الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشورى فِي الْإِسْلَام
(أَقُول) وأهم مَا يجب على الإِمَام الْمُشَاورَة فِي كل مَالا نَص فِيهِ عَن الله وَرَسُوله، وَلَا إِجْمَاعًا صَحِيحا يحْتَج بِهِ، أَو مَا فِيهِ نَص اجتهادي غير قَطْعِيّ، وَلَا سِيمَا أُمُور السياسة وَالْحَرب المبنية على أساس الْمصلحَة الْعَامَّة، وَكَذَا طرق تَنْفِيذ النُّصُوص فِي هَذِه الْأُمُور إِذْ هِيَ تخْتَلف باخْتلَاف الزَّمَان وَالْمَكَان. فَهُوَ لَيْسَ حَاكما مُطلقًا كَمَا يتَوَهَّم الكثيرون بل مُقَيّد بأدلة الْكتاب وَالسّنة وسيرة الْخُلَفَاء الرَّاشِدين الْعَامَّة وبالمشاورة، وَلَو لم يرد فِيهَا إِلَّا وصف للْمُؤْمِنين بقوله تَعَالَى:{وَأمرهمْ شُورَى بَينهم} وَقَوله لرَسُوله: {وشاورهم فِي الْأَمر} لكفى، فَكيف وَقد ثبتَتْ فِي الْأَخْبَار والْآثَار قولا وَعَملا، وَسبب هَذَا الْأَمر للرسول [صلى الله عليه وسلم] بالمشاورة فِي أَمر الْأمة، جعله قَاعِدَة شَرْعِيَّة لمصالحها الْعَامَّة، فَإِن هَذِه الْمصَالح كَثِيرَة الشّعب وَالْفُرُوع وَلَا يُمكن تحديدها، وتختلف باخْتلَاف الزَّمَان وَالْمَكَان فَلَا يُمكن تقييدها، وَقد ذهب بعض عُلَمَاء السّلف إِلَى أَن النَّبِي [صلى الله عليه وسلم] كَانَ غَنِيا عَن الْمُشَاورَة فلولا إِرَادَة جعلهَا قَاعِدَة شَرْعِيَّة لما أَمر الله بهَا، روى عَن الْحسن الْبَصْرِيّ فِي تَفْسِيره قَوْله تَعَالَى {وشاورهم فِي الْأَمر} أَنه قَالَ: قد علم الله أَنه مَا بِهِ إِلَيْهِم من حَاجَة وَلَكِن أَرَادَ أَن يستن بِهِ من بعده. وروى فِي الْمَرْفُوع مَا يُؤَيّدهُ فقد أخرج ابْن عدي وَالْبَيْهَقِيّ بِسَنَد حسن عَن ابْن عَبَّاس أَن الْآيَة لما نزلت قَالَ رَسُول الله [صلى الله عليه وسلم]
" أما إِن الله وَرَسُوله لَغَنِيَّانِ عَنْهَا وَلَكِن جعلهَا الله رَحْمَة لأمتي فَمن اسْتَشَارَ مِنْهُم لَا يعْدم رشدا، وَمن تَركهَا لم يعْدم غيا " أَي شرعها الله تَعَالَى لتحقيق الرشد فِي الْمصَالح وَمنع الْمَفَاسِد فَإِن الغي هُوَ الْفساد والضلال، وَلَكِن الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة ناطقة بِأَن النَّبِي [صلى الله عليه وسلم] لم يكن مستغنيا عَن غَيره من النَّاس إِلَّا فِيمَا ينزل عَلَيْهِ فِيهِ الْوَحْي وَقَالَ
" أَنْتُم أعلم بِأَمْر دنياكم " رَوَاهُ مُسلم عَن عَائِشَة وَأنس وَقَالَ
" مَا كَانَ من أَمر دينكُمْ فَإلَى، وَمَا كَانَ من أَمر دنياكم فَأنْتم أعلم بِهِ " رَوَاهُ أَحْمد، وَفِي حَدِيث رَافع بن خديج فِي صَحِيح مُسلم أَيْضا أَنه [صلى الله عليه وسلم] قَالَ:
" إِنَّمَا أَنا بشر، إِذا أَمرتكُم بشئ من أَمر دينكُمْ فَخُذُوا بِهِ وَإِذا أَمرتكُم بِشَيْء من رَأْيِي فَإِنَّمَا أَنا بشر " وَهَذَا هُوَ الْمُوَافق لقَوْله تَعَالَى {قل إِنَّمَا أَنا بشر مثلكُمْ يُوحى إِلَيّ} فَهُوَ ممتاز على الْبشر بِالْوَحْي إِلَيْهِ وَلكنه فِيمَا عداهُ وَعدا مَا يستلزمه بشر يجوز عَلَيْهِ الْأَعْرَاض البشرية، وَيحْتَاج إِلَى غَيره فِي الْأُمُور الكسبية، وَكَونه أكمل لَا يَقْتَضِي أَن يُحِيط بِكُل
شَيْء علما وَيقدر على كل عمل فَإِن هَذَا لله وَحده {قل لَا أَقُول لكم عِنْدِي خَزَائِن الله وَلَا أعلم الْغَيْب وَلَا أَقُول لكم إِنِّي ملك} . .
وَلذَلِك كَانُوا إِذا راجعوه فِي أَمر أَمر بِهِ وَرَأَوا الْمصلحَة فِي غَيره سَأَلُوهُ أقاله أَو فعله بِوَحْي من الله أم من رَأْيه؟ فَإِذا قَالَ إِنَّه من رَأْيه ذكرُوا رَأْيهمْ وَقد يعْمل بِهِ ويرجحه على رَأْيه كَمَا فعل فِي يَوْم بدر فقد جَاءَ [صلى الله عليه وسلم] أدنى مَاء فَنزل عِنْده فَقَالَ الْحباب بن الْمُنْذر: يَا رَسُول الله أَرَأَيْت هَذَا الْمنزل أمنزل أنزلكه الله لَيْسَ لنا أَن فتقدمه وَلَا أَن نتأخر عَنهُ؟ أم هُوَ الرَّأْي وَالْحَرب والمكيدة؟ قَالَ
" بل هُوَ الرَّأْي وَالْحَرب والمكيدة " فَقَالَ يَا رَسُول الله لَيْسَ هَذَا بمنزل فانهض بِالنَّاسِ حَتَّى نأتي أدنى مَاء من الْقَوْم فننزله ثمَّ تغور مَا وَرَاءه الخ فَقَالَ لَهُ النَّبِي [صلى الله عليه وسلم]
" لقد أَشرت بِالرَّأْيِ " وَعمل بِرَأْيهِ، وَفِي رِوَايَة إِبْنِ عَبَّاس عَن ابْن سعد أَن جِبْرِيل نزل فَقَالَ للنَّبِي [صلى الله عليه وسلم] الرَّأْي مَا أَشَارَ بِهِ الْحباب بن الْمُنْذر:
وَقد اسْتَشَارَ [صلى الله عليه وسلم] أَبَا بكر وَعمر رضي الله عنهما فِي أسرى بدر فَاخْتلف رأيهما فَقَالَ
" لَو اجتمعتما مَا عصيتكما " وَكَانَ رَأْيه مُوَافقا لرأي أبي بكر فأنفذه ثمَّ نزل الْوَحْي بِمَا يُؤَيّد رَأْي عمر وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {مَا كَانَ لنَبِيّ أَن يكون لَهُ أسرى حَتَّى يثخن فِي الأَرْض} . الْآيَتَيْنِ فَقَالَ [صلى الله عليه وسلم] لعمر
" كَاد يصيبنا فِي خِلافك شَرّ " وَالرِّوَايَات فِي هَذِه الْمَسْأَلَة كَثِيرَة. . وكل هَذَا كَانَ قبل أَمر الله تَعَالَى إِيَّاه بمشاورتهم فَإِنَّهُ نزل فِي غَزْوَة أحد وفيهَا رجح رَأْي الْأَكْثَرين على رَأْيه [صلى الله عليه وسلم] ورأي كثير من كبراء الصَّحَابَة رضوَان الله عَلَيْهِم، وَأخرج ابْن مرْدَوَيْه عَن عَليّ كرم الله وَجهه قَالَ سُئِلَ رَسُول الله [صلى الله عليه وسلم] عَن الْعَزْم أَي قَوْله تَعَالَى:{وشاورهم فِي الْأَمر فَإِذا عزمت فتوكل على الله} فَقَالَ
" مُشَاورَة أهل الرَّأْي ثمَّ اتباعهم ".
وَقد حققنا مَسْأَلَة الشورى فِي الْحُكُومَة الإسلامية بالتفصيل فِي تَفْسِير هَذِه الْآيَة من سُورَة آل عمرَان وَتَفْسِير: {أطعيوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول وأولي الْأَمر مِنْكُم} من سُورَة النِّسَاء. وَبينا فِي الأول الْحِكْمَة فِي ترك الرَّسُول [صلى الله عليه وسلم] نظام الشورى للْأمة وَعدم وضع أَحْكَام لَهَا، وَمُلَخَّصه أَن النظام يخْتَلف باخْتلَاف أَحْوَال الْأمة فِي كثرتها وقلتها وشئونها الاجتماعية ومصالحها الْعَامَّة فِي الْأَزْمِنَة الْمُخْتَلفَة، فَلَا يُمكن أَن تكون لَهُ أَحْكَام مُعينَة توَافق جَمِيع الْأَحْوَال فِي كل زمَان وَمَكَان، وَلَو وَضَع لَهَا أحكاما مُؤَقَّتَة لخشى أَن يتَّخذ النَّاس مَا يَضَعهُ لذَلِك الْعَصْر وَحده دينا مُتبعا فِي كل حَال
وزمان وَإِن خَالف الْمصلحَة، كَمَا فعلوا فِي الْأَخْذ بظواهر مبايعة أبي بكر وَعُثْمَان واستخلاف عمر. فَاكْتفى بشرع الله للمشاورة وتربيته [صلى الله عليه وسلم] الْأمة عَلَيْهَا بِالْعَمَلِ. على أَن أولي العصبية خالفوا مَا شَرعه الله بِاتِّبَاع أهوائهم ومطامعهم لتقصير أولي الْأَمر فِي وضع هَذَا النظام لكل زمَان بِمَا يُنَاسِبه، كَمَا ضبط عمر رضي الله عنه الْأَمر فِي زَمَنه بِمَا يُنَاسِبه، بل عَنى عُلَمَاؤُنَا بمسائل النَّجَاسَة وَالْحيض والبيوع أَشد من عنايتهم بِهَذِهِ الْمَسْأَلَة، حَتَّى قَالَ إِمَام كَبِير مثل الْأَشْعَرِيّ إِن بيعَة رجل وَاحِد من أهل الْحل وَالْعقد تلْزم الْأمة إِذا أشهد عَلَيْهَا فَأنى يَسْتَقِيم أَمر أمة تعْمل بِهَذَا القَوْل فِي رياستها الْعَامَّة؟ .
وَأما الْآثَار عَن الرَّاشِدين فِي الْمُشَاورَة فكثيرة (مِنْهَا) مَا رَوَاهُ الدَّارمِيّ وَالْبَيْهَقِيّ عَن مَيْمُون بن مهْرَان أَن أَبَا بكر كَانَ يسْأَل عَامَّة الْمُسلمين عَمَّا لَا يجد فِيهِ نصا من الْكتاب وَلَا سنة عَن النَّبِي [صلى الله عليه وسلم] هَل يعلمُونَ عَن النَّبِي [صلى الله عليه وسلم] فِيهِ شَيْئا فَرُبمَا قَامَ إِلَيْهِ الرَّهْط فَقَالُوا نعم قضى فِيهِ بِكَذَا فَيَأْخُذ بِهِ ويحمد الله تَعَالَى (قَالَ) وَإِن أعياه ذَلِك دَعَا رُءُوس الْمُسلمين وعلماءهم فاستشارهم فَإِذا اجْتمع رَأْيهمْ على أَمر قضى بِهِ، وَإِن عمر بن الْخطاب كَانَ يفعل ذَلِك، وَزَاد أَنه كَانَ بعد النّظر فِي الْكتاب وَالسّنة ينظر فِيمَا قضى بِهِ أَبُو بكر أَيْضا لِأَنَّهُ كَانَ لَا يقْضى إِلَّا بِنَصّ أَو مُشَاورَة. وَانْظُر إِلَى الْفرق بَين سُؤال عَامَّة الْمُسلمين عَن الرِّوَايَة واختصاص الرؤساء وَالْعُلَمَاء بالمشاورة، ذَلِك بِأَنَّهُم هم جمَاعَة أولي الْأَمر وَأهل الْحل وَالْعقد الَّذين أَمر الْكتاب بطاعتهم بعد طَاعَة الله وَرَسُوله وَقَالَ فِي إِحَالَة أَمر الْأمة إِلَيْهِم {وَلَو ردُّوهُ إِلَى الرَّسُول وَإِلَى أولى الْأَمر مِنْهُم لعلمه الَّذين يستنبطونه مِنْهُم} .
(وَمِنْهَا) مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي الْأَوْسَط وَأَبُو سعيد فِي الْقَضَاء عَن عَليّ قَالَ قلت يَا رَسُول الله إِن عرض لي أَمر لم ينزل قَضَاء فِي أمره وَلَا سنة كَيفَ تَأْمُرنِي؟ قَالَ:
" تجعلونه شُورَى بَين أهل الْفِقْه والعابدين من الْمُؤمنِينَ وَلَا تقضي فِيهِ بِرَأْيِك خَاصَّة ".
(وَمِنْهَا) مَا فِي صَحِيح البُخَارِيّ عَن ابْن عَبَّاس: وَكَانَ الْقُرَّاء أَصْحَاب مجْلِس عمر ومشاروته كهولا كَانُوا أَو شبَابًا. وَذكر وَاقعَة فِي رُجُوع عمر إِلَى قَول من يذكرهُ بِالْقُرْآنِ، وَقَالَ: وَكَانَ وقافا عِنْد كتاب الله عز وجل وَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيرهمَا من