المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌شاعر تميمي سوي متبصر: - الشعر في خراسان من الفتح إلى نهاية العصر الأموي

[حسين عطوان]

الفصل: ‌شاعر تميمي سوي متبصر:

‌شاعر تميمي سوي متبصر:

المغيرة بن حبناء 1:

هو شاعر بني تميم بخراسان، ومن أسرة عرفت بنظم الشعر، فأبوه جبير بن عمرو شاعر، وأخواه صخر ويزيد شاعران، وثانيهما من الخوارج. وحبناء لقب غلب على أبيه لورم أصابه في بطنه2، ويزعم الآمدي أن حبناء أمه3. ويقول المرزباني إن اسمها ليلى4.

والمغيرة من مواليد البصرة، حيث كان أبوه ينزل بها مع قومه، ويروي أنه غضب عليهم في بعض الأمر، فجلا إلى نجران، وحمل معه أهله وعياله، وأقام بها مدة اعتدى فيها غلام على ابنه المغيرة، فناقشته زوجته في مقامهم بنجران وما لحقهم من الذل، لاغترابهم عن قومهم وديارهم، فاستجاب لها ورجع إلى البصرة5.

1 انظر أخباره في الشعر والشعراء 1: 406، والاشتقاق ص: 220، والأغاني "طبعة دار الكتب" 13: 84، والمؤتلف والمختلف ص: 148، ومعجم الشعراء ص: 273، وسمط الآلي 2: 715، وشرح شواهد المغني 1: 497، وخزانة الأدب 3:600.

2 الاشتقاق ص: 220، والأغاني 13: 84، وسمط الآلي 2: 715، وشرح شواهد المغني 1:497.

3 المؤتلف والمختلف ص: 148.

4 معجم الشعراء ص: 273، وقد ذكر المغيرة في شعره أن اسم أمه هو ليلى "الأغاني 13: 97".

5 الأغاني 13: 98.

ص: 269

وعندما كبر المغيرة انتظم في سلك الجندية، وغدا فارسا من فرسان المهلب بن أبي صفرة، في أثناء منازلته للأزارقة، وشاعرا من شعرائه، فمدحه مديحا معجبا سجل فيه فتوته، وما نهض به من عمل ضخم، وهو يجالد الأزارقة، ويوقع بهم في الأهواز وسابور1. فأكرمه، وأجزل له العطاء، فرجع إلى أهله وقد ملأ كفيه بجوائزه وصلاته والفوائد منه2.

ولما ولي المهلب خراسان خرج معه إليها، وأصبح هو وكعب الأشقري، وثابت قطنة وزياد الأعجم شعراءه المقربين، الذين يحيطون به، ولا يفارقون مجلسه. وكررنا مرارا أنه امتعض لتقديم المهلب زيادا عليه، وعلى كعب الأشقري، مع أنه لم يكن أغناهم في الحرب، ولا أفضلهم شعبا، ولا أصدقهم ودا، ولا أفصحهم لسانا3. فتحدى زيادا واصطدم به، فاستعر الهجاء بينهما، فأكثر كل واحد منهما على صاحبه وأفحش، ولم يغلب أحد منهما صاحبه، كانا متكافئين في مهاجاتهما، ينتصف كل واحد منهما من صاحبه"4.

واستمر المغيرة يعيش بخراسان بعد وفاة المهلب، والتف حول ولديه: يزيد والمفضل، ومحضهما محبته وإخلاصه5، ومدحهما، حتى سماه المرزباني "شاعر المهلب الذي أنفذ شعره في مدحه ومدح بنيه، وذكر حروبهم للأزارقة"6.

وحين أقصي المهالبة عن خراسان، واستعمل عليها قتيبة بن مسلم، تحول المغيرة إليه، وصار من مغاويره البارزين، المتحمسين، إذ اشترك في عدد من حملاته على طخارستان وما وراء النهر، ونوه به في قصيدتين يوم أن قضى على نيزك طرخان، سنة إحدى وتسعين7.

1 الأغاني 13: 86، 87.

2 الأغاني 13: 96.

3 الأغاني 13: 90.

4 الأغاني 13: 84.

5 الأغاني 13: 100.

6 معجم الشعراء ص: 273.

7 الطبري 8: 1223، 1226.

ص: 270

ويجمع القدماء على أنه استشهد يوم نسف1. ومعروف أن قتيبة أغار على نسف سنة إحدى وتسعين2، مما يقطع بأنه جاد بروحه في تلك السنة.

ويمكن أن نقسم شعره قسمين: الأول الشعر التقليدي، هو يحتوي على مدائحه، والثاني الشعر الذاتي، وهو يحتوي على كل ما عبر به عن علاقته بغيره من الشعراء، أوبأفراد أسرته، وكل ما أفصح فيه عن تجربته في الحياة، وما اكتسبه من الحكمة.

ومن أول ممدوحيه طلحة بن عبد الله الخزاعي: "أجود أهل البصرة في زمانه غير مدافع"3. ونراه يتضجر في قصيدة من تناسيه له، وتجاهله عليه، ويجهر بأنه إن كان سكت على تقصيره في مكافأته تقصيرا أزرى به، فإنه لن يسكت على ذلك طويلا، بل سيعامله معاملة الند للند، فإن أحسن إليه أخلص له، وإلا فإنه لن يحرص على صداقته، يقول1:

لقد كنت أسعى في هواك وأبتغي

رضاك وأرجو منك ما لست لاقيا

وأبذل نفسي في مواطن، غيرها

أحب، وأعصى في هواك الأدانيا

حفاظا وتمسيكا لما كان بيننا

لتجزيني ما لا إخالك جازيا5

رأيتك ما تنفك منك رغيبة

تقصر دوني أو تحل ورائيا6

أراني إذا استمطرت منك رغيبة

لتمطرني عادت عجاجا وسافيا7

وأدليت دلوي في دلاء كثيرة

فأبن ملاء غير دلوي كما هيا

ولست بلاق ذا حفاظ ونجدة

من القوم حرا بالخسيسة راضيا

فإن تدن مني تدن منك مودتي

وإن تنأ عني تلفني عنك نائيا

1 الاشتقاق ص: 220، والأغاني 13: 101، وسمط الآلي 2:715.

2 الطبري 8: 1227.

3 الاشتقاق ص: 475.

4 الأغاي 13: 84.

5 التمسيك: الصيانة.

6 تقصر دوني: لا تصل إلي.

7 استمطر رغيبة: طلب. والعجاج: الغبار. والسافي: الريح تحمل التراب. أو الغبار نفسه.

ص: 271

فحباه طلحة عطية سنية، وهدية نفيسة، فمدحه بمقطوعة أشاد فيها بشرف قومه، واتصال معروفهم، وأنفتهم وحميتهم، وتفوقهم على غيرهم، يقول1:

أرى الناس قد ملوا الفعال ولا أرى

بني خلف إلا رواء الموارد

إذا نفعوا عادوا لمن ينفعونه

وكائن ترى من نافع غير عائد

إذا ما انجلت عنهم غمامة غمرة

من الموت أجلت عن كرام مذاود2

تسود عطاريف الملوك ملوكهم

وماجدهم يعلو على كل ماجد

وفرق كبير بين المقطوعتين السالفتين اللتين لهج بهما المغيرة في أول عهده بالشعر، فبدا فيهما التكلف والضعف وبين مديحه للمهلب الذي يتصف بالقوة والنصاعة، وتتجلى فيه موبهته الفنية، وخياله الرائع. واستمع إليه يمدحه، وقد هزم قطري بن الفجاءه بسابور، وجلس للناس، فدخل إليه وجوههم يهنئونه، وقامت الخطباء فأثنت عليه، ومدحته الشعراء، ثم قام المغيرة في أخرياتهم يقول معارضا قصيدة كعب الأشقري الرائية التي أنشدها الحجاج بن يوسف معارضة تظهر تأثره به، وأخذه عنه، ولكنها تظهر كذلك تحويره في كثير مما استوحى منه، وصياغته له صياغة جديدة متميزة، وإضافته إليه إضافات بديعة في المعنى، يقول3:

حال الشجا دون طعم العيش والسهر

واعتاد عينك من إدمانها الدرر

واستحقبتك أمور كنت تكرهها

لو كان ينفع منها النأي والحذر4

وفي الموارد للأقوام تهلكة

إذا الموارد لم يعلم لها صدر5

ليس العزيز بمن تغشى محارمه

ولا الكريم بمن يجفى ويحتقر

حتى انتهى إلى قوله:

1 الأغاني 13: 85.

2 الغمرة: الشدة. والمذاود: جمع مذود، وهو الكثير الذود والدفع عن العشيرة.

3 الأغاني 13: 86.

4 استحقب: ادخر.

5 موارد الأمور: مداخلها. والصدر: المخرج.

ص: 272

أمسى العباد بشر لا غياث لهم

إلا المهلب بعد الله والمطر

كلاهما طيب ترجى نوافله

مبارك سيبه يرجى وينتظر

لا يجمدان عليهم عند جهدهم

كلاهما نافع فيهم إذا افتقروا

هذا يذود ويحمي عن ذمارهم

وذا يعيش به الأنعام والشجر

واستسلم الناس إذ حل العدو بهم

فلا ربيعتهم ترجى ولا مضر

وأنت رأس لأهل الدين منتخب

والرأس فيه يكون السمع والبصر

إن المهلب في الأيام فضله

على منازل أقوام إذا ذكروا

حزم وجود وأيام له سلفت

فيها يعد جسيم الأمر والخطر

ماض على الهول ما ينفك مرتحلا

أسباب معضلة يعيا بها البشر1

سهل الخلائق يعفو عن قدرته

منه الحياء ومن أخلاقه الخفر

شهاب حرب إذا حلت بساحته

يخزى به الله أقواما إذا غدروا

تزيده الحرب والأهوال إن حضرت

حزما وعزما ويجلو وجهه السفر

ما إن يزال على أرجاء مظلمة

لولا يكفكفها عن مصرهم دمروا2

سهل إليهم حليم عن مجاهلهم

كأنما بينهم عثمان أو عمر

كهف يلوذون من ذل الحياة به

إذا تكنفهم من هولها ضرر3

أمن لخائفهم فيض لسائلهم

ينتاب نائله البادون والحضر

فما أتى على آخرها حتى خلب لبه، فإذا هو يردد "هذا والله الشعر، لا ما نعلل به". وإذا هو يأمر له بعشرة آلاف درهم، ويزيده في عطائه خمسمائة درهم4.

وواضح أنه تحدث في قصيدته عما نزل بالناس في البصرة من شقاء على أيدي

1 مرتحلا: راكبا.

2 يكفكفها: يردها: ودمروا: هلكوا.

3 تكنفهم: أحاط بهم.

4 الأغاني 13: 87.

ص: 273

الأزارقة، وكيف أن جميع القبائل قعدت عن مجابهتهم، حتى بادر المهلب إليهم، فطاردهم وقهرهم ووقى الناس بلائهم كما تحدث عن صفات المهلب الخلقية الرفيعة من إباء في النفس وقوة في الإرادة وصلابة في العزيمة، وسماحة في الطبع، فإذا هو عنده نظير عثمان أو عمر في سياسته لرعيته، إذ كان يصفح عن المخطئ، ويجير المذعور، ويواسي البائس.

وله قصيدة ثانية طويلة في مديح المهلب، كان سبب قوله إياها أن المهلب كان أنفذ بعض بنيه في جيش لقتال الأزارقة، وقد شذت منهم طائفة تغير على نواحي الأهواز، وهو مقيم يومئذ بسابور. فلما طال مقام المغيرة، واسقر الجيش، ولحق بأهله، فألم بهم، وقضى عندهم شهرا، ثم عاد وقد قفل الجيش إلى المهلب. فقيل له إن الكتاب خطوا على اسمه، وحذفوه من ديوان الجنيد، وكتبوا إلى المهلب أنه عصا وفارق مكتبه بغير إذن فسار إلى المهلب، حتى لقيه فاعتذر إليه، فعذره وأمر بإطلاق عطائه، وإزالة العتب عنه. فأنشده قصيدته التي ذكر في مقدمتها أن حنينه إلى موطنه وأهله قد غلبه، وأنه إنما رجع من الأهواز إلى البصرة لتشوقه إلى زوجته، فهو إنسان كغيره من الناس له عاطفته وغريزته، وهو لا يصبر على التجمير في الغزو طويلا. ثم انتقل منها، وأخذ يغني المهلب بأسه وجوده، وانتصاراته، وقيامه بحماية الناس في الفتن والمحن، وتحقيقه الأمن والسلامة لهم في النائبات والضائقات، يقول1:

أمن رسوم ديار هاجك القدم

أقوت وأقفر منها الطف والعلم2

وما يهيجك من أطلال منزلة

عفى معالمها الأرواح والديم

بئس الخليفة من جار تضن به

إذا طربت أثافي القدر والحمم3

دار التي كاد قلبي أن يجن بها

إذا ألم به من ذكرها لمم4

1 الأغاني 13: 87، والكامل للمبرد 3:413.

2 أقوت: خلت واندثرت. والطف: ما أشرف من أرض العرب على رديف العراق. والعلم: جبل.

3 الحمم: جمع حمة، وهي الفحم.

4 اللمم: الجنون.

ص: 274

والبين حين يروع القلب طائفه

يبدي ويظهر منهم بعض ما كتموا1

إني امرؤ كفني ربي وأكرمني

عن الأمور التي في غبها وخم2

وإنما أنا إنسان أعيش كما

عاش الرجال وعاشت قبلي الأمم

ما عاقني عن قفول الجند إذ قفلوا

عي بما صنعوا حولي ولا صمم

ولو أردت قفولا ما تجهمني

إذن الأمير ولا الكتاب إذ رقموا

إني ليعرفني راعي سريرهم

والمحدجون إذا ما ابتلت الحزم3

والطالبون إلى السلطان حاجتهم

إذا جفا عنهم السلطان أو كزموا4

فسوف تبلغك الانباء إن سلمت

لك الشواحج والأنفاس والأدم5

إن المهلب إن أشتق لرويته

أو امتدحه فإن الناس قد علموا

إن الكريم من الأقوام قد علموا

أبو سعيد إذا ما عدت النعم

والقائل الفاعل الميمون طائره

أبو سعيد وإن اعداؤه زعموا6

كم قد شهدت كراما من مواطنه

ليست بغيب ولا تقوالهم زعموا7

أيام أيام إذ عض الزمان بهم

وإذ تمنى رجال أنهم هزموا

وإذ يقولون ليت الله يهلكهم

والله يعلم لو زلت بهم قدم

أيام سبور إذ ضاعت رباعتهم

لولاه ما أوطنوا دارا ولا انتقموا8

إذ ليس شيء من الدنيا نصول به

إلا المغافر والأبدان واللجم9

1 الكظم: مخرج النفس.

2غبها: عاقبة فعلها. والوخم: المكروه.

3 المحدجون: الذين يشدون الأحداج وهي الهوادج على الإبل.

4 كزموا: هابوا.

5 الشواحج: البغال. والأدم: النوق.

6 رغموا: ذلوا كارهين.

7 ولا تقوالهم زعموا: القول المزعوم زورا وبهتانا.

8 رباعتهم: أمرهم الذي كانوا عليه.

9 المغافر: جمع مغفر، وهو زرد ينسج على قدر الرأس، يلبسها الرجل تحت البيضة، وتسبغ على العنق فتقيه. والأبدان: الدروع القصيرة.

ص: 275

وعاترات من الخطي محصدة

نفضي بهن إليهم ثم ندعم1

ويقول في يزيد بن المهلب مثنيا على كماله الجسمي والخلقي، وأنه من أسرة مشهورة برزانة عقولها، وكبر هممها، وتعويل الناس في المحن عليها2:

جميل المحيا بختري إذا مشى

وفي الدرع ضخم المنكبين شناق3

شديد القوى من أهل بيت إذا وهى

من الدين فتق حملوا فأطاقوا

مراجيح في اللأواء إن نزلت بهم

ميامين قد قادوا الجيوش وساقوا

ويقول في المهالبة مشيدا بأصالة أنسابهم وعراقتها، ومتانة عزائمهم وشدتها، وعظم انتصاراتهم وروعتها، مما أثار الحاسدين لهم، وأغضب الحاقدين عليهم4:

إن المهالب قوم إن مدحتهم

كانوا الأكارم آباء وأجدادا

إن العرانين تلقاها محسدة

ولن ترى للئام الناس حسادا5

وأما شعره الذاتي فمنه ما افتخر فيه بشخصيته، كهذين البيتين رد بهما على المفضل بن المهلب حين عيره بالبرص، معتدا بنسبه، ومحتجا لبرصه، وأنه من محاسنه لا من معايبه، وغامزا المفضل في نسبه من جهة أمه وأبيه، إذ يقول فيها6:

إني امرؤ حنظلي حين تنسبني

لام العتيك ولا أخوالي العوق7

1 العاترات: الرماح المضطربة للينها. والمحصدة: المحكمة الصنعة. وندعم: نتكئ فيها ونتخذها دعامة.

2 الأغاني: 13: 100.

3 البختري: حسن المشي. والشناق: الطويل.

4 معجم الشعراء ص: 273.

5 عرانين الناس: وجوههم وأشرافهم.

6 الحيوان 5: 165، والشعراء 1: 406 وعيون الأخبار 4: 66، والأغاني 13: 91، وأمالي القالي 2: 231، والمؤتلف والمختلف ص: 149، وسمط الآلي 2:716.

7 العتيك: قبيلة من الأزد. والعوق: قوم من بني يشكر كانوا أخوال المفضل، كما يقول أبو الفرج الأصفهاني "الأغاني 13: 91" وهم من عبد القيس، كما يقول ابن دريد "الاشتقاق ص: 333". ويزعم الآمدي أنهم قوم من أزد عمان. "والمؤتلف والمختلف ص: 149".

ص: 276

لا تحسبن بياضا في منقصة

إن اللهاميم في ألوانها بلق1

وله قصيدة رائية يتمدح فيها بسعة صدره وأخذه قريبه أو مولاه بالعنف، إن كان في أخده به فائدة، ونجدته له في الشدة، ومجازاته لغيره بمثل ما يجازيه به، وصفحه عن المسيء إليه إن كان في صفحه عنه مكرمة، وإخراسه للأحمق وقهره له، وصبره على المكروه، ونجاته منه، وتوسله لإدراك غايته، واحتياله لبلوغ ما يصعب عليه بلوغه من أمانيه، يقول2:

إذا أنت عاديت امرءا فاظفر به

على عثرة إن أمكنتك عواثره3

وقارب إذا لم تجد لك حيلة

وصمم إذا أيقنت أنك عاقره

إذا المرء أولاك الهوان فأوله

هوانا وإن كانت قريبا أواصره

فإن أنت لم تقدر على أن تهينه

فذره إلى اليوم الذي أنت قادره

وقد يعلم المولى على ذاك أنني

إذا ما دعا عند الشدائد ناصره

وإني لأجزي بالمودة أهلها

وبالشر حتى يسأم الشر حافره

وأغضب للمولى فأمنع ضيمه

وإن كان عشا ما تجن ضمائره

واحلم ما لم ألق في الحلم ذلة

وللجاهل العريض عندي مزاجره5

وإني لخراج من الكرب بعدما

تضيق على بعض الرجال حظائره

حمول لبعض الأمر حتى أناله

صموت عن الشيء الذي أنا ذاخره

ويدخل في شعره الذاتي الهجاء الذي سلطه على زياد الأعجم، في الخصومة

1 اللهاميم: جمع لهموم، وهو الجواد من الخيل.

2 أمالي القالي 2: 228، ومعجم الشعراء ص: 273، والتنبيه على أوهام أبي علي في أماليه ص:119.

3 أظفر به: أعلق ظفرك به. ويروى: اطفر له، وهو بنفس المعنى. أو من الطفر، وهو الوثب.

4 الوغم: القهر. وأخاصره: أبطله. وألبس المولى: أحتمله وأقبله.

5 العريض: الذي يتعرض الناس بالشر.

ص: 277

الفنية التي هاجت بينهما بمجلس المهلب، لتسابقهما إلى المكانة الأدبية. ومنه قوله وقد استعدى العبديون زيادا عليه1:

يقولون ذبب يا زياد ولم يكن

ليوقظ في الحرب الملمة نائما

ولو أنهم جاءوا به ذا حفيظة

فيمنعهم أو ماجدا أو مراغما2

ولكنهم جاءوا بأقلف قد مضت

له حجج سبعون يصبح رازما3

لئيما ذميما أعجميا لسانه

إذا ما نال دنا لم يبال المكارما

وما خلت عبد القيس إلا نفاية

إذا ذكر الناس العلا والعظائما

إذا كنت للعبدي جارا فلا تزل

على حذر منه إذا كان طاعما

أناسا يعدون الفساء لجارهم

إذا شبعوا عند الجباة الدراهما

من الفسو يقضون الحقوق عليهم

ويعطون مولاهم إذا كان غارما

لهم زجل فيه إذا ما تجاوبوا

سمعت زفيرا فيهم وهماهما4

أظن الخبيث ابن الخبيثين أنني

أسلم عرضي أو أهاب المقاوما

لعمرك لا تهدى ربيعة للحجا

إذا جعلوا يستنصرون الأعاجما

فهو يستهين به وبمواليه استهانة لاذعة، إذ أنكر عليه أن يكون ذا شأن في الحرب والسلم، وقذفه بارتكاب الكبائر، لإدمانه الخمر، ثم عطف على العبديين الذين استصرخوه عليه، وأغروه به، وهم يعلمون أنه لن يقدم لهم نفعا، فجرحهم تجريحا، إذ دمغهم بأنهم من أرذال الناس، وأنهم لا يحفظون حرمة، وشنع عليهم باتهامه إياهم بأنهم يسدون بفسائهم حاجات جيرانهم، ويدفعون من مغارمهم، ويؤدون ديونهم!!

وبذلك أذل المغيرة العبديين، وفضحهم بين الناس، وأضحكهم منهم، فأتوه

1 الأغاني 13: 94.

2 المرغم: المغاضب.

3 الأقلف: الذي لم يظهر. والرازم: الذي لا يقدر على النهوض ولا يتحرك هزالا وإعياء.

4 الزجل: الصوت. والهماهم: تردد الزئير في الصدر.

ص: 278

معتذرين وراجين أن يقلع عن التعريض بهم، وعرفوه أنهم خلعوا زيادا حتى لا يسبوا به. فاستغل تحللهم منه، وراح يعيره بأنه هان عليهم حتى لفظوه، وأن تنصلهم منه، شاع في معسكرات الجنود، وفشا في المساجد، فاحتقره الناس وتحاموه. ثم هجم عليه من ناحية نسبه وأصله، فغمزه بأنه نصراني بل مشرك، وأن بناته لم يختتن، وأنهن جوار ممتهنات مبتذلات، فقيرات معدمات، وأنهن يعملن لكي يتعيشن، وبعد كل هذه السخرية ادعى أنه يكرم نفسه ويجلها عن الرد عليه، فهو ذمي لا قيمة له، وإن قتله لم يقتل به. وذلك قوله1:

لعمرك إني لابن زروان إذ عوى

لمحتقر في دعوة الود زاهد

وما لك أصل يا زياد تعده

وما لك في الأرض العريضة والد

ألم تر عبد القيس منك تبرأت

فلاقيت ما لم يلق في الناس واحد

وما طاش سهمي عنك يوم تبرأت

لكيز بن أفصى منك والجند حاشد

ولا غاب قرن الشمس حتى تحدثت

بنفيك سكان القرى والمساجد2

فاصبحت علجا من يزرك ومن يزر

بناتك يعلم أنهن ولائد

وأصبحت قلفا يغتزلن بأجرة

حواليك لم تجرح بهن الحدائد

نفرن من الموسى وأقررن بالتي

يقر عليها المقرفات الكواسد3

باصطخر لم يلبسن من طول فاقة

جديدا، ولا تلقى لهن الوسائد

وما أنت بالمنسوب في آل عامر

ولا ولدتك المحصنات المواجد

ولا ربيتك الحنظلية إذ غذت

بنيها ولا جيبت عليك القلائد4

ولكن عذاك المشركون وزاحمت

قفاك وخديك البظور العوارد5

1 الأغاني 13: 95.

2 رفع المساجد لأنه جعل الفعل لها أي وتحدثت المساجد.

3 المقرفات: الهجينات.

4 ولا جيبت عليك القلائد: أي لم توضع.

5 العوارد: الغليظة الشديدة المنتصبة.

ص: 279

ولم أر مثلى يا زياد بعرضه

وعرضك يستبان والسيف شاهد

ولو أننى غشيتك السيف لم يقل

إذا مت إلا مات علج معاهد

وله أشعار تحدث فيها عن مشاكل أسرته وعلاقته بأخيه صخر، فحين عاد المغيرة من فارس إلى البصرة، وقد اغتنى بما أغدقه عليه المهلب من الهبات حسده أخوه صخر واتهمه بالبطر والأشر، وضج من كثرة تأنيبه له. فأجابه بأبيات لامه فيها لإهماله في العناية بضيفه، وتخاذله في الدفاع عن أبيه وأخذ عليه أنه يستمع أباطيل أمثاله من أقران السوء. ويصدق ما يرجفون به عن أخيه. يقول:1

لحا الله أنآنا عن الضيف بالقرى

وأقصرنا عن عرض والده ذبا

وأجدرنا أن يدخل البيت باسته

إذا القف دلى من مخارمه ركبا2

أأنبأك الأفاك عني أنني

أحرك عرضي إن لعبت به لعبا

وكان للمغيرة أخت، فشكت إليه أخاها صخرا، وذكرت له أنه أسرع في مالها وأتلفه، وأنها منعته شيئا يسيرا بقي لها فضربها، فوجه إليه المغيرة هذه الأبيات يذكره بحسن رعايته له، وشدة بره به، وأن من واجبه أن يصون أخته، ويصلها لا أن يسلبها مالها، ويتسلط عليها. وتمنى أن يمتثل لبعض نواهيه. يقول3:

ألا من مبلغ صخر بن ليلى

فإني قد أتاني من نثاكا4

رسالة ناصح لك مستجيب

إذا لم ترع حرمته رعاكا

وصول لو يراك وأنت رهن

تباع بماله بوما فداكا

يرى خيرا إذا ما نلت خيرا

ويشجي في الأمور بما شجاكا

فإنك لا ترى أسماء أختا

ولا ترينني أبدا أخاكا

1 الشعر والشعراء 1: 407، والأغاي 13: 96، وسمط الآلي 2:716.

2 الموقف: ما غلظ من الأرض. والمخارم: الطرق في الجبل.

3 الأغاني 13: 97، والمؤتلف والمختلف ص:149.

4 النثا: الحديث عن الرجل بالخير والشر، وهو هنا يقصد الشر.

ص: 280

فإن تعنف بها أو لا تصلها

فإن لأمها ولدا سواكا

يبر ويستجيب إذا دعته

وإن عاصيته فيها عصاكا

وكنت أرى بها شرفا وفضلا

على بعض الرجال وفوق ذاكا

جزاني الله منك وقد جزاني

ومني في معاتبنا جزاكا

وأعقب أصدق الخصمين قولا

وولى اللؤم أولانا بذاكا

فلا والله لو لم تعص أمري

لكنت بمعزل عما هناكا

وعندما أسرف صخر في سيرته السيئة، ولم يعزف عن مناقضه أخيه ومهاجمته، عجب المغيرة من صلاحه واستقامته، وفساد أخيه وانحرافه، وهما أخوان لأبوين، يقول1:

أبوك أبي وأنت أخي ولكن

تفاضلت الطبائع والظروف

وأمك حين تنسب أم صدق

ولكن ابنها طبع سخيف2

ثم إنه ضاق به، وراح يفكر في الهجرة من البصرة، والنزوح إلى الحجاز ليبتعد عنه، ويسلم من شره وأذاه، يقول3:

سأترك منزلي لبني يميم

وألحق بالحجاز فأستريحا

ومن شعره الذاتي ما أودعه حكمه التي استقاها من خبرته في الحياة. وهي تدور على ما يجب أن تكون عليه الصلة بين الفرد وعشيرته، والصديق وصديقه، وما ينبغي أن يكون عليه تصرف الإنسان بين أهله وجيرانه.

فهو حريص على قبيلته، معتصم بانتسابه إليها، حفيظ على شرفها، لا ينبت منها ولا يجرؤ على انتقاصها، ولا يعيب قريبه، ولا يبغي عليه، ولا ينفذ أمرا من أموره

1 الشعر والشعراء 1: 406، والأغاني 13: 100، والمؤتلف والمختلف ص:149.

2 الطبع: دنيء الخلق الذي لا يستحي من سوءه أو عيب.

3 شرح شواهد المغني 1: 497، وخزانة الأدب 3:600.

ص: 281

في الخفاء، ولا يختلس النظر إلى بيوت الناس، ولا يذمهم، خشية من عقاب الله، فإنه مطلع على كل شيء، محيط بكل غيب، يقول1:

أعوذ بالله من حال تزين لي

لوم العشيرة أو تدني من النار

لا أقرب البيت أحبو من مؤخره

ولا أكسر في ابن العم أظفاري2

إن يحجب الله أبصارا أراقبها

فقد يرى الله حال المدلج الساري3

وهو يدعو الرفيق إلى التغاضي عن هنات رفيقه وسقطاته، فليس من إنسان كامل في الوجود، والصاحب يحتاج إلى صاحبه، ولكنه يحترز من الخليل المتغير المتقلب، الذي يبدي خلاف ما يضمر، يقول4:

خذ من أخيك العفو واغفر ذنوبه

ولا تك في كل الأمور تعاتبه

فإنك لن تلقى أخاك مهذبا

وأي امرئ ينجو من العيب صاحبه

أخوك الذي لا ينقض النأي عهده

ولا عند صرف الدهر يزور جانبه

وليس الذي يلقاك بالبشر والرضا

وإن غبت عنه لسعتك عقاربه

ويضرب مثلا على ذلك معاملته لصديقه، فهو ينزل به منزلة نفسه، وهو يقسم له في راحلته ومؤونته، وهو يذهب إلى أن إحسانه إليه لا يجعل له يدا عليه، فإن اليد إنما تكون لصديقه لأنه قبل المعروف منه، يقول5:

إذا ما رفيقى لم يكن خلف ناقتى

له مركب فضل فلا حملت رحلى

ولم يك من زادي له نصف مزودي

فلا كنت ذا زاد ولا كنت ذا رحل

1 الكامل للمبرد 1: 103، والحماسة البصرية 2:55.

2 لا أقرب البيت أحبو من مؤخرة: أي لا أتيه لريبة. ولا أكسر في ابن العم أظفاري: أي لا أغتابه.

3 المدلج: الذى يسير أول الليل.

4 أمالي القالى: 2: 227، والحماسة البصرية 2:70.

5 الحماسة البصرية 2: 38.

6 المزود: وعاء الزاد.

ص: 282

شريكين فيما نحن فيه وقد أرى

علي له فضلا بما نال من فضل

وله مقطوعة طريفة يصف فيها حزنه على جارية له، اضطر إلى بيعها لعمر بن عبيد الله والي البصرة لابن الزبير، لأنه افتقر وابتأس، يقول1:

لولا قعود الدهر بي عنك لم يكن

يفرقنا سوى الموت فاعذري

أروح بهم في الفؤاد مبرح

أناجي به قلبا قليل التصبر

عليك سلام لا زيارة بيننا

ولا وصل إلا أن يشاء ابن معمر

فشخصية المغيرة -كما تصورها أشعاره- شخصية قويمة في تركيبها وسلوكها، فهو بريء من العقد القبلية المؤرقة، سليم من الأهواء السياسية المقلقة. فنحن لم نعثر له على موقف حابى فيه قومه أو تحامل على غيرهم إلا في القليل النادر2. وكأنما هذبت الجندية نفسه من رواسب العصبية الطائشة، والأنفة الزائدة، والحمية الفارغة، التي تستحيل مرضا نفسيا يشوش الذات ويمسخها، وشدته إلى الجماعة شدا، وربطته بالجهاد في سبيلها ربطا، إلا إذا استفر أو جرح في كرامته، فإنه كان يندفع للرد على من استثاره أو اعتدى عليه. أما بعد ذلك فهو شاعر فارس لا يفكر في نفسه، ولا في قبيلته، بل يفكر في الجهاد، ولا يقدر الرجال إلا بحقائقهم وأعمالهم. ولا جدال في أن وفاءه للمهالبة، واستهلاكه شعره في مديحهم حتى قيل إنه شاعرهم لا يدفع على تخليه عن العصبية القبلية، وشاهد لا يرفض على سماحة نفسه، ونضوج رأيه، فقد ناضل الأزارقة مع المهلب، وفيهم أبناء قبيلته أروع نضال، وقلده أبدع المدائح، وقاتل الترك مع قتيبة بن مسلم أبسل قتال، ونوه به أجمل تنويه. بذل دمه من أجل أمته وعروبته وعقيدته، كما أنه لم يكن مقتصدا منصفا شفافا في سلوكه العام، بل كان كذلك في سلوكه الخاص، في عائلته، وبين أصدقائه3.

1 أنساب الأشراف 5: 227، والأغاني 15: 389، دون هزو.

2 الطبري 7: 496.

3 الطبري 8: 1223، 1226.

ص: 283

ويدل ما بقي من شعره على أنه كان شاعرا موهوبا، فقد كان يعرف كيف يسترسل في قصائده المختلفة، سواء في المديح أو الهجاء، أو في الحديث عن ذاته وآرائه، مع مقدرته على عرض معاني المديح عرضا فخما يروع النفس، ويمتع الفؤاد، وإخراجه معاني الهجاء إخراجا فنيا ساخرا يلذع مهجوه لذعا، ومع استنباطه أندر المعاني وأطرفها في الرفقة والرفيق. ولا شك في أن بشارا استلهم منه أبياته البائية في الصداقة والصديق، بل إنه أخذ عنه أكثر معانيها وألفاظها1.

1 ديوان بشار 1: 306.

ص: 284