنْهُ، ثُمَّ قَالَ مَا نَصُّهُ وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: إِنَّ اللَّهَ اسْتَوَى على عَرْشه بِمَعْنى استولى. اهـ. مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ.
(1) - قَالَ شَيخنَا أَبُو الْهَيْثَم إِبْرَاهِيم بن زَكَرِيَّا - حفظه الله -: [إِطْلَاق لفظ "الْجِسْم " على الله - عزوجل - أول من أطلقهُ هِشَام بن الحكم الرافضي، وَأول من نَفَاهُ: الجهم بن صَفْوَان، وَنحن لَا ننفي الْجِسْم، وَلَا نثبته، بل نستفصل عَن المُرَاد بِهِ] فَمَا كَانَ مُوَافقا للْكتاب، وَالسّنة قُبِلَ، وَمَا كَانَ فِيهَا من الْمعَانِي الْمُخَالفَة للْكتاب وَالسّنة رُدَّ، وَمَا قيل عَن الْجِسْم يُقَال على جَمِيع الْأَلْفَاظ المحتملة الَّتِي لم ترد فِي الْكتاب وَلَا فِي السّنة، مثل: الْجَوْهَر، وَالْعرض، والأبعاض، وَالْحُدُود، والجهات، وحلول الْحَوَادِث، وَغَيرهَا، وَانْظُر مَجْمُوع الْفَتَاوَى (12/551) ، (16/426) ، (17/306) ، وَغَيرهَا من الْمَوَاضِع، وَانْظُر تَعْلِيق ابْن سحمان على اللوامع (1/183) .
فَتَرَاهُ صَرَّحَ فِي كِتَابِ الْمَقَالَاتِ الْمَذْكُورِ، بِأَنَّ تَأْوِيلَ الِاسْتِوَاءِ بِالِاسْتِيلَاءِ، هُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ لَا قَوْلُهُ هُوَ، وَلَا قَوْلُ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ.
وَزَادَ فِي كِتَابِ الْإِبَانَةِ مَعَ الْمُعْتَزِلَةِ الْجَهْمِيَّةَ وَالْحَرُورِيَّةَ كَمَا قَدَّمْنَا.
وَبِكُلِّ مَا ذَكَرْنَا تَعْلَمُ أَنَّ الْأَشْعَرِيَّ رَجَعَ عَنِ الِاعْتِزَالِ إِلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ فِي آيَاتِ الصِّفَاتِ وَأَحَادِيثِهَا.
وَقَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَ الْحَقِّ فِي آيَاتِ الصِّفَاتِ بِالْأَدِلَّةِ الْقُرْآنِيَّةِ بِكَثْرَةٍ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} .
وَاعْلَمْ أَنَّ أَئِمَّةَ الْقَائِلِينَ بِالتَّأْوِيلِ، رَجَعُوا قَبْلَ مَوْتِهِمْ عَنْهُ، لِأَنَّهُ مَذْهَبٌ غَيْرُ مَأْمُونِ الْعَاقِبَةِ، لِأَنَّ مَبْنَاهُ عَلَى ادِّعَاءِ أَنَّ ظَوَاهِرَ آيَاتِ الصِّفَاتِ وَأَحَادِيثَهَا، لَا تَلِيقُ بِاللَّهِ لِظُهُورِهَا وَتَبَادُرِهَا فِي مُشَابَهَةِ صِفَاتِ الْخَلْقِ.
ثُمَّ نَفْيِ تِلْكَ الصِّفَاتِ الْوَارِدَةِ فِي الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ، لِأَجْلِ تِلْكَ الدَّعْوَى الكاذبة المشؤومة، ثُمَّ تَأْوِيلِهَا
بِأَشْيَاءَ أُخَرَ، دُونَ مُسْتَنَدٍ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ، أَوْ قَوْلِ صَحَابِيٍّ أَوْ أَحَدٍ مِنَ السَّلَفِ.
وَكُلُّ مَذْهَبٍ هَذِهِ حَالُهُ، فَإِنَّهُ جَدِيرٌ بِالْعَاقِلِ الْمُفَكِّرِ أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُ إِلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ.
وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ أَنَّ وَصْفَ اللَّهِ بِالِاسْتِوَاءِ صَادِرٌ عَنْ خَبِيرٍ بِاللَّهِ، وَبِصِفَاتِهِ عَالِمٌ بِمَا يَلِيقُ بِهِ، وَبِمَا لَا يَلِيقُ وَذَلِكَ فِي قَوْلُهُ تَعَالَى:{الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَانُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} .
فَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} ، بَعْدَ قَوْلِهِ:{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَانُ} ، تَعْلَمُ أَنَّ مَنْ وَصَفَ الرَّحْمَنَ بِالِاسْتِوَاءِ عَلَى الْعَرْشِ خَبِيرٌ بِالرَّحْمَنِ وَبِصِفَاتِهِ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ اللَّائِقُ مِنَ الصِّفَاتِ وَغَيْرُ اللَّائِقِ.
فَالَّذِي نَبَّأَنَا بِأَنَّهُ اسْتَوَى عَلَى عَرْشِهِ هُوَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ الَّذِي هُوَ الرَّحْمَنُ.
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} .
وَبِذَلِكَ تَعْلَمُ أَنَّ مَنْ يَدَّعِي أَنَّ الِاسْتِوَاءَ يَسْتَلْزِمُ التَّشْبِيهَ، وَأَنَّهُ غَيْرُ لَائِقٍ غَيْرُ خَبِيرٍ، نَعَمْ وَاللَّهِ هُوَ غَيْرُ خَبِيرٍ.
وَسَنَذْكُرُ هُنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَنَّ أَئِمَّةَ الْمُتَكَلِّمِينَ الْمَشْهُورِينَ رَجَعُوا كُلُّهُمْ عَنْ تَأْوِيلِ الصِّفَاتِ.
أَمَّا كَبِيرُهُمُ الَّذِي هُوَ أَفْضَلُ الْمُتَكَلِّمِينَ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ، وَهُوَ الْقَاضِي مُحَمَّدُ بْنُ الطَّيِّبُ الْمَعْرُوفُ بِأَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ، فَإِنَّهُ كَانَ يُؤْمِنُ بِالصِّفَاتِ عَلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ (1) وَيَمْنَعُ تَأْوِيلَهَا مَنْعًا بَاتًّا، وَيَقُولُ فِيهَا بِمِثْلِ مَا قَدَّمْنَا عَنِ الْأَشْعَرِيِّ. وَسَنَذْكُرُ لَكَ هُنَا بَعْضَ كَلَامِهِ.
قَالَ الْبَاقِلَّانِيُّ الْمَذْكُورُ فِي كِتَابِ التَّمْهِيدِ مَا نَصُّهُ: بَابٌ فِي أَنَّ لِلَّهِ وَجْهًا وَيَدَيْنِ، فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ. فَمَا الْحُجَّةُ فِي أَنَّ لِلَّهِ عز وجل وَجْهًا وَيَدَيْنِ؟ قِيلَ لَهُ قَوْلُهُ:{وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلْالِ وَالإِكْرَامِ} . وَقَوْلِهِ: {مَا مَنَعَكَ أَن
(1) - قَالَ شَيخنَا أَبُو الْهَيْثَم إِبْرَاهِيم بن زَكَرِيَّا - حفظه الله - محرراً عقيدة الإِمَام الباقلاني رحمه الله: [الباقلاني من مُتقدِّمي الأشاعرة، وهم أقرب للسلف من متأخريهم من أَمْثَال: الْجُوَيْنِيّ، والرازي، وَالْغَزالِيّ. ومتقدموا الأشاعرة يثبتون الصِّفَات الخبرية، وعماد مَذْهَبهم: إِثْبَات كل صفة فِي الْقُرْآن، وَأما الصِّفَات الَّتِي فِي الحَدِيث فَمنهمْ من يثبتها، وَمِنْهُم من لَا يثبتها، وَمن هَذَا الْبَاب قَول الباقلاني فِي "التَّمْهِيد" (1/47) : (بَاب فِي الرِّضَا وَالْغَضَب وأنهما من الْإِرَادَة: فَإِن قَالَ قَائِل: فَهَل تَقولُونَ أَنه تَعَالَى عضبان رَاض، وَأَنه مَوْصُوف بذلك؟ قيل لَهُ: أجل، وغضبه على من غضب عَلَيْهِ، وَرضَاهُ عَن من رَضِي عَنهُ هما إِرَادَته لإثابة المرضي عَنهُ، وعقوبة المغضوب عَلَيْهِ لَا غير ذَلِك) وَانْظُر لبَيَان عقيدته " مَجْمُوع فَتَاوَى شيخ الْإِسْلَام " (4/147) ، (12/202 - 204) ، (14/347) ، بل وبيَّن شيخ الْإِسْلَام أَنه رحمه الله سلك مَسْلَك الجهم بن صَفْوَان فِي الْقدر والوعيد، بل وسلك فِي الْإِيمَان مَسْلَك غلاة المرجئة كجهم وَأَتْبَاعه] .
تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ} ، فَأَثْبَتَ لِنَفْسِهِ وَجْهًا وَيَدَيْنِ.
فَإِنْ قَالُوا: فَمَا أَنْكَرْتُمْ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ {خَلَقْتُ بِيَدَىَّ} أَنَّهُ خَلَقَهُ بِقُدْرَتِهِ أَوْ بِنِعْمَتِهِ، لِأَنَّ الْيَدَ فِي اللُّغَةِ قَدْ تَكُونُ بِمَعْنَى النِّعْمَةِ، وَبِمَعْنَى الْقُدْرَةِ، كَمَا يُقَالُ: لِي عِنْدَ فُلَانٍ يَدٌ بَيْضَاءُ. يُرَادُ بِهِ نِعْمَةٌ.
وَكَمَا يُقَالُ: هَذَا الشَّيْءُ فِي يَدِ فُلَانٍ وَتَحْتَ يَدِ فُلَانٍ، يُرَادُ بِهِ أَنَّهُ تَحْتَ قُدْرَتِهِ وَفِي مُلْكِهِ.
وَيُقَالُ: رَجُلٌ أيدٌ إِذَا كَانَ قَادِرًا.
وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: {خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً} يُرِيدُ عَمِلْنَا بِقُدْرَتِنَا. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
إِذَا مَا رَايَةٌ رُفِعَتْ لِمَجْدٍ
…
تَلَقَّاهَا عَرَابَةُ بِالْيَمِينِ
فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {خَلَقْتُ بِيَدَىَّ} يَعْنِي بِقُدْرَتِي أَوْ نِعْمَتِي.
يُقَالُ لَهُمْ هَذَا بَاطِلٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ: {بِيَدَىَّ} يَقْتَضِي إِثْبَاتَ يَدَيْنِ هُمَا صِفَةٌ لَهُ.
فَلَوْ كَانَ المُرَاد بهما الْقُدْرَة لموجب أَنْ يَكُونَ لَهُ قُدْرَتَانِ.
وَأَنْتُمْ لَا تَزْعُمُونَ أَنَّ لِلْبَارِّي سُبْحَانَهُ قُدْرَةً وَاحِدَةً، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ تُثْبِتُوا لَهُ قُدْرَتَيْنِ؟
وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ مُثْبِتِي الصِّفَاتِ وَالنَّافِينَ لَهَا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَهُ تَعَالَى قُدْرَتَانِ فَبَطَلَ مَا قُلْتُمْ.
وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى خَلَقَ آدَمَ بِنِعْمَتَيْنِ، لِأَنَّ نِعَمَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى آدَمَ وَعَلَى غَيْرِهِ لَا تُحْصَى.
وَلِأَنَّ الْقَائِلَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ: رَفَعْتُ الشَّيْءَ بِيَدَيَّ أَوْ وَضَعْتُهُ بِيَدَيَّ أَوْ تَوَلَّيْتُهُ بِيَدَيَّ وَهُوَ يَعْنِي نِعْمَتَهُ.
وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: لِي عِنْدَ فُلَانٍ يَدَانِ يَعْنِي نِعْمَتَيْنِ.
وَإِنَّمَا يُقَالُ لِي عِنْدَهُ يَدَانِ بَيْضَاوَانِ، لِأَنَّ الْقَوْلَ: يَدٌ، لَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي الْيَدِ الَّتِي هِيَ صِفَةُ الذَّاتِ.
وَيَدُلُّ عَلَى فَسَادِ تَأْوِيلِهِمْ أَيْضًا أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا قَالُوهُ لَمْ يَغْفُلْ عَنْ ذَلِكَ إِبْلِيسُ، وَعَنْ أَنْ يَقُولَ وَأَيُّ فَضْلٍ لِآدَمَ عَلِيَّ يَقْتَضِي أَنْ أَسْجُدَ لَهُ، وَأَنَا أَيْضًا بِيَدِكَ خَلَقْتَنِي الَّتِي هِيَ قُدْرَتُكَ وَبِنِعْمَتِكَ خَلَقْتَنِي؟
وَفِي الْعِلْمِ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَضَّلَ آدَمَ عَلَيْهِ بِخَلْقِهِ بِيَدَيْهِ، دَلِيلٌ عَلَى فَسَادِ مَا قَالُوهُ.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَمَا أَنْكَرْتُمْ أَنْ يَكُونَ وَجْهُهُ وَيَدُهُ جَارِحَةً؟ إِذْ كُنْتُمْ لَمْ تَعْقِلُوا يَدَ صِفَةٍ وَوَجْهَ صِفَةٍ لَا جَارِحَةً.
يُقَالُ لَهُ: لَا يَجِبُ ذَلِكَ كَمَا لَا يَجِبُ إِذَا لَمْ نَعْقِلْ حَيًّا عَالِمًا قَادِرًا إِلَّا جِسْمًا أَنْ نَقْضِيَ نَحْنُ وَأَنْتُمْ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِذَلِكَ.
وَكَمَا لَا يَجِبُ مَتَى كَانَ قَائِمًا بِذَاتِهِ أَنْ يَكُونَ جَوْهَرًا أَوْ جِسْمًا، لِأَنَّا وَإِيَّاكُمْ لَمَ نَجِدْ قَائِمًا بِنَفْسِهِ فِي شَاهِدِنَا إِلَّا كَذَلِكَ. اهـ. مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ.
وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ يَرَى أَنَّ صِفَةَ الْوَجْهِ وَصِفَةَ الْيَدِ وَصِفَةَ الْعِلْمِ وَالْحَيَاةِ وَالْقُدْرَةِ كُلَّهَا مِنْ صِفَاتِ الْمَعَانِي وَلَا وَجْهَ لِلْفَرْقِ بَيْنَهَا وَجَمِيعُ صِفَاتِ اللَّهِ مُخَالَفَةٌ لِجَمِيعِ صِفَاتِ خَلْقِهِ.
وَقَالَ الْبَاقِلَّانِيُّ أَيْضًا فِي كِتَابِ التَّمْهِيدِ مَا نَصُّهُ: فَإِنْ قَالُوا: فَهَلْ تَقُولُونَ: إِنَّهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ؟
قِيلَ: مَعَاذَ اللَّهِ بَلْ هُوَ مُسْتَوٍ عَلَى الْعَرْش كَمَا أخبر فِي كِتَابه، فَقَالَ:{الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وَقَالَ تَعَالَى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ
وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} وَقَالَ: {أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ} .
وَلَوْ كَانَ فِي كُلِّ مَكَانٍ، لَكَانَ فِي جَوْفِ الْإِنْسَانِ، وَفَمِهِ وَفِي الْحُشُوشِ وَالْمَوَاضِعِ الَّتِي يُرْغَبُ عَنْ ذِكْرِهَا، تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ، وَلَوَجَبَ أَنْ يَزِيدَ بِزِيَادَةِ الْأَمَاكِنِ إِذْ خَلَقَ مِنْهَا مَا لَمْ يَكُنْ خَلَقَهُ، وَيَنْقُصَ بِنُقْصَانِهَا إِذَا بَطَلَ مِنْهَا مَا كَانَ.
وَلَصَحَّ أَنْ يُرْغَبَ إِلَيْهِ إِلَى نَحْوِ الْأَرْضِ وَإِلَى وَرَاءِ ظُهُورِنَا وَعَنْ أَيْمَانِنَا وَشَمَائِلِنَا.
وَهَذَا مَا قَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى خِلَافِهِ وَتَخْطِئَةِ قَائِلِهِ، إِلَى أَنْ قَالَ رحمه الله: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى اسْتِوَائِهِ عَلَى الْعَرْشِ هُوَ اسْتِيلَاؤُهُ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
قَدِ اسْتَوَى بِشْرٌ عَلَى الْعِرَاقِ
…
مِنْ غَيْرِ سَيْفٍ وَدَمٍ مِهْرَاقِ
لِأَنَّ الِاسْتِيلَاءَ هُوَ الْقُدْرَةُ وَالْقَهْرُ، وَاللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَزَلْ قَادِرًا قَاهِرًا عَزِيزًا مُقْتَدِرًا.
وَقَوْلُهُ: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} يَقْتَضِي اسْتِفْتَاحَ هَذَا الْوَصْفِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، فَيُبْطِلُ مَا قَالُوهُ.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَفَصِّلُوا لِي صِفَاتَ ذَاتِهِ مِنْ صِفَاتِ أَفْعَالِهِ، لِأَعْرِفَ ذَلِكَ.
قِيلَ لَهُ: صِفَاتُ ذَاتِهِ هِيَ الَّتِي لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ مَوْصُوفًا بِهَا.
وَهِيَ الْحَيَاةُ وَالْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَالْكَلَام والإرادة والبقاء وَالْوَجْه والعينان وَالْيَدَانِ. اهـ مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ. وَقَدْ نَقَلْنَاهُ مِنْ نُسْخَةٍ هِيَ أَجْوَدُ نُسْخَةٍ مَوْجُودَةٍ لِكِتَابِ "التَّمْهِيدِ" لِلْبَاقِلَانِيِّ الْمَذْكُورِ.
وَتَرَى تَصْرِيحَهُ فِيهَا بِأَنَّ صِفَةَ الْوَجْهِ وَالْيَدِ مِنْ صِفَاتِ الْمَعَانِي كَالْحَيَاةِ
وَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ، كَمَا هُوَ قَوْلُ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ الَّذِي قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ إِمَامَ الْحَرَمَيْنِ، أَبَا الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيَّ، كَانَ فِي زَمَانِهِ مِنْ أَعْظَمِ أَئِمَّةِ الْقَائِلِينَ بِالتَّأْوِيلِ، وَقَدْ قَرَّرَ التَّأْوِيلَ وَانْتَصَرَ لَهُ فِي كِتَابِهِ "الْإِرْشَادِ".
وَلَكِنَّهُ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ فِي رِسَالَتِهِ "الْعَقِيدَةُ النِّظَامِيَّةُ" فَإِنَّهُ قَالَ فِيهَا: اخْتَلَفَ مَسَالِكُ الْعُلَمَاءِ، فِي الظَّوَاهِرِ الَّتِي وَرَدَتْ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَامْتَنَعَ عَلَى أَهْلِ الْحَقِّ فَحْوَاهَا وَإِجْرَاؤُهَا عَلَى مُوجَبِ مَا تُبْرِزُهُ أَفْهَامُ أَرْبَابِ اللِّسَانِ مِنْهَا.
فَرَأَى بَعْضُهُمْ تَأْوِيلَهَا، وَالْتِزَامَ هَذَا الْمَنْهَجِ فِي آيِ الْكِتَابِ وَفِيمَا صَحَّ مِنْ سُنَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
وَذَهَبَ أَئِمَّةُ السَّلَفِ إِلَى الِانْكِفَافِ عَنِ التَّأْوِيلِ وَإِجْرَاءِ الظَّوَاهِرِ عَلَى مَوَارِدِهَا، وَتَفْوِيضِ مَعَانِيهَا إِلَى الرَّبِّ سُبْحَانَهُ (1) .
وَالَّذِي نرتضيه رَأيا وندين الله بِهِ عقدا، اتِّبَاع سلف الْأمة، فَالْأولى
(1) - وَنسبَة هَذَا الْمَذْهَب إِلَى السّلف خطأ، فالسلف يفوضون فِي الكيف، لَا الْمَعْنى، فظواهر نُصُوص الصِّفَات مَعْلُومَة لنا بِاعْتِبَار الْمَعْنى، وأقوال السّلف فِي إِثْبَات مَعَاني نُصُوص الصِّفَات على سَبِيل الْإِجْمَال، أَو التَّفْصِيل متواترة، وَأما الكيف فَهُوَ ثَابت لله سبحانه وتعالى وَلكنه مَجْهُول لنا، فَالصَّحِيح أَن مَذْهَب السّلف: تَفْوِيض فِي الكيف لَا الْمَعْنى، ولمزيد بَيَان انْظُر " دَرْء تعَارض الْعقل وَالنَّقْل " لتقي الدّين بن تَيْمِية (1/115) وَمَا بعْدهَا، وَكتاب:" موقف الْمُتَكَلِّمين من الِاسْتِدْلَال بنصوص الْكتاب وَالسّنة عرضا ونقداً " لِسُلَيْمَان بن صَالح بن عبد الْعَزِيز الْغُصْن (2/827: 915)، وَكتاب:"مَذْهَب أهل التَّفْوِيض فِي نُصُوص الصِّفَات (عرض وَنقد) " لِأَحْمَد بن عبد الرَّحْمَن بن عُثْمَان القَاضِي، ورسالة:" تحفة الإخوان فِي صِفَات الرَّحْمَن" لمُحَمد بن مُحَمَّد بن عبد الْعَلِيم، الْفَصْل الأول، وَغَيرهَا من المراجع.
الِاتِّبَاعُ وَتَرْكُ الِابْتِدَاعَ وَالدَّلِيلُ السَّمْعِيُّ الْقَاطِعُ فِي ذَلِكَ، أَنَّ إِجْمَاعَ الْأُمَّةِ حُجَّةٌ مُتَّبَعَةٌ، وَهُوَ مُسْتَنَدُ مُعْظَمِ الشَّرِيعَةِ.
وَقَدْ دَرَجَ صَحْبُ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم عَلَى تَرْكِ التَّعَرُّضِ لِمَعَانِيهَا وَدَرْكِ مَا فِيهَا وَهُمْ صَفْوَةُ الْإِسْلَامِ وَالْمُشْتَغِلُونَ بِأَعْبَاءِ الشَّرِيعَةِ.
وَكَانُوا لَا يَأْلُونَ جُهْدًا فِي ضَبْطِ قَوَاعِدَ الْمِلَّةِ وَالتَّوَاصِي بِحِفْظِهَا وَتَعْلِيمِ النَّاسِ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ مِنْهَا.
فَلَوْ كَانَ تَأْوِيلُ هَذِهِ الظَّوَاهِرِ مُسَوِّغًا أَوْ مَحْتُومًا لَأَوْشَكَ أَنْ يَكُونَ اهْتِمَامُهُمْ بِهَا فَوْقَ اهْتِمَامِهِمْ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ.
فَإِذَا انْصَرَمَ عَصْرُهُمْ وَعَصْرُ التَّابِعِينَ عَلَى الْإِضْرَابِ عَنِ التَّأْوِيلِ كَانَ ذَلِكَ قَاطِعًا بِأَنَّهُ الْوَجْهُ الْمُتَّبَعُ بِحَقٍّ.
فَعَلَى ذِي الدِّينِ أَنْ يَعْتَقِدَ تَنَزُّهَ الرَّبِّ تَعَالَى عَنْ صِفَاتِ الْمُحْدَثَاتِ وَلَا يَخُوضُ فِي تَأْوِيلِ الْمُشْكِلَاتِ وَيَكِلُ مَعْنَاهَا إِلَى الرَّبِّ.
وَمِمَّا اسْتُحْسِنَ مِنْ إِمَامِ دَارِ الْهِجْرَةِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْله تَعَالَى: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ، فَقَالَ: الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ.
فَلْتُجْرِ آيَةَ الِاسْتِوَاءِ وَالْمَجِيءِ، وَقَوْلَهُ:{لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ} ، {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} ، وَقَوْلَهُ:{تَجْرِى بِأَعْيُنِنَا} ، وَمَا صَحَّ عَنِ الرَّسُولِ عليه السلام كَخَبَرِ النُّزُولِ وَغَيْرِهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، فَهَذَا بَيَانُ مَا يَجِبُ لِلَّهِ تَعَالَى. اهـ. كَلَامُهُ بِلَفْظِهِ مِنَ الرِّسَالَةِ النِّظَامِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ مَعَ أَنَّ رُجُوعَ الْجُوَيْنِيِّ فِيهَا إِلَى أَنَّ الْحَقَّ هُوَ مَذْهَبُ السَّلَفِ أَمْرٌ مَعْلُومٌ.
وَكَذَلِكَ أَبُو حَامِدِ الْغَزَالِيِّ، كَانَ فِي زَمَانِهِ مِنْ أَعْظَمِ الْقَائِلِينَ بِالتَّأْوِيلِ ثُمَّ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ، وَبَيَّنَ أَنَّ الْحَقَّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ هُوَ مَذْهَب السّلف.
وَقَالَ فِي كِتَابِهِ: " إِلْجَامُ الْعَوَامِّ عَنْ عِلْمِ الْكَلَامِ ": اعْلَمْ أَنَّ الْحَقَّ الصَّرِيحَ الَّذِي لَا مِرَاءَ فِيهِ عِنْدَ أَهْلِ الْبَصَائِرِ، هُوَ مَذْهَبُ السَّلَفِ أَعْنِي الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الْبُرْهَانَ الْكُلِّيَّ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ فِي مَذْهَبِ السَّلَفِ وَحْدَهُ يَنْكَشِفُ بِتَسْلِيمِ أَرْبَعَةِ أُصُولٍ مُسَلَّمَةٍ عِنْدَ كُلِّ عَاقِلٍ.
ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ الْأَوَّلَ مِنْ تِلْكَ الْأُصُولِ الْمَذْكُورَةِ إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم هُوَ أَعْرَفُ الْخَلْقِ بِصَلَاحِ أَحْوَالِ الْعِبَادِ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ.
الْأَصْلُ الثَّانِي: أَنه بلغ كلما أُوحِيَ إِلَيْهِ مِنْ صَلَاحِ الْعِبَادِ فِي مَعَادِهِمْ وَمَعَاشِهِمْ، وَلَمْ يَكْتُمْ مِنْهُ شَيْئًا.
الْأَصْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ أَعْرَفَ النَّاسِ بِمَعَانِي كَلَامِ اللَّهِ وَأَحْرَاهُمْ بِالْوُقُوفِ عَلَى أَسْرَارِهِ هُمْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الَّذِينَ لَازَمُوهُ وَحَضَرُوا التَّنْزِيلَ وَعَرَفُوا التَّأْوِيلَ.
وَالْأَصْلُ الرَّابِعُ: أَنَّ الصَّحَابَةَ رضي الله عنهم فِي طُولِ عَصْرِهِمْ إِلَى آخِرِ أَعْمَارِهِمْ مَا دَعَوُا الْخَلْقَ إِلَى التَّأْوِيلِ، وَلَوْ كَانَ التَّأْوِيلُ مِنَ الدِّينِ أَوْ عِلْمِ الدِّينِ لَأَقْبَلُوا عَلَيْهِ لَيْلًا وَنَهَارًا وَدَعَوْا إِلَيْهِ أَوْلَادَهُمْ وَأَهْلَهُمْ.
ثُمَّ قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَبِهَذِهِ الْأُصُولِ الْأَرْبَعَةِ الْمُسَلَّمَةِ عِنْدَ كُلِّ مُسْلِمٍ نَعْلَمُ بِالْقَطْعِ أَنَّ الْحَقَّ مَا قَالُوهُ وَالصَّوَابَ مَا رَأَوْهُ. اهـ. بِاخْتِصَارٍ.
وَلَا شَكَّ أَنَّ اسْتِدْلَالَ الْغَزَالِيِّ هَذَا لِأَنَّ مَذْهَبَ السَّلَفِ هُوَ الْحَقُّ اسْتِدْلَالٌ لَا شَكَّ فِي صِحَّتِهِ، وَوُضُوحِ
وَجْهِ الدَّلِيلِ فِيهِ، وَأَنَّ التَّأْوِيلَ لَوْ كَانَ سَائِغًا أَوْ لَازِمًا لَبَيَّنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ، وَلِقَالَ بِهِ أَصْحَابُهُ وَتَابَعُوهُمْ كَمَا لَا يَخْفَى.
وَذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ عَنِ الْغَزَالِيِّ: أَنَّهُ رَجَعَ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ إِلَى تِلَاوَةِ كِتَابِ اللَّهِ وَحِفْظِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَالِاعْتِرَافِ بِأَنَّ الْحَقَّ هُوَ مَا فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ. وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ مَاتَ وَعَلَى صَدْرِهِ صَحِيحُ الْبُخَارِيِّ رحمه الله.
وَاعْلَمْ أَيْضًا أَنَّ الْفَخْرَ الرَّازِيَّ الَّذِي كَانَ فِي زَمَانِهِ أَعْظَمَ أَئِمَّةِ التَّأْوِيلِ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ الْمَذْهَبِ إِلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ مُعْتَرِفًا بِأَنَّ طَرِيقَ الْحَقِّ هِيَ اتِّبَاعُ الْقُرْآنِ فِي صِفَاتِ اللَّهِ.
وَقَدْ قَالَ فِي ذَلِكَ فِي كِتَابَهُ " أَقْسَامُ اللَّذَّاتِ ": لَقَدِ اخْتَبَرْتُ الطُّرُقَ الْكَلَامِيَّةَ، وَالْمَنَاهِجَ الْفَلْسَفِيَّةَ، فَلَمْ أَجِدْهَا تَرْوِي غَلِيلًا، وَلَا تَشْفِي عَلِيلًا، وَرَأَيْتُ أَقْرَبَ الطُّرُقِ طَرِيقَةَ الْقُرْآنِ أَقْرَأُ فِي الْإِثْبَات:{الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} ، وَفِي النَّفْيِ:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ} ، {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} ، وَمُنْ جَرَّبَ مِثْلَ تَجْرِبَتِي عَرَفَ مِثْلَ مَعْرِفَتِي. اهـ.
وَقَدْ بَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى فِي أَبْيَاتِهِ الْمَشْهُورَةِ الَّتِي يَقُولُ فِيهَا:
نِهَايَةُ إِقْدَامِ الْعُقُولِ عِقَالُ
…
وَغَايَةُ سَعْيِ الْعَالَمِينَ ضَلَالُ
وَأَرْوَاحُنَا فِي وَحْشَةٍ مَنْ جُسُومِنَا
…
وَحَاصِلُ دُنْيَانَا أَذًى وَوَبَالُ
وَلَمْ نَسْتَفِدْ مَنْ بَحْثِنَا طُولَ عُمْرِنَا
…
سِوَى أَنْ جَمَعْنَا فِيهِ قِيلٌ وَقَالُ
إِلَى آخِرِ الْأَبْيَاتِ.
وَكَذَلِكَ غَالِبُ أَكَابِرِ الَّذِينَ كَانُوا يَخُوضُونَ فِي الْفَلْسَفَةِ وَالْكَلَامِ، فَإِنَّهُ يَنْتَهِي بِهِمْ أَمْرُهُمْ إِلَى الْحَيْرَةِ وَعَدَمِ الثِّقَةِ بِمَا كَانُوا يُقَرِّرُونَ.
وَقَدْ ذُكِرَ عَنِ الْحَفِيدِ ابْنِ رُشْدٍ وَهُوَ مِنْ أَعْلَمِ النَّاسِ بِالْفَلْسَفَةِ أَنَّهُ قَالَ: وَمَنِ الَّذِي قَالَ فِي الْإِلَهِيَّاتِ شَيْئًا يُعْتَدُّ بِهِ؟
وَذَكَرُوا عَنِ الشِّهْرِسْتَانِيِّ أَنَّهُ لَمْ يَجِدْ عِنْدَ الْفَلَاسِفَةِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ إِلَّا الْحَيْرَةَ وَالنَّدَمَ، وَقَدْ قَالَ فِي ذَلِكَ:
لَعَمْرِي لَقَدْ طُفْتُ الْمَعَاهِدَ كُلَّهَا
…
وَسَيَّرْتُ طَرْفِي بَيْنَ تِلْكَ الْمَعَالِمِ
فَلَمْ أَرَ إِلَّا وَاضِعًا كَفَّ حَائِرٍ
…
عَلَى ذَقَنٍ أَوْ قَارَعًا سِنَّ نَادِمٍ
وَأَمْثَالُ هَذَا كَثِيرَةٌ.
فَيَا أَيُّهَا الْمُعَاصِرُونَ الْمُتَعَصِّبُونَ لِدَعْوَى أَنَّ ظَوَاهِرَ آيَاتِ الصِّفَاتِ وَأَحَادِيثَهَا خَبِيثٌ لَا يَلِيقُ بِاللَّهِ لِاسْتِلْزَامِهِ التَّشْبِيهَ بِصِفَاتِ الْخَلْقِ، وَأَنَّهَا يَجِبُ نَفْيُهَا وَتَأْوِيلُهَا بِمَعَانٍ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ، وَلَمْ يَقُلْهَا رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ وَلَا مِنَ التَّابِعِينَ.
فَمَنْ هُوَ سَلَفُكُمْ فِي هَذِهِ الدَّعْوَى الْبَاطِلَةِ الْمُخَالِفَةِ لِإِجْمَاعِ السَّلَفِ؟
إِنْ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّ الْأَشْعَرِيَّ يَقُولُ مِثْلَ قَوْلِكُمْ، وَأَنَّهُ سَلَفُكُمْ فِي ذَلِكَ فَهُوَ بَرِيءٌ مِنْكُمْ وَمِنْ دَعْوَاكُمْ.
وَهُوَ مُصَرِّحٌ فِي كُتُبِهِ الَّتِي صَنَّفَهَا بَعْدَ الرُّجُوعِ عَنِ الِاعْتِزَالِ أَنَّ الْقَائِلِينَ بِالتَّأْوِيلِ هُمُ الْمُعْتَزِلَةُ، وَهُمْ خُصُومُهُ وَهُوَ خَصْمُهُمْ، كَمَا أَوْضَحْنَا كَلَامَهُ فِي الْإِبَاحَةِ وَالْمَقَالَاتِ.
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ أَسَاطِينَ الْقَوْلِ بِالتَّأْوِيلِ قَدِ اعْتَرَفُوا بِأَنَّ التَّأْوِيلَ لَا مُسْتَنَدَ لَهُ، وَأَنَّ الْحَقَّ هُوَ اتِّبَاعُ مَذْهَبِ السَّلَفِ كَمَا أَوْضَحْنَا ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرِ الْبَاقِلَّانِيِّ، وَأَبِي الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيِّ، وَأَبِي حَامِدٍ الْغَزَالِيِّ، وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْفَخْرِ الرَّازِيِّ، وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ ذَكَرْنَا.
فَنُوصِيكُمْ وَأَنْفُسَنَا بِتَقْوَى اللَّهِ وَأَلَّا تُجَادِلُوا فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاكُمْ، وَاللَّهُ جَلَّ وَعَلَا يَقُولُ فِي كِتَابِهِ:{إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِى? آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِى صُدُورِهِمْ إِلَاّ كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} .
(1) - 7/ 442: 477، مُحَمَّد / 24.