الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وعد أخلف" (1). فكل وعد أخذه مسلم على أخيه لم يحرم حلالًا ولم يحل حرامًا فهو في كتاب الله للأمر بالوفاء بالعهود في النصوص العامة في كتاب الله وسنة نبيه، لكنّا نقول: إن هذا الأمر وإن كان قد يتمشى مع الشرع فيجب على عامة الناس المعاونة على محاربته وإزالته بالطريق الاجتماعية، وأن يزيلوا هذه الأغلاط وهذه الأعراف الفاسدة؛ لأن هذا يقلل عددهم، وترك هذه السنة يقلل العدد ويترك عددًا ضخمًا من نسائهم ليس في كفالة أحد، فهو كان أجازه الشرع فالشرع فيه حَسَنٌ وفيه أحسن، فهذا وإن كان حسنًا جائزًا فتركه أحسن منه، وعلى المسلمين أن يحاربوا هذه الفكرة محاربةً اجتماعية لكون غيرها أحسن منها، وأن يتخلصوا من هذا العرف الفاسد؛ لأن الرجل إذا كان قادرًا على اثنتين أو ثلاث كان ذلك فيه نفع من جهات متعددة ككثرة كفالة النساء، وصار عدد ضخم، وقل الطلاق الذي يضطر إليه الرجل إذا زال غرضه من هذه ليستبدل بها هذه؛ لأنه لو فسح في هذا قل الطلاق، وكثر التناسل، وكثرت كفالة النساء، وقل الأيامى في الدنيا، فهي مصالح كثيرة جدًّا، فعلى المسلمين أن يلتفتوا إليها من حيث إنها أفضل وأحسن لا من حيث إنها أمر حرام، هذا الذي يظهر لنا والله تعالى أعلم.
[السؤال الثامن عشر: ] ما تقولون في التزام شخص مذهبًا معينًا
من
(1) أخرجه البخاري في الإيمان، باب علامة المنافق. حديث رقم (33) 1/ 98، وأطرافه (2282، 2749، 6095). ومسلم في الإيمان، باب بيان خصال المنافق. حديث رقم (59) 1/ 78.
غير نظر إلى دليل ولا إلى قول قائل؟ وهل يستوي في هذا العوام وغيرهم، أم لا؟
الجواب: أن التزام مذهب معين لم يرد به نص من كتاب الله ولا سنة نبيه صلى الله عليه وسلم ولا إجماع، ومتأخروا الأصوليين من جميع المذاهب كلهم مطبقون على وجوبه، ومستندهم في ذلك تحقيق المناط. وإيضاح ذلك أنهم يعلمون أن الله يقول:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)} [النحل: 43] ويرون أنه لم يبق مجتهد مستحق بأن يُستفتى فيفتي، وإذًا عندهم إذا كان لم يكن في الموجودين من هو أهل للفتوى يجب تقليد بعض الذين ماتوا وهم أهل للفتوى. ثم إنهم اختاروا مذاهب الأربعة وحصروا التقليد فيها دون غيرهم من فقهاء الأمصار، قالوا: لأنه لم يدون مذهب كتدوين المذاهب الأربعة فإن كلام الأئمة فيها دُوِّن ونوقش وسئلوا عن كل شيء حتى صار المتمذهب به على ثقة من أن هذه فتاوي ذلك الإمام الذي هو أهل للفتوى. قالوا: وغير المذاهب الأربعة من مذاهب الصحابة ومذاهب فقهاء الأمصار التي انقطعت أو لم تنتشر لم تكن بمثابة المذاهب الأربعة لما ذكرنا من إيضاحها وتحقيقها وتنقيحها؛ فلأجل هذا النوع من تحقيق المناط أوجبوا تقليد أحد هذه الأئمة الأربعة.
والذي يظهر -والله تعالى أعلم- أنه ليس لأحد الحكم بالحصر على أنه لا يوجد من يكون أهلًا لأن يأخذ من كتاب الله وسنة نبيه.
وبالجملة فإن الاستقراء يدل على أن أصول الضلال كلها راجعة إلى أصلين: أحدهما: الإفراط، والثاني: التفريط، وأن الحق دائمًا
واسطة بينهما، فيه التجافي عن طرف الإفراط وطرف التفريط، والعلماء ضربوا لهذا أمثلة: فمن أمثلة هذا قضية عيسى، فإن النصارى هلكوا فيه بالإفراط، واليهود هلكوا فيه بالتفريط. ومن أمثلة هذا: أعمال العبد، فإن الجبرية هلكوا فيها بالإفراط، والقدرية هلكوا فيها بالتفريط، كذلك مذاهب العلماء أفرط فيها قوم وفرط فيها آخرون، فرط فيها قوم كابن حزم وأتباعه حيث حملوا على الأئمة رضي الله عنهم وأرضاهم وعابوهم، واعتقدوا أنهم مشرعون من تلقاء أنفسهم يقولون على الله ما لم يرد به دليل من كتاب ولا سنة، فهذا تفريط في الأئمة، وقوم أفرطوا في الأئمة فجعلوا يقدمون كلامهم على كلام الله ورسوله، وهذا إفراط لا يجوز، والمذهب الحق وسط بين الأمرين، أنه إن وُجِد نص من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم فهو مقدم على قول كل أحد، والأئمة الأربعة صح عن كل واحد منهم ما معناه أنه إن وُجد قوله يخالف كتابًا وسنة ضُرب بقوله الحائط، هان لم يوجد في المسألة نص أو وُجدت فيها نصوص ظاهرها التضارب تحتاج إلى ترجيح فطبعًا تقليد المجتهد الذي فيه أهلية الاجتهاد كمالك ونظرائه أقرب إلى الصواب.
[السؤال التاسع عشر: ](1) قال تعالى في كتابه العزيز: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ
…
} [المائدة: 5] إلى آخر الآية الكريمة، فأباح تزوج الكتابية بنص القرآن العزيز، فكيف ساغ لخليل أن يقول:"إلا الكتابية بِكُرهٍ". مع علمي أن المكروه من قبيل الجائز؟
(1) السؤال التاسع عشر، والعشرون من الشريط الرابع.
الجواب: أن كراهة من كره من العلماء تزويج الكتابية مستند الآية في كتاب الله من سورة البقرة، وهو مذهب معروف عن عبد الله بن عمر؛ لأن الله قال في سورة البقرة:{وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] وقال في موضع آخر {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِر} [الممتحنة: 10] والمشركات يشمل جميع الكافرات، غلط هنا قوم وقالوا: إن الكتابيين ليسوا من المشركين! ! وغرهم في ذلك ظواهر آيات من كتاب الله جاء فيها عطف الكتابي على المشرك، وظنوا أن ذلك العطف يقتضي المغايرة، كقوله:{لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} [البينة - 1] وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} [البينة: 6] وقوله: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ} [البقرة: 105] وقوله: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} [آل عمران: 186] فعطْف المشركين على أهل الكتاب توهم بعض منهم أن الكتابيات لسن من المشركين. والحق أن الكتابيين من المشركين، وقد نص الله على أنهم من المشركين في سورة براءة في قوله تعالى:{وَقَالتِ الْيَهُودُ عُزَيرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 30، 31].
فصرح بأنهم مشركون، فعبد الله بن عمر قال: قوله: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} [البقرة: 221] لم ينسخه شيء، ولم يقدم عليه: {وَالْمُحْصَنَاتُ
مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المائدة: 5] واستدل بما يقوله بعض العلماء بأن النص المُحَرِّم يقدم على النص المُجيز؛ لأن ترك مباح أهون على الله من ارتكاب حرام.
ولكن جماهير العلماء علموا أن سورة المائدة من آخر ما نزل من القرآن، وأن آية:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} نازلة قطعًا بعد قوله: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} ، وأن الله - جل وعلا - بين فيها هذا الأمر، والأخذ بظاهر آية البقرة هو مستند التحريم أو مستند الكراهة، وعن بعضهم التحريم، وأما مستند الجميع فهو في آية المائدة:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المائدة: 5].
[السؤال العشرون: ] قال مالك في الموطأ: (باب جواز جمع الأختين) [
…
] (1).
الجواب: أن الجمع بين الأختين في ملك اليمين حرام عند الأئمة الأربعة وجل فقهاء الأمصار، وأجازه داود بن علي الظاهري وأتباعه، حجة الجمهور آية من كتاب الله في سورة النساء، وهي قوله:{وَأَنْ تَجْمَعُوا بَينَ الْأُخْتَينِ} [النساء: 23]، لأن المصدر المنسبك من قوله (أن) وصلتها في قوله:{وَأَنْ تَجْمَعُوا بَينَ الْأُخْتَينِ} عَطْف على المضاف المحذوف في قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] أي: حرم عليكم نكاح أمهاتكم، وحرم عليكم الجمع بين الأختين. والألف واللام في قوله:{الْأُخْتَينِ} هو (أل)
(1) باقي السؤال ذهب لانقطاع التسجيل. والذي في الموطأ (ص 366): "ما جاء في كراهية إصابة الأختين بملك اليمين والمرأة وابنتها".
الاستغراقية، ودخلت على اسم الجنس المثنى، وهي تعم عند علماء الأصول، فعمَّت بظاهرها كل أختين سواء كانتا بعقد أو بملك يمين، هذه حجة الجمهور، وهي واضحة.
واحتج داود بن علي الظاهري وأتباعه على جواز الأختين في ملك اليمين بآيتين من كتاب الله إحداهما مكررة والأخرى غير مكررة، أما الآية المكررة فهي في سورة {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1)} وسورة {سَأَلَ سَائِلٌ} وهي قوله تعالى:{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيرُ مَلُومِينَ (6)} [المؤمنون: 5، 6] وقد تقرر في فن الأصول أن (ما) الموصولة من صيغ العموم، قال داود: الله - جل وعلا - نفى الملامة عمن لم يحفظ فرجه عن ملك يمينه وأطلق، وجعل العداء فيما وراء ذلك وأطلق {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7)} وعضد داود مذهبه بأن قال: إن آية: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَينَ الْأُخْتَينِ} [النساء: 23] في سياق العقود والأنكحة، وآية:{أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيمَانُهُمْ} في سياق التسري، فلنترك تلك في محلها، ونترك هذه في محلها.
وأجاب الجمهور بأن قالوا: إن بين الآيتين عمومًا وخصوصًا من وجه، والمقرر في الأصول: أن الآيتين إن كان بينهما عموم وخصوص من وجه يظهر تعارضهما في الصورة التي يجتمعان فيها ويجب الترجيح، كما عقده العلامة الشنقيطي العلوي سيدي عبد الله في "مراقي السعود" بقوله (1):
(1) المراقي (ص 57).
وإن يك العموم من وجه ظهر
…
فالحكم بالترجيح حتمًا معتبر
والعلماء لما نظروا بين الآيتين وجدوا عموم {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَينَ الْأُخْتَينِ} [النساء: 23] أرجح من طرق متعددة توجب تقديمه على عموم {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيمَانُهُمْ} أحد هذه الطرق أن عموم {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَينَ الْأُخْتَينِ} [النساء: 23] نص في محل المدرك المقصود بالذات لإبانة هذا الحكم؛ لأن السورة -سورة النساء- والمحل هو الذي تعرض فيه القرآن لما يحل من النساء وما يحرم، فصرح فيه بمنع الأختين، أمّا آية {سَأَلَ سَائِلٌ} ، وآية {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1)} فلم تُسق واحدة منهما لتحريم امرأة ولا لتحليل أخرى، وإنما سيقتا لمدح المتقين فكان حفظ الفرج من جميع خصال المتقين، فاستطرد أنه لم يلزم عن الزوجة والسُّرية، والنص المسوق بالذات لإبانة الحكم أولى بالعمل من الذي لم يُسق لذلك.
الوجه الثاني: من هذه المرجحات: أن آية: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيمَانُهُمْ} [المؤمنون: 6] أجمع جميع العلماء أنها ليست باقية على عمومها بالإجماع؛ لأن الأخت من الرضاع لا تحل بملك اليمين إجماعًا؛ لإجماع جميع المسلمين على أن آية {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيمَانُهُمْ} يخصص عمومها بعموم قوله: {وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23] وموطوءة الأب لا تحل بالإجماع لإجماع المسلمين أن آية {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيمَانُهُمْ} يخصص عمومها بعموم قوله: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إلا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 22] والمقرر في الأصول -على أصح الوجهين- أنه إن تعارض عامَّان أحدهما مُخَصَّص
تخصيصًا بعد تخصيص، والثاني لم يرد فيه تخصيص إلا محل النزاع، فالذي لم يرد فيه تخصيص أولى بالتقديم والقوة من الذي دخله تخصيص.
الثالث: من هذه الأوجه أولًا أن المقرر في علم الأصول أنه إذا [
…
] (1).
(1) في هذا الموضع انقطع التسجيل، ويمكن استدراك ذلك بمراجعة كلام الشيخ رحمه الله على هذه المسألة في كتابيه "أضواء البيان"(5/ 762) و"دفع إيهام الاضطراب"(ص 72) حيث رجّح عموم {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَينَ الْأُخْتَينِ} من خمسة أوجه.