المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(الرابع عشر) هديه صلى الله عليه وسلم فى الصلاة - الدين الخالص أو إرشاد الخلق إلى دين الحق - جـ ٢

[السبكي، محمود خطاب]

الفصل: ‌(الرابع عشر) هديه صلى الله عليه وسلم فى الصلاة

ومحل استحباب الانتقال إن لم تدع الحاجة إلى عدمه كضيق المكان.

(الرابع عشر) هديه صلى الله عليه وسلم فى الصلاة

قد بينت لك أيها المؤمن أعمال الصلاة من فرائض وواجبات وسنن وآداب داخل الصلاة وخارجها مفصلة بالأدلة تفصيلا لم تره من قبل. وإنى ذاكر لك هنا ثلاثة أحاديث فى صفة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لتكون سراجا منيرا يتضئ بها المعتدى ويهتدى بها الضال.

(1)

قالت عائشة: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتِتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد لله ربِّ العالمين، فإذا ركع لم يُشْخِصْ رأسَه ولم يُصَوِّبه ولكن بين ذلك. وكان إذا رفع رأسه من الركوع لم يسجد حتى يستوىَ قائما وكان إذا رفع رأسه من السجود لم يسجدْ حتى يستوىَ قاعدا، وكان يقول فى كل ركعتين التحيةَ وكان يكره أن يفترش ذراعية افتراشَ السبُع وكان يفرِشُ رجله اليسرى وينصبُ رجله اليمنى وكان ينهى عن عَقِب الشيطان وكان يختم الصلاة بالتسليم " أخرجه أحمد ومسلم (1){533}

(2)

وقال وائل بن حُجْر: " لأنظُرَنّ إلى صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يصلى فنظرت إليه قام فاستقبل القبلة فكبر ورفع يديه حتى حاذتا أذنيه، ثم وضع يده اليمنى على ظهر كفِّه اليسرى والرسِغ والساعدى، ثم لما أراد أن يركع رفع يديه مثلَها، فلما ركع وضع يديه على ركبتيه، ثم

(1) ص 145 ج 3 - الفتح الربانى. وص 213 ج 4 - نووى (ما يجمع صفة الصلاة) و (افتراش السبع) أن يبسط الرجل ذراعيه فى السجود كما يبسط الكلب والذئب يديه. و (عقب) بفتح فكسر، وهو الإقعاء فى الجلوس بأن يلصق الرجل أليته بالأرض وينصب ساقيه ويضع يديه على الأرض.

ص: 361

رفع رأسه فرفع يديه مثلَها، ثم سجد فجعل كفيه بحِذاء أذنيه، ثم قعد فافترَش رجله اليسرى فوضع كفه اليسرى على فخذه وركبتِه اليسرى، وجعل حدّ مِرْفَقه الأيمن على فخذِه اليمنى ثم قبض بين أصابعه فخلّق بالوسطى والإبهام وأشار بالسبابة ثم رفع أُصبُعَه فرأيتُه يحرّكها يدعو بها " أخرجه أحمد وأبو داود والنسائى بسند جيد (1){534}

(3)

وقال محمد بن عطاء: سمعت أبا حُميد الساعدى فى عشرة من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم منهم أبو قتادة. قال أبو حُميد أنا أَعْلَمُكْم بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا فَلِمَ؟ فوالله ما كنتِ بأكثرِنا له تبعا، ولا أقدَمِنا له صُحبة. قال بلى قالوا فاعِرض قال: كان إذا قام إلى الصلاة يرفع يديه حتى يُحاذىَ بهما مَنْكِبيه، ثم يكبر حتى يِقرّ كلُّ عظم منه فى موضعه مُعْتدلا، ثم يقرأ، ثم يكبر فيرفع يديه حتى يُحاذىَ بهما مَنكِبيه ثم يركع ويضعُ راحَتَيه على ركبتيه ثم يعتدِلُ ولا يَطُبّ رأسه ولا يُقْنِع ثم يرفعُ رأسه فيقول سمع الله لمن حمده. ثم يرفع يديه حتى يُحاذِىَ بهما منكبيه معتدلا. ثم يقول: الله اكبر ثم يهوى إلى الأرض فيُجافى يديه عن جنبيه ثم يرفع رأسه ويَثنى رجلَه اليسرى ويقعد عليها ويَفْتخُ أصابع رجلَيه إذا سجد ثم يسجدُ ثم يقول اللهُ أكبر. يورفع رأسه ويثنى رجله اليسرى فيقعدُ عليها حتى يَرْجِع كل عظم على موضعه. ثم يصنعُ فى الأخرى مثل ذلك. ثم إذا قام من الركعتين كبر ورفع يديه حتى يُحاذى بهما منكبيه كما كبر عند افتتاح الصلاة ثم يضع ذلك فى كل بقية صلاته حتى إذا كانت السجدُ التى فيها التسليم أخّر

(1) ص 147 ج 3 - الفتح الربانى. وص 63 ج 6 - المنهل العذب (كيف الجلوس فى التشهد). وص 141 ج 1 - مجتبى (موضع اليمين من الشمال فى الصلاة) و (حدّ المرفق) طرفه.

ص: 362

رجله اليسرى وقعد مُتورِّكا على شقه الأيسر ثم سلم. قالوا صدقتَ. هكذا كان يصلى صلى الله عليه وسلم " أخرجه أحمد والبيهقى والأربعة إلا النسائى وصححه الترمذى (1){535}

فقد اشتملت هذه الأحاديث على كيفية الصلاة الواردة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وعلى معظم أركان الصلاة وواجباتها وسننها على ما تقدم بيانه، ودلت على وجوب الطمأنينة فى الركوع والسجود وباقى الأركان والاعتدال من الركوع والجلوس بين السجدتين.

ومنه تعلم سوء حال من لا يرفعون رءوسهممن الركوع والسجود إلا شيئاً يسيراً بدون طمأنينة محتجين بأنه ليس ركناً عند الحنفيين وقد تقدم أنه فرض عند أبى يوسف وواجب عند النعمان ومحمد. وعلى فرض أنه سنة فقط فَلِمَ يتركون السنة؟ ألم يتذكروا قول الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (2)} ألم يسمعوا (قول) البنى صلى الله عليه وسلم: " يا معشر المسلمينَ: إنه لا صلاة لم لا يُقيمُ صُلبه فى الركوع والسجود " أخرجه أحمد وابن ماجه وابنحبان وابن خزيمة بسند جيد رجاله ثقات عن علىّ بن شبيان (3){536}

(1) ص 153 ج 2 - الفتح الربانى (جامع صفة الصلاة). وص 131 ج 5 - المنهل العذب (فاتتاح الصلاة). وص 249 ج 1 - تحفة الأحوذى (وصف الصلاة). وص 146 ج 1 - ابن ماجه (رفع اليدين إذا ركع .. )(فلا يصب) بفتح فضم. وفى نسخة فلا يصوّب رأسه أى لم يُمِلْه إلى أسفل (ويقنع) بضم أوله من أقنع إذا رفع رأسه حتى تكون أعلى من ظهره (ويفتخ) بالخاء المعجمة، أى يثنيها بأن يجعل بطون الأصابع إلى الأرض ورءوسها إلى القبلة.

(2)

سورة الأحزاب: آية 21.

(3)

ص 268 ج 3 - الفتح الربانى (وجوب الرفع من الركوع). وص 147 ج 1 - ابن ماجه (الركوع فى الصلاة).

ص: 363

(وقوله) صلى الله عليه وسلم: " لا ينظُر الله إلى صلاة عبد لا يقيم فيها صُلْبه بين ركوعها وسجودها " أخرجه أحمد والطبرانى فى الكبير بسند رجاله ثقات عن طلق بن على الحنفى (1){537}

والأحاديث فى هذا كثيرة وكلها تدل على أن صلاة غالب أهل الزمان غير صحيحة، فإنهم لا يطمئون فى ركوعهم واعتدالهم وسجودهم وجلستهم بين السجدتين كما هو مشاهد ويدّعون أنهم اطمأنوا طمأنينة كافية، ولا يقبلون النصيحة ممن نصحهم بل يشنعون عليه تشنيعاً لا يصدر بعضه منهم لمن اقترف إثماً عظيما. وياليتهم وقفوا عند هذا الحدّ، بل تجاوزوه إلى إيذاء من رأوه يصلى صلاة صحيحة، وإذا صلى أحدهم خلف من وقفه الله للصلاة الصحيحة الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاب عليه وربما قطع الصلاة وصار يقبح فعله ويجهله ويقول: قال صلى الله عليه وسلم: " من أَمّ بالناس فليخفف " جهلا منه بالتخفيف المأمور به فى الحديث وقد تقدّم بيانه (2). نعوذ بالله من نفوسنا ومن الجهل المركب وعمى البصيرة.

(ولا تستغرب) أيها العاقل هذا من أهل زمانك، فقد وقع التساهل فى الصلاة من زمن بعيد (قال) الإمام أحمد رحمه الله: وقد جاء فى الحديث: يأتى على الناس زمان يصلون ولا يصلون، وقد تخوّفت أن يكون هذا الزمان، ولقد صليت فى مائة مسجد فما رأيت أهل مسجد يقيمون الصلاة على ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه رضوان الله عليهم

(1) ص 268 ج 3 - الفتح الربانى. وص 120 ج 2 - مجمع الزوائد (فى الركوع والسجود).

(2)

ص 281 (القراءة فى العشاء).

ص: 364

فاتقوا الله وانظروا فى صلاتكم وصلاة من يصلى معكم (1) أهـ (وهذا) بالنسبة لأهل زمانه رحمه الله تعالى (2) فما بالك بأهل زماننا الذى صار المعروف فيه منكرا، المنكر معروفا، والسُّنَّة بدعة، والبدعة سنة، ومُظْهِر الحق ماله من نصير، ومظهر الباطل له أنصار، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

(وما) أجهل هؤلاء الذين لم يطمئنوا فى صلاتهم: (أ) بأن من ينقر صلاته يموت على غير ملة الإسلام والعياذ بالله تعالى كما تقدم (3).

(ب) بأن من فرط فى شئ من الصلاة دعت عليه ورُدّت عليه (روى) عُبادة بن الصامت أنّ النى صلى الله عليه وسلم قال: " إذا أحسن الرجلُ الصلاة فأتم ركوعها وسجودها قالت الصلاة: حفظك الله كما حفظتنى فترفع، وإذا أساء الصلاة فلم يُتِم ركوعها وسجودها قالت الصلاة ضَيعّك الله كما ضّعتنى فتَلَفّ كما يُلف الثوب الخلَق فيُضرب بها وجهُه " أخرجه أبو داود الطيالسى (4){538}

(وقال) عبادة بن الصامت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا توضأ العبدُ فأحسن الوضوءَ ثم قام إلى الصلاة فأتم ركوعها وسجودها والقراءة فيها قالت: حفظ الله كما حفظتنى. ثم أُضعِد بها إلى السماء ولها ضَوء ونور

(1) انظر ص 5 - كتاب الصلاة للإمام أحمد.

(2)

وهم أهل القرن الثانى والثالث، فقد ولد الإمام أحمد ببغداد فى العشرين من ربيع الأول سنه 164 وتوفى فى العاشر أو الحادى عشر من ربيع الأول سنة 241.

(3)

تقد رقم 211 ص 155 (الرفع من الركوع .. ).

(4)

انظر رقم 364 ص 294 ج 1 - فيض القدير. وفى سنده:

(أ) محمد بن مسلم بن أبى وضاح وثقه جمع وتكلم فيه البخارى.

(ب) أحوص بن سليم ضعفه النسائى. و (الخلق) بفتحتين البالى.

ص: 365

وفَتحِت لها أبوابُ السماء وإذا لم يحُسن البعد الوضوء ولم يتم الركوعوالسجود والقراءة قالت: ضيعك الله كما ضيعتنى، ثم أضْعِد بها على السماء وعليها ظلمة وغلِّقتْ دونها أبواب السماء، ثم تُلف كما يُلف الثوب الخلَق، ثم يضرب بها وجه صاحبها " أخرجه البطراى فى الكبير والبزار بنحوه. وفيه الأحوص بن حكيم وثقه ابن المدينى والعجلى وضعفه جماعة وبقية رجاله موثقون (1){539}

فليحرص العقال على إحسان الصلاة وإكمالها بحضور القلب والخشوع فيها. وليحذر التفريط فيها والتساهل فى إتمامها. وليجعل نَصْبِ عينه قول الله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَاّ عَلَى الخَاشِعِينَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (2)} (فإنما) كبرت على غير الخاشعين لخلوّ قلوبهم من محبة الله تعالى وتعظيمه والخشوع له وقلة رغبتهم فيه، فإن حضور العبد فى الصلاة وخشوعه فيها وتكميله لها واستفراغه وُسْعَهُ فى إقامتها وإتمامها على قدر رغبته فى الله تعالى (قال) الإمام أحمد: وقد جاء فى الحديث: لاحظَّ فى الإسلام لمن ترك الصلاة: فكل مستخف بالصلاة مستهين بها فهو مستخف بالإسلام مستهين به. وإنما حظهم من الإسلام على قدر رغبتهم فى الصلاة، فاعرف نفسك يا عبد الله وأحذر أن تلقى الله عز وجل ولا قدر للإسلام عندك، فإن قدر الإسلام فى قلبك كقدر الصلاة فى قلبك (3) (وقال) ابن القيم: وليس حظ القلب - لعامر بمحبة الله وخشيته والرغبة فيه وإجلاله وتعظيمه - من الصلاة كحظ القلب الخالى الخراب من ذلك. فإذا وقف الإنسان بين يدى الله فى الصلاة

(1) ص 122 ج 2 - مجمع الزوائد (من لا يتم صلاته ونسى ركوعها وسجودها).

(2)

سورة البقرة: آية 45، 46.

(3)

ص 7 كتاب الصلاة.

ص: 366

وقف هذا بقلب مُخْبِت خاشع له قريب منه سليم من معارضات السوء قد امتلآت أرجاؤه بالهيبة وسطع فيه نور الإيمان وكُشِف عنه حجاب النفس ودخان الشهوات، فيرتع فى رياض معانى القرآن، ويُخالط قلبَه بشاشة الإيمان بحقائق الأسماء والصفات وعلوها وجمالها وكمالها الأعظم وتفردُّ الرب سبحانه بنعوت جلاله وصفات كماله، فاجتمع همه على الله وقَرَّت عينه به وأحسّ بقربه من الله قرباً لا نظير له، ففرّغ قلبه له وأقبل عليه بكليته.

هذا " ومن " تفقه فى معانى القرآن وعجائب الأسماء والصفات وخالط بشاشة الإيمان به قلبه " يرى " لكل اسم وصفة موضعاً من صلاته ومحلا منها (فإنه) إذا انتصب قائماً بين يدى الرب تبارك وتعالى، شاهد بقلبه فيوميته (وإذا) قال الله أكبر شاهد كبرياءه (وإذا قال) سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدّك ولا إله غيرك، شاهد بقلبه رباًّ منزهاً عن كل عيب، سالماً من كل نقص، محموداً بكل حمد. فحُمدْه يتضمن وصفَه بكل كمال. وذلك يستلزم براءته من كل نقص، تبارك اسمه، فلا يُذكر على قليل إلا كثَرة، ولا على خير إلا أنماه وبارك فيه، ولا على آفة إلا أذهبها، ولا على شيطان إلا ردّة خاسئاً مدحورا. وكمال الاسم من كمال مسماه. فإذا كان هذا شأن اسمه الذى لا يضر معه شئ فى الأرض ولا فى السماء، فشأن المسمى أعلى وأجل (وتعالى جدّ) أى ارتفعت عظمته وجلت فوق كل عظمة، وعلا شأنه على كل شان، وقهر سلطانه كل سلطان. فتعالى جدّه أن يكون معه شريك فى ملكه وربوبيته أو فى إلهيته أو فى أفعاله أو فى صفاته كما قال مؤمنو الجن {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَخَّذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَداً} (وإذا) قال أعوذ بالله من الشيطان الرجيم فقد آوى إلى ركنه الشديد

ص: 367

واعتصم بحوله وقوّته من عدوّه الذى يريد أن يقطعه عن ربه ويباعده عن قربه ليكون أسوأ حالا (فإذا) قال الحمد لله رب العالمين وقف هنيهة يسيرة ينتظر جواب ربه له بقوله حمدنى عبدى (فإذا) قال الرحمن الرحيم، انتظر جوابه مجَّدَنى عبدى. فيالّذة قلبه وقُرَّة عينه وسرورَ نفسه بقول ربه: عبدى ثلاث مرات (فوالله) لولا ما على القلوب من دخان الشهوات وغيْم النفوس لطارت فرحاً وسروراً بقول ربها وفاطرها ومعبودها: حمدنى عبى وأثنى علىّ عبدى ومجدنى عبدى.

ثم يكون لقلبه مجال من شهود هذه الأسماء الثلاثة التى هى أصول الأسماء الحسنى وهى الله والرب والرحمن " فشاهد " قلبه من ذكر اسم الله تبارك وتعالى إلهاً معبوداً موجوداً مخوفا لا يستحق اعبادة غيره، ولا تنبغى إلا له، قد عنت له الوجوه وخضعت فه الموجودات، وخشعت له الأصوات:{تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ (1)} {وَلَهُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ (2)} وشاهَد من ذكر اسمه " رب العالمين " قيوما قام بنفسه وقام بسببه كل شئ فهو قائم على كل نفس بخيرها وشرها، قد تفرّد بتدبير ملكه (ثم يشهد) عند ذكر اسم الرحمن جل جلله ربًّا محسنا إلى خلقه بأنواع الإحسان، متحبباً إليهم بصنف النعم وَسِعَ كلَّ شئ رحمة ولما، وأوسع كل مخلوق نعمة وفضلا، فوسعت رمته كل شئ ووسعت نعمته كل حى، فبلغت رحمته حيث بلغ علمه، وخلق خلقه برحمته وأنزل كتبه برحمته، وأرسل رسله برحمته، وشرع شرائعه برحمته، وخلق الجنة برحمته،

(1) سورة الإسراء: آية 44.

(2)

سورة الروم: آية 26.

ص: 368

والنارَ أيضاً برحمته، فإنها سوطه الذى يسوق به به عباده المؤمنين إلى جنته ويطهر بها أدران المودين من أهل معصيته، وسبحنه الذى يسجن فيه أعداءه عن خليقته (فتأمّل) ما فى أمره ونهيه ووصايا هـ ومواعظه من الرمة البالغة والنعمة السابغة (فالرحمة) هى السبب المتصل منه بعبادة كما أنّ العبودي هى السبب منهم المتصل به. فمنهم إليه العبودية، ومنه إلهيم الرحمة (فإذا) قال " مالك يوم الدين " فهنا يشهد المجد الذى لا يليق بسوى الملك الحق المبين.

فيشهد ملكا قاهراً قد دانت له الخليفة، وعنت له الوجوه، وذلت لعظمته الجبابرة، وخضع لعزته كل عزيز، فيشهد بقلبه حقائق الأسماء والصفات التى تعطيلها تعطيل لملكه وجحد له. فإن المَلِك الحق التام المُلِك لا يكون إلا حياًّ قيّوما سميعا بصيراً مدبراً قادراً متكلما آمراً ناهيا، يرسل رسله إلى أقاصى مملكته بأوامره، فيرضى على من يستحق الرضا ويثيبه ويكرمه ويدينه، ويغضب على من يستحق الغضب ويعاقبه ويهينه ويُقْضيه. فيعذب من يشاء ويرحم من يشاء، ويعطى م يشاء ويقرّب من يشاء، ويقصى من يشاء. له دار عذاب وهى النار. وله دار سعادة وهى الجنة (فمن) أبطل شيئاً من ذلك أو جحده وأنكر حقيقته، فقد قدح فى ملكه سبحانه وتعالى ونفى عنه كماله وتمامه (وكذلك) من أنكر عموم قضائه وقدَره فقد أنكر عموم ملكه وكماله. فيشهد المصلى مجد الرب تعالى فى قوله " مالك يوم الدين "(فإذا) قال " إياك نعبد وإياك نستعين " ففيهما سرّ الخلق والأمر والدنيا والآخرة. وهى متضمنة لأجلّ الغايات وأفضل الوسائل. فأجلّ الغايات عبوديته. وأفضل الوسائل إعانته. فلا معبود يستحق العبادة إلا هو، ولا معين على عبادته غير. فهو يعبد بألوهيته ويستعان بربوبيته، ويهدى إلى الصراط المستقيم برحمته (ثم) يشهد الداعى - بقوله " اهدنا الصراط المستقيم " - شدّة فاقته وضرورته إلى هذه المسألة التى ليس هو إلى شئ

ص: 369

أشدَّ فاقةً وحاجة منه إليها ألبتَّة. فإنه محتاج إليه فى كل نفَس وطرُفة عين (وهذا) المطلوب م هذا الدعاء لا يتم إلا بالهداية إلى الطريق الموصل إليه سبحانه والهداية فيه.

وهى هداية التوفيق وخلق القدرة على الفعل وإرادته وتكوينه وتوفيقه لإيقاعه له على الوجه المرضى المحبوب للرب سبحانه وتعالى وحفظه عليه من مفسداته حال فعله وبعد فعله (ثم بيّن) أنّ أهل هذه الهداية هم المختصون بنعمته دون المغضوب عليهم، وهم الذين عرفوا الحق ولم يتبعوه، ودون الضالين وهم الذين عبدوا الله بغير علم (فالطائفتان) اشتركتا فى القول فى خلقه وأمره وأسمائه وصفاته بغير علم. فسبيل المنعَم عليهم مغايرة لسبيل أله الباطل كلها علما وعملا (فلما فرغ) من هذا الثناء والدعاء والتوحيد، شرع له أن يطبع على ذلك بطابع من التأمين يكون كالخاتم له وافق فيه ملائكة السماء (وهذا) التامين من زينة الصلاة كرفع اليدين الذى هو زينة الصلاة واتباع للسنة وتعظيم أمر الله وعبودية اليدين وشعار الانتقال من ركن إلى ركن (ثم يأخذ) فى مناجاة ربه بكلامه واستماعه من الإمام بالإنصات وحضور القلب وشهوده (وأفضل) أذكار الصلاة ذكر القيام. وأحسن هيئة المصلى هيئة القيام. فخصت بالحمد الثناء والمجد وتلاوة كلام الربِّ جل جلاله. ولهذا نهى عن قراءة القرآن فى الركوع والسجود لأنهما حالتا ذل وخضوع وتطامن وانخفاض، ولهذا شرع فيهما من الذكر ما يناسب هيئتهما فشرع للراكع أن يذكر عظمة ربه فى حال انخفاضه هو وخضوعه فيقول: سبحان ربى العظيم وهو أفضل ما يقال فيه. وبالجملة فسر الركوع تعظي الرب عز وجل بالقلب والقاَلب والقول (1) ثم قال: ولما كانت العبودية غاية كمال الإنسان وقربه من الله بحسب نصيبه من

(1) نقل ملخصاً من ص 179 إلى 185 كتاب الصلاة لابن القيم.

ص: 370

عبوديته وكانت الصلاة جامعة لمتفرق العبودية كانت أفضل أعمال العبد. وكان السجود أفضل أركانها الفعلية وسرها التى شرعت لأجله. وشرع فيه من الثناء على الله ما يناسبه وهو قول العبد سبحان ربى الأعلى. وهذا أفضل ما يقال فيه (1)

(وأطلت) فيما نقلت لما اشتمل عليه من نفائس الفوائد.

وعجائب الأسرار. والله يقول الحق وهو يهدى السبيل

تم بحمد الله وتوفيقه الجزء الثاني ويليه إن شاء الله تعالى الجزء الثالث. وأوله: الجماعة في الصلاة

(1) ص 190 منه ..

ص: 371