المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الحقيقة الواحدة يا متابع الملاحدة، مشايع العصبة الجاحدة، منكر الحقيقة الواحدة: - أسواق الذهب

[أحمد شوقي]

الفصل: ‌ ‌الحقيقة الواحدة يا متابع الملاحدة، مشايع العصبة الجاحدة، منكر الحقيقة الواحدة:

‌الحقيقة الواحدة

يا متابع الملاحدة، مشايع العصبة الجاحدة، منكر الحقيقة الواحدة: ما للأعمى والمرآة، وما للمقعد والمرقاة، ومالك والبحث عن الله؟ قم إلى السماء تقص النظر، وقص الأثر، واجمع الخبر والخبر. كيف ترى ائتلاف الفلك، واختلاف النور والحلك وهذا الهواء المشترك، وكيف ترى الطير تحسبه ترك، وهو في شرك، استهدف فما نجا حتى هلك، تعالى الله! دل الملك على الملك!. وقف بالأرض سلها من زم السحاب وأجراها،

ص: 6

ورحل الرياح وعراها، ومن أقعد الجبال وأنهض ذراها، ومن الذى يحل حباها، فتخر له في غد جباها؟ أليس بدأها غبرات، ثم جمعها صخرات، ثم فرقها مشمخرات؟. ثم سل النمل من أدقها خلقا، وسلكها طرقا تبتغي رزقا؟ وسل النحل من ألبسها الحبر، وقلدها الإبر، وأطعمها صفو الزهر، وسخرها طاهية للبشر؟ لقد نبذت الذلول المسعفة، وأخذت في معامي الفلسفة، على عشواء من الضلال معسفة. أولا فخبرني: الطبيعة

ص: 7

من طبعها والنظم المتقادمة من وضعها، والحياة الصانعة من صنعها، والحركة الدافعة من الذي دفعها؟! عرفنا كما عرفت المادة، ولكن هدينا وضللت الجادة، وقلنا مثلك بالهيولى ولكن لم نجحد اليد الطولى ولا أنكرنا الحقيقة الأولى. أتينا العناصر من عنصرها. ورددنا الجواهر إلى جوهرها؛ اطرحنا فاسترحنا وسلمنا فسلمنا، وآمنا فأمنا؛ وما الفرق بيننا وبينك إلا أنك قد عجزت فقلت: سر من الأسرار وعجزنا نحن فقلنا: الله وراء كل ستار!!

ص: 8

الوطن

الوطن موضع الميلاد، ومجمع أوطار الفؤاد، ومضجع الآباء

ص: 9

والأجداد، الدنيا الصغرى، وعتبة الدار الأخرى، الموروث الوارث، الزائل عن حارث إلى حارث، مؤسس لبان، وغارس لجان. وحي من فان، دواليك حتى يكسف القمران، وتسكن هذي الأرض من دوران.

أول هواء حرك المروحتين، وأول تراب مس الراحتين، وشعاع شمس اغترق العين؛ مجرى الصبا وملعبه، وعرس الشباب وموكبه، ومراد الرزق ومطلبه، وسماء النبوغ وكوكبه، وطريق المجد ومركبه؛ أبو الآباء مدت له الحياة فخلد، وقضى الله ألا يبقى

ص: 10

له ولد؛ فإن فاتك منه فائت فاذهب كما ذهب أبو العلاء عن ذكر لا يفوت، وحديث لا يموت.

مدرسة الحق والواجب، يقضي العمر فيها الطالب، ويقضي وشيء منهما عنه غائب؛ حق الله وما أقدسه، وما أقدمه وحق الوالدين وما أعظمه، وحق النفس وما ألزمه؛ إلى أخ تنصفه، أو جار تسعفه، أو رفيق في رحال الحياة تتألفه، أو فضل للرجال تزينه، ولا تزيفه، فما فوق ذلك من مصالح الوطن المقدمة، وأعباء أماناته المعظمة؛ صيانة بنائه، والضنانة بأشيائه، والنصيحة لأبنائه، والموت دون لوائه، قيود في الحياة بلا عدد. يكسرها الموت وهو قيد الأبد.

رأس مال الأمم فيه من كل ثمر كريم، وأثر ضئيل أو عظيم، ومدخر حديث أو قديم؛ ينمو على الدرهم كما ينمو على الدينار، ويربو على الرذاذ كما يربو على الوابل الدرار بحر يتقبل من السحب ويتقبل من الأنهار. فيا خادم الوطن ماذا أعددت للبناء من حجر،

ص: 11

أو زدت في الغناء من شجر؟ عليك أن تبلغ الجهد، وليس عليك أن تبني السد؛ فإنما الوطن كالبنيان فقير إلى الرأس العاقل، والساعد العامل وإلى العتب الوضيعة، والسقوف الرفيعة، وكالروض محتاج إلى رخيص الشجر وثمينه. ونجيب النبات وهجينه إذ كان ائتلافه في اختلاف رياحينه، فكل ما كان منها لطيفا موقعه، غير ناب به موضعه، فهو من نوابغ الزهر قريب، وإن لم يكن في البديع ولا الغريب.

حظيرة الأعراض والعروض، ومحراب السنن والفروض،

ص: 12

سيد الأديم، صفحاته التاريخ الكريم، وبوغاؤه عظم الأبوة وإنه لعظيم، وعلى جوانبه الدولة وهي حسب الأمم الصميم؛ وثم كرائم الأموال والأنفس وهي غوال، وثم ثمرات الرجال وضنائنهم اللاتي خلف الخجال. فيا عجبا كيف يجحد الأوطان الجاحد، أو يزعم أن الأرض كلها وطن واحد؛ قضية تضحك النمل في قراها، والنحل في خلاياها؛ وتستبهم على الطير في أوكارها، وعلى السباع في أحجارها وينبئك عنها السمك إذ اتخذ من البحر وطنا شائعا، فولد مهدورا وعاش ضائعا، صغاره طرائد، وكباره موائد، ويتصيد بعضه بعضا إن أبطأ الصائد.

والوطن شركة بين الأول والآخر، وبين الحاضر والغابر، لا يرث لها عقد، وإن تطاول العهد، مؤسسة بالمهد حينا وباللحد؛ يدخلك فيها الميلاد، ولا يخرجك منها النفاد، فقد تضرم النار وأنت هامد كالرماد، وقد تحيا بك الديار وأنت بواد والحياة بواد.

ص: 13

والوطن مستودع المفاخر وصوان المآثر، وخزانة الأعلاق والذخائر، لكل متقن منها موقعه، ولا ينبو بصالح فيها موضعه؛ الهرمان لديها معظمان، "وشيخ البلد" شيخ الصناعة على الزمان؛ وعندها سيف"علي" ومغارسه، وقناة"إسماعيل" ومدارسه، وفيها القصائد البارودية، وليس فيها الخطب النديمية؛ تلك لقربها من كلام الحكمة، وهذى لبعدها عن الإتقان والحشمة؛ فيالك خزانة تميز الصحاح من الزيوف، وتعرف الضيفن من الضيوف، وتحجب العصي وتأذن للسيوف.

صحيفة الأخبار، وكتاب الأبرار، وسجل الهمم الكبار أسماء المحسنين فيه مرفوعة، وأفعالهم مثل للخلف منصوبة، وحروف بماء الذهب مكتوبة؛ فإذا أتت السنون، ودارت على الرجال المنون، ولحقت بالمشايع الشيع، وذهب المتبوع والتبع؛

ص: 14

ونامت الحرابي عن الشموس، وحيل بين النار وبين المجوس؛ انفتح كتاب الوطن من نفسه وإذا الحسنات ثم على الصدق محصاة، فلا الحصاة درة ولا الدرة حصاة؛ إذا الرجال يعظمون على الأفعال، وإذا الوقائع قد نحت منها الأبطال؛ على قدر العمل يأتي الجزاء، وبقدر جمال الأثر يكون حسن الثناء.

وليس أحد أولى بالوطن من أحد، فما"باستور" والشفاء في مصله، ولا"كمال" والحياة في نصله: أولى بأصل الوطن وفصله؛ من الأجير المحسن إلى عياله، الكاسب على أطفاله، الفادي الوطن بأشباله، وهم رأس ماله؛ فلا تتحمد على الأوطان بآثار كرم، وإن حملت عليها الهرم أو نقلت إليها إرم، فإنك لم تزد على أن أقمت جدارك؛ وحسنت دارك؛ ولا تنس أنها الآلة التي رفعتك،

ص: 15

والهالة التي أطلعتك؛ ولا تحجب ذات الوطن بذاتك، أو تطرف العيون عن وجهه بقذاتك؛ ولا تكن كالسرح العظيم إذ نسي خلقه إذ علا على الأرض وهي أمه، ماؤها عصارة عوده، وطينها جرثومة وجوده؛ حتى إذا ترعرع وكبر أخفاها وظهر، وحجب عنها الشمس والقمر؛ خلعت عليه ما نضر ورف، وألقى عليها ما يبس من الورق وجف.

والوطن لا يتم تمامه. ولا يخلص لأهله زمامه؛ ولا يكون الدار المستقلة، ولا الضيعة الخالصة الغلة؛ ولا يقال له البلد السيد المالك، وإن تحلى بألقاب الدول والممالك؛ حتى يجيل العلم فيه يد العمارة. ويجمع له بين دولاب الصناعة وسوق التجارة.

فيا جيل المستقبل، وقبيل الغد المؤمل؛ حاربوا الأمية فإنها كسح الأمم وسرطانها؛ والثغرة التي تؤتى منها أوطانها ظلمات يعربد فيها خفاش الاستبداد، وقبور كل ما فيها لضبعه غنيمة

ص: 16

وزاد؛ وتذرعوا بذرائع العلم الصحيح، اطلبوه في مدارس الزمان وحلقاته، وخذوه عن جهابذته وثقاته؛ واعلموا أن أنصاف الجهال: لا الجهل دفعوا، ولا بقليل العلم انتفعوا؛ وبنو الوطن الواحد إخوة وإن ذهب كل فريق بكتاب، ووصلت كل طائفة من باب؛ واتبع أناس الإنجيل، وأناس اتبعوا التنزيل؛ وكل بلاد تسوسها حكومة فاضلة، وتقيدها القوانين العادلة، وتعمرها جماعة عاقلة عاملة، إنما يفرق فيها بين الوطن الذي هو الحياة وشئونها، والدنيا وشجونها، والحكومة نظمها وقانونها، والمملكة سهولها وحزونها، والدولة أطرافها وحصونها؛ مبين الدين الذي هو السماء الرفيعة، والذروة المنيعة؛ ولاية الضمائر وسياسة السرائر.

وما وطن المحسنين إلا الأسرة الكبرى، والسقف الواحد والمنزل الحاشد، القوم في ظلاله، على البر وخلاله؛ إخوان متصافون، وأهل متناصفون، وجيران متآلفون، قصد في البغضاء، وبعد

ص: 17

عن الشحناء؛ ألسنة عفيفة العذبات، وصدور نظيفة الجنبات؛ تراهم كالنحل إن سولمت عملت العسل، أو حوربت أعملت الأسل؛ فاطبع اللهم كنانتك على هذا الغرار، وأعدها كما بدأتها محلة الأبرار. واجعل أبناءنا أحرارا ولا تجعلهم أنصاف أحرار.

ربنا وأنزلهم على أحكام العقول وقضايا الأخلاق، ولا تخلهم من العواطف، وإن كن عواصف؛ ولا تكلهم للأهواء فإنها هواء؛ وخذهم بروح العصر وسنة الزمان، واجعلهم حفظة العرش وحرسة البرلمان.

ص: 18