المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الشروط المعتبرة في الخليفة: - الخلافة

[محمد رشيد رضا]

فهرس الكتاب

- ‌الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة الْمُتَعَلّقَة بالخلافة الإسلامية

- ‌التَّعْرِيف بالخلافة الإسلامية ووجوبها شرعا

- ‌التَّعْرِيف بالخلافة

- ‌حكم الْإِمَامَة أَو نصب الْخَلِيفَة

- ‌من ينصب الْخَلِيفَة ويعزله

- ‌سلطة الْأمة وَمعنى الْجَمَاعَة

- ‌شُرُوط أهل الِاخْتِيَار للخليفة:

- ‌الشُّرُوط الْمُعْتَبرَة فِي الْخَلِيفَة:

- ‌صِيغَة الْمُبَايعَة:

- ‌مَا يجب على الْأمة بالمبايعة:

- ‌مَا يجب على الإِمَام للملة وَالْأمة:

- ‌الشورى فِي الْإِسْلَام

- ‌التَّوْلِيَة بالاستخلاف والعهد:

- ‌طَالب الْولَايَة لَا يُولى

- ‌إِمَامَة الضَّرُورَة والتغلب بِالْقُوَّةِ:

- ‌مَا يخرج بِهِ الْخَلِيفَة من الْإِمَامَة:

- ‌دَار الْعدْل وَدَار الْجور والتغلب:

- ‌كَيفَ سنّ التغلب على الْخلَافَة

- ‌وحدة الْخَلِيفَة وتعدده:

- ‌وحدة الْإِمَامَة بوحدة الْأمة:

- ‌أهل الْحل وَالْعقد فِي هَذَا الزَّمَان

- ‌وَمَا يجب عَلَيْهِم فِي أَمر الْأمة وَالْإِمَام:

- ‌ حزب الْإِصْلَاح الإسلامي المعتدل

- ‌حزب المتفرنجين:

- ‌حزب حشوية الْفُقَهَاء الجامدين:

- ‌مَقَاصِد النَّاس فِي الْخلَافَة وَمَا يجب على حزب الْإِصْلَاح:

- ‌علاقَة الْخلَافَة بالعرب وَالتّرْك:

- ‌جعل مَرْكَز الْخلَافَة فِي الْحجاز وموانعه:

- ‌إِقَامَة الْخلَافَة فِي بِلَاد التّرْك وموانعها ومرجحاتها:

- ‌إِقَامَة الْخلَافَة فِي منْطقَة وسطى:

- ‌نموذج من النّظم الوالجب وَضعهَا للخلافة:

- ‌نهضة الْمُسلمين وتوقفها على الِاجْتِهَاد فِي الشَّرْع:

- ‌فتاوي مصطفى كَمَال الدِّينِيَّة بِرَأْيهِ

- ‌أَمْثِلَة لحَاجَة التّرْك إِلَى الِاجْتِهَاد فِي الشَّرْع

- ‌توقف الِاجْتِهَاد فِي الشَّرْع على اللُّغَة الْعَرَبيَّة:

- ‌الاشتراع الإسلامي والخلافة:

- ‌مَا بَين الاشتراع وَحَال الْأمة من تبَاين وتوافق:

- ‌تَأْثِير الْإِمَامَة فِي إصْلَاح الْعَالم الإسلامي:

- ‌كَرَاهَة غير الْمُسلمين لحكومة الْخلَافَة:

- ‌الْخلَافَة ودول الإستعمار:

- ‌الْخلَافَة وتهمة الجامعة الإسلامية:

- ‌شَهَادَة لوردين للشريعة الإسلامية:

- ‌كلمة لورد كرومر فِي الشَّرِيعَة:

- ‌كتاب لورد كرومر إِلَى أَصْحَاب الْمنَار:

- ‌الْخلَافَة والبابوية، أَو الرياسة الروحية:

- ‌الْفَصْل الْخَامِس لِلْإِسْلَامِ

- ‌قلب السلطة الدِّينِيَّة

- ‌السُّلْطَان فِي الْإِسْلَام

- ‌خَاتِمَة

- ‌سنة التغلب وعواقبها، وإفساد الْأَعَاجِم لحكم الْإِسْلَام الْعَرَبِيّ:

- ‌إضراب الْمُسلمين فِي حكوماتهم

- ‌قَاعِدَة ابْن خلدون فِي العصبية مُخَالفَة لِلْإِسْلَامِ:

- ‌التّرْك العثمانيون والخلافة والتفرنج:

- ‌إحْيَاء الجنسية الطورانية:

- ‌وَسَائِل المتفرنجين لإماتة الدّين:

- ‌مُنْتَهى سلطة الْخَلِيفَة وَشَيخ الْإِسْلَام:

- ‌ضعف مَا عدا العسكرية فِي الدولة:

- ‌مَا نقترحه على التّرْك فِي مَسْأَلَة الْخلَافَة:

الفصل: ‌الشروط المعتبرة في الخليفة:

الْمذَاهب الْمُدَوَّنَة فعدوا أَعمال عمر قَوَاعِد فِي الجزئيات كالخراج ومعاملة أهل الذِّمَّة وَهِي أَعمال اجتهادية تتبع الْمصلحَة. .

وَهَذَا الْعلم هُوَ الْمَادَّة لما ذكر فِي الشَّرْط الثَّالِث من الْحِكْمَة وجودة الرَّأْي. وَلم يشْتَرط قُوَّة العصبية فيهم لِأَن الْمَفْرُوض أَنهم أهل الْحل وَالْعقد الَّذين تعتمد عَلَيْهِم الْأمة فِي أمورها الْعَامَّة، وَأَن أَحْكَام الشَّرْع فِيهَا هِيَ الحاكمة والنافذة، وَأَن الْمُسلمين لَا يدينون إِلَّا بهَا، وَلَا يخضعون إِلَّا لمن ينفذها، وَأما التغلب بعصبية الْجِنْس فَلَيْسَ من هدى الْإِسْلَام فِي شَيْء، بل هُوَ خُرُوج عَن هدايته، وَحكمه فِيهِ سَيذكرُ بعد. .

فَعلم مِمَّا تقدم أَن لقب أهل الْحل وَالْعقد مُرَاد بِهِ معنى المصدرين فِيهِ بِالْقُوَّةِ وبالفعل وهم الرؤساء الَّذين تتبعهم الْأمة فِي أمورها الْعَامَّة، وأهمها نصب الإِمَام الْأَعْظَم وَكَذَا عَزله إِذا ثَبت عِنْدهم وجوب ذَلِك، وَمن يملك التَّوْلِيَة يملك الْعَزْل، كَمَا تقدم بَيَانه فِي مَسْأَلَة سلطة الْأمة، قَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ فِي الإِمَام الَّذِي " جَار وَظهر ظلمه وغشمه وَلم يرعو لزاجر عَن سوء صَنِيعه: فلأهل الْحل وَالْعقد التواطؤ على ردعه وَلَو بِشَهْر السِّلَاح وَنصب الحروب " وَمن ظن أَن كل من يُوصف بِالْعلمِ والوجاهة تَنْعَقِد ببيعتهم الْإِمَامَة وَيجب على الْأمة اتباعهم فِيهَا فقد جهل معنى الْحل وَالْعقد وَمعنى الْجَمَاعَة وَالْإِجْمَاع، وَمَا تقدم من الْأَخْبَار والْآثَار، وَمن كَلَام الْمُحَقِّقين فِي الْمَسْأَلَة وَلَا سِيمَا شُرُوط أهل الِاخْتِيَار. .

‌الشُّرُوط الْمُعْتَبرَة فِي الْخَلِيفَة:

قَالَ السعد: وَقد ذكر فِي كتبنَا الْفِقْهِيَّة أَنه لابد للْأمة من إِمَام يحيى الدّين وَيُقِيم السّنة وينتصف للمظلومين ويستوفي الْحُقُوق ويضعها موَاضعهَا. وَيشْتَرط أَن يكون مُكَلّفا مُسلما عدلا حرا ذكرا مُجْتَهدا شجاعا ذَا رَأْي وكفاية سميعا بَصيرًا ناطقا قرشيا. . فَإِن لم يُوجد فِي قُرَيْش من

ص: 25

يستجمع الصِّفَات الْمُعْتَبرَة ولى كنانى، فَإِن لم يُوجد فَرجل من ولد إِسْمَاعِيل فَإِن لم يُوجد فَرجل من الْعَجم اه.

وَالْمرَاد بقوله مُجْتَهدا الِاجْتِهَاد فِي الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة، بِالْعلمِ بأدلتها التفصيلية. . وَالتَّفْصِيل الْأَخير فِي حَال فقد القرشى للشَّافِعِيَّة وَقيل إِنَّه من فرض مَالا يَقع، وكل مَا قبله مُتَّفق عَلَيْهِ عِنْد أهل السّنة، إِلَّا الْحَنَفِيَّة فقد أجَاز بَعضهم تَوْلِيَة غير الْعَالم الْمُجْتَهد لِأَنَّهُ يَسْتَعِين بالمفتين الْمُجْتَهدين كالقضاء، وَقد قَالَ الشَّيْخ قَاسم بن قلطوبغا فِي حَاشِيَته على المسايرة لشيخه الْكَمَال بن الْهمام إِن الشُّرُوط الَّتِي لَا تَنْعَقِد الْخلَافَة بِدُونِهَا عِنْد الْحَنَفِيَّة هِيَ الْإِسْلَام والذكورة وَالْحريَّة وَالْعقل وأصل الشجَاعَة وَأَن يكون قرشيا. ا. هـ أَي وَمَا عدا هَذِه فشروط تَقْدِيم فِي الِاخْتِيَار لَا شُرُوط انْعِقَاد ووضح الْمَاوَرْدِيّ هَذِه الشُّرُوط بقوله:

وَأما أهل الْإِمَامَة فالشروط الْمُعْتَبرَة فيهم سَبْعَة (أَحدهَا) الْعَدَالَة على شُرُوطهَا الجامعة (وَالثَّانِي) الْعلم الْمُؤَدِّي إِلَى الِاجْتِهَاد فِي النَّوَازِل وَالْأَحْكَام (وَالثَّالِث) سَلامَة الْحَواس من السّمع وَالْبَصَر وَاللِّسَان ليَصِح مَعهَا مُبَاشرَة مَا يدْرك بهَا (وَالرَّابِع) سَلامَة الْأَعْضَاء من نقص يمْنَع من اسْتِيفَاء الْحَرَكَة وَسُرْعَة النهوض (وَالْخَامِس) الرَّأْي المفضى إِلَى سياسة الرّعية وتدبير الْمصَالح (وَالسَّادِس) الشجَاعَة والنجدة المؤدية إِلَى حماية الْبَيْضَة وَجِهَاد الْعَدو (وَالسَّابِع) النّسَب وَهُوَ أَن يكون من قُرَيْش لوُرُود النَّص فِيهِ، وانعقاد الْإِجْمَاع عَلَيْهِ، وَلَا اعْتِبَار بضرار حِين شَذَّ فجوزها فِي جَمِيع النَّاس لِأَن أَبَا بكر الصّديق رضي الله عنه احْتج يَوْم السَّقِيفَة على الْأَنْصَار فِي دفعهم عَن الْخلَافَة لما بَايعُوا سعد بن عبَادَة عَلَيْهَا (أَي أَرَادوا مبايعته) بقول النَّبِي [صلى الله عليه وسلم]

" الْأَئِمَّة من قُرَيْش " فأقلعوا عَن التفرد بهَا، وَرَجَعُوا عَن الْمُشَاركَة فِيهَا حِين قَالُوا: منا أَمِير ومنكم أَمِير، تَسْلِيمًا لروايته، وَتَصْدِيقًا لخبره، وَرَضوا بقوله: نَحن الْأُمَرَاء، وَأَنْتُم الوزراء وَقَالَ النَّبِي [صلى الله عليه وسلم]

" قدمُوا

ص: 26

قُريْشًا وَلَا تقدموها " - أَي وَلَا تتقدموها - وَلَيْسَ مَعَ هَذَا النَّص شُبْهَة لمنازع فِيهَا، وَلَا قَول لمخالف لَهُ. .

أَقُول: قد تقدم الْكَلَام فِي الْعَدَالَة وَالْعلم المشترطين فِي أهل الِاخْتِيَار للخليفة وَيَأْتِي مثله هُنَا بِالْأولَى، أما الْإِجْمَاع على اشْتِرَاط القرشية فقد ثَبت بِالنَّقْلِ وَالْفِعْل، رَوَاهُ ثقاة الْمُحدثين، وَاسْتدلَّ بِهِ المتكلمون وفقهاء مَذَاهِب السّنة كلهم. وَجرى عَلَيْهِ الْعَمَل بِتَسْلِيم الْأَنْصَار وإذعانهم لنَبِيّ قُرَيْش ثمَّ إذعان السوَاد الْأَعْظَم من الْأمة عدَّة قُرُون حَتَّى إِن التّرْك الَّذين تغلبُوا على العباسيين وسلبوهم السلطة بِالْفِعْلِ لم يتجرأ أحد مِنْهُم على ادِّعَاء الْخلَافَة وَلَا التصدي لانتحالها حَتَّى بالتغلب الَّذِي يجِئ الْكَلَام فِيهِ بعد، وَمَا ذَلِك إِلَّا لِأَن الْأمة كلهَا مجمعة على مَا ذكر، معتقدة لَهُ دينا، بل كَانَ الْمُلُوك والسلاطين المتغلبون يستمدون السلطة مِنْهُم، أَو كَانُوا يدعونَ النِّيَابَة عَنْهُم. .

وَأما الْأَحَادِيث فِي ذَلِك فكثيرة مستفيضة فِي جَمِيع كتب السّنة، وَقد أخرجوها فِي كتب الْأَحْكَام وأبواب الْخلَافَة أَو الْإِمَارَة والمناقب وَغَيرهَا، وَلم يَقع خلاف فِي مَضْمُون مجموعها بَين أهل السّنة من عرب وَلَا عجم، وَلم يتصد أحد من عُلَمَاء التّرْك لتأويلها، وَقد طبع بعض الْكتب المثبتة لَهَا فِي الآستانة بِإِذن نظارة المعارف حَتَّى فِي زمن السُّلْطَان عبد الحميد الَّذِي لم يهتم بلقب الْخَلِيفَة أحد مثله، وَمِنْهَا شرح الْمَقَاصِد الَّذِي نقلنا عَنهُ هُنَا مَا نقلنا، وَكَذَا المواقف مَعَ شَرحه وحواشيه. . وَحَدِيث

" قدمُوا قُريْشًا وَلَا تقدموها " الَّذِي ذكره الْمَاوَرْدِيّ رَوَاهُ الشَّافِعِي وَالْبَيْهَقِيّ فِي الْمعرفَة بلاغا وَابْن عدي فِي الْكَامِل من حَدِيث أبي هُرَيْرَة وَالْبَزَّار فِي مُسْنده من حَدِيث عَليّ كرم الله وَجهه وَالطَّبَرَانِيّ فِي الْكَبِير من حَدِيث عبد الله بن السَّائِب بأسانيد صَحِيحَة. . وَفِي مَعْنَاهُ حَدِيث أبي هُرَيْرَة الْمَرْفُوع فِي الصَّحِيحَيْنِ

" النَّاس تبع لقريش فِي هَذَا الشَّأْن " وَلَا نُرِيد ذكر بَقِيَّة الْأَحَادِيث وَإِنَّمَا خرجنَا الحَدِيث الَّذِي اعْتَمدهُ الْمَاوَرْدِيّ وَذكرنَا مَا يقرب مِنْهُ فِي لَفظه لِأَنَّهُ لم يُخرجهُ

وحسبنا من قُوَّة حَدِيث

" الْأَئِمَّة من قُرَيْش " من حَيْثُ الرِّوَايَة قَول الْحَافِظ بن حجر فِي فتح الْبَارِي عِنْد ذكره فِي المناقب من صَحِيح البُخَارِيّ مَا نَصه: قد جمعت طرقه عَن نَحْو أَرْبَعِينَ صحابيا لما بَلغنِي أَن بعض فضلاء الْعَصْر ذكر أَنه لم يرو إِلَّا عَن أبي بكر الصّديق. . وَذكر الْحَافِظ أَن لفظ

ص: 27

أبي بكر لسعد بن عبَادَة فِي السَّقِيفَة فِي مُسْند أَحْمد: وَالله لقد علمت يَا سعد أَن رَسُول الله [صلى الله عليه وسلم] قَالَ وَأَنت قَاعد

" قُرَيْش وُلَاة هَذَا الْأَمر " فَقَالَ لَهُ سعد: صدقت.

فَمن علم هَذَا لَا يلْتَفت إِلَى مَا يذكرهُ بعض أهل هَذَا الْعَصْر من تَأْوِيل تِلْكَ الْأَحَادِيث والبحث فِي أَسَانِيد بَعْضهَا، أَو من أَن شَرط القرشية من الشُّرُوط الخلافية وَإِن قَالَ هَذَا بعض كبار الْمُتَكَلِّمين فَإِن هَؤُلَاءِ يذكرُونَ أَمْثَال هَذِه الخلافات الشاذة عَن بعض المبتدعة لأجل الرَّد عَلَيْهَا، لَا لِأَنَّهَا كالخلاف بَين أَئِمَّة الْحق من الْمسَائِل الاجتهادية، وغرض من يُمَارِي أَو يكتم شَرط القرشية فِي هَذَا الْعَصْر تَصْحِيح خلَافَة سلاطين بني عُثْمَان، وَهَذَا مَالا سَبِيل إِلَيْهِ عندأهل السّنة المشترطين للقرشية بِإِجْمَاع مذاهبهم إِلَّا بقاعدة التغلب، وَأما عِنْد الْخَوَارِج فَلَا سَبِيل إِلَيْهِ الْبَتَّةَ، لأَنهم إِنَّمَا أَنْكَرُوا شَرط القرشية منعا لحصر الْإِمَامَة فِي بَيت معِين. . وماذا يضر العثمانيين أَن تكون خلافتهم بالتغلب وَقد قَالَ بعض الْفُقَهَاء فِي بني أُميَّة وَبني الْعَبَّاس كلهم أَو جلهم مثل ذَلِك. .

وَأما حِكْمَة حصر النَّبِي [صلى الله عليه وسلم] الْخلَافَة الشَّرْعِيَّة فيهم أَو سَببه فقد ذكر المتكلمون وَالْفُقَهَاء فِيهِ مَا روى من قَول أبي بكر الصّديق. . للْأَنْصَار فِي سَقِيفَة بني سَاعِدَة: من أَنهم أَوسط الْعَرَب نسبا ودارا، وأعزهم أحسابا. . وَزَاد بَعضهم مَا كَانَ الصّديق فِي غنى عَنهُ فِي ذَلِك الْوَقْت وَأجْمع كَلَام لَهُم فِي هَذَا مَا ذكره الشَّيْخ أَحْمد ولى الله الدهاوي فِي كِتَابه (حجَّة الله الْبَالِغَة) وَفِي بعضه نظر قَالَ:

" وَالسَّبَب المفضى لهَذَا أَن الْحق الَّذِي أظهره الله على لِسَان نبيه [صلى الله عليه وسلم] إِنَّمَا جَاءَ بِلِسَان قُرَيْش وَفِي عاداتهم، وَكَانَ أَكثر ماتعين من الْمَقَادِير وَالْحُدُود مَا هُوَ عِنْدهم، وَكَانَ الْمعد لكثير من الْأَحْكَام مَا هُوَ فيهم، فهم أقوم بِهِ، وَأكْثر النَّاس تمسكا بذلك وَأَيْضًا فَإِن قُريْشًا قوم النَّبِي [صلى الله عليه وسلم] وَحزبه وَلَا فَخر لَهُم إِلَّا بعلو دين مُحَمَّد [صلى الله عليه وسلم] ، وَقد اجْتمع فيهم حمية دينية، وحيمة نسبية، فَكَانُوا مَظَنَّة الْقيام بالشرائع والتمسك بهَا، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ يجب أَن يكون الْخَلِيفَة مِمَّن لَا يستنكف النَّاس من طَاعَته لجلالة نسبه

ص: 28

وحسبه، فَإِن من لانسب لَهُ يرَاهُ النَّاس حَقِيرًا ذليلا، وَأَن يكون مِمَّن عرف مِنْهُم الرئاسات والشرف، ومارس قومه جمع الرِّجَال وَنصب الْقِتَال، وَأَن يكون قومه أقوياء يحمونه وينصرونه ويبذلون دونه الْأَنْفس، وَلم تَجْتَمِع هَذِه الْأُمُور إِلَّا فِي قُرَيْش، ولاسيما بعد مابعث النَّبِي [صلى الله عليه وسلم] وَنبهَ بِهِ أَمر قُرَيْش، وَقد أَشَارَ أَبُو بكر الصّديق رضي الله عنه إِلَى ذَلِك فَقَالَ: " وَلنْ يعرف هَذَا الْأَمر إِلَّا لقريش هم أَوسط الْعَرَب دَارا

الخ ".

" وَإِنَّمَا لم يشْتَرط كَونه هاشميا مثلا لوَجْهَيْنِ (أَحدهمَا) أَلا يَقع النَّاس فِي الشَّك فيقولوا إِنَّمَا أَرَادَ ملك أهل بَيته كَسَائِر الْمُلُوك فَيكون سَببا للارتداد، ولهذه الْعلَّة لم يُعْط النَّبِي الْمِفْتَاح (أَي مِفْتَاح الْكَعْبَة) للْعَبَّاس بن عبد الْمطلب رضي الله عنه (وَالثَّانِي) أَن المهم فِي الْخلَافَة رِضَاء النَّاس بِهِ واجتماعهم عَلَيْهِ وتوقيرهم إِيَّاه وَأَن يُقيم الْحُدُود ويناضل دون الْملَّة وَينفذ الْأَحْكَام، واجتماع هَذِه الْأُمُور لَا يكون إِلَّا فِي وَاحِد بعد وَاحِد، وَفِي اشْتِرَاط أَن يكون من قَبيلَة خَاصَّة تضييق، وحرج فَرُبمَا لم يكن فِي هَذِه الْقَبِيلَة من تَجْتَمِع فِيهِ الشُّرُوط وَكَانَ فِي غَيرهَا ".

وَأَقُول: إِن الله تَعَالَى ختم دينه وأتمه وأكمله بكتابه الْحَكِيم الَّذِي أنزلهُ {قُرْآنًا عَرَبيا} و {حكما عَرَبيا} على خَاتم رسله الْعَرَبِيّ الْقرشِي، واقتضت حكمته أَن يكون نشره فِي مَشَارِق الأَرْض وَمَغَارِبهَا بدعوة قُرَيْش وزعامتهم، وَقُوَّة الْعَرَب وحماية هَذِه الدعْوَة بسيوفهم، وكل من دخل فِي الْإِسْلَام من الأعجام وَكَانَ لَهُ عمل صَالح فِيهِ كَانَ تَابعا لَهُم متلقيا عَنْهُم، على مُسَاوَاة الشَّرْع فِي أَحْكَامه بَينهم، ونبوغ كثير من مواليهم الَّذين استعربوا بالتبع لَهُم، وَكَانَت قُرَيْش فِي جملَة بطونها أكمل الْعَرَب خلقا وأخلاقا وفصاحة وذكاء وفهما وَقُوَّة عارضة، كَمَا كَانَت أصرح نسبا فِي سلالة إِسْمَاعِيل وأشرف تَارِيخا فِي الْعَرَب بفضائلها وفواضلها وَخدمتهَا لبيت الله تَعَالَى، فَكَانَ مَجْمُوع هَذِه المزايا الَّتِي كملت بِالْإِسْلَامِ مؤهلا لَهَا لِاجْتِمَاع كلمة الْعَرَب عَلَيْهَا، ثمَّ كلمة من يدْخل فِي الْإِسْلَام من شعوب الْعَجم بِالْأولَى، وَلَا سِيمَا بعد النَّص من الرَّسُول [صلى الله عليه وسلم] بذلك وَإِجْمَاع أصحابة

ص: 29

عَلَيْهِ، فحكمة جعله صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِ خلَافَة نبوته فِيهَا وَسَببه أَمْرَانِ (الأول) كَثْرَة المزايا الَّتِي تَنْتَشِر بهَا الدعْوَة، وَتَكون بِسَبَب طباع الْبشر سَببا لجمع الْكَلِمَة، وَمنع الْمُعَارضَة والمزاحمة أَو ضعفها، وَكَذَلِكَ كَانَ، فَإِن النَّاس أذعنوا لَهُم على تنازعهم وَكَثْرَة من لم يقم بأعباء الْخلَافَة مِنْهُم وَلَا أَخذهَا بِحَقِّهَا فَلم يَكُونُوا يَبْتَغُونَ بديلا من فَرد أَو بَيت مِنْهُم، إِلَّا إِلَى آخر مِنْهُم، وَكَانَ افتئات بعض الْأَعَاجِم على بعض العباسيين فسقا على الشَّرْع واعتداء على الْحُقُوق الْعَامَّة كَسَائِر أَنْوَاع الاعتداء على الْأَمْوَال والأعراض (وَالثَّانِي) أَن تكون إِقَامَة الْإِسْلَام متسلسلة فِي سلائل أول من تلقاها ودعا إِلَيْهَا ونشرها حَتَّى لَا يَنْقَطِع اتِّصَال سَيرهَا الْمَعْنَوِيّ والتاريخي، فَإِن الْحُقُوق الْخَاصَّة من الْملَل والأمم وليدة التَّارِيخ وربيبته.

ألم تروا أَن سيرة الْخُلَفَاء الرَّاشِدين تعد هِيَ الْمثل الْأَعْلَى لأحكام الْكتاب وَالسّنة النَّبَوِيَّة وهديهما، وَأَن سيرة الْخُلَفَاء الْمَدَنِيين من الأمويين والعباسيين الَّذين نشرُوا الْفُنُون والعلوم ورقوا الحضارة فِي الشرق والغرب تعد أصل المَدنِيَّة الإسلامية وسندها؟ أَو لم تروا أَن صلَة الْعَالم الإسلامي بمهد الْإِسْلَام الموضعي (الْحجاز) تعد فِي الدرجَة الثَّانِيَة لصلته بكتابه وسنته، حَتَّى إِن الْخَلِيفَة الَّذِي نصبته الدولة التركية الجديدة فِي الآستانة، قد لقب نَفسه بخادم الْحَرَمَيْنِ الشريفين كالسلاطين الَّذين كَانَ الْحجاز خاضعا لَهُم؟

ألم تعلمُوا أَن الْإِسْلَام على حُرِّيَّته وسماحته قد خص الْحجاز أَو جَزِيرَة الْعَرَب بألا يبْقى فِيهَا دينان وَأوصى بذلك النَّبِي [صلى الله عليه وسلم] فِي آخر حَيَاته؟ ألم يبلغكم أَن بعض المؤرخين من غير الْمُسلمين قَالَ: لَو أَن الْجَيْش الَّذِي فتح جنوب فرنسا بعد فتح الأندلس كَانَ كُله أَو أَكْثَره عَرَبيا لملك أوربا كلهَا ودان لَهُ أَهلهَا، وَإِنَّمَا انْتقض الإفرنج عَلَيْهِ لِأَن أَكْثَره كَانَ من البربر الَّذين لم يفهموا الْإِسْلَام وَلم يلتزموا أَحْكَامه فِي حفظ العهود وَالْعدْل وَعدم الاعتداء على الْأَمْوَال والأعراض كالعرب، أَفَرَأَيْتُم لَو جعل الْإِسْلَام خلَافَة النُّبُوَّة مشَاعا وتغلب عَلَيْهَا الْعَجم من الْقُرُون الأولى أَكَانَ يحفظ الْإِسْلَام ولغته كَمَا حفظ بنشر خلفاء قُرَيْش لَهُ من برهم وفاجرهم؟ وَهَذَا بحث يَتَّسِع المجال لشرحه وَلَكِن فِي غير هَذَا الْمقَال الَّذِي نُرِيد أَن يكون بِقدر الْحَاجة الطارئة.

ص: 30

وَقد أورد بعض فضلاء الْعَصْر شُبْهَة على جعل الْخلَافَة فِي قُرَيْش بِأَنَّهَا تعَارض مَا جَاءَ بِهِ الْإِسْلَام من الْمُسَاوَاة وَمن نزع العصبية وتسييد طَائِفَة مُعينَة على سَائِر الْمُسلمين بل جعلهَا كالشبهة الَّتِي أوردهَا بعض الْعلمَاء على الشِّيعَة الَّذين يحصرونها فِي العلويين من أَنَّهَا تفتح بَاب الطعْن فِي الْإِسْلَام لغير الْمُؤمنِينَ بزعمهم أَن النَّبِي [صلى الله عليه وسلم] إِنَّمَا أسس ملكا لأهل بَيته، وكل ذَلِك ظَاهر الْبطلَان، كَمَا بَيناهُ فِي مَوضِع آخر من الْمنَار. فَإِن قُريْشًا بطُون كَثِيرَة مُتَفَرِّقَة وَكَانَ بَينهَا من التعادي فِي الْجَاهِلِيَّة مَا بَين غَيرهَا من قبائل الْعَرَب وبطونها وَمِنْه عَدَاوَة بني عبد شمس لبني هَاشم الَّتِي خفيت بعد فتح النَّبِي [صلى الله عليه وسلم] لمَكَّة وتأليفه لأبي سُفْيَان كَبِير بني أُميَّة وَفِي خلَافَة أبي بكر وَعمر، وَبَدَأَ الاستعداد لإظهارها فِي خلَافَة عُثْمَان وأظهرها مُعَاوِيَة بعده. وَلم يَتَجَدَّد لقريش شَأْن فِي زمن الرَّاشِدين لم يكن لَهَا وَلَا فِي زمن الأمويين والعباسيين، إِلَّا أَن الأمويين كَانَت عِنْدهم عصبية لأهل بَيتهمْ ثمَّ للعربية فمقتهم الْعَالم الإسلامي وقلبهم قبل أَن يستكمل ملكهم قرنا وَاحِدًا.

وَلم يكن لبني تَمِيم فِي خلَافَة أبي بكر وَلَا لبني عدي فِي خلَافَة عمر أدنى امتياز على أحد من أقرانهم، ونزوان بني أُميَّة على مصَالح الْأمة فِي زمَان عُثْمَان كَانَ بِسَبَب ضعفه، بنعرة عصبية مِنْهُ، وَلم يغْفر لَهُ الرَّأْي الإسلامي الْعَام هَذَا بل هاج النَّاس عَلَيْهِ حَتَّى كَانَ ذَلِك تمهيداً لتمكن أَصْحَاب الدسائس الْخفية فِي الْإِسْلَام من قَتله، أعنى دسائس حزب عبد الله بن سبأ الْيَهُودِيّ. . وَالْمَجُوس مثيري الْفِتَن فِي الْإِسْلَام. وَقد روى أَن الإِمَام الْعَادِل الْعَاقِل عمر حذر عُثْمَان وعلياً وَعبد الرَّحْمَن من مثل هَذَا الإيثار للأقارب الْمنَافِي لهدى الْإِسْلَام والمفضي إِلَى فَسَاد الْأَمر. . فَقَالَ لَهُم لما جعل الْأَمر من السِّتَّة: إِن النَّاس لن يعدوكم أَيهَا الثَّلَاثَة، فَإِن كنت يَا عُثْمَان فِي شَيْء من أَمر النَّاس فَاتق الله وَلَا تحملن بني أُميَّة وَبني أبي معيط على رِقَاب النَّاس، وَإِن كنت يَا عَليّ فَاتق الله وَلَا تحملن بني هَاشم على رِقَاب النَّاس، وَقَالَ لعبد الرَّحْمَن مثل ذَلِك. . ذكره الْحَافِظ فِي شرح البُخَارِيّ، وَقَوله إِن النَّاس لن يعدوكم مبْنى على الْقَاعِدَة الَّتِي قررناها وَهِي أَن أَمر الْخلَافَة للْأمة لَا للستة الزعماء الَّذين أَرَادَ عمر جمع كلمة الْأمة بِجمع كلمتهم، لعلو مكانتهم فِيهَا بمناقبهم، على أَن النَّبِي [صلى الله عليه وسلم] قد أوعد قُريْشًا فِي بعض الْأَحَادِيث بانتقام الله مِنْهُم إِذا لم يقيموا الْحق وَالْعدْل وَالرَّحْمَة كَمَا

ص: 31