الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْخلَافَة وتهمة الجامعة الإسلامية:
إِن السَّبَب الأول لكَون الدولة البريطانية هِيَ الْخصم الْأَكْبَر الأشد الْأَقْوَى من خصوم الْخلَافَة الإسلامية هُوَ أَنَّهَا تخشى أَن تتجدد بهَا حَيَاة الْإِسْلَام وتتحقق فكرة الجامعة الإسلامية فيحول ذَلِك دون استعبادها للشرق كُله. . وَقد نشرنا فِي مجلدات الْمنَار أقوالا كَثِيرَة للساسة الأوربيين فِي هَذِه الْمَسْأَلَة من أهمها مَا نشرناه فِي المجلد الْعَاشِر سنة 1325 من رأى كرومر فِي تَقْرِيره السنوي عَن مصر والسودان سنة 1906 وأهمه قَوْله:
" الْمَقْصُود من الجامعة الإسلامية بِوَجْه الْإِجْمَال اجْتِمَاع الْمُسلمين فِي الْعَالم كُله على تحدي قوات الدول المسيحية ومقاومتها، فَإِذا نظر إِلَيْهَا من هَذَا الْوَجْه وَجب على كل الْأُمَم الأوروبية الَّتِي لَهَا مصَالح سياسية فِي الشرق أَن تراقب هَذِه الْحَرَكَة مراقبة دقيقة لِأَنَّهَا يُمكن أَن تُؤدِّي إِلَى حوادث مُتَفَرِّقَة فتضرم فِيهَا نيران التعصب الديني فِي جِهَات مُخْتَلفَة من الْعَالم. . ".
ثمَّ ذكر أَن للجامعة الإسلامية مَعَاني أُخْرَى أهم من الْمَعْنى الْأَصْلِيّ وَهِي:
(أَولهَا) فِي مصر الخضوع للسطان وترويج مقاصده. .
(وَثَانِيها) استلزامها لتهييج الأحقاد الجنسية والدينية إِلَّا فِيمَا ندر. .
(وَثَالِثهَا) السَّعْي فِي إصْلَاح أَمر الْإِسْلَام على النهج الإسلامي ( {} ) وَبِعِبَارَة أُخْرَى السَّعْي فِي الْقرن الْعشْرين لإعادة مبادئ وضعت مُنْذُ ألف سنة هدى لهيئة اجتماعية فِي حَالَة الْفطْرَة والسذاجة " وَذكر أَن عيب هَذِه المبادئ وَالسّنَن والشرائع هُوَ المناقضة لآراء أهل هَذَا الْعَصْر فِي علاقَة الرِّجَال بِالنسَاء وَأمر آخر قَالَ إِنَّه " أهم من ذَلِك كُله وَهُوَ إفراغ القوانين المدنية والجنائية والمالية فِي قالب وَاحِد لَا يقبل تغييرا وَلَا تحويرا (قَالَ) وَهَذَا مَا وقف تقدم الْبلدَانِ الَّتِي دَان أَهلهَا بدين الْإِسْلَام
…
"
ثمَّ قفى على تحذير الأوربين من الجامعة الإسلامية بتحذيرهم من الجامعة الوطنية لِئَلَّا تتجلبب لَهَا الأولى " الَّتِي هِيَ أعظم الحركات المتقهقرة ".
رددنا على لورد كرومر فِي كل هَذِه الْمسَائِل ردا، ورد غَيرنَا عَلَيْهِ أَيْضا وَفِي هَذِه المباحث مَا فِيهَا من تفنيد كَلَامه، وغرضنا هُنَا أَن نبين شدَّة اهتمام الإنكليز بمقاومة
الجامعة الإسلامية بِكُل معنى من مَعَانِيهَا، وتحريضهم جَمِيع الأوربيين وَجَمِيع النَّصَارَى عَلَيْهَا وعَلى من يتَصَدَّى لَهَا، وتخويف الْمُسلمين مِنْهَا. .
وَلَقَد كن من إرهاب أوربة للشعوب الإسلامية وحكوماتها أَن جَعلتهَا تخَاف وتحذر كل مَا يكرههُ الأوربيون مِنْهَا وَتظهر الرَّغْبَة فِي كل مَا يدعونها إِلَيْهِ، وجروا على ذَلِك حَتَّى صَار الكثيرون مِنْهُم يَعْتَقِدُونَ أَن مَا يستحسنه لَهُم هَؤُلَاءِ الطامعون فيهم هُوَ الْحسن، وَمَا يستقبحونه مِنْهُم هُوَ الْقَبِيح، إِذْ تربوا على ذَلِك، وَلم يَجدوا أحدا يبين لَهُم الْحَقَائِق، وَكَانَ هَذَا عونا لَهُم على سلب اسْتِقْلَال هَؤُلَاءِ المخدوعين والمرهبين فِي بعض الْبِلَاد، وَغَلَبَة نفوذهم على نُفُوذ الْحُكُومَة فِي بِلَاد أُخْرَى كمصر والدولة العثمانية، واستحوذ الْجُبْن والخور على رجال الحكومات فِي هَذِه الْبِلَاد حَتَّى إِن أَرْكَان الدولة العثمانية لم يتجرءوا على الْإِذْن لنا بإنشاء مدرسة إسلامية فِي عاصمتها باسم (دَار الدعْوَة والإرشاد) كَمَا تقدم، وَلم يَكُونُوا كلهم يجهلون مَا ذكرت، بل قَالَ لي شيخ الْإِسْلَام حسني أَفَنْدِي رَحمَه الله تَعَالَى: إِن عندنَا قَاعِدَة مطردَة فِي الإفرنج هِيَ أَن كل مَا يرغبوننا فِيهِ فَهُوَ ضار بِنَا، وكل مَا ينفروننا مِنْهُ فَهُوَ نَافِع لنا. . وَإِنَّمَا هُوَ جبن بعض الرؤساء وَفَسَاد عقائد بعض. . وَمَا الْجُبْن إِلَّا غشاوة من الْوَهم على عين البصيرة انقشعت عَن ترك الأناضول، فَرَأَوْا أَنهم بعد انكسارهم فِي الْحَرْب الْعَامَّة، وفقدهم لتِلْك الممالك الواسعة، أعز وَأقوى مِمَّا كَانُوا عَلَيْهِ مُنْذُ مِائَتي سنة، إِذْ كَانَت الْبِلَاد فِيهَا تنتقص من أطرافها، ونفوذ الْأَجَانِب فِي عَاصِمَة الدولة فَوق نُفُوذ خليفتها وسلطانها. .
لهَذَا السَّبَب ينوط الرَّجَاء بحكومة الأناضول أُلُوف الألوف من الْمُسلمين أَن تحيي منصب الْخلَافَة، وتجدد بِهِ مجد الْإِسْلَام وشريعته الغراء الَّتِي يرجي أَن يَتَجَدَّد بإحيائها مجد الإنسانية، وَيدخل الْبشر فِي عصر جَدِيد ينجون بِهِ من مفاسد المدنية المادية، الَّتِي تهدد الْعمرَان الأوروبي نَفسه بالزوال، بله عمرَان الشرق. .
أَنا لَا أتصور أَن يكون الرعب من مُعَارضَة دوَل أوربة الاستعمارية هُوَ الَّذِي يمْنَع التّرْك من إِقَامَة الْخلَافَة الإسلامية. . فَإِن هَذَا شكل حكومتنا، وَمُقْتَضى ديننَا وطالما صرحت هَذِه الدول بعد الْحَرْب بِأَنَّهَا لَا تفتات على الْمُسلمين فِي أَمر الْخلَافَة، وَأما الجامعة الإسلامية الَّتِي يخافونها فَهِيَ مَسْأَلَة أُخْرَى. . وَلكُل دولة لَهَا رعايا من الْمُسلمين أَن تسوسهم بالطريقة الَّتِي ترَاهَا أحفظ لمصلحتها، نعم لن يكون الإفرنج
هم الَّذين يمْنَعُونَ إِقَامَة الْخلَافَة، وَلَكِن الَّذِي يخْشَى أَن يمْنَعهَا إِنَّمَا هم المتفرنجون دون غَيرهم وَقد شرحنا ذَلِك من قبل.
من الْمَعْقُول فِي السياسة أَن يطعن المستعمرون للبلاد الإسلامية فِي جَامِعَة دينية يظنون أَنَّهَا قد تُفْضِي إِلَى انْتِقَاض أهل هَذِه الْبِلَاد عَلَيْهِم، وَيَخَافُونَ أَن تكون الْخلَافَة الْحق سَببا لتحَقّق هَذِه الجامعة، وَأَن يطعنوا فِي الشَّرِيعَة الإسلامية وينفروا الْمُسلمين مِنْهَا لأجل ذَلِك، كَمَا يطعن فِيهَا دعاة النَّصْرَانِيَّة لهَذِهِ الْعلَّة وللطمع فِي تنصير الْمُسلمين، وَهَذَا الْخَوْف من إِقَامَة الْخلَافَة يكون على أشده إِذا كَانَ الْبَاعِث على إِقَامَتهَا السياسة الْمَحْضَة الَّتِي يسْتَحل اصحابها كل عمل لأجل مصلحتهم، وَقد يكون دون ذَلِك إِذا كَانَ الْبَاعِث دينيا مَحْضا وَهُوَ إِقَامَة حكم الْإِسْلَام كَمَا شَرعه الله تَعَالَى، وَلَيْسَ من شُرُوطهَا أَن يتبعهَا جَمِيع الْمُسلمين، وَنحن نعلم أَن هَذَا مُتَعَذر غير مستطاع فِي هَذَا الزَّمَان، وتكليف غير المستطاع مَمْنُوع فِي الْإِسْلَام {لَا يُكلِّف الله نفسا إِلَّا وُسْعَها} بل نَحن نرى الرَّأْي الْغَالِب فِي بعض الْبِلَاد يَأْبَى إحْيَاء الْخلَافَة حَتَّى إننا نجتهد فِي إقناع الْحُكُومَة التركية الْحَاضِرَة بِهِ ونشك فِي قبُولهَا، فَإِن زعيمها وَصَاحب النّفُوذ الْأَعْلَى فِي أقوى أحزابها يُصَرح فِي خطبه بِأَن السلطة فِي هَذِه الْحُكُومَة للْأمة الَّتِي يمثلها الْمجْلس الوطني الْكَبِير بِلَا شَرط وَلَا قيد، وَأَنه لَا يُمكن أَن يكون لشخص معِين نُفُوذ فِيهَا مهما يكن لقبه " أَي خَليفَة سمى أَو سُلْطَانا ".
وَلما أذاع الاتحاديون عزمهم على إنْشَاء مدرسة جَامِعَة إسلامية فِي الْمَدِينَة المنورة وابتداع سجل لطلاب الشَّفَاعَة النَّبَوِيَّة فِيهَا، وَقَالَت الجرائد وَغير الجرائد أَن مُرَادهم بذلك إحْيَاء الجامعة الإسلامية، كتبت مقَالَة فِي هَذَا الْمَوْضُوع نشرتها فِي المجلد السَّابِع عشر من الْمنَار (سنة 1332) قلت فِيهَا مانصه:
" وَأما رأيى الَّذِي أنصح بِهِ الدولة، فَهُوَ أَن تصدى رجالها السياسيين لتحريك أوتار الجامعة الإسلامية يضر الدولة كثيرا وَلَا ينفعها إِلَّا قَلِيلا، ويوشك أَن تكون هَذِه الْأَقْوَال الَّتِي قيلت فِي هَذِه الْمَسْأَلَة - على قلَّة تأثيرها - من أَسبَاب مَا نرَاهُ من شدَّة تحامل أوروبة عَلَيْهَا، وأكتفي فِي هَذَا الْمقَام بِالْمثلِ الَّذِي يكرره الإِمَام الْغَزالِيّ " كن يَهُودِيّا صرفا وَإِلَّا فَلَا تلعب بِالتَّوْرَاةِ ".
" ومرادي من هَذَا أَنه يجب عَلَيْهَا أحد أَمريْن:
(الأول) أَن تؤسس حُكُومَة إسلامية، خَالِيَة من التقاليد والقوانين الإفرنجية، إِلَّا مَا كَانَ من النظام الَّذِي يتَّفق مَعَ الشَّرْع وَلَا يخْتَلف باخْتلَاف الأقوام، وَتُعْطِي مقَام الْخلَافَة حَقه من إحْيَاء دَعْوَة الْإِسْلَام، وَإِقَامَة الْحُدُود وحرية أهل الْأَدْيَان، وَلَا يعجزها حِينَئِذٍ أَن ترْضى غير الْمُسلمين من رعاياها الَّذين لَيْسَ لَهُم أهواء سياسية، وَلَا ضلع مَعَ الدول الْأَجْنَبِيَّة، بل يكون إرضاؤهم أسهل عَلَيْهَا مِنْهُ الْآن إِن شاءته، وَلَو كَانَ لي رَجَاء فِي إصغائها إِلَى هَذَا الرَّأْي، أَو جعله مَحل النّظر والبحث، لبينت ذَلِك بالتفصيل، ولأوردت مَا أعلمهُ من المشكلات والعقبات الَّتِي تعترض فِي طَرِيق تنفيذه من داخلية وخارجية مَعَ بَيَان الْمخْرج مِنْهَا، ثمَّ مَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ من تَجْدِيد حَيَاة الدولة وَكَونه هُوَ المنجي لَهَا من الْخطر، وَإِن ترَاءى لكثير من النَّاس أَنه هُوَ المسرع بالخطر، ظنا مِنْهُم أَن أوروبة تعجل بالإجهاز على الدولة إِذا علمت أَنَّهَا شرعت بنهضة إسلامية لعلمها بِأَن هَذِه هِيَ حَيَاتهَا الْحَقِيقِيَّة، وَكَون حَيَاتهَا بِهَذَا هُوَ مَا يُصَرح بِهِ بعض أَحْرَار الأوروبيين وَإِن خُوّفِ مِنْهُ بالتمويه والإبهام أَكثر السياسيين. .
(الثَّانِي) أَن تدع كل ماعدا الْأُمُور الرسمية الْمَعْهُودَة لَدَيْهَا من أُمُور الدّين إِلَى الجمعيات الدِّينِيَّة الْحرَّة، والأفراد الَّذين يدفعهم استعدادهم إِلَى هَذِه الْخدمَة، وَلها أَن تساعد مَا يسْتَحق المساعدة من هَذِه الْأَعْمَال بالحماية، وَكَذَا بالإعانة الْمَالِيَّة من أوقاف المسملين الْخَيْرِيَّة (إِذا كَانَت تُرِيدُ بَقَاء الْأَوْقَاف الْعَامَّة فِي يَدهَا وَلَا تجب طلاب الْإِصْلَاح إِلَى جعل أوقاف كل ولَايَة فِي أَيدي أَهلهَا) مَعَ بَقَائِهَا بمعزل عَن السياسة وَأَهْلهَا. . وَلَوْلَا أَن هَذَا هُوَ رَأْيِي لما اشْترطت على رجال الدولة وجميعة الِاتِّحَاد إِذْ عرضت عَلَيْهِم مَشْرُوع الدعْوَة والإرشاد أَن يكون فِي يَد جمَاعَة حرَّة، لَا علاقَة لَهَا بالسياسة، وَألا تخصص لَهَا إِعَانَة من خزينة الدولة، بل تكون نفقاتها مِمَّا تجمعه هِيَ من الإعانات بأنواعها وَمِمَّا تعطاه من أوقاف الْمُسلمين الْخَيْرِيَّة. . فستذكرون مَا أَقُول لكم وأفوض أَمْرِي إِلَى الله، إِن الله بَصِير بالعباد) . .
هَذَا مَا كتبناه فِي ذَلِك الْوَقْت، وَقد شرحنا آراء الإفرنج فِي الجامعة الإسلامية وَمَا فِيهَا من الأوهام وَمَا يَنْبَغِي للْمُسلمين مرَارًا فِي مجلدات الْمنَار. .