الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني
التفصيل في مسألة الحكم بغير ما أنزل الله
وهي تسع حالات؛ ست من الكفر الأكبر بلا خلاف
تليها ثلاث نازع فيها بعض المتأخرين والحق أنها من الكفر الأصغر
الحالة الأولى: الاستحلال
صورتها: أن يحكم بغير ما أنزل الله معتقداً أن الحكم بغير ما أنزل الله أمر جائز غير محرم.
حكمها: اتفقوا على أن هذه الحالة مكفرة الكفر الأكبر.
ودليل ذلك أمران:
الأمر الأول: اتفاق أهل السنة على كفر من استحل شيئاً من المحرمات،
قال ابن تيمية رحمه الله: " من فعل المحارم مستحلاً لها فهو كافر بالاتفاق "(الصارم المسلول 3/ 971).
الأمر الثاني: اتفاق أهل السنة على كفر من استحل الحكم بغير ما أنزل الله،
قال ابن تيمية رحمه الله: " والإنسان متى حلل الحرام المجمع عليه، أو حرم الحلال المجمع عليه، أو بدل الشرع المجمع عليه: كان كافراً مرتداً باتفاق الفقهاء، وفي مثل هذا نزل قوله تعالى - على أحد القولين - {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}
[المائدة 44]، أي: هو المستحل للحكم بغير ما أنزل الله " (الفتاوى 3/ 267).
وتتعلق بهذه الحالة ستُّ مسائل
المسألة الأولى:
يكفر في هذه الحالة ولو لم يحكم بغير ما أنزل الله، ما دام يعتقد جواز الحكم بغير ما أنزل الله.
المسألة الثانية:
الاستحلال أمر قلبي؛ وذلك أن حقيقته هي: اعتقاد حل الشيء.
قال ابن تيمية رحمه الله: " والاستحلال: اعتقاد أنها حلال له "(الصارم المسلول 3/ 971).
وقال ابن القيم رحمه الله: " فإن المستحل للشيء هو: الذي يفعله معتقداً حله "(إغاثة اللهفان 1/ 382).
وقال ابن عثيمين رحمه الله: " الاستحلال هو: أن يعتقد الإنسان حل ما حرمه الله
…
وأما الاستحلال الفعلي فيُنظر: لو أن الإنسان تعامل بالربا ، لا يعتقد أنه حلال لكنه يصر عليه؛ فإنه لا يكفر؛ لأنه لا يستحله " (الباب المفتوح 3/ 97، لقاء 50، سؤال 1198).
* أقول: وما كان أمراً قلبياً فإنه لا يُعرف إلا بالتصريح بما في النفس (وانظر المسألة الثالثة والرابعة).
المسألة الثالثة:
لا أثر للقرائن في الحكم على صاحب الفعل بالاستحلال، ودليل ذلك في قصة الرجل الذي قتل نفراً من المسلمين، ولمّا تمكن منه أسامة بن زيد رضي الله عنهما نطق بالشهادة، فقتله أسامةُ ظناً منه أنه إنما قالها تخلصاً من السيف، فأنكر عليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم وقال:" أقتلته بعدما قال: (لا إله إلا الله)؟! "(البخاري 4269، 6872). قال أسامةُ: فما زال يكررها عليَّ حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ (البخاري 4269، 6872، مسلم 273). وفي لفظ: " أفلا شققت عن قلبه لتعلم أقالها أم لا؟! "(مسلم 273). وفي رواية: " فكيف تصنع بـ (لا إله إلا الله) إذا جاءت يوم القيامة؟! "(مسلم 275).
* أقول: فلو كان الأخذ بالقرائن معتبراً في الحكم على ما في القلوب لكان اجتهاد أسامة بن زيد رضي الله عنهما أولى بهذا الاعتبار؛ فقد اجتمع في ذلك الرجل من القرائنِ التي تقوي
القول بعدم صدق إسلامه ما لا يكاد أن يجتمع في غيره، ومع هذا فقد ألغى النبيُّ صلى الله عليه وسلم اجتهادَ ذلك الصحابي الجليل ولم يقبل منه أخذه بالقرائن للحكم على ما في القلوب، فاجتهادُ غير الصحابي أولى بالإلغاء.
قال الخطابي رحمه الله: " وفي قوله (هلّا شققت عن قلبه) دليل على أن الحكم إنما يجري على الظاهر، وأن السرائر موكولة إلى الله سبحانه "(معالم السنن 2/ 234).
وقال ابن تيمية رحمه الله: " وكذلك الإيمان؛ له مبدأ وكمال، وظاهر وباطن؛ فإذا علقت به الأحكامُ الدنيوية؛ من الحقوق والحدود - كحقن الدم والمال والمواريث والعقوبات الدنيوية -: علقت بظاهره، ولا يمكن غير ذلك؛ إذ تعليق ذلك بالباطن متعذر، وإن قُدر أحياناً؛ فهو متعسر علماً وقدرةً، فلا يُعلم ذلك علماً يثبت به في الظاهر، ولا يمكن عقوبة من لم يُعلم ذلك منه في الباطن "(الفتاوى 7/ 422).
وقال ابن باز رحمه الله عمن لا يحكم شرع الله: " لو ادعى أنه لا يستحله فنأخذ بظاهر كلامه ولا نحكم بكفره "(علقته من مجلس سماحته، شرح الباب الثالث من كتاب الإيمان من " صحيح البخاري "، بتأريخ 27/ 7/1417 هـ، بقراءة الشيخ عبد العزيز السدحان وفقه الله).
المسألة الرابعة:
الاستحلال لا يُعرف من الفعل ولا المداومة ولا الإصرار، وبرهان ذلك من أربعة أوجه:
الوجه الأول: لم يقل به أحد من أهل العلم المتقدمين، ولو كان حقاً لسبقونا إليه.
الوجه الثاني: يلزم منه تعارض دليلين من الإجماع:
1.
الإجماع على عدم كفر أهل الذنوب، قال ابن عبد البر رحمه الله:" اتفق أهل السنة والجماعة - وهم أهل الفقه والأثر - على أن أحداً لا يخرجه ذنبه - وإن عظم - من الإسلام "(التمهيد 16/ 315)، وهذا الإجماع مطلق لا قيد فيه، فيعم المذنب المداوِم والمصر.
2.
الإجماع على كفر من استحل الذنب، قال ابن تيمية رحمه الله:" من فعل المحارم مستحلاً لها فهو كافر بالاتفاق "(الصارم المسلول 3/ 971).
* أقول: فإطلاقهم الإجماع على عدم كفر أهل الذنوب مع إجماعهم على كفر من استحل محرماً؛ دليل على عدم اعتبار المداومة والإصرار استحلالاً، فاحفظ هذا فإنه مهم.
الوجه الثالث: يلزم منه تكفير أهل الذنوب، وذلك ما أجمع أهل السنة على خلافه، فمن قارف الذنب دهره، وداوم عليه، وأصر عليه - بفعله -: فهو كافر عند من قرر ذلك؛ لأنه يراه مستحلاً ما حرم الله، وليس بكافر بإجماع أهل السنة.
الوجه الرابع: أن حقيقة الاستحلال هي اعتقاد الحل كما تقدم (ص 11)، ولا يمكن أن يصار إلى معرفة الاعتقاد - معرفة يقينية - إلا بإفصاح صاحب ذلك الاعتقاد عما في نفسه، ولذلك فإننا نجد من العصاة اعترافاً بالذنب وتأثراً بالنصيحة وربما يعزم أحدهم على التوبة كثيراً، والاستحلال لا يتصور مع الإقرار بالذنب.
المسألة الخامسة:
استدل بعض من قال أن الاستحلال يُعرف بالفعل؛ بما صح في الرجل الذي تزوج امرأةَ أبيه فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله (الترمذي 1362، النسائي 3331، ابن ماجة 2607).
وفي بعض ألفاظ الحديث أنه: أخذ ماله (أبو داود 4475، النسائي 3332). وجاءت زيادة أنه: خمَّس ماله (عزاها ابن حجر في " الإصابة " لـ " النسائي وابن ماجة وابن أبي خيثمة وابن السكن والباوردي وغيرهم "، وعزاها ابن القيم في " زاد المعاد " لـ " ابن أبي خيثمة في تاريخه ". ولم أجد هذه الزيادة في " مجتبى " النسائي ولا في " سنن " ابن ماجة رحم الله الجميع).
والحديث بزيادة التخميس هذه؛ قال عنه ابن القيم رحمه الله: " قال يحيى بن معين: هذا حديث صحيح "(زاد المعاد 5/ 15)، وقال عنه ابن حجر رحمه الله:" إسناده حسن " (الإصابة 1/ 314، عند ترجمة أبي قرة إياس بن هلال المزني رضي الله عنه.
* أقول: وتخميس المال يدل على أنه اعتبره فيئاً، والفيء هو:" كل مال أُخذ من الكفار بغير قتال "(قاله ابن كثير رحمه الله في تفسيره 4/ 396، الحشر: 7). وهذا يدل على أنه قُتل مرتداً (أفاده الطحاوي رحمه الله في " شرح معاني الآثار " 3/ 150).
* ثم أقول: وهذا الاستدلال لا يستقيم؛ لأن الحديث محمول على أن النبي صلى الله عليه وسلم علم أن ذلك الرجل يستحل ذلك
الذنب في قرارة قلبه، وبرهانه من أربعة أوجه:
الوجه الأول: أن أهل الجاهلية كانوا يستحلون نكاحَ امرأة الأب، ويرونها من الإرث، فالرجل فعل ما كان أهل الجاهلية يفعلون؛ فأقدم عليه معتقداً حله.
قال السندي رحمه الله: " (نكح امرأة أبيه): على قواعد أهل الجاهلية، فإنهم كانوا يتزوجون بأزواج آبائهم، يعدون ذلك من باب الإرث، ولذلك ذكر الله تعالى النهيَ عن ذلك بخصوصه بقوله:{وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آَبَاؤُكُمْ} [النساء 22]
…
فالرجل سلك مسلكهم في عد ذلك حلالاً؛ فصار مرتداً، فقُتل لذلك. وهذا تأويل الحديث عند من لا يقول بظاهره " (شرحه لسنن النسائي تحت الحديث رقم 3332).
الوجه الثاني: أن العلماء رحمهم الله حملوا الحديث على أن ذلك الرجل عُلم منه الاستحلال.
قال أحمد رحمه الله: " نرى والله أعلم أن ذلك منه على الاستحلال "(مسائل ابنه عبد الله 3/ 1085/1498).
وقال الطحاوي رحمه الله: " ذلك المتزوج فعل ما فعل من ذلك على الاستحلال كما كانوا يفعلون في الجاهلية؛ فصار
بذلك مرتداً، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل به ما يفعل بالمرتد " (شرح معاني الآثار 3/ 149).
وقال الشوكاني رحمه الله: " لا بد من حمل الحديث على أن ذلك الرجل
…
عالم بالتحريم، وفعَله مستحلاً؛ وذلك من موجبات الكفر " (نيل الأوطار 7/ 131).
الوجه الثالث: عدم تكفير أهل العلم من زنا بامرأة أبيه، ولو تكرر منه ذلك الذنب!
* أقول: ولو كان كفر من تزوج امرأة أبيه لمجرد وقوعه عليها من دون استحلال قلبي؛ لكفروا من زنا بامرأة أبيه. فاحفظ هذا فإنه مهم.
الوجه الرابع - على سبيل التنزل -: أن هذا النص فيه اشتباه، ويجب حمله على النصوص المحكمة الأخرى التي دلت على عدم اعتبار القرائن في الكشف عما في القلب؛ كحديث أسامة رضي الله عنه المتقدم (ص 12)، وإجماع أهل السنة على عدم كفر العصاة وإن عظمت ذنوبهم مع أنهم مجمعون على كفر من استحل محرماً (ص 11). وحملُ المتشابه على المحكم؛ هو سبيل أهل السنة، خلافاً لأهل البدع،