الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذَلِك التَّفْرِيق الَّذِي أَشَرنَا إِلَى رزاياه فِي هَذَا الْبَحْث مرَارًا، وسعينا لتلافيه قبل تفاقم خطبه فَمَا أفادنا السَّعْي فلاحا، وَكَيف يعقل أَن يرضى الْعَرَب استبدال التركية بِالْعَرَبِيَّةِ الَّتِي شرفها الله على جَمِيع اللُّغَات بكتابه المعجز للبشر وحجته عَلَيْهِم إِلَى يَوْم الْقِيَامَة على مَالهَا من المزايا الْأُخْرَى. .
وَنحن نرى التتار إخْوَة التّرْك فِي الْعرق الطوراني لَا يرضون بترك لغتهم واستبدال التركية بهَا وَهِي أرقى مِنْهَا؟ .
فَنحْن الْآن تجاه أَمر وَاقع، مَا لَهُ من دَافع، وكل مَا نطمع فِيهِ أَن نتقي ضَرَره، ونوفق بَين الجامعة الإسلامية والجامعة الجنسية اللُّغَوِيَّة بِمَا فصلناه من تعاون الْعَرَب وَالتّرْك على إِقَامَة الْخلَافَة الإسلامية الْحق، فَإِذا وفْق الله لإتمام هَذَا فَهُوَ الَّذِي تتمّ بِهِ الْوحدَة، وَمَا يَتَرَتَّب عَلَيْهَا من سَعَادَة الدُّنْيَا وَالْآخِرَة. .
الاشتراع الإسلامي والخلافة:
نُرِيد بالاشتراع مَا يعبر عَنهُ عندنَا بالاستنباط وَالِاجْتِهَاد، وَفِي عرف هَذَا الْعَصْر بالتشريع (وَقد اسْتعْمل بعض عُلَمَائِنَا هَذَا كالشرع فِي الإلهي خَاصَّة) وَهُوَ وضع الْأَحْكَام الَّتِي تحْتَاج إِلَيْهَا الْحُكُومَة لإِقَامَة الْعدْل بَين النَّاس وَحفظ الْأَمْن والنظام، وصيانة الْبِلَاد، ومصالح الْأمة وسد ذرائع الْفساد فِيهَا. . وَهَذِه الْأَحْكَام تخْتَلف باخْتلَاف الزَّمَان وَالْمَكَان وأحوال النَّاس الدِّينِيَّة والمدنية كَمَا قَالَ الإِمَام الْعَادِل عمر بن عبد الْعَزِيز رضي الله عنه تحدث للنَّاس أقضية بِقدر مَا أَحْدَثُوا من الْفُجُور. . أَي وَغَيره من الْمَفَاسِد والمصالح والمضار وَالْمَنَافِع. . فالأحكام تخْتَلف وَإِن كَانَ الْغَرَض مِنْهَا وَاحِدًا وَهُوَ مَا ذكرنَا آنِفا من إِقَامَة الْعدْل. . الخ. .
وَلَا يقوم أَمر حُكُومَة مَدَنِيَّة بِدُونِ اشتراع، وَلَا ترتقي أمة فِي معارج الْعمرَان بِدُونِ حُكُومَة يكفل نظامها اشتراع عَادل يُنَاسب حالتها الَّتِي وَضعهَا فِيهَا تاريخها الْمَاضِي، ويسلك لَهَا السبل والفجاج للعمران الراقي، ولايصلح لأمة من الْأُمَم شرع أمة أُخْرَى مُخَالفَة لَهَا فِي مقوماتها ومشخصاتها وتاريخها، كَمَا أَنه لَا يصلح للغة من اللُّغَات قَوَاعِد لُغَة أُخْرَى فِي صِيغ كلمها وَأَحْكَام تأليفها، إِلَّا إِذا أَرَادَت أمة أَن
تندغم فِي أمة أُخْرَى وتتحد بهَا فتكونا أمة وَاحِدَة كَمَا اتّحدت شعوب كَثِيرَة بِالْإِسْلَامِ فَكَانَت أمة وَاحِدَة ذَات شَرِيعَة وَاحِدَة، وَأما الشعوب الَّتِي تقتبس شرائع شعوب أُخْرَى بِغَيْر تصرف وَلَا اجْتِهَاد فِيمَا تحوله إِلَى مَا يلائم عقائدها وآدابها ومصالحها الَّتِي كَانَ الشّعب بهَا شعبًا مُسْتقِلّا بِنَفسِهِ فَإِنَّهَا لَا تلبث أَن تزداد فَسَادًا واضطرابا، ويضعف فِيهَا التماسك والاستقلال الشّعبِيّ فَيكون مَانِعا من الِاسْتِقْلَال السياسي وَمَا يتبعهُ. . فشرع الْأمة عنوان مجدها وشرفها. . وروح حَيَاتهَا ونمائها، وأعجب مَا منى بِهِ بعض الشعوب الإسلامية أَن ترك شَرِيعَة لَهُ ذَات أصل ثَابت فِي الْحق وقواعد كافلة للعدل والمساواة، واستبدل بهَا قوانين شعوب أُخْرَى هِيَ دونهَا فَأَصْبحُوا وَلَا إِمَام لَهُم فِي حياتهم الاشتراعية من أنفسهم، بل هم يقتدون فِيهَا بأفراد من أعاجم الفرنجة يقلدونهم بِمَا خسروا بِهِ أهم مقومات أمتهم، وَأعظم مظهر من مظَاهر شرفهم، وأشرف أثر من آثَار تاريخهم، وَهُوَ الشَّرْع الديني، الَّذِي هُوَ أساس الاشتراع البشري الاجتهادي. . لَا تتسع هَذِه الْخُلَاصَة الَّتِي نكتبها فِي هَذَا الْبَحْث لبَيَان أَنْوَاع الحكومات الغابرة والحاضرة وشأنها فِي الاشتراع وَمَكَان الْمُسلمين فِيهِ، وَإِنَّمَا نقُول إِن صحفنا الْعَرَبيَّة تصرح فِي هَذَا الْعَهْد آناً بعد آخر بِأَن أحدث أصُول التشريع هُوَ أَنه حق للْأمة، ويظن هَؤُلَاءِ الَّذين يَكْتُبُونَ هَذَا وَأكْثر من يقرءُون كَلَامهم أَن هَذَا الأَصْل من وضع الإفرنج، وَأَن الْإِسْلَام لَا تشريع فِيهِ للبشر. لِأَن شَرِيعَته مستمدة من الْقُرْآن، وَالْأَحْكَام المدنية والسياسية فِيهِ قَليلَة محدودة، وَمن السّنة، وَالزِّيَادَة فِيهَا على مَا فِي الْقُرْآن قَليلَة ومناسبة لحَال الْمُسلمين فِي أول الْإِسْلَام دون سَائِر الْأَزْمِنَة وَلَا سِيمَا زَمَاننَا هَذَا، وَأَن الْإِجْمَاع وَالِاجْتِهَاد على استنادهما إِلَى الْكتاب وَالسّنة قد انقطعا وأقفلت أبوابهما باعتراف جَمَاهِير عُلَمَاء السّنة فِي جَمِيع الأقطار الإسلامية، وَأَن هَذَا هُوَ السَّبَب فِي تقهقر الحكومات الإسلامية المتمسكة بالشريعة الدِّينِيَّة، واضطرار الحكومتين لمدنيتين الوحيدتين التركية والمصرية إِلَى استبدال بعض القوانين الإفرنجية بالشريعة الإسلامية تقليدا ثمَّ تشريعا. .
ذَلِك ظن الَّذين يجهلون أصُول الشَّرِيعَة الإسلامية وأساس الاشتراع فِيهَا، الَّذين لَا يفرقون بَين الِاصْطِلَاح الفقهي والاصطلاح العصري فِي التشريع فيعمى عَلَيْهِم الْحَقِيقَة اخْتِلَاف الِاصْطِلَاح، ذَلِك بِأَن اسْم الدّين وَالشَّرْع قد يستعملان
اسْتِعْمَال المترادف وَإِن كَانَ بَينهمَا عُمُوم وخصوص فَإِنَّهُم كثيرا مَا يختصون الشَّرْع بِالْأَحْكَامِ القضائية أَو العملية دون أصُول العقائد وَالْحكم والآداب الَّتِي هِيَ قَوَاعِد الدّين، الْمُتَعَلّقَة بصلاح المعاش والمعاد، وَلذَلِك جعلُوا الْفِقْه قسمَيْنِ: عبادات ومعاملات، وَالْفُقَهَاء يفرقون فِي ذَلِك بَين الدّيانَة وَالْقَضَاء يَقُولُونَ يجوز هَذَا قَضَاء لَا ديانَة. . وَتسَمى الْأَحْكَام العملية دينا بِاعْتِبَار أَنَّهَا يدان بهَا الله تَعَالَى فتتبع إذعانا لأَمره وَنَهْيه. . وَبِهَذَا الِاعْتِبَار تطلق كلمة الشَّارِع على الله تَعَالَى، وأطلقت على النَّبِي [صلى الله عليه وسلم] بِأَنَّهُ مبلغ الشَّرْع ومبينه، وَمن الْعلمَاء من قَالَ إِن الله تَعَالَى أذن لَهُ أَن يشرع، وَالْجُمْهُور على أَنه مبلغ ومبين لما نزل عَلَيْهِ من الْوَحْي وَأَن الْوَحْي أَعم من الْقُرْآن. .
وَالتَّحْقِيق أَن هَذَا كُله خَاص بِأَمْر الدّين، وَهُوَ مَا شرع ليتقرب بِهِ إِلَى الله تَعَالَى من الْعِبَادَات، وَترك الْفَوَاحِش والمنكرات، ومراعاة الْحق وَالْعدْل فِي الْمُعَامَلَات، تَزْكِيَة للنَّفس وإعدادا لَهَا لحياة الْآخِرَة. . وَمِنْهَا مَا فِي الْمُعَامَلَات من معنى الدّين كاحترام أنفس النَّاس وأعراضهم وَأَمْوَالهمْ والنصح لَهُم وَترك الْإِثْم وَالْبَغي والعدوان والغش والخيانة وَأكل أَمْوَال النَّاس بِالْبَاطِلِ. . وَأما مَا عدا ذَلِك من نظام الإدارة وَالْقَضَاء والسياسة والجباية وتدبير الْحَرْب مِمَّا لَا دخل للتعبد والزلفى إِلَى الله فِي فروعه بعد حسن النِّيَّة فِيهِ - فقد كَانَ الرَّسُول [صلى الله عليه وسلم] فِي زَمَنه مشترعا فِيهِ بِاجْتِهَادِهِ مَأْمُورا من الله بمشاورة الْأمة فِيهِ، وَلَا سِيمَا أولى الْأَمر من أفرادها الَّذين هم مَحل ثقتها فِي مصالحها الْعَامَّة وممثلو إرادتها من الْعلمَاء والزعماء والقواد، وَهُوَ كَذَلِك مفوض من بعده إِلَى هَؤُلَاءِ أنفسهم، ويخلفه لتمثيل الْوحدَة من يختارونه إِمَامًا لَهُم وَخَلِيفَة لَهُ. .
وَالدَّلِيل على هَذَا من الْكتاب قَوْله تَعَالَى: {وَأمرهمْ شُورَى بَينهم} وَقَوله: {أطِيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول وأولي الْأَمر مِنْكُم} الْآيَة وَقَوله: {وَإِذا جَاءَهُم أَمر من الْأَمْن أَو الْخَوْف أذاعوا بِهِ وَلَو ردُّوهُ إِلَى الرَّسُول وَإِلَى أولي الْأَمر مِنْهُم لعلمه الَّذين يستنبطونه مِنْهُم} وَمن السّنة مَا صَحَّ عَنهُ من أَن أمته لَا تَجْتَمِع على ضَلَالَة، وَمَا كَانَ يَجعله [صلى الله عليه وسلم] مَوضِع الشورى من أُمُور الْحَرْب وَغَيرهَا من الْمصَالح الدُّنْيَوِيَّة، وَمَا أذن فِيهِ من الِاجْتِهَاد والرأي عِنْد فقد النَّص من الْكتاب، وَعدم السّنة المتبعة، والْحَدِيث فِيهِ مَشْهُور، وَمن آثَار الْخُلَفَاء الرَّاشِدين المهديين مَا كَانُوا يستشيرون فِيهِ أهل الْعلم والرأي من أُمُور الإدارة وَالْقَضَاء وَالْحَرب أَيْضا، وَمَا وضعوه من الدَّوَاوِين وَالْخَرَاج وَغير ذَلِك مِمَّا لم يرد بِهِ نَص فِي الْكتاب وَالسّنة، وَمن أصُول الْفِقْه حجية إِجْمَاع
الْأمة، واجتهاد الْأَئِمَّة، فَكل هذامما يُسمى فِي عرف علم الْحُقُوق والقانون تشريعا، وَهُوَ ميدان الْمُجْتَهدين الْوَاسِع وَجرى عَلَيْهِ الْعَمَل فِي خير الْقُرُون
…
فَثَبت بِهَذَا أَن لِلْإِسْلَامِ اشتراعا مَأْذُونا بِهِ من الله تَعَالَى، وَأَنه مفوض إِلَى الْأمة يقره أهل الْعلم والرأي والزعامة فِيهَا بالشورى بَينهم. . وَأَن السلطة فِي الْحَقِيقَة للْأمة، فَإِذا أمكن استفتاؤها فِي أَمر وأجمعت عَلَيْهِ فَلَا مندوحة عَنهُ. . وَلَيْسَ للخليفة - دع من دونه من الْحُكَّام - أَن ينْقض إجماعها، وَلَا أَن يُخَالِفهُ وَلَا أَن يُخَالف نوابها وممثليها من أهل الْحل وَالْعقد أَيْضا. . واتفاق هَؤُلَاءِ إِذا كَانُوا مَحْصُورين يُسمى إِجْمَاعًا عِنْد عُلَمَاء الْأُصُول، بِشَرْط أَن يَكُونُوا من أهل الْعلم الاجتهادي.
وَأما إذااختلفوا فَالْوَاجِب رد مَا تنازعوا فِيهِ إِلَى الْأَصْلَيْنِ الأساسيين وهما الْكتاب وَالسّنة، وَالْعَمَل بِمَا يُؤَيّدهُ الدَّلِيل مِنْهُمَا أَو من أَحدهمَا، لقَوْله تَعَالَى بعد الْأَمر بِطَاعَة الله وَطَاعَة الرَّسُول وأولي الْأَمر:{فَإِن تنازعتم فِي شَيْء فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول إِن كُنْتُم تؤمنون بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر ذَلِك خير وَأحسن تَأْوِيلا} أَي أحسن عَاقِبَة ومآلا مِمَّا عداهُ، وَمِنْه الْعَمَل بِرَأْي أَكثر نواب الْأمة فِي تشريع قوانين أوربة ومقلديها فشرعنا مُخَالف لَهَا فِي هَذِه الْمَسْأَلَة، وَمن وُجُوه كَونه خيرا من غَيره، وَأحسن عَاقِبَة أَن النزاع بَين الْأمة يَزُول بتحكيم الْكتاب وَالسّنة فِيهِ، وتطيب نفوس جَمِيع نواب الْأمة بِمَا يظْهر رجحانه بِالدَّلِيلِ، وَلَا يبْقى للأضغان والنزاع بَينهم مجَال. . وَقد تقدم إِثْبَات سلطة الْأمة وتمثيل أهل الْحل وَالْعقد لَهَا فِي أول هَذِه المباحث (رقم 3، 4) بِقدر الْحَاجة الْعَارِضَة. . وَأما تَفْصِيل القَوْل فِي هَذَا وَذَاكَ فيراجع فِيهِ تفسي: {أطِيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول وأولي الْأَمر مِنْكُم} فِي الْجُزْء الْخَامِس من تَفْسِير الْمنَار. .
الاشتراع - أَو التشريع أَو الاستنباط - ضَرُورَة من ضرورات الِاجْتِمَاع البشري، وَمن قَوَاعِد الشَّرْع الإسلامي أَن الضَّرُورَة لَهَا أَحْكَام: مِنْهَا أَنَّهَا تبيح مَا حرمه الله تعلى بِإِذْنِهِ فِي قَوْله بعد بَيَان مُحرمَات الطَّعَام: {إِلَّا مَا اضطررتم إِلَيْهِ} وَمِنْهَا نفي الْحَرج والعسر من الدّين، وانتفاؤهما من قسم الْمُعَامَلَات أولى من انتفائهما من قسم الْعِبَادَات الَّتِي يعقل أَن يكون فِيهَا ضرب من الْمَشَقَّة لتربية النَّفس وتزكيتها إِذْ لَا تكمل تربية بِدُونِ احْتِمَال مشقة وَجهد. . ويسهل هَذَا الِاحْتِمَال نِيَّة الْقرْبَة وابتغاء المثوبة فِيهِ، وَلَيْسَ فِي الْمُعَامَلَات شَيْء من معنى التدين إِلَّا مَا ذكرنَا آنِفا، وَالْغَرَض مِنْهُ حفظ الْأَنْفس وَالْأَمْوَال والأعراض أَن يعتدى عَلَيْهَا بِغَيْر حق، فَمن لم يردعه عَن
ذَلِك خوف عُقُوبَة الْحُكَّام فِي الدُّنْيَا يردعه خوف عَذَاب الله فِي الْآخِرَة إِن كَانَ مُؤمنا بِهِ وَبِمَا جَاءَ بِهِ رَسُوله [صلى الله عليه وسلم] .
فَتبين بِهَذَا أَن للاشتراع الْمدنِي والجنائي والسياسي والعسكري دَلَائِل كَثِيرَة، مِنْهَا قَوَاعِد الضرورات وَنفي الْحَرج وَمنع الضَّرَر والضرار، فَلَو لم ينص فِي الْقُرْآن على أَن أُمُور الْمُؤمنِينَ الْعَامَّة شُورَى بَينهم، وَلَو لم يُوجب طَاعَة أولي الْأَمر بالتبع لطاعة الله وَطَاعَة الرَّسُول، وَلَو لم يفْرض على الْأمة رد هَذِه الْأُمُور إِلَيْهِم ويفوض إِلَيْهِم أَمر استنباط أَحْكَامهَا، وَلَو لم يقر النَّبِي [صلى الله عليه وسلم] معَاذًا على الِاجْتِهَاد والرأي فِيمَا يعرض عَلَيْهِ من القضايا الَّتِي لَا نَص عَلَيْهَا فِي كتاب الله وَلم تمض فِيهَا سنة من رَسُوله لَو لم يرد هَذَا كُله وَمَا فِي مَعْنَاهُ لكفت الضَّرُورَة أصلا شَرْعِيًّا للاستنباط الَّذِي يُسمى فِي عرف هَذَا الْعَصْر بالتشريع. ووراء هَذَا وَذَاكَ عمل الْأمة فِي صدر الْإِسْلَام، وَخير الْقُرُون، وَكَذَا مَا بعْدهَا من الْقُرُون الْوُسْطَى الَّتِي خرجت فِيهَا الْخلَافَة الكافلة للأمور الْعَامَّة عَن مَنْهَج الْعلم الاستقلالي فزالا مَعًا لتلازمهما.
الْخلَافَة منَاط الْوحدَة، ومصدر الاشتراع، وسلك النظام، وكفالة تَنْفِيذ الْأَحْكَام، وأركانها أهل الْحل وَالْعقد رجال الشورى، وَرَئِيسهمْ الإِمَام الْأَعْظَم، وَيشْتَرط فيهم كلهم أَن يَكُونُوا أَهلا للاشتراع، الْمعبر عَنهُ فِي أصولنا بِالِاجْتِهَادِ والاستنباط، وَقد كَانَ أول فَسَاد طَرَأَ على نظام الْخلَافَة وصدع فِي أَرْكَانهَا جعلهَا وراثية فِي أهل الغلب والعصبية، وَأول تَقْصِير رزئ بِهِ الْمُسلمُونَ عدم وضع نظام يَنْضَبِط بِهِ قِيَامهَا بِمَا يجب من أَمر الْأمة على الْقَوَاعِد الَّتِي هدى إِلَيْهَا الْكتاب وَالسّنة، وَأول خلل نَشأ عَن هَذَا وَذَاكَ تفلت الْخُلَفَاء من سيطرة أهل الْحل وَالْعقد الَّذِي يمثلون الْأمة، واعتمادهم على أهل عصبية الْقُوَّة، الَّتِي كَانَ من أهم إصْلَاح الْإِسْلَام لأمور الْبشر إِزَالَتهَا، فَصَارَ صَلَاح الْأمة وفسادها تَابعا بذلك لصلاح الْخَلِيفَة وأعوانه أهل عصبيته، لَا لممثلي الْأمة وَمحل ثقتها من أهل الْعلم والرأي فِيهَا، والغيرة والحدب عَلَيْهَا.
ثمَّ ترَتّب على ذَلِك شُعُور الْخُلَفَاء بالاستغناء عَن الْعلم أَو عدم شُعُورهمْ بِالْحَاجةِ إِلَيْهِ وَترك التَّمَتُّع باللذات اشتغالا بِهِ لتَحْصِيل رُتْبَة الِاجْتِهَاد فِيهِ، وَرَأَوا أَنه يُمكنهُم الِاسْتِعَانَة بالعلماء الَّذين يتقلدون مناصب الوزارة وَالْقَضَاء والإفتاء وَغَيرهَا من الْأَعْمَال الَّتِي يحْتَاج فِيهَا إِلَى استنباط الْأَحْكَام فتركوا الْعلم ثمَّ جهلوا قيمَة الْعلمَاء فصاروا يقلدون الْجَاهِلين من أمثالهم للأعمال، ووجدوا فيهم من بفتي بِعَدَمِ اشْتِرَاط الْعلم الاستقلالي (الِاجْتِهَاد) فِي إِمَام الْمُسلمين وَلَا فِي القَاضِي لِإِمْكَان استعانتهما بالمفتي الَّذِي لَا يكون إِلَّا مُجْتَهدا، ثمَّ عَم الْجَهْل فصاروا يستفتون الْجَاهِلين (أَي غير الْمُجْتَهدين) أمثالهم، ثمَّ أذاع هَؤُلَاءِ الجاهلون الَّذين احتكروا مناصب الدولة وأموالها أَن الِاجْتِهَاد قد أقفل بَابه، وَتعذر تَحْصِيله، وأوجبوا على أنفسهم وعَلى الْأمة تَقْلِيد أَفْرَاد مُعينين من الْعلمَاء والانتساب إِلَيْهِم، ثمَّ صَارُوا يقلدون كل من ينتمي إِلَيْهِم مَعَ الْإِجْمَاع على امْتنَاع تَقْلِيد الْمُقَلّد، فَضَاعَ علم الْأَحْكَام وفقدت ملكة الاشتراع والاستنباط بالتدريج، وَالْأمة لَا تشعر، فَلَمَّا صَار أَمر الْحُكُومَة فِي أَيدي الْجَاهِلين ضَاعَت الشَّرِيعَة والاشتراع، واختل نظام الْأمة، وانحل أمرهَا وتضعضع ملكهَا، وَقع كل ذَلِك بترك مَا صَحَّ فِيهِ من أصُول الْإِسْلَام وفروعه، والجاهلون يحسبون أَنه وَقع بِاتِّبَاع تعاليمه {}
قَالَ القَاضِي أَبُو عَليّ محسن التنوخي فِي كِتَابه: (جَامع التواريخ) حَدثنِي أَبُو الْحُسَيْن بن عَبَّاس قَالَ: كَانَ أول مَا انحل من سياسة الْملك فِيمَا شَاهَدْنَاهُ من أَيَّام بني الْعَبَّاس - الْقَضَاء، فَإِن ابْن الْفُرَات (الْوَزير الْمَشْهُور) وضع مِنْهُ وَأدْخل فِيهِ قوما بالزمانات لَا علم لَهُم وَلَا أبوة فيهم، فَمَا مَضَت إِلَّا سنوات حَتَّى ابتدأت تتضع ويتقلدها كل من لَيْسَ لَهَا بِأَهْل، حَتَّى بلغت فِي سنة نيفا وَثَلَاثِينَ وثلاثمائة إِلَى أَن تقلد وزارة المتقي أَبُو الْعَبَّاس الْأَصْفَهَانِي الْكَاتِب، وَكَانَ فِي غَايَة سُقُوط الْمُرُوءَة والرقاعة إِلَى أَن قَالَ: وتلا سُقُوط الوزارة اتضاع الْخلَافَة وَبلغ أمرهَا إِلَى مَا نشاهد فانحلت دولة بني الْعَبَّاس بانحلال الْقَضَاء، وَكَانَ أول مَا وضع ابْن الْفُرَات من
الْقَضَاء تَقْلِيده إِيَّاه أَبَا أُميَّة الأخوص الْفُلَانِيّ الْبَصْرِيّ أه، وَذكر أَنه إِنَّمَا قَلّدهُ لموعدة وعدها إِيَّاه، إِذْ أَوَى إِلَيْهِ واختفى عِنْده فِي أَيَّام محنته.
وَأَقُول أَن ابْن الْفُرَات كَانَ من أقدر الوزراء وأعلمهم بشئون الْملك والسياسة، وَكَانَ حسن السِّيرَة، وَإِنَّمَا جرأه على مثل هَذَا جهل الْخَلِيفَة وانصرافه إِلَى اللَّهْو واللعب، ثمَّ التَّلَذُّذ والإسراف فِي اللَّذَّات، فَإِنَّهُ ولي وَله ثَلَاث عشرَة سنة: قَالَ الْحَافِظ الذَّهَبِيّ: اخْتَلَّ أَمر النظام كثيرا فِي أَيَّام المقتدر بصغره. يَعْنِي أَن الْخلَل قد طَرَأَ قبله من ايام المتَوَكل بن المعتصم، إِذْ كَانَ قد اشْتَدَّ عَبث التّرْك الَّذين استكثر مِنْهُم المعتصم، وجعلهم عدَّة الْخلَافَة وسياجها، فَكَانُوا هم الَّذين دكوا بنيانها وهدموا أَرْكَانهَا. وَالْعلَّة الأولى لهَذَا كُله بِدعَة ولَايَة الْعَهْد الَّتِي استدلوا عَلَيْهَا باستخلاف أبي بكر لعمر رضي الله عنه فجعلتها الْقُوَّة حَقًا لكل خَليفَة وَإِن كَانَ متغلباً لَا يعد من أَئِمَّة الْحق، وَلم يراع مَا رعاه أَبُو بكر من استشارة أهل الْحل وَالْعقد وَقد بَينا بطلَان هَذَا فِي الْمَسْأَلَة التَّاسِعَة من هَذَا الْبَحْث.
فَعلم بِهَذَا القَوْل الْوَجِيز أَن التساهل فِي بعض شُرُوط الْخلَافَة الَّتِي عَلَيْهَا مدارها وَهِي الْعلم الاستقلالي وَالْعَدَالَة والشورى بِنصب الإِمَام وَفِي تصرفه، قد كَانَ معلولا للتغلب وَعلة لفقد الاشتراع - الاستنباط - الَّذِي لَا يقوم أَمر الدولة وَلَا يطّرد ارتقاؤها وَلَا حفظهَا بِدُونِهِ، فَكَانَ هَذَا عِلّة لضعف الدولة، وَكَانَ ضعف الدولة عِلّة لضعف الْأمة، إِذْ صَارَت تَابِعَة للدولة لَا متبوعة وَكَانَ فَسَاد أَمرهمَا مَعًا عِلّة لتغيرات كَثِيرَة فِي الْأَحْوَال الاجتماعية وشئون الْمَعيشَة تَقْتَضِي أحكاماً شَرْعِيَّة أُخْرَى غير الَّتِي كَانَ الْأَمر عَلَيْهَا قبلهَا، أَو تعود الْإِمَامَة الْحق إِلَى أَصْلهَا.
وَنَحْمَد الله أَن ظهر لأركان الدولة التركية الَّتِي تنحّلُ منصب الْخلَافَة أَن الدولة العثمانية كَانَت فَاسِدَة، وَأَنَّهَا لم تكن بعد دَعْوَة الْخلَافَة خيرا من قبلهَا، بل لم تلبث أَن دب إِلَيْهَا الْخلَل والضعف بالتدريج فِي كل من أُمُور الدّين وَالدُّنْيَا، حَتَّى صَار كثير من نابتتها المتفرنجين يصرحون بِأَن الْإِسْلَام هُوَ الَّذِي جنى عيها، وَأَن حكم الْخلَافَة هُوَ الْفَاسِد الَّذِي لَا يُمكن صَلَاح حَالهَا مَعَه، فتسنى لنا أَن نبين لَهَا وللعالم الإسلامي الَّذِي كَانَ أَكْثَره مفتوناً بهَا أَنَّهَا لم تكن قَائِمَة على أصُول الشَّرِيعَة فِي الْخلَافَة، وَأَن نبين حَقِيقَة الْخلَافَة وشكل الْحُكُومَة الإسلامية الْحق وَخطأ جُمْهُور أَعْضَاء الْمجْلس الوطني