الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يضيع التّرْك فِيهَا كَمَا ضَاعُوا فِي الجامعة العثمانية أَو الإسلامية بِزَعْمِهِ. . وَلَيْسَ من غرضنا هُنَا تَحْقِيق هَذِه الْمسَائِل ولاانقادها، بل التَّذْكِير بِمَا فِيهَا من مُعَارضَة الْإِمَامَة الإسلامية الْحق بأوجز عبارَة، وَلَا نيأس من إقناع الكثيرين مِنْهُم بِالْجمعِ بَين الجنسية التركية والإسلامية. .
وهنالك فريق من المتفرنجين - وَمِنْهُم بعض المتدينين - وَمن غَيرهم يرَوْنَ أَن إِقَامَة الْخلَافَة الإسلامية وَجعل رَئِيس الدولة هُوَ الإِمَام الْحق الَّذِي يُقيم الْإِسْلَام مُتَعَذر فِي هَذَا الزَّمَان فِي دولة مَدَنِيَّة، فإمَّا أَن تكون الْخلَافَة فِي الدولة التركية اسمية كَمَا كَانَت فِي الدولة العثمانية ينْتَفع بهَا بِقدر الْإِمْكَان وَيَتَّقِي فِيهَا شَرّ استبداد الْخَلِيفَة، وَتَكون الْحُكُومَة مُطلقَة من قيد الْتِزَام الشَّرْع، فِي الْأَحْكَام الَّتِي لَا يُمكن الْعَمَل بهَا فِي هَذَا الْعَصْر، وَإِمَّا أَن يسْتَغْنى عَنْهَا الْبَتَّةَ. . واستمالة حزب الْإِصْلَاح لهَؤُلَاء أيسر من استمالته لغَيرهم. .
حزب حشوية الْفُقَهَاء الجامدين:
إِن جَمِيع عُلَمَاء الدّين وَأكْثر الْعَامَّة المقلدين لَهُم يتمنون أَن تكون حكومتهم إسلامية مَحْضَة، وَالتّرْك يحتمون أَن تكون تَابِعَة لفقه الْمَذْهَب الْحَنَفِيّ، وَمِنْهُم من لَا يرى مَانِعا من الْأَخْذ فِي بعض الْأَحْكَام بِفقه غير الْحَنَفِيَّة من مَذَاهِب أهل السّنة، وَلَا يبالون بِمَا خَالف ذَلِك من مَدَنِيَّة الْعَصْر، وَلَكِن هَؤُلَاءِ الْعلمَاء يعجزون عَن جعل القوانين العسكرية والمالية والسياسية مستمدة من الْفِقْه التقليدي ويأبون الْقبُول بِالِاجْتِهَادِ الْمُطلق فِي كل الْمُعَامَلَات الدُّنْيَوِيَّة، وَلَو فوض إِلَيْهِم أَمر الْحُكُومَة على أَن ينهضوا بهَا لعجزوا قطعا، وَلما اسْتَطَاعُوا حَربًا وَلَا صلحا. .
طالما بَينا فِي الْمنَار أَن تَقْصِير عُلَمَاء الْمُسلمين فِي بَيَان حَقِيقَة الْإِسْلَام والدفاع عَنهُ بِمَا تَقْتَضِيه حَالَة هَذَا الْعَصْر هُوَ أكبر أَسبَاب ارتداد كثير من متفرنجة الْمُسلمين عَنهُ، وَأَنَّهُمْ لَو بَينُوهُ كَمَا يجب لدخل فِيهِ من الإفرنج أنفسهم، أَضْعَاف من يخرج بفتنتهم. . وَأَن سَبَب ذَلِك أَو أهم أَسبَابه أَنه لَيْسَ للْمُسلمين إِمَام وَلَا جمَاعَة تقيم ذَلِك بنظام وَمَال كَمَا يفعل إِمَام الكاثوليك البابا والبطاركة والأساقفة وجمعيات التبشير
فِي بِلَاد النَّصْرَانِيَّة، على أَن السلاطين والأمراء وأتباعهم قد أفسدوا الْعلمَاء وأبطلوا عَلَيْهِم زعامتهم للْأمة إِلَّا فِيمَا يُؤَيّد ظلمهم واستبدادهم كَمَا ذكرنَا آنِفا. .
وَلَو كَانَ للْمُسلمين خَليفَة قَائِم بأعباء الْإِمَامَة الْعُظْمَى لما أهمل أَمر الدفاع عَن الْإِسْلَام والدعوة إِلَيْهِ، وَلما غلب على الدولة العثمانية من لَا علم لَهُم بِهِ، أَلَيْسَ من الْغَرِيب أنني لما وضعت مَشْرُوع الدعْوَة والإرشاد للْقِيَام بِهَذِهِ الْفَرَائِض الَّتِي هِيَ أول مَا يجب على إِمَام الْمُسلمين وجماعتهم لم يُوجد فِي وزراء الدولة وَلَا رؤسائها من تجرأ على إجَازَة هَذَا الِاسْم وَأَن الَّذين استحسنوا الْمَشْرُوع اتَّفقُوا على تَسْمِيَة جمعيته بِجَمَاعَة الْعلم والإرشاد، نعم إِن مستشار الصدارة قَالَ لحقى باشا الصَّدْر الْأَعْظَم أَمَامِي: إِذا نفذنا هَذَا الْمَشْرُوع أَلا نلقي مقاومة من الدول الْعُظْمَى؟ فَأَجَابَهُ: إِن لدولة البلغار مدرسة عندنَا لتخريج الدعاة إِلَى النَّصْرَانِيَّة أفتكون دولة الْخلَافَة فِي عاصمتها دون دولة البلغار حريَّة فِي دينهَا؟ وَلَكِن هَذَا الصَّدْر الْأَعْظَم لم ينفذ الْمَشْرُوع وَلم يساعدنا فِيهِ أدني مساعدة، وَإِنَّمَا اغتنمنا فرْصَة سفرة إِلَى إيطالية وسفر طلعت بك وَزِير الداخلية وزعيم الاتحادية إِلَى أدرنة لتقرير الْمَشْرُوع رسميا، وأعانني على ذَلِك انْعِقَاد مجْلِس الوكلاء برئاسة شيخ الْإِسْلَام مُوسَى كاظم أَفَنْدِي أحد أنصاره فَمَا زلت ألح عَلَيْهِ حَتَّى أصدر رحمه الله قرارا من الْمجْلس بتنفيذه، ثمَّ جَاءَ طلعت بك فأفسد الْأَمر. .
وَكَانَ الَّذِي يسمونه السُّلْطَان و (الْخَلِيفَة) فِي قفصه مَغْلُوبًا على أمره، لَا يكَاد يصحو من سكره، وَلَا ترجو المشيخة الإسلامية مِنْهُ قولا وَلَا عملا فِي هَذَا الْأَمر وَلَا غَيره، ولماذا كَانَ نُفُوذ مثل طلعت وكاظم أغلب عَلَيْهِ من نُفُوذ شيخ الْإِسْلَام وشيوخ دَار الْفَتْوَى؟ أَلَيْسَ لعجز الشُّيُوخ وأعوانهم عَن إدارة أُمُور الدولة وَعَن إِظْهَار كِفَايَة الشَّرِيعَة، وَعَن إِثْبَات أصُول الِاعْتِقَاد بهَا بِالْحجَّةِ. وَدفع كل مَا يرد عَلَيْهَا من شبهه؟ أَلَيْسَ لأَنهم غير متصفين بِمَا اشْتَرَطَهُ أَئِمَّة الشَّرْع فِي أهل الْحل وَالْعقد، من الْعلم والسياسة والكفاية والكفاءة؟
على أَن نُفُوذ عُلَمَاء الدّين فِي بِلَاد التّرْك أقوى مِنْهُ فِي مثل سورية ومصر، وَلَكِن خصومهم من المتفرنجين أقوى مِنْهُم، وكل من الْفَرِيقَيْنِ يعد الآخر سَبَب ضعف الدولة، وتقهقر الْأمة، وَالْحق أَن الذَّنب مُشْتَرك بَينهمَا، وَأَن نصب الإِمَام الْحق
وَجعل الدولة التركية كافلة لمنصب الْخلَافَة، لَا يتم إِلَّا بِجمع حزب الْإِصْلَاح لكلمة الْمُسلمين المتفرقة بجذب أَكثر أَصْحَاب النّفُوذ إِلَيْهِ، حَتَّى تَنْحَصِر صِفَات أهل الْحل وَالْعقد فِيهِ، وَإِنَّمَا يكون ذَلِك بتحويل الْعلمَاء مِنْهُم عَن جمود التَّقْلِيد وعصبية الْمذَاهب، وكشف شُبُهَات المتفرنجين على الدّين وَالشَّرْع، وَبَيَان الْخَطَأ فِي عصبية الْجِنْس، فَإِن كَانَ إقناع السوَاد الْأَعْظَم بذلك غير مستطاع الْآن، فَحسب هَذَا الحزب من النجاح الرجحان على سَائِر الْأَحْزَاب، واستعداده لذَلِك بِمَا سنبينه من الْأَسْبَاب. .
إِن الْإِسْلَام هِدَايَة روحية، ورابطة اجتماعية سياسية، فالكامل فِيهِ من كملتا لَهُ، والناقص فِيهِ من ضعف فِيهِ إِحْدَاهمَا أَو كلتاهما، وَقد فقدهما مَعًا الْمَلَاحِدَة من غلاة العصبية الجنسية، فَهَؤُلَاءِ لَا علاج لَهُم، لَا عِنْد أنصار الْخلَافَة وَلَا عِنْد غَيرهم، وَلَكِن بَيَان حَقِيقَة الْإِسْلَام، وَمَا فِيهِ من الحكم وَالْأَحْكَام، الكافلة لأرقى معارج الْمَدِينَة والعمران، مَعَ الْخُلُو من كل مَا فِي المدنية المادية من الشَّرّ وَالْفساد، على الْوَجْه الَّذِي سنشير إِلَيْهِ فِي أبحاثنا هَذِه - يفل من حَدهمْ، ويوقفهم عِنْد حَدهمْ، بل يهدي من لم يخْتم على قلبه من أفرادهم، وَهُوَ بهداية الْكثير من غَيرهم أقوم، ونجاح الدعْوَة فيهم أَرْجَى. .
حَسبنَا هَذِه الْإِشَارَة إِلَى مَا يجب من السَّعْي لهَذَا الْعَمَل فِي التّرْك، وَأما الشّعب الْعَرَبِيّ الَّذِي هُوَ أصل الْإِسْلَام وأرومته، وَلَا حَيَاة لَهُ بلغته، وَلَا تتمّ أَرْكَانه إِلَّا بفريضة الْحَج الَّتِي تُؤدِّي فِي بِلَاده، وَهُوَ الرُّكْن الاجتماعي الوحيد الْجَامِع بَين شعوبه، وَلَا يُمكن أَن تكون الْإِمَامَة الصَّحِيحَة الْعَامَّة بمعزل عَنهُ، فَهُوَ شعب كُله متدين، لَيْسَ فِي جزيرته إلحاد وَلَا تفرنج، وَإِنَّمَا آفته الْجَهْل بطرق إدارة الْبِلَاد وعمرانها، وبالعلوم والفنون الَّتِي يتَوَقَّف حفظ الِاسْتِقْلَال وَعزة الْملَّة عَلَيْهَا، وتعادي الْأُمَرَاء، ودسائس الْأَعْدَاء، فَكل مَا يجب لَهُ على حزب الْإِصْلَاح، إقناع أمرائه بِمَا يجب من الِاتِّحَاد، ومساعدتهم على مَا يجب من إعداد وَسَائِل الْقُوَّة والعمران، وَهَا نَحن أولاء نذْكر بِمَا يجوز نشره من برامج الْأَعْمَال، وأساليب الِاسْتِدْلَال وكنه استعداد الْمُسلمين لهَذَا الْأَمر الْعَظِيم. .