الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
6-
شاعر مولى جوال متكسب:
زيادة الأعجم 1:
هو من موالي عبد القيس وسمي الأعجم لأنه كان يرتضخ لكنة أعجمية يبدل فيها السين شينا والطاء تاء، والعين همزة2. وفي أصله بعض الاختلاف، ولكن الأرجح أنه أصفهاني المولد والمنشأ3، وأنه أسلم على أيدي عبد الله بن عتبان، وأبي موسى الأشعري، سنة إحدى وعشرين، حين فتحا أصفهان4، ثم التحق بالجيش العربي، واشترك في فتح إصطخر سنة ثلاث وعشرين5. ويقال: إنه كان من رواة الحديث، روى عن أبي موسى الأشعري، وعثمان بن أبي العاص الثقفي، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وروى عنه طاوس بن كيسان اليماني، وهشام بن قحذم6، وفي ذلك خلاف كثير استقصى ابن حجر العسقلاني وجوهه المختلفة،
1 انظر أخباره في طبقات فحول الشعراء، لابن سلام ص: 557، والشعر والشعراء 1: 430، والاشتقاق ص: 333، والأغاني "طبعة دار الكتب" 15: 380، والمؤتلف والمختلف ص: 193، وتهذيب تاريخ ابن عساكر 5: 401، ومعجم الأدباء 11: 168، وتهذيب التهذيب 3: 370، وتقريب التهذيب 1: 268، وشرح شواهد المغني 1: 206، وخزانة الأدب 4: 192، والعصر الإسلامي للدكتور شوقي ضيف ص:228.
2 البيان والتبيين 1: 74، والكامل للمبرد 2: 226، والأغاني 15:380.
3 الأغاني 15: 380، وخزانة الأدب 4:194.
4 ابن الأثير 3: 18، وشرح شواهد المغني 1: 206، وخزانة الأدب 4:194.
5 ابن الأثير 3: 40، وشرح شواهد المغني 1: 206، وخزانة الأدب 4:194.
6 تهذيب التهذيب 3: 370، وشرح شواهد المغني 1: 206، وخزانة الأدب 4:194.
وفصل بينها فصلا دقيقا، وأبان أن المقصود هو زياد بن سيمين كوش العجمي اليماني، لا زياد الأعجم العبدي1.
وظل زياد الأعجم ينزل باصطخر2، حتى إذا ولي صديقه: عمر بن عبيد الله بن معمر التيمي فارس سنة ثمان وستين، تحول إليه ولزمه، ومدحه، ونال منه جوائز ضخمة3.
فلما توفي ابن معمر ارتحل إلى عبد الله بن الحشرج القيسي، وكان موظفا كبيرا، تنقل بين أعمال خراسان، وفارس، وكرمان، وقوهستان، وسابور4، كما كان جوادا ممدحا، ففاز منه بصلات كثيرة5.
وفي ولاية المهلب بن أبي صفرة على خراسان، خرج إليه، وامتدحه، ونوه ببنيه، ورثى من مات منهم6، وقدمنا أنه خاض في هذه المرحلة معركتين هجائيتين: الأولى مع المغيرة بن حبناء التميمي، وكان مبعثها تنافسهما في المركز الأدبي7، والثانية مع كعب الأشقري، وكان المحرك لها انفجار الحرب بين عبد القيس والأزد، لتباين مصالحهم القبلية والسياسية8، ثم اتصل بيزيد بن المهلب، وأثنى عليه9. ويقول أبو الفرج الأصفهاني: "إنه لم يزل بخراسان حتى مات10. ويزعم ياقوت الحموي أنه توفي في حدود المائة الأولى11. غير أن عبد القادر
1 تهذيب التهذيب 3: 371- 373، وانظر التاريخ الكبير 2: 1: 356، والجرح والتعديل 1: 2: 551.
2 طبقات فحول الشعراء ص: 693، والأغاني 15: 380، وتهذيب التهذيب 3: 371، وخزانة الأدب 4:194.
3 الطبري 8: 753، والأغاني 15:385.
4 الأغاني 12: 23، 24، 34.
5 الأغاني 15: 387.
5 الأغاني 15: 383، وخزانة الأدب 4:194.
7 الأغاني 13: 89.
8 الأغاني 14: 287.
9 حماسة البحتري ص: 220.
10 الأغاني 15: 380، وانظر طبقات فحول الشعراء ص:693.
11 معجم الأدباء 11: 171.
البغدادى يروي أنه وفد على هشام بن عبد الملك 1. ويضيف السيوطي أنه شهد وفاته بالرصافة 2 ومعلوم أن هشاما توفي سنة
خمس وعشرين ومائة ومعنى ذلك أن زيادا قد عمر أطول من هذا التاريخ. على أننا إذا فحصنا ما بقى من شعره لم نطمئن إلى أن الأجل امتد به إلى بداية المائة الثانية3، إلا أن يكون شعره الذى نظمه في آخر حياته قد ضاع.
واستفرغ زياد شعره في المديح والهجاء، ولم يعدوهما إلى غيرها من الموضوعات إلا نادرا أما المديح فلم يكن يقدمه إلى الممدوح محبة له ولا إعجابا به، وإنما يقدمه إليه رغبة في عطائه ولذلك كان إذا زار موظفا في كورة من الكور، أو أميرا من مصر من الأمصار، وأقام عنده مدة، ومدحه، ثم لم يعجل الجائزة له يأخذ في استبطائه واستنجازه ولومه. ومن ممدوحيه عبد الله بن عامر، والي البصرة لعثمان بن عفان ومعاوية بن سفيان وفيه يقول مصورا كرمه الذى لاينقطع 4:
أخ لك لا تراه الدهر إلا
…
على العلات بساما جوادا
أخ لك ما مودته رياء
…
إذا ما عاد فقر أخيه عادا
ومنهم عمر بن عبيد الله معمر التيمى، فقد قصده عندما ولي فارس لمصعب بن الزبير، ومدحه مهنئا له بمنصبه، ومؤملا منه خيرا وفيرا، وراجيا أن لا يعود من رحلته إليه مخذولا، يقول 5:
أبلغ أبا حفص رسالة ناصح
…
أتت من زياد مستبينا كلامها
فإنك مثل الشمس لا ستر دونها
…
فكيف أبا حفص علي ظلامها
لقد كنت أدعو الله في السر أن أرى
…
أمور معد في يديك نظامها
1 خزانة الأدب 4: 194، وانظر تهذيب التهذيب 3:372.
2 شرح شواهد المغني 1: 206.
3 انظر تهذيب التهذيب 3: 372.
4 تهذيب تاريخ ابن عساكر 5: 402.
5 الأغاني 15: 385.
فلما أتاني ما أردت تباشرت
…
بناتي وقلن: العام لا شك عامها
فإني وأرضا أنت فيها ابن معمر
…
كمكة لم يطرب لأرض حمامها
إذا اخترت أرضا للمقام رضيتها
…
لنفسي ولم يثقل علي مقامها
وكنت أمني النفس منك ابن معمر
…
أماني أرجو أن يتم تمامها
فلا أك كالمجرى إلى رأس غاية
…
يرجي سماء لم يصبه غمامها
فلبى له كل ما سأله فيه، وجعله في كل عام. وفيه يقول مبينا كيف كان لا يرده خائبا، مع كثرة تردده عليه، ووفرة ما حباه به، وكيف كان يلقاه في كل مرة متهللا له، مرحبا به1:
سألناه الجزيل فما تأبى
…
فأعطى فوق منيتنا وزادا
وأحسن ثم أحسن ثم عدنا
…
فأحسن ثم عدت له فعادا
مرارا ما دنوت إليه إلا
…
تبسم ضاحكا وثنى الوسادا
وتأخر ابن معمر في دفع ما فرضه له، فذكره به بقوله2:
أصابت علينا جودك العين يا عمر
…
فنحن لها نبغي التمائم والنشر3
أصابتك عين في سماحك صلبة
…
ويا رب عين صلبة تفلق الحجر
سنرقيك بالأشعار حتى تملها
…
فإن لم تفق يوما رقيناك بالسور
وبلغته الأبيات فأرضاه وسرحه.
ومن ممدوحيه جبير بن الزبعرى النميري، وكان من سروات العرب، وله يقول معظما أصله وبسالته وجوده4:
1 الأغاني 15: 379، 385، ويقول ياقوت الحموي: إنه مدح بتلك الأبيات عبد الله بن جعفر بن أبي طالب. "انظر معجم الأدباء 11: 170".
2 الأغاني 15: 389.
3 النشر: جمع نشرة، وهي ضرب من الرقية.
4 المؤتلف والمختلف ص: 195، وانظر ص: 110، وانظر شرح شواهد المغني 1:206.
وجدت العامري ابن الزبعرى
…
جبيرا خير مختبط لساري1
وجدتك إذ بلاك الأمر صلبا
…
كريم العرق من عود نضار2
وزندك حين تنسب من نمير
…
كريم في زناد المجد واري3
لعمرك ما رماح بني نمير
…
بطائشة الكعوب ولا قصار4
ومن ممدوحيه عبد الله بن الحشرج القيسي، فقد وفد عليه، وهو يدير أمور سابور، وله يقول مثنيا عليه، لكرمه ومواساته المحرومين والسائلين، ولفصاحته وورعه5:
إن السماحة والمروءة والندى
…
في قبة ضربت على ابن الحشرج
ملك أغر متوج ذو نائل
…
للمعتفين يمينه لم تشبج6
يا خير من صعد المنابر بالتقى
…
بعد النبي المصطفى المتحرج
لما أتيتك راجيا لنوالكم
…
ألغيت باب نوالكم لم يرتج7
وفيه يقول أيضا8:
إن كنت مرتاد السماحة والندى
…
فسائل تخبر عن ديار الأشاهب9
واحتفظ أبو حنيفة الدينوري له بأبيات مدح بها المهلب بن أبي صفرة، وهو
1 مختبط: من اختبطه إذا طلب الرفد والمعروف من غير سابق معرفة ولا وسيلة.
2 النضار: الأثل، وهو من أجود الخشب.
3 الزند: العود الأعلى الذي يقتدح به النار، والزناد مثله. ووري الزند: اتقد. ويقال: هو واري الزند إذا رام أمرا نجح فيه وأدرك ما أراد.
4 طائشة الكعوب: ضعيفة. والكعب: انبوب القناة وما بين كل عقدتين منها.
5 الأغاني 12: 34، 15:387.
6 تشبج: تنقبض، أي تبخل.
7 ارتج الباب: أغلقه إغلاقا وثيقا.
8 الأغاني 12: 23.
9 الأشاهب: يريد جره الأشهب بن ورد.
يحارب الأزارقة دفاعا عن أهل البصرة، حين جبنت كافة القبائل عن محاربتهم، وفيها يقول1:
جرى الله خيرا والجزاء بكفه
…
أخا الأزد عنا ما أذب وأحربا2
ولما رأينا الأمر قد جد جده
…
وألا تواري دوننا الشمس كوكبا
دعونا أبا غسان فاستك سمعه
…
وأحنف طاطا رأسه وتهيبا3
وكان ابن منجوف لكل عظيمة
…
فقصر عنها حبله وتذبذبا4
فلما رأينا القوم قد كل حدهم
…
لدى حربهم فيها دعونا المهلبا
ولم يصل إلينا من مدائحه فيه بخراسان إلا بيت واحد. وهو قوله5:
فتى زاده السلطان في الخير رغبة
…
إذا غير السلطان كل خليل
ويروى أنه طلب منه مكافأة عليه مائة ألف درهم فأعطاه ثلاثين ألفا.
كذلك لم ينقل إلينا من مدائحه ليزيد بن المهلب إلا بيتان. وهو يقول فيها مشيدا بجوده وبسالته6:
يزيد يزيد الخير لولا سماحه
…
لعاد الزمان وهو أربد أسفع
تقبل أخلاق المهلب نجدة
…
ومكرمة والبجم من حيث يطلع
ويظهر أنه لم يمدحه كثيرا، فإن ابن المهلب استنكر تشبهه بالأعاجم، وضربه7 وزياد نفسه يخبرنا بأنه لم يكن حفيا به ولا راغبا فيه8.
1 الأخبار الطوال ص: 272.
2 ذب: دافع. أحرب: اشتد غضبه.
3 الأحنف: الأحنف بن قيس التميمي.
4 ابن منجوف: هو سويد بن منجوف السدوسي الشيباني "انظر المعارف ص: 113".
5 البيان والتبيين 1: 74، والكامل للمبرد 2: 226، والعقد الفريد 2: 478، والأغاني 15:391.
6 حماسة البحتري ص: 220.
7 الأغاني 15: 384.
8 الشعر والشعراء 1: 433.
ولما كان زياد لا يمدح إلا من أجل العطاء، فإن كثيرين ممن اختلف إليهم لم يهتضموه ولم يكافئوه، بل استثقلوه ومطلوه. فلم يسلم أحد تباطأ في عطائه من هجائه. والأمثلة على ذلك كثيرة. فقد سار إلى الحضين بن المنذر الرقاشي البكري، وهو عامل لعلي بن أبي طالب بإصخطر، فازور عنه، ولم يصله، فقال يهجوه بالبخل لا في وقت الجدب، بل في أيام الرخاء والخصب1:
يسد حضين بابه خشية القرى
…
بإصطخر والشاة السمين بدرهم
وممن مدحهم وصدوه عباد بن الحصين الحبطي التميمي، وكان على شرطة عبد الله بن معمر التميمي، نائب مصعب بن الزبير بالبصرة. وفيه يقول هاجيا له بوضاعة نسبه، وسوء أخلاقه2:
لعمرك إنني وأبا حميد
…
كما النشوان والرجل الحليم
أريد حباءه ويريد قتلي
…
وأعلم أنه الرجل اللئيم
فإن الحمر من شر المطايا
…
كما الحبطات شر بني تميم
وله يقول وقد امتدحه وسأله حاجته فخذله3:
سألت أبا جهضم حاجة
…
وكنت أراه قريبا يسيرا
فلو أنني خفت منه الخلا
…
ف والمنع لي لم أسله نقيرا4
وكيف الرجاء لما عنده
…
وقد خالط البخل منه الضميرا
أقلني أبا جهضم مدحتي
…
فإني امرؤ كان ظني غرورا5
1 خزانة الأدب 1: 90.
2 خزانة الأدب 4: 280.
3 الأغاني 15: 390.
4 النقيرة: النقرة في ظهر النواة تنبت النخلة منها.
5 أقاله مدحته: تركها وردها إليه.
وهجا يزيد بن المهلب، لأنه كان يهمله ويتشاغل عنه، على طول تذكيره إياه، ملمحا حينا، ومصرحا حينا آخر، وله يقول مراجعا ومستنجزا1.
هل لك في حاجتي حاجة
…
أم أنت لها تارك طارح
أمتها لك الخير أم أخيها
…
كما يفعل الرجل الصالح
إذا قلت قد أقللت أدبرت
…
كمن ليس غاد ولا رائح
ويقول متهما إياه بالخداع والتسويف2:
أنت الفتى كل الفتى
…
لو كنت تفعل ما تقول
لا خير في كذب الجوا
…
د وحبذا صدق البخيل
يا بن المهلب حاجتي
…
عجل فقد حضر الرحيل
وله أبيات لم يسم القدماء الذين هجاهم بها، ولكنها تفيد أنه إنما ذمهم، لأنهم لم يكترثوا لها، ولم يؤتوه شيئا. ومنها قوله3:
أتينا أبا عمرو فأشلى كلابه
…
علينا فكدنا بين بيتيه نؤكل
ومن هجائه للمغيرة بن حبناء قوله يرمي بني تميم بالخنوع، وأنهم مفطورون على الخضوع، وأنهم لمذلتهم يستلحقون بمن لهم المحامد، ليكتسبوا الشرف منهم، وأنهم لا سيد لهم، بل هم عبيد لغيرهم4:
ألم تر أنني وترت قوسي
…
لأبقع من كلاب بني تميم5
1 الشعر والشعراء 1: 433.
2 الشعر والشعراء 1: 433.
3 خزانة الأدب 3: 290.
4 الأغاني 13: 92، وانظر طبقات فحول الشعراء ص: 694، وشرح شواهد المغني 1: 205، واللسان: غمز.
5 الأبقع: الذي في لونه سواد وبياض، وأراد به الأبرص. ووتر قوسه: شد وترها إعدادا لرمي الصيد.
عوى فرميته بسهام موت
…
كذاك يرد ذو الحمق اللئيم
وكنت إذا غمزت قناة قوم
…
كسرت كعوبها أو تستقيم1
هم الحشو القليل لكل حي
…
وهم تبع كزائدة الظليم2
فلست بسابقي هرما ولما
…
يمر على نواجذك القدوم
فحاول كيف تنجو من وقاعي
…
فإنك بعد ثالثة رميم3
فقد قدمت عبودتكم ودمتم
…
على الفحشاء والطبع اللئيم
وظل المغيرة يتراسل معه الهجاء، حتى عيره وأخويه بأمراضهم التي ورثوها عن أبيهم المريض بقوله4:
إن حبناء كان يدعى جبيرا
…
فدعوه من لومه حبناء
ولد العور منه والبرص والجذ
…
مى وذو الداء ينتج الأدواء
فعف عن إجابته ومناقضته، لأنه انتقصه من جهة لا يد له فيها.
وكان زياد عصبي المزاج، حاد الطبع، إذ كانت أبسط كلمة تؤلمه، وأقل مفارقة تزعجه، فجرفه ذلك إلى التسرع في التعرض للناس بالشر، والعبث بهم. ومن ذلك أن يزيد بن حبناء نهاه عن تمزيق أعراض الناس، والتمادي في الضلال، بعد أن علت به السن، وأصبح على أبواب القبر. لم يعتبر بنصحه، وإنما هاج، وراح يدعوه إلى إرشاد نفسه قبل إرشاد سواه، فقد ضل السبيل، وشذ عن الجماعة بانضمامه إلى الخوارج. يقول5:
1 غمز القناة: تليينها وتلطيفها حتى يذهب اعوجاجها وتصير إلى الاستقامة. والقناة: الرمح.
2 زائدة الظليم: هنة وراء الظلف.
3 بعد ثالثة: أي بعد ليلة ثالثة.
4 الأغاني 13: 99.
5 الأغاني 15: 390.
يحذرني الموت ابن حبناء والفتى
…
إلى الموت يغدو جاهدا ويروح
وكل امرئ لا بد للموت صائر
…
وإن عاش دهرا في البلاد يسيح
فقل ليزيد يا بن حبناء لا تعظ
…
أخاك وعظ نفسا فأنت جنوح
تركت التقى والدين دين محمد
…
لأهل التقى والمسلمين يلوح
وتابعت مراق العراقين سادرا
…
وأنت غليظ القصريين صحيح1
وقدم عراك بن محمد الفقيه من مصر على عمر بن عبيد الله بن عمر التيمي بفارس، فكان يحدثه بحديث الفقهاء. فقال زياد يهجو عراكا، لأنه لم يطق التباين بين قوله وعمله، فهو ينفر من الدنيا، ويأمر بالزهد فيها، وهو في الوقت نفسه طامع في متاعها وبهجتها2:
يحدثنا أن القيامة قد أتت
…
وجاء عراكا يبتغي المال من مصر
فكم بين باب النوب إن كنت صادقا
…
وإيوان كسرى من فلاة ومن قصر
وكل الشواهد السابقة من الهجاء الشخصي، ترجع إما إلى تقتير ممدوحيه عليه، وإما إلى اعتداده بذاته وفنه، وضيقه بمزاحمة الشعراء له، وإما إلى تأذيه من أسلوب الوعظ. وله مقطوعات أخرى من الهجاء القبلي والسياسي. فقد كان كغيره من شعراء القبائل يتقمص شخصية مواليه العبديين، ويعتز بانتسابه إليهم، وينصب نفسه للدفاع عنهم. وقد اصطدم بغير شاعر من شعراء يشكر البكريين، وهم عبد القيس من جذم واحد، فهم جميعا من قبائل ربيعة، وقد كانوا متحالفين في البصرة وخراسان، ولكن تناقض مصالح الطرفين هو الذي جره للالتحام بهم. وفي بني يشكر يقول متهما لهم بأنهم أدعياء في بكر، ألصقوا أنفسهم بهم إلصاقا، وانتحلوا نسبها انتحالا، وأنهم كالذنب للدابة، لا خير فيهم3:
1 القصريان: مثنى قصري، وهي آخر ضلع في الجنب أسفل الأضلاع.
2 الأغاني 15: 385.
3 طبقات فحول الشعراء ص: 699.
لو أن بكرا براه الله راحلة
…
لكان يشكر منها موضع الذنب
ليسوا إليه ولكن يعلقون به
…
كما تعلق راقي النخل بالكرب1
وفيهم يقول هاجيا له هجاء يخز وخز الإبر، فقد رماهم بالغدر وقلة الخير، وقذفهم بالنجس والدنس، مخرجا لهم من جماعة المسلمين الأطهار، ومدخلا لهم في زمرة المشركين الأقذار2:
إذا يشكري مس ثوبك ثوبه
…
فلا تذكرن الله حتى تطهرا
فلو أن من لؤم تموت قبيلة
…
إذا لأمات اللؤم لا شك يشكرا
فاستنجد اليشكريون بشاعرهم سويد بن أبي كاهل، ليحامي عن أعراضهم، وينافح عن شرفهم. فصب عليه وعليهم فاضح هجائه، قبل أن يشرع سويد في التصدي له، إذ دمغه بالهوان، واهتضام العار، كما لمزه بأنه ضائع بين بني ذبيان، وبني يشكر يقول3:
أنبئتهم يستصرخون ابن كاهل
…
وللؤم فيهم كاهل وسنام
فإن يأتنا يرجع سويد ووجهه
…
عليه الخزايا غبرة وقتام
دعي إلى ذبيان طورا، وتارة
…
إلى يشكر ما في الجميع كرام4
وهاجي بخراسان قتادة بن مغرب اليشكري، وفيه يقول واصفا له ولقومه بأنهم أذلاء جبناء5:
يشكر لا يستطيع الوفاء
…
وتعجز يشكر أن تغدرا
1 الكرب: أصول السعف الغلاظ التي تيبس فتصير مثل الكتف.
2 الأغاني 23: 103.
3 الأغاني 23: 103، وخزانة الأدب 2:548.
4 كانت أم سويد قبل أبي كاهل عند رجل من بني ذبيان، فمات عنها فتزوجها أبو كاهل، وكانت فيما يقال حاملا، فلما ولدت استلحق أبو كاهل ولدها، وسماه سويدا، فكان سويد إذا غضب على بني يشكر ادعى إلى بني ذبيان، وإذا رضي عنهم أقام على نسبه فيهم "1 انظر الأغاني 13: 103"
5 الشعر والشعراء 1: 430، والأغاني 15:384.
ولم يكد يسمع أن الفرزدق هم بهجاء عبد القيس، حتى انبرى له يهجوه متهما إياه بأنه مغلب، وأن من هجوه لم يدعوا معطنا يهجم عليه منه، وأنه إن هجا العبديين فلن يؤثر عليهم، فهم كالبحر يظل له صفاؤه مهما قذف فيه يقول1:
وما ترك الهاجون لي إن هجوته
…
مصحا أراه في أديم الفرزدق
ولا تركوا لحما يرى فوق عظمه
…
لآكله أبقوه للمتعرق2
سأكسر ما أبقوا له من عظامه
…
وأنكت مخ الساق منه فأنتقي3
وإنا وما تهدي لنا إن هجوتنا
…
لكالبحر مهما يلق في البحر يغرق
فامتنع الفرزدق عن هجائهم، خوفا من معرة لسانه.
كذلك اشتبك بكعب الأشقري في خراسان، حين تضاربت منافع الأزد وعبد القيس، واشتعلت الحرب بينهم، فسلط على كعب أسواط هجائه، ولم يزل به وبالأزد حتى وضع من كبريائهم وفيه يقول4:
إذا عذب الله الرجال بشعرهم
…
أمنت لكعب أن يعذب بالشعر
ويقول في الأزد ساخرا منهم5:
أتتك الأزد تعثر في لحاها
…
تساقط من مناخرها الجواف6
ويقول فيهم نافيا عنهم كل صفات الخير والصدق7:
1 طبقات فحول الشعراء ص: 695، والشعر والشعراء 1: 431، والأغاني 15: 393، ومعجم الأدباء 11: 169، وخزانة الأدب 4:192.
2 المتعرق: الذي يأخذ اللحم من العظم بأسنانه.
3 نكت العظم: جذب طرفه بشيء ليخرج مخه. وانتقى العظم: استخرج نقيه: أي مخه.
4 الشعر والشعراء 1: 432، والأغاني 15:393.
5 الشعر والشعراء 1: 432، والأغاني 15:394.
6 الجواف: نوع من السمك.
7 الشعر والشعراء 1: 433، والأغاني 15:393.
قبيلة خيرها شرها
…
وأصدقها الكاذب الآثم
وضيفهم وسط أبياتهم
…
وإن لم يكن صائما صائم
ولم يكتف بهجاء الأزد وحدهم، انتقاما لمواليه منهم، فقد هجا أيضا بعض القبائل اليمنية مثل جرم. وفيها يقول متهما لها بالخمول والصغار، وكثرة المعايب، وفشو المثالب، ومترفعا عن الرد عليها، والتصدي لها1:
إني لأكرم نفسي أن أكلفها
…
هجاء جرم وما يهجوهم أحد
ماذا يقول لهم من كان هاجيهم؟
…
لا يبلغ الناس ما فيهم ولو جهدوا
ويقول هاتفا بمجونها، وإدمانها الخمر بعد إسلامها:2
تكلفني سويق الكرم جرم
…
وما جرم وما ذاك السويق
فما شربوه إذ كانت حلالا
…
وما غالوا بها في يوم سوق
فأوتي ثم أولى ثم أولى
…
ثلاثا يا بن جرم أن تذوقي
ولما نزل التحريم فيها
…
إذا الجرمي عنها لا يفيق
ويقول في أبي قلافة الجرمي واصما له بأنه مثير للفتن، وأن قومه من أوباش الناس وأرذالهم، فهم محدثون منبوذون مهينون3:
قم صاغرا يا كهل جرم فإنما
…
يقال لكهل الصدق قم غير صاغر
فإنك شيخ ميت ومورث
…
قضاعة ميراث البسوس وقاشر4
قضى الله خلق الناس ثم خلقتم
…
بقية خلق الله آخر آخر
1 طبقات فحول الشعراء ص: 698.
2 طبقات فحول الشعرا ص: 698، والشعر والشعراء 1: 433، ووفيات الأعيان "تحقيق إحسان عباس" 2: 486، واللسان: سوق.
3 الأغاني 15: 394، وشرح الشواهد الكبرى لعيني محمود 2:420.
4 قاشر: فحل مشئوم.
فلم تسمعوا إلا بمن كان قبلكم
…
ولم تدركوا إلا مدق الحوافر1
وأنتم أولى جئتم مع البقل والدبى
…
فطار وهذا شخصكم غير طائر2
ومن أنتم إنا نسينا من أنتم
…
وريحكم من أي ريح الأعاصر
فلو رد أهل الحق من مات منكم
…
إلى حقه لم تدفنوا في المقابر
وله مرثية واحدة تبلغ خمسين بيتا رثى بها المغيرة بن المهلب، وقد مات حتف أنفه بمرو الشاهجان. ويقول أبو الفرج الأصفهاني:"إنها من نادر الكلام، ونقي المعاني، ومختار القصيد، وإنها معدودة من مراثي الشعراء ومقدمها في عصر زياد"3 ويصفها ابن خلكان بأنها "من غرر القصائد ونخبها"4. وقد أوردها أبو علي القلي كاملة. وهو يتفجع فيها على المغيرة ويحصي مناقبه من إباء ومضاء وسخاء، ويعزي أباه عنه. ومنها قوله5:
قل للقوافل والغزي إذا غزوا
…
والباكرين وللمجد الرائح6
إن المروءة والسماحة ضمنا
…
قبرا بمرو على الطريق الواضح
فإذا مررت بقبره فاعقر به
…
كوم الهجان وكل طرف سابح7
وانضح جوانب قبره بدمائها
…
فلقد يكون أخا دم وذبائح
يا من بمهوى الشمس من حي إلى
…
ما بين مطلع قرنها المتنازح8
1 لم تدركوا إلا مدق الحوافر: أي كنتم أذلة يطؤكم كل حافر.
2 الدبى: صغار الجراد. وهو يرميهم بأنهم لا أصل لهم.
3 الأغاني 15: 381.
4 ابن خلكان 4: 426.
5 ذيل الأمالي ص: 7-9 وابن خلكان 4: 426، والأغاني 15: 381، ومعجم الأدباء 11: 170، وخزانة الأدب 4:192.
6 الغزي: اسم جمع للغازي.
7 الكوم: جمع كوماء، وهي الناقة العظيمة السنام. والهجان: البيض الكرام. والطرف: الكريم من الخيل.
8 المتنازح: المتباعد.
مات المغيرة بعد طول تعرض
…
للموت بين أسنة وصفائح
والقتل ليس إلى القتال ولا أرى
…
حيا يؤخر للشفيق الناصح
فشخصية زياد -كما تظهرها -أشعاره- شخصية غريبة، فيها التناقض والغموض والتمرد. فهو من ناحية تمثل الحياة العربية بكل تقاليدها، وحذق تاريخ العرب في الجاهلية، وألم بمحامدهم ومثالبهم إلماما واسعا، وانتسب إلى عبد القيس وافتخر بموالاته لهم، وندب نفسه للمحاماة عنهم، ووبخ كل من أساء إليهم، سواء من الأزد وبكر أو من تميم.
وهو من ناحية ثانية كان يتزيا بزي وطنه، فكان يخرج بخراسان، وعليه قباء ديباج، تشبها بالأعاجم1، وتمسكا بأصله القديم، وإحياء لتراث بلده وأهله، كما كان مولعا بالشرب، مستهترا بمعاقرة الخمر2.
وهو من ناحية ثالثة كان فيه حدة وثورة وتطرف. فكان لا يتلبث، ولا يتريث، ولا يتأدب ولا يتعفف حتى مع أكبر الشخصيات من الولاة والأمراء. فقد كان إذا مدحهم وسألهم وقصروا في صلته يتحول إلى هجائهم أشنع هجاء.
ولعل نزقه وحمقه، وتبدله وتقلبه تكشف عن قلقه وتشككه في وضعه ووضع أمثاله من الموالي، ولعل إفحاشه في الهجاء، وإسفافه فيه، واستخدامه أبذأ الألفاظ، وأبشع السباب، تعكس ما كان يعتمل في صدره من الغضب على العرب، وقصده إلى تحقيرهم وإهانتهم بطريقة ملتوية.
أما شعره فواضح أنه استغرقه في المديح والهجاء. والقدماء يقولون: "إنه كان شاعرا جزل الشعر، فصيح الألفاظ، على لكنة لسانه، وجريه على لفظ أهل بلده"3. وهو حكم فيه شيء من المبالغة، إلا إذا كان أكثر شعره الجيد قد فقد. فإن ما بقي من شعره قصير مهلهل، إلا مرثيته الحائية لابن المهلب. وليس من شك
1 الأغاني 15: 384.
2 الأغاني 15: 383، 384، وخزانة الأدب 4:194.
3 الأغاني 15: 380، وفحوله الشعراء، للأصمعي ص: 31، وخزانة الأدب 4:193.
في أن توتره وقلقه وتعجله لم تسمح له بتطويل مقطوعاته، ولا بتنقيحها وتمحيصها، ومن أجل ذلك جاءت صغيرة ركيكة، وكثرت فيها الضرورات، بل انتشرت بها الأخطاء النحوية، والعروضية القبيحة المزرية.
وكما كان أسلوبه ضعيفا، كذلك كانت معانيه في المديح والهجاء محدودة. بل إن المديح قليل في شعره1، على الرغم من أنه كان بضاعته التي طوف بها في الآفاق، وعلى الرغم من أنه جعله متجرا يتنقل به في الأمصار والولايات ليصيب منه مكسبا وربحا كبيرا. فهو يرجع فيه معاني ضئيلة متداولة، قوامها النسب والنجدة والكرم. أما الهجاء فهو أكثر شعره2. ومع مهارته فيه، فإنه يؤخذ عليه أنه عمد إلى معان معدودة كررها في معظم أهاجيه، فهو دائما يهجو بالضعة والطروء، واللؤم، والبخل، والجبن، والهوان.
1 طبقات فحول الشعراء ص: 693.
2 طبقات فحول الشعراء ص: 693.