المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌البحر الأبيض المتوسط - أسواق الذهب

[أحمد شوقي]

الفصل: ‌البحر الأبيض المتوسط

‌البحر الأبيض المتوسط

سيد الماء، وملك الدأماء، مهد العلية القدماء؛ درجت الحكمة من لججه، وخرجت العبقرية من ثبجه، ونشأت بنات الشعر في جزره وخلجه؛ بدت الحقيقة للوجود من يبسه ومائه، وجرب ناهض الخيال جناحيه بين أرضه وسمائه؛ العلوم نزلت مهودها من ثراه، والفنون ربيت في حجال رباه، والفلسفة ترعرعت في ظله وذراه، "بنتاءور" ولد على عبره، و"هومير" مهد بين سحره ونحره، ونحت الألياذة من صخره، و"هيرودوت" دون متونه على ظهره، و"الإسكندر" انتهى إليه بفتحه ونصره.

ص: 91

الموسيقى دبت في أحناء هياكله، وشبت في أفياء خمائله، ثم لم يزل بها ترسل الرهبان، وترتل الأحبار والكهان حتى جاوزت الحناجر إلى المعازف، فنزلت اليراع المطرب والنحاس الهاتف؛ لم تخل ثكنة من بوق، أو طبل مدقوق؛ ولم يخل كوخ من يراع مثقوب، ولا قصر من وتر مضروب.

وعلى أديم الأبيض المتوسط مشى المثال الأول، وبحجارته وقف فتخيل؛ فلان لبانه الحجر، ودان لمنحاته الصخر حتى زين الزون بالبديع والغريب، ونثر الدمى على المحاريب وجاء في الفن بالأعاجيب؛ صنع أبو الهول، فجاء بالهول والزول؛ كان ذلك حين سائر المعمور مجاهل والناس جهال؛ عالم غافل، يهيم في أغفال.

ص: 92

فيا ناشئ الكنانة: إذا وقفت على لجة (الرمل) ، أو نقلت القدم على رملة (المكس) ؛ في أصيل لدت حواشيه، وحلى جلبابه بالذهب واشيه، وفضاء أصفر من نعي الشمس ضاحيه، وقربت لها الأكفان من زعفران نواحيه، فتبصر! هل ترى غير ساحل طيب البقعة، وأديم جيد الرقعة؟ وهل تحس غير بحر ضاحك الماء، متهلل السماء، حلو بشاشة الفضاء؛ يصحب الصحو، ويسحب الزهو، ويلهو وما عرف اللهو، وخريره تسبيح وما هو بلغو؟ لآبائك عنده - منذ ماجت أمواجه، ولجت لجاجه، وهدر عجاجه، وأنشئ للرياح شراعه وساجه - جوار

ص: 93

الأكرمين، وصحبة المحسنين، وكنف السماح الخيرين: شمس متوقدة، وطبيعة متوددة، ولجة غير متمردة، وغيره من البحار ذميم الجوار، لئيم النجار؛ ضباب مخيم وسحاب مديم؛ أعاصير مرسلة، وصواعق منزلة؛ زمن مضطرب الفصول، وطبيعة تختلف وتحول، كما تلون في أثوابها الغول.

تلك اللجة - أيها الناشئ - هي من أوطانك عنوان الكتاب ومصراع الباب، ووجه الخميلة، وظاهر المدينة، وعورة الحصن؛ وإن قوما لهم على البحر ملك، وليسلهم فيه فلك: لقوم دولتهم واهية السلك، وسلطانهم وإن طال المدى إلى هلك! ويأيها الأبيض الأغر سلام، وإن أنزلتنا عن صهوتك الأيام، وأبدلتنا من سلطانك الخافق الأعلام، بممالك من كلام، ودول من أماني وأحلام! ويا عرش الأبوة ثناء، وإن ثلك الأبناء، ثم لم يحسنوا البناء؛ أين دول كانت مطالع أنوارك، ومعاصم سوارك، وما الذي نأى بجواريها عن جوارك، وهوى بسواريها

ص: 94

في أغوارك؟ أين الفراعنة وما جدفوا من بروج مشيدة، والبطالسة وما مدوا من شرع كالصروح الممردة؟ وأين الشونات الأيوبية، والبوارج العلوية؟ هيهات! أزرى الدهر بالإسكندرية، فحجب ذلك المنار ونصب هذا الفنار، وأين الليل والنهار وأين الظلمات من الأنوار؟ ذلك كان أضوأ هالة، واسطع على التمكن في الأرض دلالة، وأضفى على مناكب البر والبحر جلالة؛ يهتدي به الداخل والخارج، ويستأمن الداب في حماه والدارج، وتنيف عليه البروج وتطيف به البوارج، وهذا سراج بيت، وذبالة زيت، وشعاع كنفس المحتضر حي ميت! ملكنا الواسع من ورائه باب ولا بواب، وسدة ولا حجاب غاب ولاناب ووكر ولا عقاب! تعاقبت عليه حكومات

ص: 95

ألقت السلاح، وألغت الإصلاح؛ تقول فتجد وتعمل فتهزل، ولا تحسن من سياسة الملك غير أن تولى وتعزل، وتجبي القطن ولا تفكر في المغزل! تخايل بالبحرية والوزير وتأتي قبل الماء بالزير!!.

ص: 96