المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌قناة السويس - أسواق الذهب

[أحمد شوقي]

الفصل: ‌ ‌قناة السويس

‌قناة السويس

ص: 26

تلكما يا ابني القناة، لقومكما فيها حياة، ذكرى إسماعيل ورياه، وعليا مفاخر دنياه، دولة الشرق المرجاة، وسلطانه الواسع الجاه؛ طريق التجارة، والوسيلة والمنارة، ومشرع الحضارة.

تعبرانها اليوم على مزجاة، كأنها فلك النجاة؛ خرجت بنا بين طوفان الحوادث وطغيان الكوارث؛ تفارق برا مغتصبه مضري الغضبة، قد أخذ الأهبة، واستجمع كالأسد للوثبة، وتلاقى بحرا جنت جواريه، ونزت بالشر نوازية، وتمثلت بكل سبيل عواديه؛ مملوءا ببغتات الماء، مترعا بفجاءات السماء؛ من نون ينسف الدوارع أو طير يقذف البيض مصارع.

ص: 27

فقلت: سيري عوذتك بوديعة التابوت، وبصاحب الحوت، وبالحي الذي لا يموت؛ وأسري يا ابنة اليم زمامك الروح، وربانك نوح، فكم عليك من منكوب ومجروح إن للنفي لروعة، وإن للنأي للوعة، وقد جرت أحكام القضاء، بأن نعبر هذا الماء؛ حين الشر مضطرم، واليأس محتدم، والعدو منتقم، والخصم محتكم، وحين الشامت جذلان مبتسم، يهزأ بالدمع وإن لم ينسجم، نفانا حكام عجم، أعوان العدوان والظلم، خلفناهم يفرحون بذهب اللجم، ويمرحون في أرسان يسمونها الحكم.

ضربونا بسيف لم يطبعوه، ولم يملكوا أن يرفعوه أو يضعوه، سامحهم في حقوق الأفراد، وسامحوه في حقوق البلاد، وما ذنب السيف إذا لم يستحي الجلاد.

ص: 28

ماذا تهمسان؟ كأني أسمعكما تقولان: أي شيء بدا له، على هذه الضاحية؟ وماذا شجا خياله، من هذه الناحية؟ وأي حسن أو طيب، لملح يتصبب في كثيب؟ ماء عكر، في رمل كدر، قناة حمئة، كأنها قناة صدئة؛ بل كأنها وعبريها رمال، بعضها متماسك وبعضها منهال، وكأن راكب البحر مصحر، وكأن صاحب البر مبحر.

رويدكما ليس الكتاب بزينة جلده، وليس السيف بحلية غمده؛ تلك التنائف، من تاريخكم صحائف؛ وهذه القفار، كتب منه وأسفار؛ وهذا المجاز هو حقيقة السيادة ووثيقة الشقاء أو السعادة؛ خيط الرقبة، من اغتصبه اختص بالغلبة، ووقف للأعقاب عقبة؛ ولو سكت لنطقت العبر، وأين العيان وأين الخبر؛ أنظرا تريا على

ص: 29

العبرين عبرة الأيام: حصون وخيام، وجنود قعود وقيام؛ جيش غيرنا فرسانه وقواده، ونحن بعرانه وعلينا أزواده؛ ديك على غير جداره، خلاله الجو فصاح؛ وكلب في غير داره، انفرد وراء الدار بالنباح.

القناة وما أدراكما ما القناة؟ حظ البلاد الأغبر، من التقاء الأبيض والأحمر؛ بيد أنها أحلام الأول، وأماني الممالك والدول، الفراعنة حاولوها، والبطالسة زاولوها، والقياصرة تناولوها، والعرب لأمر ما تجاهلوها؛ إلى أن جرى القدر لغايته، وأتى إسماعيل بآيته، فانفتح البرزخ بعنايته والتقى البحران تحت رايته، في جمع من التيجان لم يشهده إكليله قد كان يتوج فيه لو شهدته جيوشه وأساطيله؛ وما إسماعيل إلا قيصر، لو أنه وفق، والإسكندرية، لو لم يخفق؛ ترك لكم عز الغد، وكنز الأبد، والمنجم الأحد والوقف

ص: 30

الذي إن فات الوالد فلن يفوت الولد.

ماذا على هذه الرمال، من لمحات جلال وجمال؟ ارجعا القهقرى بالخيال، إلى العصر الخال؛ واعرضا في حداثتها الأجيال؛ تريا على هذا المكان وجوها تتمثل، وركابا تتنقل وتريا النبوة تتهلل، والآيات تتنزل، وتريا الملك يترجل حتى كأنكما بالزمان الأول؛ فها هنا وضع للنبوة المهد، وابتدأ بها العهد. فأقبل صاحب المقام، ومحطم الأصنام، وبناء البيت الحرام، خليل ذي الجلال

ص: 31

والإكرام. هاجر إلى مصر أكرم من هاجر.

ومن هذه الثنيات طلع يوسف يرسف في القيد، وهو للسيارة يسير من كيد إلى كيد؛ قلب جرحته الأخوة، وجنب قرحته النسوة؛ فبالك يوسف من أسوة؛ عز بعد هون، ودولة بعد المنزل الدون، وشئون أقدار وشجون، وسهول حياة وحزون، وسجوف القصور بعد السجون؛ إلى سجود الشمس لك والقمر، والكواكب الأخر.

وإلى هذا الفضاء خرج موسى حين زيل زويله وطلبه قتيله، وزين له الفرار خليله؛ فحوته هذه الرمال فإذا الأمن سبيله. واليمن دليله، والسلامة زاملته والسلم زميله؛ ولو أطلعه الله على غيبه، للمس النبوة بين يده وجيبه، إلى أن رفع له المنار، واكتحل بالنور واقتبس من النار، وقيل له كن من الأحرار الأحبار، وارجع فسلط الحق على فرعون الجبار، فكان عليه السلام أول من اقتحم على الفرد جبروته، وهتك على المستبد طاغوته، وخطم المتأله وحطم عظموته؛ ماء الحق على لطفه، ظفر بنار الباطل على عنفه؛ ظهر العدل

ص: 32

على الحيف. وكسرت العصا السيف.

وعلى هذه الأرض مشت السماء الطاهرة، والنيرة الزاهرة، والآية المتظاهرة؛ أم الكلمة، وطريدة الظلمة؛ سرحوا في عرضها فأخرجوها من أرضها، فضربت في طول الأرض وعرضها؛ يوسف حاديها، وجبريل هاديها، والقدس ناديها، والطهارة أرجاء واديها؛ وعلى ذراعها مصباح الحكمة، وجناح الرحمة، والإصباح من الظلمة؛ حتى هبطت به أكرم الأديم، فنشأ بين الحكيم والعليم. وترعرع حيث ترعرع بالأمس الكليم.

فيا لك من دار، لعبت على عرصاتها الأقدار، ناويت موسى، القريب؛ وآويت عيسى، الغريب، نبوت بالنبي وحبوت الأمن عيسى وهو صبي، عذرك لا تنضى إليه المطي فإنما غضبت لابنك القبطي.

ثم انظرا تريا إبلا صعابا، وخيلاً عرابا، وتريا الرعاة انقضوا على الوادي ذئابا، فأخافوا القرى الآمنة، أخرجوا من مصر الفراعنة. واستبدوا بالملك فيها آونة.

ص: 33

وتريا الوحوش الضارية، والجوارح الكاسرة، يقودها شر الأكاسرة، ملأت هذه الفجاج، وكأنها حرجات الساج، أو حركات الأمواج؛ ثم تدفقت تكتسح الديار، باغية السيف طاغية النار، تدك الهياكل والمعاقل، وتهتك العقائد والعقائل.

وتريا الإسكندر الكريم، قد لمع كالصارم من هذا الصريم؛ يحمل الحملات النجائب. ويفتح بالكتب والكتائب.

وتريا ابن العاص والصحابة، مروا من هذه الأرجاء مر السحاب؛ يفتحون للحق، ويفتكون بالرق؛ حتى أخلوا القصور من القياصرة، وأراحوا مصر الصابرة، من صلف الجبابرة.

وتريا صلاح الدين يخفى كالبدر ويبدو، ويروح كالغيث ويغدو؛ بعوث بلا عدد، ومدد إثر مدد، وذخائر وعدد، وبشرى كل يوم بفتوح جدد.

ص: 34

وتريا"نابليون" قد ركب طيشه، وأركب الغرر جيشه.

وتريا إبراهيم بن علي مشهور الجزار، موفور الجهاز، ملك سوريا وضبط الحجاز.

وتريا إسماعيل بعث الحاشرين، وحشد الحافزين، وقرب المسافة للمسافرين؛ غير وجه السفر، فقيل: بلغ غاية الظفر، وقيل: وقع الحافر فيما حفر.

ثم انظرا اليوم تريا القناة في يد القوم إن أمنوا ركزوها، وإن خافوا هزوها.

ص: 35