الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شاعر بكري مضطرب متحزب:
نهار بن توسعة 1:
هو أشعر بكر بخراسان، ولسنا نعلم شيئا عنه قبل ارتحاله إلى خراسان. ولكننا نفترض افتراضا أنه بصري المولد والمنشأ. وأول خبر بنيء بوجوده بخراسان يرجع إلى سنة اثنتين وثمانين، فقد توفي المهلب في هذه السنة، فرثاه بمقطوعة طارت في الآفاق، وتناقلها أكثر القدماء1، مما قد يستنتج منه أنه هاجر إلى خراسان في ولاية المهلب أو قبلها بقليل. ولم يخبرنا القدماء بشيء عنه في إمارة المفضل بن المهلب، ولا في إمارة أخيه يزيد. غير أنهم نقلوا بعضا من شعره يدل على ضيقه بصرف الحجاج بن يوسف المهالبة عن خراسان، وتعيينه قتيبة بن مسلم عليها، وأنه تشاءم بعهده وهجاه3.
وليس صحيحا ما يزعمه أبو علي القالي من أن قتيبة سخط عليه لرثائه المهلب، وأنه دخل عليه وهو يعطي الناس العطاء، فراجعه ثم تحاماه وأسقط اسمه من ديوان
1 انظر أخباره في الشعر والشعراء 1: 537، والمؤتلف والمختلف ص: 296، وأمالي القالي 2: 194، وجمهرة أنساب العرب ص: 315، وسمط الآلي 2: 817، ولنهار بن توسعة البكري ترجمة ضافية في الجزء السابع عشر من تاريخ دمشق المخطوط.
2 الطبري 8: 1084، وأمالي القالي 2: 192، وابن الأثير 4: 476، وياقوت 4: 506 وابن خلكان 4: 435.
3 الشعر والشعراء 1: 537، وفتوح البلدان ص: 402، والمؤتلف والمختلف ص: 296، وسمط الآلي ص: 817، وياقوت 1:843.
الجند، فلزم بيته حتى قتل قتيبة، وولي يزيد بن المهلب ولايته الثانية1، وإنما الصحيح أنه وجد عليه عند قدومه لندبه المهلب، وتعريضه به، وتطير منه، فطلبه فهرب، واستجار بأمه، فترضت له ابنها، فرضي عنه2. وأصدق دليل على ذلك أنه كان في عداد جيشه، وأنه ساهم في معظم غزواته، إذ كان معه يوم أن أغار على بخارى سنة تسع وثمانين3، وكان معه عندما سار إلى طخارستان وقتل نيزك طرخان سنة إحدى وتسعين4. وكان معه كذلك حين فتح سمرقند سنة ثلاث وتسعين5. وكان في كل غزوة من تلك الغزوات يقلده مدحة يكبر فيها عظمته، ويصور بها بطولته.
وعندما غدر بقتيبة، وعاد يزيد بن المهلب إلى حكم خراسان، أحاط نهار به، ولكنه يقبل منه تسفيهه للأزد، لما انطوى عليه من تسفيه لبكر، ولم يحتمل خيلاءه وصلفه، ولم يعجب بسياسته وما قامت عليه من تقريب لأهل الشام، واتكال على أهل خراسان، فتصدى له ينقده ويهجوه6.
ويستفاد من أشعاره أنه كان مهملا قاعدا في ولاية سعيد بن عبد العزيز الأموي، ولذلك فإنه عبر عن اغتباطه بعزل عمر بن هبيرة الفزاري له، واستعماله سعيد بن عمرو الحرشي بدلا منه7.
وتقل أخباره في الفترة الأخيرة من حياته، ولا يحمل القدماء منها إلا أطرافا يسيرة، منها أنه شهد مع الجنيد ابن عبد الرحمن المري موقعة الشعب بسمرقند سنة
1 أمالي القالي 2: 194.
2 الشعر والشعراء 1: 538، وسمط الآلي 2:817.
3 الطبري 8: 1198.
4 الطبري 8: 1226.
5 الطبري 8: 1251.
6 نقائض جرير والفرزدق 1: 368، والطبري 9:1313.
7 الطبري 9: 1437.
اثنتي عشرة ومائة، وأن الجنيد أرسله على رأس وفد إلى هشام بن عبد الملك بدمشق، ليشرح له حقيقة المعركة، وطبيعة الوضع بخراسان1. ويبدو أنه مكث بدمشق زمنا، ثم رجع إلى خراسان، إذ نراه مع أسد القسري ببلخ سنة عشرين ومائة2. ثم تنقطع أخباره مما يستنبط منه أنه توفي بعد هذا التاريخ.
وما بقي من شعره الذي كان مجموعا في ديوان مفرد3 مقطوعات ومختارات موزعة على عدة موضوعات. فمنه ما استغرقه في المديح، ومن ممدوحيه مسمع بن مالك بن مسمع من وجوه بكر وأعيانهم بالبصرة4 وفيه يقول واصفا له بأنه عصمة السائلين، وغياث المكروبين، وأنه صفوة النزاريين، وأشهر أجوادهم وأشرافهم المذكورين، وداعيا إياه أن يأخذ بأيدي البكريين5:
إظعني من هراة قد مر فيها
…
حجج مذ سكنتها وشهور
إظعني نحو مسمع تجديه
…
نعم ذو المنثنى6 ونعم المزور
سوف يكفيك إن نبت بك أرض
…
بخراسان أو جفاك أمير
من بني الحصن عامل بن بريح
…
لا قليل الندى ولا منزور
والذي يفزع الكماة إليه
…
حين تدمى من الطعان النحور7
قلدته عرى الأمور نزار
…
قبل أن تهلك السراة البحور1
فاصطنع يا بن مالك آل بكر
…
واجبر العظم إنه مكسور
1 الطبري 9: 1544.
2 الطبري 7: 1638.
3 المؤتلف والمختلف ص: 296.
4 جمهرة أنساب العرب ص: 320، والطبري 8: 882، 1125.
5 الأغاني "طبعة دار الكتب" 16: 19، وخزانة الأدب 2:485.
6 المثنى: الرجل الذي ينثني عنه قاصده بخير كثير. وفي خزانة الأدب: المنتأى، وهو المكان البعيد.
7 الكماة: جمع كمي، وهو الشجاع المقدام الجريء الذي لا يحيد عن قرنه، ولا يروغ عن شيء كان عليه سلاح أو لم يكن.
8 السراة: جمع سري، وهو الشريف.
ومنهم قتيبة بن مسلم، وفيه يقول مسحورا بشخصيته الجبارة، وانتصاره على الترك بسمرقند، ومأخوذا بكثرة ما يحوز من الأسلاب التي كان يوزعها على جنوده1:
ولا كان مذ كنا ولا كان قبلنا
…
ولا هو فيما بعدنا كابن مسلم
أعم لأهل الشرك قتلا بسيفه
…
وأكثر فينا مقسما بعد مقسم
ومنهم يزيد بن المهلب، وفيه يقول منوها بمعروف أبيه الذي كان يشمل به كل المستضعفين واليتامى، ومستعيضا عن بخل قتيبة وحفائه بيزيد وابنه مخلد، فإنهما كافياه ومغنياه2:
فإن يك ذنبي يا قتيبة انني
…
بكيت امرءا قد كان في الجود أوحدا
أبا كل مظلوم ومن لا أبا له
…
وغيث مغيبات أطلن التلددا3
فشأنك أن الله إن سؤت محسن
…
إلي فقد أبقى يزيد ومخلدا
فأعطاه مائة ألف درهم.
ومن شعره ما خصصه للهجاء. وهو يصدر فيه عن عصبية لقومه ولحلفائهم من الأزد، وذلك بين في هجائه لقتيبة بن مسلم، إذ يقول فيه وقد أقبل إلى خراسان، وزايلها يزيد بن المهلب4:\
1 الشعر والشعراء 1: 538، والتعازي والمراثي ص: 136، والطبري 8: 1251، وأمالي القالي 2: 194، وابن الأثير 4: 575، وابن خلكان 4:87.
2 التعازي والمراثي ص: 136، وأمالي القالي 2:199.
3 المغيبات: جمع مغيب ومغيبة، وهي المرأة التي غاب عنها زوجها أو أحد من أهلها وفي الأصل مغيثات. والتلدد: من تلدد إذا تلف يمينا وشمالا، وتحير متلبدا.
4 الشعر والشعراء 1: 537، وسمط الآلي 2: 817، ويقال: إن هذا البيت من أبيات لعبد الله بن همام السلولي. "انظر اللسان 6: 291، ومجموعة المعاني ص: 171". والأرجح أنه لنهار بن توسعة، لأن عبد الله بن همام السلولي لم يرحل إلى خراسان، ولأنه من قيس فلا يحتمل أن يهجو قتيبة بن مسلم الباهلي القيسي.
أقتيب قد قلنا غداة لقيتنا
…
بدل لعمرك من يزيد أعور1
ويقول مستهينا به، ومفضلا أيام ابن المهلب على أيامه في يمنها وبركتها وعموم خيرها2:
كانت خراسان أرضا إذ يزيد بها
…
وكل باب من الخيرات مفتوح
فبدلت بعده قتبا نطيف به
…
كأنما وجهه بالخل منضوح3
فهو يعيب قتيبة بعد مصرعه، ويطري المهالبة، زعماء الأزد، لأنهم حلفاء بكر، غير أنه لم يكن يتعصب لهم باستمرار، وإنما كان يميل إليهم، ويثني عليهم ما داموا يتمسكون بالحلف المعقود بينهم، ويحترمونه، وما داموا يخلصون لقومه، ويراعون مصالحهم، أما إذا تباعدوا عنهم، أو أهدروا حقوقهم، فكان ينبري لتجريحهم وتهديدهم، فقبيلته هي الأصل، ومنافعها هي الأهم. فحين أخر يزيد بن المهلب البكريين بعض التأخير، وعرض بهم أخف التعريض، صب نهار عليه ألذع هجائه صبا4. وحين أسرف في قطيعتهم، واحتجب عنهم، وعبس في وجوههم، واصطنع أهل الشام وخراسان واعتمد عليهم، لم يعاتبه عتابا رقيقا، ولم يلمه لوما لبيقا، بل وبخه توبيخا فاحشا، كما أنذره بتمرد البكريين عليه، وعملهم من أجل الإطاحة به إذا هو لم يطرح الشاميين والخراسانيين، يقول5:
وما كنا نؤمل من أمير
…
كما كنا نؤمل من يزيد
فأخطأ ظننا فيه وقدما
…
زهدنا في معاشرة الزهيد
1 بدل أعور: مثل يضرب للمذموم يخلف بعد الرجل المحمود.
2 الشعر والشعراء 1: 537، وفتوح البلدان ص: 402، والعقد الفريد 2: 146، والمؤتلف والمختلف ص: 296، وسمط الآلي 2: 817، وياقوت 1:834.
3 ينسب بعض الرواة البيتين مع ثلاثة أبيات أخرى إلى مالك بن الريب "انظر فتوح البلدان ص: 402، وياقوت 1: 843" والأرجح أن البيتين الأولين لنهار بن توسعة لأن مالكا لم يشهد عهد قتيبة بن مسلم، فقد توفي سنة ثمان وخسمين.
4 نقائض جرير والفرزدق 1: 368.
5 الطبري 9: 1313، وابن الأثير 5:25.
إذا لم يعطنا نصفا أمير
…
مشينا نحوه مثل الأسود
فمهلا يا يزيد أنب إلينا
…
ودعنا من معاشرة العبيد
نجيء فلا نرى إلا صدودا
…
على أنا نسلم من بعيد
ونرجع خائبين بلا نوال
…
فما بال التجهم والصدود
وندد أيضا باليمنيين من أصحاب أسد القسري عندما أبصرهم يتهالكون على الهدايا يوم المهرجان ببلخ، ويجتمعون لها، ويختفون في المآزق ويتضاءلون فيها، يقول1:
تقلون إن نادى لروع مثوب
…
وأنتم غداة المهرجان كثير2
إما الرثاء، فقليل فيما وصل إلينا من شعره، إذ لم يرو القدماء منه سوى مقطوعته البائية في رثاء المهلب، وسوى أبيات أخرى رثى بها أخاه، وهو يصف فيها حرقته ولهفته عليه، وما أصابه من الانكسار والهوان بعد وفاته، فقد كان له السند والمرشد في كل نازلة ونائبة، يقول3:
عتبان قد كنت امرءا لي جانب
…
حتى رزيتك والجدود تضعضع4
قد كنت أشوس في المقامة سادرا
…
فنظرت قصدي واستقام الأخدع5
وفقدت إخواني الذين بعيشهم
…
قد كنت أعطي من أشاء وأمنع
فلمن أقول إذا تلم ملمة
…
أزني برأيك أم إلى من أفزع
فليأتين عليك يوم مرة
…
يبكى عليك مقنعا لا تسمع6
1 الطبري 9: 1638.
2 المثوب: الراجع من المعركة.
3 شرح ديوان الحماسة للمرزوقي 2: 952.
4 الجدود: الحظوظ. وتتضعضع: تنحط بعد ارتفاع، وتعوج عقب الاستواء.
5 الأشوس: الرافع رأسه كبرا. والأخدع هنا: العنق.
6 مقنعا: مسجى مستور الوجه.
والفخر فيما بقي من شعره أقل من الرثاء، إذ لم نعثر على شيء إلا ما بثه في ثنايا بعض مقطوعاته السابقة، وتمدح فيه بقبيلته ومضائها وبأسها، وإلا هذه المقطوعة التي نظمها عندما اختاره الجنيد بن عبد الرحمن المري ليكون رسوله إلى هشام بن عبد الملك. وكان انتخب قبل سيف بن وصاف العجلي فجبن عن السير، وخاف الطريق، فاستعفى الجنيد فأعفاه. وهو يتمجد فيها بشدته وجرأته، وتجشمه للمكاره، واقتحامه للأهوال، ولباقته في السفارة، لأن هذه الوظيفة ليست محدثة في قومه، ولا طارئة عليهم، وإنما هي أصيلة فيهم، إذ لهم فيها سابقة وقدمة في أيام عثمان بن عفان وقبلها، يقول1:
لعمرك ما حابيتني إذ بعثتني
…
ولكنما عرضتني للمتالف
دعوت لها قوما فهابوا ركوبها
…
وكنت امرءا أركابة للمخاوف
فأيقنت إن لم يدفع الله أنني
…
طعام سباع أو لطير عوائف2
قرين عراك وهو أيسرها لك
…
عليك وقد زملته بصحائف3
على عهد عثمان وقدنا وقبله
…
وكنا أولي مجد تليد وطارف
وله مقطوعتان يمكن أن نقول إنه صدر فيهما عن روية وأناة، وتريث وتثبت، متجردا من العاطفة، ومتخلصا من العصبية. وهو في الأولى يحذر قتيبة بن مسلم من خطورة الموقف بعد أن عزم على خلع سليمان بن عبد الملك بفرغانة، ناصحا له بأن لا ينخدع عن الشاغبين عليه، والماكرين به من جميع القبائل، من تميم والأزد، ومن بكر أيضا، فكلهم خونة غدرة يتحفزون لاغتياله، وإلا فإنه سيلاقي المصير الذي لاقاه عبد الله بن خازم قبله يقول4:
تنمر وشمر يا قتيب بن مسلم
…
فإن تميما ظالم وابن ظالم
1 الطبري 9: 1545.
2 العوائف: جمع عائف، وهي الطير التي تحوم على الماء وعلى الجيف، وتتردد.
3 عراك: هو ابن عم الجنيد، وكان مع نهار في الوفد.
4 نقائض جرير والفرزدق 1: 359.
ولا تأمنن الثائرين ولا تنم
…
فإن أخا الهيجاء ليس بنائم
ولا تثقن بالأزد فالغدر منهم
…
وبكر فمنهم مستحل المحارم
وإني لأخشى يا قتيب عليكم
…
معرة يوم مثل يوم ابن خازم
وفي الثانية يتنصل من العصبية القبلية، ومن التكثر بالآباء، والتمدح بالأنساب والأحساب، ويعلن أن الإسلام سوى بين الناس كافة، وأن التقوى هي أساس التفاضل بينهم. يقول1:
أبي الإسلام لا أب لي سواه
…
إذا افتخروا بقيس أو تميم
دعي القوم ينصر مدعيه
…
ليلحقه بذي النسب الصميم2
وما كرم ولو شرفت جدود
…
ولكن التقي هو الكريم
فشخصية نهار تشبه شخصية ثابت قطنة في كثير من الوجوه، فهو مرتبط بقومه، متحزب لهم، وهو يأبى أن يظلموا، ويرفض أن يبخسوا أفضالهم وأقدارهم، ولا يصبر على عطل مصالحهم. ولذلك كان الناطق الرسمي بأهوائهم، والمكافح الحقيقي عن منافعهم، ولم يكن يجد غضاضة ولا حرجا في هجاء حلفائهم من الأزد، إذا تنكروا لهم أو اعتدوا عليهم.
وهو من ناحية أخرى كان متشبثا بمحالفة الأزد، حريصا على التعاون معهم، مخلصا في مساندتهم على خصومهم. وكان يستحسن أن يكون الوالي منهم على أن يكون من غيرهم. ومن أجل ذلك استاء حين أبعد يزيد بن المهلب عن خراسان، واستخلف عليها قتيبة بن مسلم، وانتقد قتيبة، وأظهر الشماتة بمقتله. أما مدائحه فيه فكانت من قبيل المنافقة والمداراة والتقية.
وهو من ناحية ثالثة كان يثوب إلى الحق، ويؤوب إلى الصواب، ناظرا إلى الأمور نظرة فيها الدقة والعمق، وفيها التخلي عن الحمية الأعرابية، والمصلحة
1 الشعر والشعراء 1: 537، والكامل للمبرد 3:179.
2 الدعي: المستلحق المتهم في نسبه. والمدعي: الذي استلحقه وضمه إلى نفسه وتبناه.
القبلية، وفيها الاستشراف للأبعاد الإنسانية والإسلامية، ولاهجا بدعوة سليمة أو فكرة صالحة، كأن ينبه قتيبة ابن مسلم على وجوب الاحتراس من كل القبائل، حتى من قبيلته، أو كان يتحلل من النعرة القبلية، وينبذ المفاخرة الجاهلية.
ومع ذلك كله فإنه كان لا يخفي انحيازه لقومه، وإنما كان يظهره ويهتف به. والذي يبدو لنا أنه كان يتمثل المسائل الإنسانية والإسلامية تمثلا نظريا سلبيا، لا تمثلا عمليا إيجابيا، وأنه كان يستوحيها في القول لا في الفعل. وهو في آخر المطاف جانب من جوانب سلوكه إلا الاتجاه القبلي.
وهو يصور دون ريب حقيقة بكر وواقعها، وما كان ينتابها من القلق والتخبط والتمرد على وضعها في العصر الأموي، وما أداها إليه الحنق والنقمة على الحكام الأمويين من معاداة مكشوفة لهم، وممالأة مقصودة للخارجين عليهم، سواء كانوا من الأزارقة أو العلويين1. ويوضح ما ساقها إليه الحقد والحسد للقبائل المضرية من محالفة للأزد في البصرة وخراسان لتتقوى بهم عليها، لعلها تتعلق بسبب من أسباب السلطة عن طريقهم، أو تنجح في وقت من الأوقات في إخضاع المضرية، ورغباتها السياسية الخفية في تحديها لعبد الله بن خازم وتميم بهراة، فقد أبت أن تجنح للسلم والموادعة إلا إذا غادر كل المضرية جميع خراسان2! ويكشف كذلك عن تقلبها وتذبذبها في مواقفها من حلفائها من الأزد وأهل اليمن، لما كان يعتريها من اضطراب نفسي، لعجزها عن إدراك مطامحها القبلية في السيادة، وتقصيرها عن بلوغ مراميها السياسية في السلطة.
ولو سلم ديوانه من الضياع، لأمكن أن نستبين شخصيته استبانة أعمق وأشمل، ولأمكن أن نجلو حقيقة قبيلته جلاء أدق وأكمل، لأنه كان أكبر شعراء بكر بخراسان3.
1 الطبري 6: 3312، 3316، وخزانة الأدب 1:90.
2 الطبري 7: 493.
3 الشعر والشعراء 1: 537، وخزانة الأدب 1:90.
وليس للقدماء أحكام نقدية مفصلة متداولة على شعره، إلا ما قاله الآمدي الذي رأى ديوانه من أنه كثير الجيد1. ولعل ابن قتيبة الذي وصفه بأنه أشعر بكر بخراسان وقع على ديوانه ونظر فيه، قبل أن يطلق حكمه السابق عليه، ولكن ما حفظ من شعره لا يؤكد ذلك، فهو فيه قصير النفس متعجل، لا يحتفل بإطالة القصيدة، ولا يهتم بالمعاني والصور، ولا يعني بالتقاليد الفنية إلا قليلا.
1 المؤتلف والمختلف ص: 296.