المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌شاعر أزدي متعصب موتور - الشعر في خراسان من الفتح إلى نهاية العصر الأموي

[حسين عطوان]

الفصل: ‌شاعر أزدي متعصب موتور

‌الفصل الثالث: شعراء القبائل بخراسان

‌شاعر أزدي متعصب موتور

شاعر أزدي متعصب موتور:

ثابت قطنة 1:

هو ثابت بن كعب من بني العتيك الأزديين. ويقال: بل هو مولى لهم، والأرجح أنه منهم صليبة لا ولاء. ومما يؤكد ذلك أنه كان يحس انتماءه إليهم إحساسا قويا، وأنه كان يتعصب لهم تعصبا طاغيا. وإنما لقب قطنة لأن سهما أصابه في إحدى عينيه، فذهب بها في بعض حروب الترك، فكان يجعل عليها قطنة.

ومع أن القدماء لم يحددوا تاريخ ميلاده ومكانه، فالظاهر أنه ولد بالبصرة ونشأ بها، حتى إذا شب واشتد عوده أوى إلى المهلب بن أبي صفرة، وانخرط في عداد جيشه، وحارب معه الأزارقة2، وكان ثابت مقاتلا صلبا، وفارسا شجاعا، فظل لذلك بالمهلب، فلما ولاه الحجاج بن يوسف إمارة خراسان سنة ثمان وسبعين، ارتحل معه إليها، واشترك في مناجزته للترك بما وراء النهر3، وحين توفي المهلب انضوى تحت راية ابنه يزيد، وانقطع إليه، ودبج فيه بعض المدائح4، وكان ابن

1 انظر أخباره في الشعر والشعراء 2: 630، والاشتقاق ص 483، والأغاني طبعة دار الكتب 14: 263، وابن خلكان 5: 350 وشرح شواهد المغني للسيوطي 1: 90، وخزانة الأدب للبغداد 4: 184، والفرق الإسلامية في الشعر الأموي للدكتور النعمان القاضي ص 724.

2 الأغاني 14: 280.

3 البيان والتبيين 3: 252.

4 رسائل الجاحظ 2: 83.

ص: 219

المهلب واثقا به، محبا له، فكان يوليه بعض أعمال الثغور، فيحمد فيها مكانه لكفايته وشجاعته1، فارتفعت منزلته لعهده. وقد اصطدم في هذه الفترة من حياته بشاعر تميمي هو حاجب بن ذبيان المازني، لأن حاجبا مدح ابن المهلب، فأسنى له العطاء والهدية، فحسده ثابت فتهاجيا طويلا2.

وعندما أقصى الحجاج المهالبة عن خراسان، واستعمل عليها قتيبة بن مسلم الباهلي، جرب ثابت الاتصال به، فمدحه، وسأله حاجته، فلم يقضها له3. فابتعد عنه، وحقد عليه، لا لأنه خذله وأهمله فحسب، بل أيضا لأنه كان يبغضه بغضا شديدا لملاحقته المهالبة، واعتقاله لهم، وتجريد الأزد من المناصب، وتضييقه عليهم. فانحطت مكانته في عهده انحطاطا عمليا وفنيا، إذ لم يكن له دور في غزواته بما وراء النهر، كما أنه صمت عن النظم، ولم يرو له شيء من الشعر سوى أبيات معدودة هجا في بعضها قتيبة4، وشمت في بعضها بمقتله5.

وليس من شك في أن نجمه سطع في ولاية ابن المهلب الثانية على خراسان، وإن سكتت المصادر عن أخباره فيها. ولما استبد ابن المهلب بالبصرة، سنة إحدى ومائة، وأعلن بها العصيان المسلح على الأمويين، حرضه ثابت على الاستمرار في عصيانه6. ويذهب بعض القدماء إلى أنه رجع من خراسان إلى البصرة، وساهم مع ابن المهلب في مناهضته للجيش الأموي الذي قاده مسلمة بن عبد الملك، وقمع به المهالبة ومن التف حولهم7. وأكبر الظن أنه لم يرجع إليها، وإنما بقي بخراسان، ويدل على ذلك شاهدان: الأول أنه كان بخراسان سنة اثنتين ومائة، وأنه اشترك في

1 الشعر والشعراء 2: 630، والأغاني 14: 263، وأمالي المرتضي 2: 105، وخزانة الأدب 4:185.

2 الشعر والشعراء: 2: 631، والأغاني 14: 365، وأمالي المرتضى 2:105. والطبري 9: 1480، 1486، وابن الأثير 5: 132، 150، وابن خلكان 5: 351.

3 الأغاني 14: 281.

4 الطبري 8: 1225، والأغاني 14:274.

5 نقائض جرير والفرزدق 1: 364.

6 الطبري 9: 1391، والحماسة البصرية 1:90.

7 الأغاني 14: 279.

ص: 220

دحر البرك عن قصر الباهلي من أعمال سمرقند1، وهي السنة التي فتك فيها مسلمة بابن المهلب. والثاني أنه يتحسر في مراثيه للمهالبة، لأنه لم يكن بجوارهم ولأن سائر قبيلتهم كانوا غائبين عنهم بخراسان.

وتتدنى منزلته بعد إخفاق ثورة المهالبة وسحقها، ويعتزل الحياة العسكرية والأدبية، ويصبح خائفًا ضائقًا في ولاية سعيد بن عبد العزيز على خراسان، بل إن سعيدًا هَمَّ بقتله حين بلغه رثاؤه للمهالبة وما بث في تضاعيفه من تهديد للأمويين2.

ولا يلبث أن يظهر على المسرح الحربي سنة أربع ومائة في ولاية سعيد الحرشي3. ثم يختفي عنه في ولاية مسلم بن سعيد الكلابي، ويعيِّر حاجب بن ذبيان المازني بذلك4.

ويلي أسد القسري إمارة خراسان، فتلمع شخصية ثابت، ويسترد مكانته، وتحل عقدة لسانه، ويصبح من المسؤولين، فبمجرد أن قدم أسد صحبه إلى سمرقند، ومكث فيها مدة بعد مفارقة أسد لها. فعينه الحسن بن أبي العمرطة الكندي نائبًا له بها5. ولكنه سرعان ما تركها وعاد إلى مرو الشاهجان، ورافق أسدًا في غاراته على جبال الغور والغورين، ونوه بانتصاراته6.

وعندما ثار أهل سمرقند على أشرس بن عبد الله السلمي، لأنه وعدهم بإلغاء الجزية عمن يسلم منهم، فدخلوا في الإسلام أفواجًا، فقلت جزيتهم عن المبلغ الموظف عليهم، ففرض أشرس الجزية ثانية على مسلميهم، وعسف بهم، فانتصر ثابت لهم، فسجنه المجشر بن مزاحم السلمي، ولم يزل في السجن حتى أسندت إدارة سمرقند لنصر بن سيار، فأرسله إلى أشرس بمرو الشاهجان، فزجه في الحبس.

1 الطبري 9: 1422، وابن الأثير 5:93.

2 الأغاني: 14: 271.

3 الطبري 9: 1446، وابن الأثير 5:109.

4 الطبري 9: 1480.

5 الطبري 9: 1486.

6 الطبري 9: 1489، 1496.

ص: 221

وحدث أن قاد أشرس حملة إلى سمرقند ليبطش بالثائرين من أهلها، فنزل بآمل، فانقض عليه الترك، فأطلق سراح ثابت بكفالة1، فحارب الترك مع عبد الله بن بسطام حتى استخلصوا من وقع من العرب بأيديهم، فاجتاز أشرس النهر، فتصدى له الترك، ودارت بينهم وبينه معركة استشهد فيها ثابت وعدد من الفرسان، سنة عشر ومائة2.

وهو ينزع في شعره عن دائرة العصبية لقومه من الأزد، فقد خص بمدائحه الولاة اليمنيين، ولم ينظم بيتا واحدا في مديح الولاة القيسيين الذين تناوبوا على حكم خراسان. ومن شعره في مديح المهلب، قوله الذي يشيد فيه بسيرته العاطرة، وسياسته السديدة، وكرمه الذي لا يبارى، وعفوه عند المقدرة3:

أبا خالد زدت الحياة محبة

إلى الناس أن كنت الأمير المتوجا

وحق لهم أن يرغبوا في حياتهم

وبابك مفتوح لمن خاف أو رجا

تزيد الذي يرجو نداك تفضلا

وتؤمن ذا الإجرام إن كان محرجا

وقدمنا في الفصل الثاني أنه امتدح أسدا القسري بمقطوعتين حين هاجم جبال الغور والغورين من نواحي هراة4.

وعندما لحق يزيد بن المهلب بالبصرة، واستولى عليها، وحبس عاملها عدي بن أرطأة الفزاري، وخلع يزيد بن عبد الملك، اندفع ثابت يستفزه لكي يمضي في ثورته، مشجعا له على التحرك السريع، واغتنام الوقت قبل أن تضيع الفرصة منه، ونافخا فيه من روح أبيه، وروح قومه من الأزد، وحلفائهم من ربيعة، الذين أحاطوا به، وصمموا على مساندته لاعتقادهم بصحة مذهبه، وبحقه في الخلافة، ومتمنيا لو كان بالعراق هو ومن كان من الأزد بخراسان ليظاهره. يقول5:

1 الطبري 9: 1512.

2 الطبري 9: 1514، وابن الأثير 5:15.

3 رسائل الجاحظ 2: 83.

4 رسائل الجاحظ 2: 83، والطبري 9: 1489، 1496.

5 الأغاني 14: 277.

ص: 222

إن امرءا حدبت ربيعة حوله

والحي من يمن وهاب كئودا

لضعيف ما ضمت جوانح صدره

إن لم يلف إلي الجنود جنودا

أيزيد كن في الحرب إذ هيجتها

كأبيك لا رعشا ولا رعديدا3

ما كان في أبويك قادح هجنة

فيكون زندك في الزناد صلودا4

إنا لضرابون في حمس الوغى

رأس المتوج إن أراد صدودا5

وقر إذا كفر العجاج ترى لنا

في كل معركة فوارس صيدا6

يا ليت اسرتك الذين تغيبوا

كانوا ليومك بالعراق شهودا

وترى مواطنهم إذا اختلفت القنا

والمشرفية يلتظين وقودا7

وأقبل مدرك بن المهلب لينضم إلى أخيه يزيد بالبصرة، فلاقاه فرسان بني تميم بمفازتها، مضمرين قتله، فعلمت الأزد بأمرهم، فخرجت إليهم ومنعتهم من التعرض له، فمدحها ثابت ومجد صنيعها. يقول8:

ألم تر دوسرا منعت أخاها

وقد حشدت لتقتله تميم

رأوا من دونه الزرق العوالي

وحيا ما يباح لهم حريم9

شنوءتها وعمران بن حزم

هناك المجد والحسب الصميم

فما حملوا ولكن نهنهتهم

رماح الأزد والعز القديم

رددنا مدركا بمرد صدق

وليس بوجهه منكم كلوم

1 الكئود: المرتقي الصعب.

2 ما ضمت جوانح صدره: كناية عن القلب.

3 العرش والرعديد: الجبان.

4 الهجنة: العيب. والهجين: العربي ابن الأمة. وصلد الزناد: صوت ولم يور فهو صالد، وصالود.

5 الحمس: الشدة.

6 كفر: ستر وغطى. والصيد: جمع أصيد، وهو الرافع رأسه كبرا.

7 القنا: الرماح. والمشرفية: السيوف. والتظت: تلهبت وتوقدت.

8 الطبري 9: 1391.

9 العوالي: أسنة الرماح. والزرق: الصافية.

ص: 223

وخيل كالقداح مسومات

لدى أرض مغانيها الجميم1

عليها كل أصيد دوسري

عزير لا يفر ولا يريم

بهم تستعيب السفهاء حتى

ترى السفهاء تردعها الحلوم2

فانتدب يزيد بن عبد الملك أخاه مسلمة في جيش من أهل الشام لمحق الخارجين على طاعته، فاستعاد البصرة، وفر ابن المهلب إلى واسط، وكان أهلها بايعوا له3. وضرب ابنه معاوية أعناق ثلاثين أسيرا كانوا في يده، منهم عدي بن أرطأة، وابنه محمد، ومالك وعبد الملك ابنا مسمع البكري، فلم يجوز ثابت فعلته القبيحة، بل عدها طيشا منه، فقد أفسدت عليه الناس، ونفرتهم عنه. يقول4:

ما سرني قتل الفزاري وابنه

عدي ولا احببت قتل ابن مسمع

ولكنها كانت معاوي زلة

وضعت بها أمري على غير موضع

واستمر مسلمة يطارد ابن المهلب حتى قتله يوم العقر قرب كربلاء بالكوفة، ومزق جنوده تمزيقا. فجن ثابت، وخابت كل الآمال التي عقدها على الثورة، والتي كان يرجو أن تتوج بفوز ابن المهلب بالخلافة. فتحول يرثيه ويرثي الهالكين من أسرته. وتتضح في مراثيه لهم عصبيته الحادة للأزد، ويتضح فيها عداؤه السافر للأمويين، فهو لا ينفث فيها أناته وزفراته التي ضاق بها صدره لمصرعهم، بل يحملها كذلك دفاعا عن ثورتهم، وافتخارا بماضيهم في الجاهلية، وبحاضرهم في الإسلام، مما يجعلهم أهلا للخلافة، ويرى أن قتلهم كان جرما عظيما، كما يحملها وعيدا للأمويين، وأنه لن يغتفر لهم ذنوبهم مهما تمتد الأيام بهم، بل سينتقم منهم. ويسخط سخطا شديدا على العشائر الشامية اليمنية التي دعمتهم، وأتاحت لهم التغلب على

1 القداح: السهام: شبه بها الخيل في ضمورها. والمسومات: المرعية، أو المعلمة، أو المرسلة وعليها فرسانها. الحميم: النبت الكثير الذي طال ولم يتم.

2 استعتب: رجع عن الإساءة وطلب الرضا.

3 ياقوت 3: 695.

4 الطبري 9: 1409.

ص: 224

المهالبة، لأنه كان يفترض فيما يظهر أن تعدل عن مساندتههم، وتنحاز للمهالبة في هذا الظرف العصيب، وتؤيدهم لما يربط بينها وبينهم من أواصر النسب. ومن مراثيه ليزيد بن المهلب هذه القصيدة التي يقرن فيها وصف مواجعه وآلامه الممضة لفقده بوعيده لبني أمية وقصاصه لهم، وغضبه على القبائل اليمنية التي ناصرتهم، يقول1:

ألا يا هند طال علي ليلي

وعاد قصيره ليلا تماما2

كأني حين حلقت الثريا

سقيت لعاب أسود أو سماما3

أمر علي حلو العيش يوم

من الأيام شيبني غلاما

مصاب بني أبيك وغبت عنهم

فلم أشهدهم ومضوا كراما

فلا والله لا أنسى يزيدا

ولا القتلى التي قتلت حراما

فعلي أن أبؤ بأخيك يوما

يزيدا أو أبؤ به هشاما4

وعلي أن أقود الخيل شعثا

شوازب ضمرا نقص الإكاما5

فأسبحهن حمير من قريب

وعكا أو أرع بهما جذاما

ونسقي مذحجا والحي كلبا

من الذيفان أنفاسا قواما6

عشائرنا التي تبغي علينا

تحربنا زكا عاما فعاما7

ولولاهم وما جلبوا علينا

لأصبح وسطنا ملكا هماما

فهو يصف تبدل حاله، وما يقاس من المواجد، وما يتجرع من الغصص بل من السموم القاتلة، ويعترف بأنه كان غائبا عن مسرح الأحداث، وينذر بني أمية،

1 الطبري 9: 1414.

2 هند: بنت المهلب. وليل التمام: أطول ما يكون من ليالي الشتاء.

3 الأسود: العظيم من الحيات.

4 باء به: قتل قاتله به.

5 الشوازب: الضوامر. وتقص: تكسر. والإكام: الحجارة.

6 الذيفان: السم الناقع القاتل.

7 تحربنا: تغضبنا. والزكا: الزوج من العدد، أي مرتين.

ص: 225

والعشائر اليمنية والشامية التي ساعدتهم، والتي دمروا بها المهالبة الأزديين اليمنيين تدميرا. فقد كان ينتظر منها أن تتخلى عن بني أمية، وتبايع المهالبة، وتقاتل معهم، لكي يكتب لهم النجاح في ثورتهم، ويكي يظفر يزيد بن المهلب بمنصب الخلافة.

وفي مرثية ثانية يبكي ابن المهلب، ويعلن أن ما يضاعف توجعه أنه كان بعيدا عن ميدان المعركة الفاصلة التي دارت بينه وبين مسلمة بن عبد الملك، ويوعد مسلمة بأنه سيتربص به حتى يغتاله. ويفتخر بالأزد، أصحاب العقول الراجحة، والشجاعة الخارقة، الحامين للجار، المطعمين للضيف خيار إبلهم في الجدب، ويعتد بفضلهم على الإسلام، وأنهم ناصروا الرسول حين وفد عليهم بالمدينة مهاجرا من مكة، ويتمدح بمجدهم التليد في الجاهلية ممثلا في دولة الغساسنة العزيزة القوية يقول1:

أبى طول هذا الليل أن يتصرما

وهاج لك الهم الفؤاد المتيما

أرقت ولم تأرق معي أم خالد

وقد أرقت عيناي حولا مجرما

على هالك هد العشيرة فقده

دعته المنايا فاستجاب وسلما

على ملك يا صاح بالعقر جبنت

كتائبه واستورد الموت معلما2

أصيب ولم أشهد ولو كنت شاهدا

تسليت إن لم يجمع الحي مأتما

وفي غير الأيام يا هند فاعلمي

لطالب وتر نظرة إن تلوما3

فعلي إن مالت بي الريح ميلة

على ابن أبي ذيان أن يتندما

أمسلم إن تقدر عليك رماحنا

نذقك بها قئ الأساود مسلما

وإن نلف للعباس في الدهر عثرة

نكافئه باليوم الذي كان قدما

قصاصا ولا نعدو الذي كان قد أتى

إلينا وإن كان ابن مروان أظلما

ستعلم إن زلت بك النعل زلة

وأظهر أقوام حياء مجمجما

من الظالم الجاني على أهل بيته

إذا أحصرت أسباب أمر وأبهما

1 الطبري 9: 1414- 1416، وابن الأثير 5:88.

2 المعلم: الفارس إذا علم مكانه في الحرب.

3 غير الأيام: أحواله المتغيرة المتبدلة، وتلوم: انتظر وتلبث.

ص: 226

وإنا لعطافون بالحلم بعدما

نرى الجهل من فرط اللئيم تكرما

وإنا لحلالون بالثغر لا نرى

به ساكنا إلا الخميس العرمرما1

نرى أن للجيران حاجا وحرمة

إذا الناس لم يرعوا لذي الجار محرما

وإنا لنقري الضيف من قمع الذرى

إذا كان رفد الرافدين تجشما2

أبونا أبو الأنصار عمرو بن مالك

وهم ولدوا عوفا وكعبا وأسلما

وقد كان في غسان مجد يعده

وعادية كانت من المجد معظما3

وفي مرثية ثالثة يؤنب القبائل التي دخلت في طاعته، واجتمعت إليه عندما أظهر الخلاف ليزيد بن عبد الملك،، وخلعه ودعا لنفسه، لأنها انسلت من حوله حين تفاقم الخطر المحدق به، ويأسى فيها لأن البقية الباقية من الأزد كانت بخراسان، إذ لو كانت قريبة منه لسارعت إليه، وشدت من أزره، يقول4:

كل القبائل بايعوك على الذي

تدعو إليه وتابعوك وساروا

ولقد بسطت لهم يمينك بالندى

مثل الفرات تمده الأنهار

حتى إذا شرق القنا وجعلتهم

نصب الأسنة اسلموك وطاروا5

شهدتك من يمن عصائب ضيعت

ونأى الذين بهم يصاب الثار

إن يقتلوك فإن قتلك لم يكن

عليك وبعض قتل عار

وبعد أن أجلت الحرب عن قتل يزيد بن المهلب، التفت البقية الناجية من المهالبة حول أخيه المفضل، وخرجوا إلى كرمان، وكان بها منهم شراذم، فانضموا إليه، فبعث مسلمة بن عبد الملك مدرك بن ضب الكلبي في أثر الفل وفي طلب

1 العرمرم: الكثير.

2 القمع: جمع قمعة، وهي أعلى السنام. والتجشم: التكلف.

3 العادية: الخيل تعدو.

4 الشعر والشعراء 2: 631، والأغاني 14: 279، وحماسة ابن الشجري ص: 90، والحماسة البصرية 1: 276، وابن خلكان 5: 350، وخزانة الأدب 4:184.

5 شرق القنا: احمرت الرماح بالدم.

ص: 227

المهالبة، فأدركهم بفارس، والتحم معهم في معركة انتهت بهلاك المفضل. فرثاه ثابت بقصيدة عزى فيها أخته هند، وصور ما سببه له موته من بلاء دائم وهم مقيم، وأعرب عن أمله لأنه لم يشترك في الذب عنه، وهدد بأخذ الثأر له من قاتليه، وافتخر بنفسه وأخلاقه. يقول1:

يا هند كيف بنصب بات يبكيني

وعائر في سواد العين يؤذيني2

كأن ليلي والأصداء هاجدة

ليل السليم وأعيا من يداويني3

لما حنى الدهر من قوسي وعذرني

شيبي وقاسيت أمر الغلظ واللين4

إذا ذكرت أبا غسان أرقني

هم إذا عرس السارون يشجيني5

كان المفضل عزا في ذوي يمن

وعصمة وثمالا للمساكين6

غيثا لدى أزمة غبراء شاتية

من السنين ومأوى كل مسكين7

ما زلت بعدك في هم تجيش به

نفسي وفي نصب قد كان يبليني8

إني تذكرت قتلى لو شهدتهم

في حومة الحرب لم يصلوا بها دوني9

لا خير في العيش إن لم أجن بعدهم

حربا تبيء بهم قتلى فتشفيني10

لا خير في طمع يدني إلى طبع

وغفة من قوام العيش تكفيني11

1 أمالي الزجاجي ص: 130، وأمالي المرتضي 1: 407، والأغاني 14:275.

2 النصب: الداء والبلاء والشر. والعائر: الرمد والقذى.

3 الأصداء: الأصوات: والسليم: الملدوغ. وأعيا: أعجز.

4 عذرني: شيبني من جانبي وجهي، أو هدني وهدمني.

5 عرس السارون: نزلوا في آخر الليل للاستراحة.

6 الثمال: الغياث الذي يقوم بأمر الناس فيطعمهم ويسقيهم.

7 الأزمة: القحط. وشتا القوم: أجدبوا في الشتاء خاصة، والعرب تسمي القحط شتاء لأن المجاعات أكثر ما تصيبهم في الشتاء البارد.

8 جاشت النفس: ارتفعت من حزن أو فزع.

9 صلى النار، وصلى بها: قاسى حرها.

10 تبيء بهم: تسفر عن قتل قاتليهم.

11 الطبع: الدنس. والغفة: البلغة من العيش.

ص: 228

لا أركب الأمر تزرى بي عواقبه

ولا يعاب به عرضي ولا ديني

لا يغلب الجهل حلمي عند مقدرة

ولا العضيهة من ذي الضغن تبكيني1

كم من عدو رماني لو قصدت له

لم يأخذ النصف مني حين يرميني

وعلى نحو ما تبدو عصبيته القبلية والسياسية لقومه في مدائحه ومراثيه، فإنها تبدو أيضا في أهاجيه، فهو يدافع في قسم كبير منها عنهم، ويرد على خصومهم، بل إنه كان شديد الحمية والأنفة لهم، فقد كان يستثار ويخرج عن طوره، إذ تعرض أحد للأزد، أو أصابهم بأقل سوء. والأمثلة على ذلك كثيرة، فحين حارب المهلب الشراة، وكان ابن الكواء اليشكرى فيهم، وكان بعض بني أخيه شاعرا، فهجا المهلب، والأزد، طلب المهلب من ثابت أن يرد عليه، فراح يحقر بني يشكر، ويتهمهم بأنهم أذل عشائر بكر، بل ملصقون بها إلصاقا، يقول2:

كل القبائل من بكر نعدهم

واليشكريون منهم ألأم العرب

أثرى لجيم وأثرى الحصن إذ قعدت

بيشكر أمه المعرورة النسب3

نحاكم عن حياض المجد والدكم

فما لكم في بني البرشاء من نسب4

أنتم تحلون من بكر إذا نسبوا

مثل القراد حوالي عكوة الذنب5

نبئت أن بني الكواء قد نبحوا

فعل الكلاب تتلى الليث في الأشب6

يكوى الابيجر عبد الله شيخكم

ونحن نبري الذي يكوى من الكلب

وكانت ربيعة لما حالفت اليمن وحشدت مع يزيد بن المهلب تنزل حواليه هي والأزد بخراسان، فاستبطأته ربيعة في بعض الأمر، فشغبت عليه، حتى أرضاها فيه، فحنق ثابت عليها، وانطلق يهجوها بأنها تحذق تهييح الشر، وتأجيج الفتنة، وأنها

1 العضيهة: الإفك والبهتان.

2 الأغاني 14: 277.

3 لجيم: هو لجيم بن صعب بن بكر بن وائل، والحصن: هو ثعلبة بن عكابة بن صعب بن بكر بن وائل.

4 البرشاء: لقب أم ذهل وشيبان وقيس بني ثعلبة بن عكابة بن صعب بن بكر بن وائل. والبرش: البرص.

5 العكوة: أصل الذنب ومعظمه.

6 الأشب: شدة التفاف الشجر وكثرته حتى لا مجاز فيه.

ص: 229

تختفي عند الشدة، وتقل عند الفزع، وأنها تتنكر للصديق، وتقعد عن منازلة العدو، غامز أرجالها بأنهم ليسوا من أولي الأصول العريقة المعروفة، ولا من ذوي العزائم الكبيرة، ولذلك فإنه لم يعد يرى جدوى في محالفة الأزد لهم. يقول1:

عصافير تنزو في الفساد وفي الوغى

إذا راعها روع جماميح بروق2

أأحلم عن ذبان بكر بن وائل

ويعلق من نفسي الأذى كل معلق

ألم أك قد قلدتكم طوق خزية

وأنكلت عنكم فيكم كل ملصق3

لعمرك ما استخلفت بكرا ليشغبوا

علي وما في حلفكم من معلق4

ضممتكم ضما إلي وأنتم

شتات كفقع القاعة المتفرق5

فأنتم على الأدنى أسود خفية

وأنتم على الأعداء خزان سملق6

فالبكريون في نظره عيال على الأزد، لا يغنون في الأزمات، ومع ذلك فإنهم ينافرونهم وينازعونهم. وهو يردد هذا المعنى في بيتين آخرين، إذ يأخذ على البكريين قلة وفائهم بالعهود، وتقصيرهم فيما يوجبه الحلف المعقود بينهم وبين الأزد من التزامات. بل إنه يصرح بأنهم إنما يفزعون إلى الأزد في المآزق. فإذا ما فرجوها عنهم، واستأنفوا حياتهم مطمئنين، عادوا إلى سيرتهم الأولى مع الأزد، وابتعدوا منهم. يقول7:

بكر أخونا إذا نابته نائبة

وليس منا إذا ما خوفه أمنا

إني لأرمي بنبلي من ورائهم

ولا أرى الأمر شجانا لهم شجنا

1 الأغاني 14: 280.

2 تنزو: تثب. والجماميح: جمع جماح، وهو ما نبت على رؤوس القصب مجتمعا، فإذا دق تطاير، وبروق: نبت ضعيف.

3 أنكل: دفع، أي دفعت عنكم كل ملصق فيكم.

4 من معلق: أي من شيء يتعلق به ويعتمد عليه.

5 الفقع: الكمأة البيضاء الرخوة. والقاعة: الأرض المطمئنة السهلة الرخوة.

6 خفية: أجمة في سواد الكوفة تنسب إليها الأسود. والسملق: الأرض المستوية الجرداء. وخزان: جمع خزن، وهي ذكر الأرنب، وهي معروفة بالجبن.

7 حماسة البحتري ص: 80.

ص: 230

ومدح قتيبة بن مسلم فلم يجزه، فانبرى يشهر به، بل يعبر عن عدائه الدفين له، ولكن في حذر واحتياط، إذ اتخذ من مديح يزيد بن المهلب وسيلة إلى تجريحه، يقول1:

أبا خالد لم يبق بعدك سوقة

ولا ملك ممن يعين على الرفد2

ولا فاعل يرجو المقلون فضله

ولا قائل ينكا العدو على حقد3

لو أن المنايا سامحت ذا حفيظة

لأكرمنه أو عجن عنه على عمد

وانهزم قتيبة وقومه عن الترك في إحدى المعارك، وثبت بنو تميم في الميدان، فوجد ثابت الفرصة سانحة لذم الباهليين، فعرض بهم، ومدح التميميين، وفضل الأزد عليهم أجمعين. يقول4:

توافت تميم في الطعان وعردت

بهيلة لما عاينت معشرا غلبا5

كماة كفاة يرهب الناس حدهم

إذا ما مشوا في الحرب تحسبهم نكبا6

تسامون كعبا في العلا وكلابها

وهيهات أن تلقوا كلابا كعبا

فأفشى عليه روايته الأبيات، وكان استكتمه إياها. فقال يصف فزعه من انتشارها، وخشيته من معاقبة قتيبة له عليها، ويعلن أنه كثيرا ما نوى أن يهجر راويته، ولكنه لم ينفذ قراره، لأنه من ربيعة حلفاء قومه7:

يا ليت لي بأخي نضر أخا ثقة

لا أرهب الشر منه غاب أو شهدا

أصبحت منك على أسباب مهلكة

وزلة خائفا منك الردى أبدا

1 الأغاني 14: 281.

2 الرفد: العطاء.

3 ينكا: يقهر ويذل.

4 الأغاني 14: 274.

5 عردت: هربت. وغلب: جمع أغلب، وهو الغليظ الرقبة. وهم يصفون أبدا السادة بغلظ الرقبة وطولها.

6 النكب: جمع نكباء وهي كل ريح انحرفت ووقعت بين ريحين، وهي تهلك المال، وتحبس القطر.

7 الأغاني 4: 274.

ص: 231

ما كنت إلا كذئب السوء عارضه

أخوه يدمي ففرى جلده قددا1

أو كابن آدم خلى عن أخيه وقد

أدمى حشاه ولم يبسط إليه يدا2

أهم بالصرف أحيانا فيمنعني

حيا ربيعة والعقد الذي عقدا

ووشى به حميد الرؤاسي، وعبادة المحاربي إلى سعيد بن عبد العزيز الأموي وقد ولي خراسان، وجلس يعرض الناس، إذ أبلغاه أنه افتخر في شعره بالأزد، وأنهم قادرون على قتل الخليفة إن عاداهم، فاستدعاه سعيد وقال له: أنت القائل3:

إنا لضرابون في حمس الوغى

رأس الخليفة إن أراد صدودا

فاعترف بأن البيت له، واتهم الرجلين بأنهما استبدلا رأس الخليفة برأس المتوج في بيته السابق، وأتبعه ببيت ثان، دافع فيه عن نفسه وقومه، فقد بين فيه أنهم إنما يغضبون دفاعا عن الدين والخليفة، فقال:

إنا لضرابون في حمس الوغى

رأس المتوج إن أراد صدودا

عن طاعة الرحمن أو خلفائه

إن رام إفسادا وكر عنودا

فعفا عنه. وعلم أن حميدا وعبادة هما اللذان سعيا به عند سعيد، فسخط عليهما. فأتاه عبادة معتذرا، واستعلى حميد عليه، فهجاه بأبيات وصمه فيها بأنه ساقط ذليل، دعي خامل، يقول4:

وما كان الجنيد ولا أخوه

حميد من رؤوس في المعالي

1 فرى: مزق وقطع. والقدد: الطرائق.

2 يشير إلى ابني آدم قابيل وهابيل، إذ قربا قربانا إلى الله، وهو زرع لقابيل وكبش لهابيل فتقبل من هابيل فنزلت نار من السماء فأكلت قربانه، ولم يتقبل من قابيل، فغضب وقتل أخاه.

3 الأغاني 14: 271.

4 الأغاني 14: 271.

ص: 232

فإن يك دغفل أمسى رهينا

وزيد والمقيم إلى زوال1

فعندكم ابن بشر فاسألوه

بمرو الروذ يصدق في المقال

ويخبر أنه عبد زنيم

لئيم الجد من عم وخال2

بل إنه كان لا يتورع عن هجاء زعماء قبيلته إذا انحرفوا عن محاباة أفرادها بعض الانحراف، وأشركوا غيرهم في أصغر الوظائف، فقد كان يعتقد بوجوب احتكار الأزد لكل منصب وسلطان، ونفع، ما دام الأمير منهم. وخير شاهد على ذلك أن المهلب استعمل وكيع بن الدورقية الخوزستاني على عمل من أعمال خراسان، فاحتج ثابت عليه، وسفه رأيه، مدعيا أنه قدم مولى من الموالي على ابني قبليته، ووضعه في مركز لا يستحقه، يقول3:

ما زال رأيك يا مهلب فاضلا

حتى بنيت سرادقا لوكيع

وجعلته ربا على أربابه

ورفعت عبدا كان غير رفيع

لو را أبوه سرادقا أحدثته

لبكى وفاضت عينه بدموع

كذلك كان يؤمن بأن وحدة الدم بين أفراد قبيلته تفرض عليهم أن يكونوا متعاونين متناصرين، وتلزم القبيلة نفسها بمساندة أي فرد منهم سواء كان ظالما أو مظلوما. وأصدق دليل على ذلك أنه استنصره في حال بعض أفراد قبيلته، فلم ينصره، فعتب عليه، وراح يلوح بأنه إنما تسامى عن الطعن فيه، وهو ابن قبيلته، تأسيا بأبيه الذي كان يمسك عن توبيخها إذا فرط أحد أبنائها في حقه، وإلا فإنه لا يحتمل الأذى من أي إنسان، يقول4:

تعففت عن شتم العشيرة إنني

وجدت أبي قد عف عن شتمها قبلي

1 دغفل: هو دغفل بن حنظلة من بني حنظلة من بني ذهل بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن بكر بن وائل. كان أعلم أهل زمانه بالأنساب. وزيد: هو زيد بن الكيس النمري. وهو يقارب دغفلا في العلم بالأنساب.

2 الزنيم: الدعي.

3 البيان والتبيين 3: 252.

4 الأغاني 14: 281.

ص: 233

حليما إذا ما الحلم كان مروءة

وأجهل أحيانا إذا التمسوا جهلي

ومن هجائه ما كانت حوافزه شخصية خالصة، ترجع إلى اعتزازه بذاته، وإحساسه بأنه ينبغي أن يعظم ويكرم. ومن أجل ذلك فإنه هجا كل من تخلف عن الاحتفال به، وهجا بعض الشعراء الذين كانوا ينافسونه، والذين فازوا بالجوائز من دونه. ففي أخباره أنه اجتاز في بعض أسفاره بمدينة كان أميرها محمد بن مالك الهمذاني الخيواني، فنزل به، فلم يهتم له، ولا أمر له بقرى، ولا هيأ له ما يهيأ للضيف أن ينزل عليه، فلما رحل عنه، هجاه بأبيات وازن فيها بين بطون همدان من بكيل وخيوان، مادحا الأولين الذين لا ينتمي محمد إليهم، ومجرحا الأخيرين الذين تحدر منهم، كما عيره بأنه دعي في خوان على هوانهم، مغمور بينهم على وضاعتهم، وأنه حقير منبوذ، ولذلك ردته كندة حين خطب إليها، يقول1:

لو ان بكيلا هم قومه

وكان أبوه أبا العاقب2

لاكرمنا إذ مررنا به

كرامة ذي الحسب الثاقب

ولكن خيوان هم قومه

فبئس هم القوم للصاحب

وأنت سنيد بهم ملصق

كما ألصقت رقعة الشاعب3

وحسبك حسبك عند النثا

بأفعال كندة من عائب4

خطبت فجازوك لما خطبت

جزاء يسار من الكاعب5

1 الأغاني 14: 273.

2 العاقب: الذي يخلف سيدا.

3 السنيد: الدعي. والشاعب: المصلح.

4 النثا: الحديث عن الشخص بالشر والخير.

5 الكاعب: الجارية. ويسار: عبد أسود دميم كان النساء إذا رأينه يضحكن منه: فكان يظن أنهن يضحكن من إعجابهن به. فدخل يوما على امرأة مولاه، فراودها عن نفسها، فقطعت أنفه أو مذاكيره. فضرب المثل به فقيل: لقي ما لاقى يسار الكواعب "انظر سرح العيون ص: 270، ومجمع الأمثال 2: 248".

ص: 234

كذبت فزيفت عقد النكاح

لمتك بالنسب الكاذب1

فلا تخطبن بعدها حرة

فتثني بوسم على الشارب2

وأنشدنا له مقطوعة من قبل هجا بها حاجب بن ذبيان المازني، لأن يزيد بن المهلب فضله عليه، وأجزل له العطاء لمدحة مدحه بها. وقد كرر فيها تلك المعاني التي كررها في أهاجيه القبلية والسياسية والشخصية، فقد رماه بأنه خسيس دني مغمور في نسبه، وأنه ضعيف لا سند له في قومه3.

ومن تتمة الحديث عن شعوره بعظمة شخصيته، أنه يصف نفسه في شعره بالجلال والوقار، وأنه لا يلغو ولا يطيل الكلام، بل يوجز في القول، ويجتزئ بأقله، يقول:4

لا أكثر القول فيما يهضبون به

من الكلام قليل منه يكفيني5

وأداه اعتداده بشخصيته إلى أن يأخذ نفسه بالمثالية، ويطالب صاحبه بأن يكون على شاكلته. فهو يحرص على الصديق، ويدافع عنه، ويفي له، في كل الأحوال، أما الصديق الذي كان يتقرب إليه في اليسر، ويزور عنه في العسر، ويبدي له المودة إذا لقيه، ويمزق عرضه إذا فارقه، فكان ينفر منه، ويقطع صلته به، يقول6:

أنبئت بشرا وللأنباء محصلة

وعامرا قد أراد النقض لو نقضا7

وكان بشر بن قيس لي أخا ثقة

وكنت أجعل نفسي دونه غرضا8

1 المت: التواصل بقرابة.

2 الوسم: أثر الكي.

3 الأغاني 14: 268.

4 حماسة البحتري ص: 230.

5 هضب فلان في الحديث: اندفع فيه فأكثر، أو خاض فيه وارتفع صوته.

6 حماسة البحتري ص: 80.

7 المحصلة: النتيجة والبقية.

8 الغرض: الهدف.

ص: 235

وما أخي بالذي يرضى بمنقصتي

ولا الذي يظهر البغضاء والمرضا

ولا الذي إن حلا عيشتي تنصفني

وليس مني إذا ما مر أو حمضا

كما كان يسر حوائجه، ويتكتم على أموره، بل إنه كان ينكر بعض أعماله إذا رأى فيها عارا عليه، أو سبة له. فقد خطب امرأة كان يميل إليها، وجعل السفير بينه وبينها جويبر بن سعيد المحدث، فاندس فخطبها لنفسه، وتزوجها، ودفعه عنها. فكذب ثابت أنه اختاره، ليكون رسوله إليها، ودعا عليه أن يشقى بها، وأن يضطر إلى تطليقها، بعد أن تقبض منه مهرها. يقول1:

أفشى علي مقالة ما قلتها

وسعى بأمر كان غير سديد

إني دعوت الله حين ظلمتني

ربي وليس لمن دعا ببعيد

أن لا تزال متيما بخريدة

تسبي الرجال بمقلتين وجيد

حتى إذا وجب الصداق تلبست

لك جلد أغضف بارز بصعيد2

وهو ينحو في فخره نحو الشعراء الجاهليين، إذ يتمجد فيه بفروسيته، وهي تتمثل في إنفاقه كل ما يملك من الأموال، وفي طرحه لنفسه مطارح الردى، كما يدل على ذلك قوله3:

المال نهب الدهر ما أخرته

ويكون حظك منه ما يتقدم

أمضي وظل الموت تحت ذؤابتي

ويظن صحبي أنني لا أسلم

فسلمت والسيف الحسام وصعدة

سمراء يجري بين أكعبها الدم4

1 الأغاني 14: 279.

2 الأغضف: الكلب. والصعيد: المرتفع من الأرض.

3 الحماسة البصرية 1: 20.

4 الصعدة: القناة المستوية تنبت كذلك لا تحتاج إلى تثقيف. والأكعب: جمع أكعب، وهو ما بين كل عقدتين من أنبوب القناة.

ص: 236

وأنا ابن عمك يوم ذلك دنية

وأنا البعيد إليك منك المجرم1

وتتمثل أيضا في بلائه وغنائه في الحروب، كما تصور ذلك أبيات أثبتناها في مكان سابق2. ويضيف إلى فخره بنفسه فخره بقبيلته، ومنعتها وجبروتها، فهي تظلم القوي، وتستخف به وتنصف العاجز وترد عليه حقه، وهي متوافرة في نفسها، حفيظة على أبنائها الصرحاء وغير الصرحاء، بل إنها لتطير إلى نجدة مواليها، وإن كانوا مسيئين إليها، أو معتدين على غيرها. يقول3:

وإنا لنعطي النصف ذا الحق إن غدا

ضعيفا ونلويه الأبي الغشمشما4

ولا نخذل المولى وإن كان ظالما

ونبدي له عذرا وإن كان ألوما5

وله قصيدة طويلة في الإرجاء6 ضمنها أهم مبادئ المرجئة، فهم لا يكفرون أحدا من المسلمين مهما يعظم ذنبه، لأنهم يفصلون بين الإيمان والعمل، فالمسلم مؤمن وإن لم يؤد الفروض، لأن أساس الإيمان عندهم الاعتقاد بالقلب لا بالعبادة والطاعة. وهم يرفضون الحكم على أعمال الناس، ويتركون الحكم عليهما لله يوم القيامة، إلا الجور البين أو العناد الواضح، فإنهم يصدرون أحكامهم عليه. وهم لا يستبيحون دماء الناس إلا دفاعا عن أنفسهم، ولا يكفرون عثمان وعليا، بل يسفهون رأي الخوارج، لأنهم كفروهما، فهما عبدان مؤمنان، وما حدث من شقاق بينهما لا يلغي إيمانهما، والحكم الأخير عليهما متروك لله، يقول7:

يا هند إني أظن العيش قد نفدا

ولا أرى الأمر إلا مدبرا نكدا

إني رهينة يوم لست سابقه

إلا يكن يومنا هذا فقد أفدا8

1 دنية: عن قرب.

2 الطبري 9: 1426.

3 حماسة البحتري ص: 155.

4 الغشمشم: الجريء الماضي.

5 ألوم: أتى ذنبا يلام عليه.

6 انظر في الإرجاء فجر الإسلام ص: 279، وضحى الإسلام 3:316.

7 الأغاني 14: 270.

8 أفد: قرب ودنا.

ص: 237

بايعت ربي بيعا إن وفيت به

جاورت قتلى كراما جاوروا أحدا

يا هند فاستمعي لي إن سيرتنا

أن نعبد الله لم نشرك به أحدا

نرجي الأمور إذا كانت مشبهة

ونصدق القول فيمن جار أو عندا

المسلمون على الإسلام كلهم

والمشركون أشتوا دينهم قددا1

ولا أرى أن ذنبا بالغ أحدا

م الناس شرما إذا ما وحد الصمدا

لا نسفك الدم إلا أن يراد بنا

سفك الدماء طريقا واحدا جددا2

من يتق الله في الدنيا فإن له

أجر التقي إذا وفى الحساب غدا

وما قضى الله من أمر فليس له

رد وما يقض من شيء يكن رشدا

كل الخوارج مخط في مقالته

ولو تعبد فيما قال واجتهدا

أما علي وعثمان فإنهما

عبدان لم يشركا بالله مذ عبدا

وكان بينهما شغب وقد شهدا

شق العصا وبعين الله ما شهدا3

يجزى علي وعثمان بسعيهما

ولست أدري بحق آية وردا

الله يعلم ماذا يحضران به

وكل عبد سيلقى الله منفردا

فشخصية ثابت قطنة كما يكشف عنها ما بقي من أخباره وأشعاره شخصية أثرت فيها التيارات والحركات الفكرية والسياسية الإسلامية، كما أثرت فيها النزعات والاتجاهات الاجتماعية والثقافية العربية التي ظللت عصره، فهو من ناحية استجاب للتيارات الفكرية الإسلامية التي نشطت في مجتمعه، فقد جالس الشراة والمرجئة بخراسان4، واستمع إلى مجادلاتهم ومحاوراتهم في مسائل الدين، وأصول العقيدة، فمال إلى المرجئة، وفضل ذهبهم السياسي الديني على مذهب الخوارج، فاعتنقه ونظم قصيدة طويلة تحدث فيها عن آرائهم ومبادئهم.

1 أشتوا: فرقوا. والقدد: الفرق المختلفة الأهواء.

2 الجدد: الطريق المستوية.

3 الشعب: التصدع. وشق العصا: تفرق الجماعة.

4 الأغاني 14: 269.

ص: 238

وهو من ناحية أخرى صدر في بعض مواقفه عن روح الإسلام الصافية وتعاليمه السمحة، وانضم إلى بعض الثائرة التي دعا زعماؤها إلى ضرورة تساوي المسلمين من العرب والعجم، فقد انفصل عن قومه العرب، واتصل بالأتراك المتمردين على أشرس السلمي بسمرقند، لأنه فرض الجزية على مسلميهم، بعد أن كان مناهم بإزالتها عنهم إذا دخلوا الإسلام، فلما تضاءلت المبالغ المجموعة منهم، تراجع عن منهجه الإصلاحي الذي اقترحه لمعالجة أوضاعهم السيئة، وأخلف وعوده لهم، كما تسلط عليهم، فاستصوب ثابت ثورتهم، وأيدها إيمانا منه بسلامتها وشرعيتها، واعتقادا منه بحتمية تكفائهم مع العرب في الحقوق والواجبات، بعد إسلامهم فاعتقل في سبيلهم، وقضى مدة في السجن من أجلهم.

وهو من ناحية ثالثة تعمقته العروبة والقومية فجاهد أهل خراسان وأهل ما وراء النهر مرارا، كما تخلى عن مناصرته لأهل سمرقند، وحاربهم مع أشرس حربا لا هوادة فيها، وقتل وهو يساهم في القضاء على ثورتهم!

ويدل ذلك من غير شك على أنه كان مشتت الفكر، متناقض السلوك، متأرجحا بين النزعة الإسلامية والنزعة القومية، ولكننا نقطع استئناسا بأشعاره أن كل تلك الاتجاهات الفكرية الدينية، والإنسانية والقومية كانت طارئة على ثقافته وشخصيته، ضعيفة التأثير في نفسيته. ولذلك فإنها إنما حملته على الالتزام ببعض المواقف النظرية، أو العملية القليلة إلى حين قصير. أما العامل الأساسي الذي شكل ثقافته وشخصيته وسلوكه فهو التراث الجاهلي القبلي، فقد اتخذ على طوال حياته جانب قومه من الأزد، وتطوع للدفاع عن مصالحهم ومنافعهم وأهدافهم، فكان دائما متحيزا لهم، مفتخرا بهم، مقدما إياهم على كل القبائل، كما حث المهالبة على العمل الجاد لهدم دولة بني أمية، ولم يقف به تحيزه لهم عند التصدي لمنافسيهم من قيس وتميم فحسب، وإنما ساقه إلى التنديد بحلفائهم من بكر حين تضاربت مطامع الطرفين وتباينت، وغلا في عصبيته لهم حتى دعا المهلب بن أبي صفرة إلى قصر الوظائف عليهم، وعنف أسدا القسري حين عزله عن إدارة سمرقند.

ولا يتضح تأثير التراث الاجتماعي والثقافي الجاهلي القبلي في سلوكه العملي

ص: 239

فحسب، بل يتضح كذلك في فنه. فشعره في أكثر موضوعاته يكاد يكون صورة عن الشعر الجاهلي، إذ يرجح فيه المعاني والألفاظ والتراكيب الجاهلية، فهو إن مدح فإنما كان يمدح بكرم النسب، ونباهة الذكر، وعظم الشأن، وبالمروءة ومقوماتها من شجاعة وجود وحماية للجار، وإغاثة للملهوف. وهو إن هجا فإنما كان يهجو بوضاعة الأصل، وخمول المنزلة، بل إنه ركز في كل أهاجيه على النسب، ورمى جميع الذين هجاهم بأنهم أدعياء لا أصلاء. وهو إن رثى فإنما كان يرثي على الطريقة القديمة، فينوح على الفقيد، ويذكر القذى والعوار، والسهر والسهم الناقع، والثريا، وليل التمام، ويقرظ الهالك تقريظا جاهليا، ويحمل رثاءه له التهديد وأخذ الثأر. وهو إن افتخر فإنما كان يفتخر ببسالته واستهانته بالحياة، وإتلافه لثروته، وبمجد قبيلته وعزتها وانتاصفها لنفسها، وعسفها بأعدائها.

ولعلنا لا نجانب الصواب إذا قلنا إن ثابت قطنة كان مثالا للشاعر الأموي الخراساني الذي استظهر الحياة الجاهلية بكل قوانينها وتقاليدها الفنية، وأنه كان متحزبا للأزد إلى أبعد حدود التحزب، دون مراعاة للوضع الاجتماعي والسياسي الجديد، أو اعتبار بأن قبيلته مثل القبائل الأخرى، وأن لها من الامتيازات ما لها، وعليها من المسئوليات ما عليها. فهمه هم فردي وقبلي. وهو يعكس في النهاية ما تضخم في خيالات الأزد وأهل اليمن من إحساس بعزهم القديم، وشرفهم التليد، ومجدهم الجاهلي الأزلي، وما انطوت عليه نفوسهم من مرارة وتبرم بحالهم في الإسلام1، وحزن على دورهم البطولي الإسلامي الذي ذهب هدرا، وكيف أنهم احتضنوا الرسول بالمدينة، ومكنوا له، وساعدوه على أعتى خصومه، ثم لم يخرجوا من المعركة السياسية بنصيب الأسد، ولا بأمير منهم، وأمير من قريش! وهو يعكس أيضا موقف الأزد وأهل اليمن بخراسان، وطموحهم السياسي، واجتهادهم ما وسعهم الاجتهاد للاستواء على عرش الإمارة والسلطان، وقلة مبالاتهم في سبيل تحقيق هذه الغاية بمصلحة الجماعة، أو بمنفعة حلفائهم، أو بطاعة الخليفة.

1 حديث الأربعاء للدكتور طه حسين 1: 261.

ص: 240