الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وانظر كلام الألباني رحمه الله بعدم تكفير من شرع القانون إلا إن استحله، في " سلسلة الهدى والنور "(الشريط 849، الدقيقة 72).
وقال ابن عثيمين رحمه الله: " الحكم بغير ما أنزل الله ليس بكفر مخرج عن الملة، لكنه كفر عملي [= أصغر]؛ لأن الحاكم بذلك خرج عن الطريق الصحيح. ولا يفرّق في ذلك بين الرجل الذي يأخذ قانوناً وضعياً من قبَل غيره ويحكمه في دولته وبين من ينشيء قانوناً ويضع هذا القانون الوضعي؛ إذ المهم هو هل هذا القانون يخالف القانون السماوي؟ أم لا؟
(1)
" (فتنة التكفير ص 25، حاشية 1).
الحالة التاسعة: التشريع العام
صورتها: أن يحكم بغير ما أنزل الله ويجعل هذا الحكم عاماً على كل من تحته.
(1)
مراده رحمه الله: أن العبرة بمخالفة أو موافقة القانون للحكم الشرعي، وأنه لا يُنظر لمصدر ذلكم القانون؛ هل هو من وَضْع ذلك الحاكم؟ أم أنه أخذه عن غيره؟
بمعنى أنه يستبدل حكم الله بحكم غيره، ويلزم كل من تحت سلطانه بهذا الحكم،
ولا يكون مستحلاً، ولا جاحداً، ولا مكذباً، ولا مفضلاً، ولا مساوياً، ولا ينسب الحكم الذي جاء به لدين الله.
حكمها: الكفر الأصغر.
دليل ذلك: عدم وجود دليلٍ يوجب تكفيره، فالشريعة لم تعلق الكفر الأكبر على تعميم الحكم أو على الإلزام به، كما أن الأدلة لم تفرق بين الحاكم الذي يعمم أو الذي لا يعمم، ولا بين الحاكم الذي يلزم من تحته أو الذي لا يلزم.
* أقول: ولو كان هذا التفريق حقاً لما أغفلته الشريعة، ولورد في الأدلة الشرعية ما يعضده.
وتتعلق بهذه الحالة ستُّ مسائل
المسألة الأولى:
صحيح أن من حكم حكماً عاماً أو ألزم من تحته قد يُعد أكثر جرماً من الذي لم يحكم الحكم العام أو لم يلزم به، ولكن محل البحث هو: الكفر الذي لا دليل عليه، لا في تحقيق الأشد جرماً.
المسألة الثانية:
استدل بعضُ الفضلاء على التكفير بهذه الحالة باللازم؛ فرأى أنه لم يستبدل حكم الله بحكم نفسه ثم يجعل ما جاء به حكماً عاماً على من تحته إلا وهو يعتقد أنه أنفع وأصلح من حكم الله، وهذا الاستدلال مردود من أربعة أوجه:
الوجه الأول: ما قرره أهل العلم من أن لازم المذهب لا يكون مذهباً إلا إذا عرفه والتزمه. وأن المرء قد يعتقد خلاف ما يلزم من قوله، ولو كان التلازم قوياً بحيث يُنسب القائل للتناقض لو لم يلتزم ذلك اللازم.
قال ابن تيمية رحمه الله: " ولازم المذهب لا يجب أن يكون مذهباً، بل أكثر الناس يقولون أقوالاً ولا يلتزمون لوازمها؛ فلا يلزم إذا قال القائل ما يستلزم التعطيل أن يكون معتقداً للتعطيل، بل يكون معتقداً للإثبات ولكن لا يعرف ذلك اللزوم "(الفتاوى 16/ 461).
وقال رحمه الله: " فما كان من اللوازم يرضاه القائل بعد وضوحه له؛ فهو قوله، و ما لا يرضاه؛ فليس قوله، وإن كان
متناقضاً
…
فأما إذا نفى - هوَ - اللزوم لم يَجُز أن يضاف إليه اللازم بحال " (الفتاوى 29/ 42).
وقال رحمه الله: " وأما قول السائل: هل لازم المذهب مذهب؟ أم ليس بمذهب؟ فالصواب: أن [لازم] مذهب الإنسان ليس بمذهب له إذا لم يلتزمه، فإنه إذا كان قد أنكره ونفاه كانت إضافته إليه كذباً عليه "(الفتاوى 20/ 217).
الوجه الثاني: أن هذا اللازم قد يتخلف؛ إذ قد يوجد من يفعل ذلك وهو يعتقد
أن الشريعة أنفع من حكمه، وتقدم تمثيل ابن تيمية رحمه الله بالأقوال الموهمة للتعطيل وأنه لا يلزم منها أن يكون قائلوها من أهل التعطيل.
* أقول: وتخلف اللازم برهان على عدم انضباطه؛ فلا يصح التمسك به، لا سيما في مسائل التكفير التي لا يعتبر فيها إلا اليقين.
الوجه الثالث: أن أهل السنة لا يكفرون إلا بأمر لا احتمال فيه، وذلك أن الحدود تُدرأ بالشبهات، والتكفير أولى أن يدرأ.
قال ابن تيمية رحمه الله: " من ثبت إسلامه بيقين لم يَزُل ذلك
عنه بالشك " (الفتاوى 12/ 466).
وقال محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: " ولا نكفر إلا [بـ] ما أجمع عليه العلماء كلهم "(الدرر السنية 1/ 102).
الوجه الرابع: يلزم منه تكفير من اتفق أهل السنة على عدم تكفيره، وهو المشرع للذنب - الذي دون الشرك -؛ فلو أن أباً شرع الذنب في أهله، وألزمهم به، وخالف من ينكر عليه، ولم يستمع لمن يناصحه؛ فلا يكفر عند أهل السنة، بينما يكفر عند من التزَم القول بهذه المقالة.
المسألة الثالثة:
استدل بعضهم على التكفير بهذه الحالة بحديث تحميم اليهود (راجع ص 22)، فأنزل الله تعالى فيهم (كما في صحيح مسلم 4415):{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} إلى قوله: {إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ} [المائدة 41]، وقوله:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة 44]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة 45]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا
أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}
[المائدة 47]، فيرى أنه لم يحكم بكفرهم إلا لكونهم جعلوا التحميم شرعاً عاماً، وهذا الاستدلال مردود؛ لأن اليهود - الذين يراد الاستدلال على كفرهم بالتشريع العام - قد كفروا بغير التشريع المزعوم، وبيان ذلك من وجهين:
1.
أنهم أنكروا حكم الله في الزاني المحصن، وهو ما صرحت به روايات الحديث، فلما سألهم النبي صلى الله عليه وسلم:" لا تجدون في التوراة الرجم؟ " قالوا: " لا نجد فيها شيئاً! "(البخاري 4556)، ولمّا قرأ قارؤهم من التوراة وضع يده على آية الرجم وقرأ ما قبلها وما بعدها! (البخاري 4556)، وهذا الإنكار هو الجحود الذي تقدم (ص 15) تقرير الاتفاق على أنه كفر أكبر.
2.
أنهم بدلوا حكم الله في الزاني المحصن، فلما سألهم صلى الله عليه وسلم:" ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟ " قالوا: " نفضحهم ويجلدون "(البخاري 3635)، فقد غيروا حكم الله ثم نسبوا ما جاؤوا به من عند أنفسهم إلى دين الله، وهذا هو التبديل الذي تقدم (ص 20) تقرير الاتفاق
على أنه كفر أكبر، ولذلك قال ابن عبد البر رحمه الله:" وفي هذا الحديث أيضاً: دليل على أنهم كانوا يكذبون على توراتهم، ويضيفون كذبهم ذلك إلى ربهم وكتابهم "(التمهيد 14/ 9).
* وعليه: فلا يصح الاستدلال بهذه القصة على التكفير بحالة التشريع العام؛ لأن اليهود وقعوا في حالتين اتفق أهل السنة على كفر مَن تلبس بإحداهما - فضلاً عنهما معاً -، فإثباتُ أن كفرهم إنما جاء من التشريع العام يحتاج لدليل آخر.
* أقول: وتعليق التكفير بأمر ظاهر - في الروايات - اتفق أهل العلم على التكفير به (= الجحود أو التبديل أو بهما مجتمعين) أولى من تعليقه بمحل النزاع (= التشريع العام) الذي لا دليل على التكفير به، ولا دليل على أن كفر اليهود علق به.
المسألة الرابعة:
كانت لابن عثيمين رحمه الله فتوى بالتكفير بهذه الحالة إلا أنه رجع عنها، وبيان ذلك على النحو الآتي:
الفتوى المتقدمة
قال رحمه الله: "
…
ومِن هؤلاء: مَن يضعون للناس تشريعات تخالف التشريعات الإسلامية، لتكون منهاجاً يسير الناس عليه، فإنهم لم يضعوا تلك التشريعات المخالفة للشريعة الإسلامية إلا وهم يعتقدون أنها أصلح وأنفع للخلق، إذ من المعلوم بالضرورة العقلية، والجبلة الفطرية أن الإنسان لا يعدل عن منهاج إلى منهاج يخالفه؛ إلا وهو يعتقد فضل ما عدل إليه ونقص ما عدل عنه " (الفتاوى 2/ 143).
وقال رحمه الله: " لأن هذا المشرع تشريعاً يخالف الإسلام؛ إنما شرعه لاعتقاده أنه أصلح من الإسلام وأنفع للعباد "(الفتاوى 2/ 143).
* أقول: وفي هذه الفتوى ثلاثة أمور لا بد من التنبه لها:
1.
أنه استدل على كفر المشرع باللازم، وتقدم (ص 33 وما بعدها) أن في هذا الاستدلال نظراً.
2.
أنه رحمه الله أرجع التكفير في هذه الحالة للاعتقاد، وهو يتفق مع ما قررته في حكم هذه الحالة (ص 32)، إلا أنه قد علق الكفر في هذه الحالة باللازِم الذي لا يلزم. فليتأمل هذا الذين يتمسكون بكلامه في هذه المسألة ومع ذلك يرون أن الإرجاع للاعتقاد في هذه الصورة إرجاء!
3.
أنه لم يلتزم قوله هذا ولم يستعمل التكفير باللازم في غير هذه المسألة، ولو كان التكفير باللازم حقاً لقال به ولقال به غيرُه من العلماء في جميع مسائل التكفير.
الفتوى المتأخرة
قال رحمه الله: " وإذا كان يعلم الشرع ولكنه حكم بهذا، أو شرع هذا، وجعله دستوراً يمشي الناس عليه؛ يعتقد أنه ظالم في ذلك، وأن الحق فيما جاء به الكتاب والسنة: فإننا لا نستطيع أن نكفر هذا "، انظر الفتوى كاملة (ص 69)
المسألة الخامسة:
يرى البعض أن حالة التشريع العام لم تحدث إلا في الأزمان المتأخرة، ويبني على هذا أنه: لا يصح التمسك في عدم التكفير بأنه (لا يوجد دليل مكفر)، وأن (المتقدمين من أهل العلم لم يكفروا بهذه الحالة)، وفي هذا الرأي خطأ لأمرين:
1.
يلزم منه ألاّ يستدل على التكفير بهذه الحالة بشيء، وهذا ما لا يقول به؛ فقد استدل بقصة التحميم، وتقدم (ص 34) الجواب عن هذا الاستدلال، وأن مناط (= سبب = علة) التكفير في هذه القصة ليست التشريع العام.
2.
أن حالة التشريع العام قد وقعت قبل قرون، ولم يُفت أحد من أهل العلم بالتكفير بها، ومن أمثلة ذلك: الضرائب التي ابتليت بها كثير من بلاد المسلمين منذ عصور، ومن المعلوم أن واضعها يلزِم بها ويعاقب على تركها، مع أنها محرمة، بل من صور الحكم بغير ما أنزل الله، ولو كان هذا الفعل مكفراً؛ لقال به أهل العلم، ولقرروا أن التشريع العام كفر، ولما سكتوا عن بيانه مع معاصرتهم له.
المسألة السادسة:
مع أن هذه الحالة من أشد الحالات نزاعاً بين طلاب العلم، إلا أن علماء العصر الثلاثة: ابن باز، والألباني، وابن عثيمين رحمهم الله اتفقوا على عدم التكفير بها، (انظر ص 39).