الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خَاتِمَة
خُلَاصَة اجتماعية تاريخية، فِي الْخلَافَة والدول الإسلامية
(تمهيد) : لقد كَانَ فِيمَن قبلنَا من الْبشر منذرون ورسل بعثوا لهدايتهم، وملوك وحكام يتولون الْأَحْكَام والسياسة فيهم، وَكَانَ بعض الْأَنْبِيَاء ملوكاً، وَكَانَ بعض الْمُلُوك تابعين للأنبياء، وَكَانَ الْملك والرياسة فتْنَة للملوك والرعايا، وللرؤساء والمرءوسين، {وَجَعَلنَا بَعْضكُم لبَعض فتْنَة أَتَصْبِرُونَ} وَكَانَ رُؤَسَاء الدّين من غير الْأَنْبِيَاء كثيرا مَا يشتركون مَعَ رُؤَسَاء الدُّنْيَا من الْمُلُوك والأمراء فِي فتْنَة المَال والجاه، فَيكون بَعضهم أَوْلِيَاء بعض فِي استعباد مرءوسيهم، والتمتع بِأَمْوَالِهِمْ وأعراضهم، وَكَانَت الشعوب، تنقاد لأولئك الرؤساء إِمَّا بوازع الِاعْتِقَاد الديني، وَإِمَّا بقهر الْقُوَّة وَالسُّلْطَان، وَإِمَّا بالأمرين جَمِيعًا، وَرُبمَا كَانَ بَعْضهَا ويضيق ذرعاً بِبَعْض الْمُلُوك الجائرين فينزع يَده من طاعتهم، ويثل عروشهم، ويولي أمره جمَاعَة من الزعماء الَّذين نهضوا لمقاومة الْجور والقهر بقوتهم، حَتَّى إِذا مَا صَار الْأَمر إِلَيْهِم كَانُوا وهم عصبَة أَشد جوراً وبغياً من الْملك الْوَاحِد الَّذِي لَا يَسْتَطِيع ظلما وَلَا هضما إِلَّا بأعوانه من أمثالهم، وَمَا زَالَ النَّاس مرهقين بسيطرة رُؤَسَاء الدّين الروحية فِي سرائرهم، ورؤساء الدّين وَالدُّنْيَا مَعًا فِي ظواهرهم.
(إِذا أَوَوْا إِلَى ظلّ الْعدْل
…
يَوْمًا لفحهم هجير الْجور أَيَّامًا)
(وَإِذا تذوقوا من حلاوة الرَّحْمَة
…
جرعة رَاحَة تجرعوا من علقم الْقَسْوَة)
يشقي الأولوف مِنْهُم ليتمتع باللذة أَفْرَاد من المترفين، وَيحرم الألوف من بلغَة الْعَيْش ويتمتع بثمرات كسبهم نفر من المسرفين، وَمَا زَالَ النَّاس كَذَلِك حَتَّى بعث الله خَاتم رسله رَحْمَة للْعَالمين، فَجَاءَهُمْ عَنهُ بِمَا فِيهِ صَلَاح الدُّنْيَا وهداية الدّين.
فَكَانَ من أصُول هدايته للبشر أَن أسس لَهُم دينا وسطا، وَشرعا عادلاً، ومملكة شورية: جعل أَمرهم شُورَى بَينهم، وأزال جبرية الْملك وأثرته وكبرياءه من حكومتهم، وَجعل أَمر الرئيس الَّذِي يمثل الْوحدَة ويوحد النظام وَالْعدْل فِي المملكة للْأمة، ينتخبه أهل الرَّأْي وَالْعَدَالَة وَالْعلم من زعمائها، الموثوق بهم عِنْدهَا، وَجعله مسئولاً عَنْهُم لديهم، ومساوياً فِي جَمِيع أَحْكَام الشَّرِيعَة لأدنى رجل مِنْهُم، وَفرض عَلَيْهِم طَاعَته فِي الْمَعْرُوف من الْحق وَالْعدْل، وَحرم عَلَيْهِم طَاعَته فِي الْمعْصِيَة وَالْبَغي والجور، وَجعل الْوَازِع فِي ذَلِك دينياً لينفذ فِي السِّرّ والجهر، لِأَن الطَّاعَة الْحَقِيقِيَّة لله وَحده، والسيطرة لجَماعَة الْأمة، وَإِنَّمَا الرئيس ممثل للوحدة، وَلذَلِك خَاطب الْكتاب الْمنزل، نَبِي هَذَا الدّين الْمُرْسل، بقوله فِي آيَة الْمُبَايعَة {وَلَا يَعْصِينَك فِي مَعْرُوف} وَأمره بمشاروتهم فِي الْأَمر، وَقد أَقَامَ هَذِه الْأُصُول صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِ بِالْعَمَلِ على أكمل وَجه، فَكَانَ يستشيرهم، وَيرجع عَن رَأْيه إِلَى رَأْيهمْ، ودعا فِي مرض مَوته مَن عساه ظلمه بشئ إِلَى الاقتصاص مِنْهُ، وَسَار على سنته هَذِه خلفاؤه الراشدون من بعده، فَكَانَ هَذَا من أفعل أَسبَاب قبُول دين الْإِسْلَام، وسيادته على جَمِيع الْملَل والأديان، واستعلاء حكمه ولغته فِي الشرق والغرب، وخضوع الْأُمَم الْكَثِيرَة لَهُ بِالرِّضَا والطوع، وانتشاره فِي قرن وَاحِد من الْحجاز إِلَى أقْصَى أفريقية وأوربة من جَانب الْمغرب، وَإِلَى بِلَاد الْهِنْد من جِهَة الْمشرق. .
وَلَو سَار من جَاءَ بعد الرَّاشِدين على سُنَنهمْ فِي اتِّبَاع هدى الْكتاب وَالسّنة، لعمت هِدَايَة الْإِسْلَام الْعَالم كُله، وَلما تهافت عبيد الشُّهْرَة والشهوة، على رياسته الَّتِي هِيَ خلَافَة للنبوة، والنزوات عَلَيْهَا بِقُوَّة العصبية، إِذْ لَيْسَ فِيهَا تمتّع باللذات الجسدية، وَلَا بعظمة السيطرة الجبروتية. . فقد فرض الصَّحَابَة للخليفة الأول نَفَقَة نَفسه وَعِيَاله كَرجل من أوساط الْمُهَاجِرين لَا أعلاهم وَلَا أَدْنَاهُم، وَلكنه، هُوَ وَمن بعده من الرَّاشِدين اخْتَارُوا أَن يَكُونُوا فِي معيشتهم دون الْوسط من أمتهم. .