الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الجندي المجهول
ذلك الغفل في الرمم، صار نارا على علم، جمع ضحايا الأمم،
كما جمع الكتابة القلم، أو الكتيبة العلم.
تمثال من إنكار الذات، والفناء في بقاء الجماعات، وصورة من التضحية المبرأة من الآفات، المنزهة عن انتظار المكافأة، وهيكل على الواجب من عظام أو رفات؛ تقرأ على صفحاته العجب العاجب تفسير الجلالين من موت وواجب. وتنتقل من آية إلى آية، وترى كيف جرى الإيثار للغاية. وكيف سالت النفوس على جنبات الراية.
ولا يعلم إلا الله لمن الجيفة المحفوظة، أو تلك البقايا المصونة المحفوظة؛ ألرعديد، أم لصنديد؟ ولبطل مشوق، أم لمكره مسوق؟ ولشيطان استعماري، أم هي لربي حواري؟ ولمغمور من سواد الجند، أم لمأثور من بيض الهند؟ وهل كانت لبدة أسامة، أم كانت جلدة النعامة؟ وهل هي هيكل المتنبي أم وعاء أبي دلامة.
وكيف تعرف جثة نكرتها الأيام، وسارت الأرض فيها سنتها في الرمام، إلى أن وقعت عليها يد في الرجام، كما تقع على النصيب الرابح يد الغلام؛ فخرجت بها من غمرة المم، وحفرة الأمم، وبؤرة العدم.
وإذا هي تنفصل عن سواد الهامدين، وتتصل بالأفراد الخالدين؛ تهجر مغمورات الكفور، وتعمر مشهورات القبور؛ وبين ذلك جنازة للعصر حولها ضجة، وللأرض تحتها رجة، مواكبها ملء اليبس واللجة؛ أعلام منكوسة، وقنا صم، وكتائب خرس، وأنعام محزونة، ودموع مذروفة زملوك أو رسل ملوك، وبرق يروح ويغدو في السلوك، وينعي الزاجلية والألوك؛ فهل شيعت نابليون، أو ولنجتون، وهل بلغت هوجو البانثيون؛ سوى الحظ بين هؤلاء، وبين النكرة في الأشلاء، وأجزل للقيط الموتى من العطاء، كما يجزل أحيانا للقطاء.
إسأل العصر: فيم نبش القبور، وقلب الهامدين البور، من أجل هذا الشلو المتبور؛ حتى التقطه بيد الحظ الوهوب، أو يد السيارة المباركة على ابن يعقوب؟ (يجبك) : أليس كل من شهد النفير العام فهو ذائد الوطن وحاميه! وكل من وجد في الحفير الجامع فهو مشتريه بمهجته وفاديه، مجهول بذل المجهود، وجاد بالنفس وذلك أقصى الجود، في موطن سوى بين القائد والمقود، والسائد والمسود، توحدت النار وتشابه الوقود؛ وما حمل أعباء الجهاد مثل الميت، كالأساس دفن فكان قوام البيت.
كل حي يموت، وكل ذخيرة تفوت، وكل راحل عن قومه وإن وجدهم بالأمس شتى فألف، أو نكرات فعرف وخلف فيهم من فضل ما خلف، لا يسلم على الموت من حاسد يزور في الصحيفة، أو حاقد يتشفى بالجيفة؛ فيا لك مضغة تقرض الكفن الجديد، وتسبق
الدود إلى الصديد، إلا هذا الجندي المجهول، فقد خلت جنازته من الهامس والهامز، والغامط والغامز؛ فقل لمن لم يعرفه من الناس: طوبى لك، ما أنعم بالك، وما أنقى كفنك وسربالك.
قبر بين"حنية النصر"، وبنية النسر، وفوق طريق العصر، لو كان لعيسى ضريح، لقلت قبر المسيح، كل جريح إليه يستريح، يقف به المحزون المتهالك، يقول هذا كله قبر مالك"؛ وكأن كل أخت حوله الخنساء، وتحت ذلك الحجر صخر؛ وكل أم ذات النطاقين أسماء، وعبد الله في ذلك القبر؛ دروس عالية تلقى على الشياب، تعلمهم كيف جعل آباؤهم حماية الغاب، فوق تفاتن الأحزاب، وفتنة الأسماء والألقاب؛ حتى قرب تقديس الوطن الكريم، من عبادة العلي العظيم؛
وحتى تقربوا على الأوطان، بالذبح المنكر، كما ذكر اسم الله على القربان، واسم القربان لم يذكر.
والمجد أبعد أسفار الرجال، وله أزواد وله رحال؛ جهاد طويل، وصبر جميل، وعقبات بكل سبيل؛ والجندي المجهول ما سار من لحد إلى لحد، حتى رقي أسوار المجد، ودخل مملكة الخلد، وكان الطريق نقيا من الشوك وكله ورد ح ذهب رحمه الله لا عن ولد يرمينا بجنادل أبيه، ولا أخ يسحب علينا أكفان أخيه، وكفانا تجني الشيعة، وإدلال الصنيعة، وكل حرباء يتسلق الناس شجرا إلى الشمس، يعبدها على مناكبهم من المهد إلى الرمس.