الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
موضوعات أخرى تقليدية:
وفي الشعر الذي أنشأه الشعراء العرب بخراسان في أيام بني أمية أربعة فنون قديمة لم نتحدث عنها حتى الآن، وهي المديح، والهجاء، والفخر، والرثاء. ويلاحظ أن المقطوعات والقصائد التي أفردها الشعراء لكل فن منها قليلة، كما أن كل الأشعار التي خصصوها لها لا تعدل نصف الأشعار التي نظموها في الحديث عن الأحوال الداخلية، والغزوات الخارجية.
أ- المديح:
أما المديح فهم يحتذون فيه على المثال الجاهلي، إذ يرددون فيه المعاني التي رددها الشعراء الجاهليون في مدائحهم، ويخلعون على ممدوحيهم الصفات التي خلعها الجاهليون على سادتهم وأشرافهم. فهم يشيدون بأصل الممدوح العريق، وكرمه الغمر، وشجاعته في الحروب، وسماحته وحلمه. ولكنهم يضيفون إلى هذه المعاني التقليدية معاني جديدة مستمدة من الحياة الإسلامية وقيمها، إذ يضفون على ممدوحيهم صفات التقوى والعدل والصلاح، والتفاني في سبيل نشر الدين، والفتك بالأعداء المشركين، وطبيعي أن هذه المعاني الجاهلية والإسلامية لا تجتمع في كل مدحة، فقد يلح الشاعر في مدحته على المعاني الجاهلية، وقد يركز على المعاني الإسلامية، وقد يراوح بينهما جميعا، خضوعا لحالته النفسية، وثقافته الشخصية، التي كانت تقوم في أصلها على عنصر الثقافة الجاهلية، وعنصر الثقافة الإسلامية.
ففي هذه المقطوعة يظهر كعب الأشقري بسالة يزيد بن المهلب، وقد لقيه الترك في خمسمائة فارس، وقطعوا عليه الطريق، وهو يسير في ستين فارسا من كس بما وراء النهر، وكان أبوه يقيم بها سنتي إحدى وثمانين واثنتين وثمانين، إلى مرو الشاهجان، حيث مات أخوه المغيرة، خليفة أبيه، والقائم بأعماله. فجالدهم أشد جلاد وأعنفه، دون أن يتغلب عليهم، أو يتغلبوا عليه، ولم يزل كل فريق منهم يهاجم الآخر، ويكر عليه، حتى أسدل الظلام أستاره، تفرق الترك عنه وواصل سيره. وكعب لا يطلعنا على بطولة يزيد فحسب، وإنما يطلعنا على بطولة فرسانه، فهو يكبر فيه صلابته، ويكبر في فرسانه عزيمتهم، وكيف أنهم لم ينكصوا عن مقاتلة الترك مع كثرة عددهم، فقد صمدوا لهم، وصدقوا في منازلتهم، معرضين أنفسهم للخطر، ورامين أفراسهم على الهلاك. يقول1:
والترك تعلم إذ لاقى جموعهم
…
أن قد لقوه شهابا يفرج الظلما2
بفتية كأسود الغاب لم يجدوا
…
غير التأسي وغير الصبر معتصما3
نرى شرائج تغشى القوم من علق
…
وما أرى نبوة منهم ولا كزما4
وتحتهم قرح يركبن ما ركبوا
…
من الكريهة حتى ينتعلن دما5
في حازة الموت حتى جن ليلهم
…
كلا الفريقين ما ولى ولا هربا
1 الطبري 8: 1079.
2 الشهاب: النجم بالليل. ويقال للرجل الماضي في الحرب: شهاب حرب، أي ماض فيها على التشبيه بالكواكب في مضيه.
3 التأسي: أن يواسي بعضهم بعضا، أو أن يقتدي بعضهم ببعض.
4 الشرائج: جمع شريج، وهي القوس المنشقة من عود انشقت منه قوس أخرى. والنبوة: التباعد والتجافي. والكزم: الهيبة من التقدم والعلق: لعلها القوس أو جعب السهام.
5 القرح: جمع قارح، وهو الفرس الذي انتهت أسنانه. والكريهة: النازلة والشدة في الحرب. وينتعلن دما: لعله من انتعل إذا لبس النعل، أي حتى يلطخ الدم حوافرها، فيكون لها كالفعل التي تقي حوافرها الحجارة. ولعله من انتعل الثوب إذا وطئه، أي حتى يجري الدم في الأرض فيطأنه ويخضنه وفي الأصل: يبتلعن.
ويثني عبد الملك بن سلام السلولي على يزيد بن المهلب أيضا لكثرة ما ساقه إليه من النوال حتى أغناه، ولطول ما رعى الضعفاء، وواسى البؤساء في أيامه حتى انتعشوا؛ قارنا ثناه عليه بالدعاء له باليمن والخير جزاء لما قدم من معروف يقول1:
ما زال سيبك يا يزيد بجوبتى
…
حتى ارتويت وجودكم لا ينكر2
أنت الربيع إذ تكون خصاصة
…
عاش السقيم به وعاش المقتر3
عمت سحابته جميع بلادكم
…
فرووا وأغدقهم سحاب ممطر
فسقاك ربك حيث كنت مخيلة
…
ريا سحائبها تروح وتبكر4
ويقول حاجب بن ذبيان المازني يمدح يزيد بشدة بأسه، وتمرسه بالقيادة والقتال في الصغر والكبر، وينوه بقهره لأعدائه، وترفقه بأصدقائه5:
كم من كمي في الهياج تركته
…
يهوى لفيه مجدلا مقتولا6
جللت مفرق رأسه ذا رونق
…
عضب المهزة صارما مصقولا7
قدت الجياد وأنت عز يافع
…
حتى اكتهلت ولم تزل مأمولا
كم قد حربت وقد جبرت معاشرا
…
وكم امتننت وكم شفيت غليلا8
أما الفرات الشني9 العبدي فيشيد بجرأة قتيبة بن مسلم، وصحة شكيمته،
1 الطبري 9: 1313.
2 الحوبة: الحاجة والهم والحزن.
3 الخصاصة: الفقر.
4 المخيلة: السحابة نفسها.
5 الأغاني "طبعة دار الكتب" 14: 266.
6 الكمي: الشجاع المستتر في سلاحه، المتعطي به، والمجدل: المصروع.
7 جلله بالسيف: علاه وضربه به. والعضب: القاطع.
8 حربه: أخذ ماله كله وتركه بلا شيء.
9 في معجم الشعراء ص: 190 "السني". والصواب الشني. "انظر جمهرة أنساب العرب ص: 295".
وكبر همته، وقلة مبالاته بالموت، واكتراثه للحياة في الحرب، حين يجبن المترددون، ويعتمدون على غيرهم، مما هيأ له الظفر بأعدائه من الصغد ظفرا مستمرا باهرا، والسبق إلى أبعد غايات المجد والسؤدد، وإدراك ما لم يدركه غيره من العلا والرفعة، فإذا بطولاته وفتوحاته حديث الناس في كل مجلس. يقول1:
يرى الموت من عادى قتيبة مجهرا
…
وليس بوقاف ولا بمواكل2
ولكنه سمح بنفس كريمة
…
بذول لها يوم التفاف القنابل3
حوى الصغد حتى شاع في الناس ذكره
…
ونال التي أعيت على المتطاول4
والأغلب أن الفرات يشهر بيزيد بن المهلب في قوله: "ونال التي أعيت على المتطاول"، لضآلة غزواته وانتصاراته بالقياس إلى قتيبة بن مسلم، ولكثرة ادعائه وغروره من ناحية، وكيدا له، ونكاية به، لأنه فضل الأزد عن حلفائها من بكر من ناحية أخرى.
وظل الفرات يفي لقتيبة، ويجهر بتقديره له، حتى بعد اغتياله، وقيام يزيد بن المهلب بالولاية، مع ما كان يعرضه له إخلاصه لقتيبة من احتمال بطش ابن المهلب به. فقد سئل عنه وعن يزيد، فرفض ذمه، وتقديم يزيد عليه، لأنه كان يؤمن بعظمته، وبوجوب الثبات على المبدأ مهما تكن العواقب، فاعترف لذلك بفضل الرجلين دون خشية من لوم، أو رهبة من عذاب، وإن كان قد تخلص من المأزق تخلصا بارعا بتسويته بينهما، وجعله كلا منهما نظيرا لصاحبه، فهما عنده جوادان مشهوران يلوذ بهما كل محتاج، وفارسان مغواران يرمي كل منهما بنفسه في معترك
1 معجم الشعراء ص: 190.
2 المواكل: كل عاجز كثير الاعتماد على غيره.
2 القنابل: جمع قنبلة، وهي الطائفة من الخيل.
4 أعيت: استعصت.
الحرب. ويقاتل قتال الأبطال، لاتصافهما بالشهامة والإباء، وحرصهما على العمل الصالح. يقول1:
سأنطق حقا فيهما إذ سألتني
…
وليس أخو حق كحيران جاهل
هما البحران للعافين والمبتغي القرى
…
وليثا عرين عند وقع المناصل2
هما يردان الموت لا يرهبانه
…
إذا ضج منه كل أشوس باسل3
حياء وبذلا للنفوس وحسبة
…
بكل سريجي وأسمر عاسل4
والأرجح أن الفرات وقف موقفه الجسور الناقد ليزيد، لأنه عير الأزد وبكرا في ولايته الثانية بخيرات المهالبة وأفضالهم عليهم، لسكونهم عن قيام وكيع بن أبي سود التميمي بالحكم بعد مقتل قتيبة بن مسلم، وعدم احتجاجهم عليه، ولأنه تحزب للأزد تحزبا بينا، وأطرح بكرا، وقرب أهل الشام وخراسان5.
وحين أعمر أسد بن عبد الله القسري مدينة بلخ، وأسكن بها الجنود العرب الذين كانوا ينزلون من قبل بالبروقان، مدحه أبو البريد البكري لبنيانه إياها، وتأمينه الجنود بها، مما نفى عنهم الخوف والفزع، وأدخل في قلوبهم الطمأنينة والسكينة، بعد أن كانوا ظاهرين للعدو بالبروقان، ورجا أن تكون له دار عز ومنعة وبركة، ومضى يشيد بسياسته العادلة لرعايته الجنود ومحافظته على أرواحهم، وعنايته بشؤون الناس، وتلبية حاجاتهم، فنال بذلك رضوان ربه. يقول6:
إن المباركة التي أحصنتها
…
عصم الذليل بها وقر الخائف
1 معجم الشعراء ص: 190.
2 العافين: الأضياف، وطلاب المعروف. والمناصل: جمع منصل، وهو السيف.
3 الأشوس: الرافع رأسه كبرا.
4 الحسبة: احتساب الأجر على الله، والسريجي: السيف المنسوب إلى ابن سريج، وهو قين معروف كان يصنع السيوف. والعاسل: الرمح شديد الاهتزاز للدونته.
5 نقائض جرير والفرزدق 1: 368، والطبري 9: 1313، وابن الأثير 5:25.
6 الطبري 9: 149.
فأراك فيها ما أرى من صالح
…
فتحا وأبواب السماء رواعف1
فمضى لك الاسم الذي يرضى به
…
عنك البصير بما نويت اللاطف
يا خير ملك ساس أمر رعية
…
إني على صدق اليمين لحالف
الله آمنها بصنعك بعدما
…
كانت قلوب خوفهن رواجف2
ومع ما سدده شعراء اليمن وربيعة إلى الجنيد بن عبد الرحمن المري من سهام الهجاء الجارحة، وما صبوه عليه من اللعنات لأنه ورط الجيش العربي في فاتحة معركة الشعب، ثم هزم خاقان في خاتمتها، فإننا نرى بعض شعراء عبد القيس يمدحونه مستشعرين فيما يبدو دقة الظرف الذي ناهض فيه الترك وصعوبته، ومقدرين أنه لم يزحف إلى سمرقند بمحض إرادته بل سار إليها مرغما، وجر إليها جرا، ليحرر العرب المحاصرين بها، وممن مدحوه منهم أبو الجويرية عيسى بن عصمة العبدي، وهو ينوه في مقطوعة حبرها فيه بأصالة محتده، وشرف أسرته، وما عرف به بنو مرة على طول التاريخ من صفح عند المقدرة، وغناء في الشدة، واستشهاد في ميادين القتال، وبذل للأموال. يقول3:
بيت بناه سنان ثم شيده
…
بحيث طنب في أثنائه الكرم
الصافحون بأحلام إذا قدروا
…
والضاربون إذا ما اعصوصب القتم4
القتل ميتتهم والجود عادتهم
…
والحلم والعزم من أخلاقهم شيم
ومن الشخصيات الممدحة نصر بن سيار. فهذا ثابت قطنة يطوقه مدحة كفاء عطفه عليه، ذلك أن المجشر بن مزاحم السلمي، أمير حرب سمرقند لأشرس بن
1 رواعف: منهلة المطر.
2 خوفهن: أي بخوفهن.
3 معجم الشعراء ص: 95. وفيه أن اسمه عيسى بن أوس بن عصية بن عبد القيس. وفي الطبري 9: 1565، عيسى بن عصمة. وانظر ياقوت 2:857. وله فيه مدحة أخرى "انظر المصون في الأدب ص: 96، وديوان المعاني 1: 24" وله فيه مدحة ثالثة "انظر الأغاني "طبعة دار الكتب" 20: 410، وتهذيب تاريخ ابن عساكر 3: 416".
4 اعصوصب: اجتمع وتكاثف والقتم: الغبار.
عبد الله السلمي، حبس ثانيا، لأنه ساند الأعاجم عندما ثاروا منادين بإسقاط الجزية عنهم بعد إسلامهم، ولم يزل في السجن حتى قدم نصر واليا على المجشر بسمرقند، فألطفه وأحسن إليه. ثم حمله إلى أشرس بمرو الشاهجان، فجدد حبسه بها.
وهو يقرر في مدحته له أنه كان دائما يثق به، ويرجو الخير منه، ويبجل موهبته الإدارية الفذة، وخبرته العسكرية الواسعة، مما أتاح له أن يعود من كل غزوة غانما. ويعترف بأنه أغاثه حين تخلت عشيرته عن نصرته، وتنكر له أقرب رفاقه. بل تربصوا به الدوائر، معلنا أنه لم يسيء ولم يجرم ولم يخرج على السلطان لتضامنه مع الأعاجم المطالبين بحقوقهم المشروعة، حتى يزج به في ظلمات الحبس. يقول1:
إذ كان ظني بنصر صادقا أبدا
…
فيما أدبر من نقضي وإمراري2
لا يصرف الجند حتى يستفيء بهم
…
نهبا عظيما ويحوي ملك جبار
وتعثر الخيل في الأقياد آونة
…
تحوي النهاب إلى طلاب أوتار
حتى يروها دوين السرح بارقة
…
فيها لواء كظل الأجدل الضاري3
لا يمنع الثغر إلا ذو محافظة
…
من الخضارم سباق بأوتار4
إني وإن كنت من جذم الذي نضرت
…
منه الفروع وزندي الثاقب الواري5
لذاكر منك أمرا قد سبقت به
…
من كان قبلك يا نصر بن سيار
ناضلت عني نضال الحر إذ قصرت
…
دوني العشيرة واستبطأت أنصاري
وصار كل صديق كنت آمله
…
ألبا علي ورث الحبل من جاري
1 الطبري 9: 149.
2 النقض: إفساد ما أبرم من عهد أو عقد. والإمرار: الإحكام والشد. وفي الأصل: إن.
3 السرح: المال الراعي. والأجدل: الصقر.
4 الخضارم: جمع خضرم، وهو الجواد الكثير العطية، والسيد الخمول.
5 الزند: العود الأعلى الذي تقتدح به النار. والثاقب: المضيء. والواري: المتقد الملتهب.
وما تلبست بالأمر الذي وقعوا
…
به علي ولا دنست أطماري1
ولا عصيت إماما كان طاعته
…
حقا علي ولا قارفت من عار
ومع إقراره بفضل نصر عليه، وتعريضه بالمجشر لأنه أساء إليه فإن استعلاءه نفسه لم يغب عن خاطره، لأن عقدة الشخصية الكاملة ينميها شعوره بالأصل الأزدي الكريم، والعز اليمني القديم، تملكت على فكره وتحكمت بخياله ولذلك فإنها لم تكن تقفز إلى خلده وهو يشيد بالمهالبة، ويفاخر بهم، بل كانت تقفز إليه وهو يمدح أنصار المضريين، ويعترف بجميلهم عليه، كأنما لم يكن يريد أن يطأطئ رأسه لهم، ولا أن يكون أقل منهم، حتى وهو يشكر لهم ما قدموا إليه من خير، وما أسبغوا عليه من عطف.
وهذا خالد بن المعارك العبدي المعروف بابن عرس يقلد نصرا مدحة أخرى، إجلالا له، وتقديره لبلائه، فقد ناضل خاقان وجيشه عن الجنيد بن عبد الرحمن المري نضالا شديدا حتى وزعهم عنه، وكفهم عن سائر الجنود العرب الذين كانوا معه، ونجاهم من الدمار، فاستحق لهذا الموقف العظيم أن يلقب "بفتى نزار كلها" أو كما يقول2:
يا نصر أنت فتى نزار كلها
…
فلك المآثر والفعال الأرفع3
فرجت عن كل القبائل كربة
…
بالشعب حين تخاضعوا وتضعضعوا
يوم الجنيد إذ القنا متشاجر
…
والنحر دام والخوافق تلمع4
ما زلت ترميهم بنفس حرة
…
حتى تفرج جمعهم وتصدعوا
فالناس كل بعدها عتقاؤكم
…
ولك المكارم والمعالي أجمع
1 الأطمار: جمع طمر، وهو الثوب الخلق البالي.
2 الطبري 9: 1554، وابن الأثير 5:171.
3 الفعال: اسم للحسن والقبيح من الأفعال، ولذلك يقال: فلان كريم الفعال، وفلان لئيم الفعال.
4 الخوافق: السيوف.
وهذا أبو نميلة صالح بن الأبار، مولى بني عبس يمدح نصرا بعد أن عين واليا على خراسان، وكان أبو نميلة خرج مع يحيى بن يزيد العلوي، ولم يزل معه حتى قتل بالجوزجان، فوجد عليه نصر لذلك. فأتى عبيد الله بن بسام صاحب نصر، فأنشد بين يديه هذه القصيدة مصورا فرقه وقلقه حتى استشفع له ابن بسام عنده، ومنوها بخصال نصر الحميدة من شهامة، وصرامة، وصلابة، ووقارة، ورزانة، يقول1:
قد كنت في همة حيران مكتبئا
…
حتى كفاني عبيد الله تهمامي
نايدته فسما للمجد مبتهجا
…
كغرة البدر جلى وجه إظلامي
فاسم برأي أبي ليث وصولته
…
إن كنت يوم حفاظ بامرئ سامي
تظفر يداك بمن تمت مروءته
…
واختصه ربه منه بإكرام
ماضي العزائم ليثي مضاربه
…
على الكريهة يوم الروع مقدام
لا هذر ساحة النادي ولا مذل
…
فيه ولا مسكت إسكات أفحام2
له من الحلم ثوباه ومجلسه
…
إذا المجالس شانت أهل أحلام
وحينما استولى الأزد وأهل اليمن على مرو الشاهجان، وطردوا نصرا عنها، واشتطوا في تعذيب المضريين وتقتيلهم واغتصاب أموالهم، امتدح أبو بكر بن إبراهيم عليا، وعثمان، ابني جديع الكرماني، بقصيدة طويلة، أثنى فيها عليهما، لأنهما اقتديا بأبيهما، وحاولا بلوغ شأوه، ووصفهما بالكرم والسماحة والتقى والورع والكمال والبأس، مما سهل لهما قهر نصر، وقتل الحارث بن سريج، يقول3:
إني لمرتحل أريد بمدحتي
…
أخوين فوق ذرى الأنام ذراهما
سبقا الجياد فلم يزالا بخعة
…
لا يعدم الضيف الغريب قراهما
يستعليان ويجريان إلى العلا
…
ويعيش في كنفيهما حياهما
1 الطبري 9: 1724.
2 المذل: الضجر. القلق.
3 الطبري 9: 1936.
أعني عليا إنه ووزيره
…
عثمان ليس يذل من والاهما
جريا لكيما يلحقا بأبيهما
…
جري الجياد من البعيد مداهما
فلئن هما لحقا به لمنصب
…
يستعليان ويلحقان أباهما1
ولئن أبر عليهما فلطالما
…
جريا فبذهما وبذ سواهما
فلأمدحنهما بما قد عاينت
…
عيني وإن لم أحص كل نداهما
فهما التقيان المشار إليهما
…
الحاملان الكاملان كلاها
وهما أزالا عن عريكة ملكه
…
نصرا ولاقى الذل من عاداهما
نفيا ابن أقطع بعد قتل حماته
…
وتقسمت أسلابه خيلاهما
والحارث بن سريج إذ قصدوا له
…
حتى تعاور رأسه سيفاهما
أخذا بعفو أبيهما في قدرة
…
إذ عز قومهما ومن والاهما
ومزاوجة الشعراء في هذا النماذج من المدائح بين معاني المديح الموروثة والمستحدثة واضحة، وإن غلبت عنايتهم بالصفات الجاهلية على عنايتهم بالصفات الإسلامية في مدحه دون أخرى. فمثلا تطغى المعاني التقليدية في مدحتي كعب الأشقري، وحاجب بن ذبيان المازني ليزيد بن المهلب، ومدحة أبي الجويرية للجنيد، ومدحتي ابن عرس وأبي نميلة لنصر بن سيار. فقد اهتم هؤلاء الشعراء بإبراز شدة احتمال ممدوحيهم في النزال والطعان، ومروءتهم وكرمهم في قرى الضيفان، وأنسابهم التي تميزوا بها عن الأقران، وتظهر المعاني التجديدية في مدحتي الفرات الشني لقتيبة بن مسلم ويزيد بن المهلب، ومدحة عبد الملك بن سلام السلولي لابن المهلب، ومدحة أبي البريد لأسد القسري، ومدحة ثابت قطنة لنصر بن سيار، إذ كشفوا فيها عن مواساة هؤلاء العمال للفقراء، وبرهم بالضعفاء، وعن اشتغالهم بأمر الناس والجنود، وعملهم من أجل توفير الضرورات لهم، وحمياتهم من خطر العدو، وعن سهرهم على حراسة الثغور، وذبهم عن المسلمين، وجهادهم لتحقي هذه الغايات جهادا
1 المنصب من الخيل: الذي يغلب على خلقه نصب عظامه حتى ينتصب منه ما يحتاج إلى عطفه.
صادقا، لم يكونوا يبتغون منه عرض الدنيا، بل كانوا يرجون به رضا الله وثواب الآخرة.
ولا بد من التنبيه على أن شعراء الأزد وربيعة تعصبوا في مدائحهم للولاة وكبار الرجال اليمنيين، سواء في تضخيمهم لفروسيتهم، وتهويلهم لمنجزاتهم. كما يستخلص ذلك من مدحة كعب الأشقري ليزيد بن المهلب، أو في قيامهم بالترويج لهم، والدعاية الحزبية لسياستهم، كما يستنتج ذلك من مدحة أبي البريد البكري لأسد القسري، إذ وصفه فيها بأنه "خير ملك ساس أمر رعية"، مع أنه كان منحازا للأزد انحيازا استطار شره في آخر ولايته حتى إن أبا البريد نفسه، لم يستسغه ولم يطق الصبر عليه، فشكا منه، وندد به1، أو في إعرابهم عن سرورهم لظفرهم بالمضريين، كما يبدو ذلك في مدحة أبي بكر بن إبراهيم لابني الكرماني.
ولم يمدح شعراء الأزد الولاة القيسيين وأشياعهم، إلا ثابت قطنة، فإنه أشاد بنصر بن سيار، لأنه أسعفه في الشدة، إشادة رد بها بعض معروفه إليه، وطاوله فيها مطاولة واضحة صريحة.
ونوه شعراء ربيعة بالولاة القيسيين وأتباعهم، إما استفزازا للولاة الأزديين لأنهم تحزبوا للأزد، وأغفلوا حلفاءها من بكر، كما يستظهر ذلك من مدحتي الفرات الشني لقتيبة بن مسلم، وإما لمنافقتهم واسترضائهم، حتى يغفروا لهم ميلهم للولاة اليمنيين كما يستشف ذلك من مدحة أبي البريد البكري لنصر بن سيار، فقد مدح أسدا القسري قبله.
ولم يثن شعراء مضر على الولاة والقيسيين وحدهم، بل أثنوا عليهم، وعلى الولاة الأزديين، على نحو ما يتضح في مدحتي عبد الملك بن سلام السلولي، وحاجب بن ذبيان المازني ليزيد بن المهلب، مما يدل على نقاء نفوسهم، وخلوها من الأحقاد والضغائن.
1 الطبري 9: 1497.
ب- الهجاء:
وأما الهجاء فتعددت أنواعه، لاختلاف أسبابه وغاياته. فنوع منه سلطه الشعراء على العمال المترددين المتاونين الذين كانوا ينتوون الغزو، ويتجهزون له، ويشرعون فيه، ثم يعودون مدحورين منه. وكأنما كان الشعراء بالمرصاد لهؤلاء الولاة الخائبين، يراقبون خططهم العسكرية، ونتائج معاركهم، فإذا نجحوا فيها احترموهم، وقدروا ما حققوه من مكسب حربي، ومغنم مادي، وإذا فشلوا فيها صبوا عليهم جام غضبهم، وسلقوهم بألسنة حداد، معيرين لهم، ومشهرين بهم. والأغلب أن الشعراء لم يبتغوا من هذا النوع من الهجاء الحط من قيمة مهجويهم فحسب، وإنما كانوا يبتغون منه أيضا إلهاب عزائمهم واستثارة عواطفهم، ليتلافوا أسباب ضعفهم وتقصيرهم، ويضاعفوا استعدادهم وجدهم، ويحتاطوا لكل طارئ، من أجل أن ينتصروا في المعارك اللاحقة، وليكون هجاؤهم لهم عبرة ونكالا للولاة والقادة في المستقبل.
وسبق أن أنشدنا أبياتا لمالك بن الريب التميمي هجا فيها سعيد بن عثمان بن عفان، عندما هادن الصغد، وجنح إلى مفاوضتهم، دون أن يجدد مهاجمته لهم، أو يشدد حصاره لمدينتهم1. وأنشدنا مقطوعة ثانية للشاعر الهجري هجا فيها سعيد بن عبد العزيز حينما قطع النهر، وقد تجمع الترك باشتيخن من قرى سمرقند، فحاربهم وانتصر عليهم، ثم كف عن محاربتهم خوفا وجبنا، فصالوا عليه وهزموه وأكثروا القتل في أصحابه2.
ونضيف إلى هذين الشاهدين مقطوعتين أخريين في هجاء أمية بن عبد الله، الذي لم يفلح في غزو ما وراء النهر فلاحا كبيرا، لعجزه وتخاذله من ناحية، ولاشتغاله بإخماد فتن بكير بن وشاح التميمي من ناحية أخرى. ففي سنة سبع وسبعين تهيأ للإغارة على بخارى، وعلى موسى بن عبد الله بن خازم بالترمذ، واجتاز النهر، فبلغته أخبار ثورة ابن وشاح عليه بمرو الشاهجان، وخلع الناس له، فقفل إلى مرو
1 الطبري 7: 179، وفتوح البلدان ص: 403، وياقوت 3:488.
2 أنساب الأشراف 5: 161، والطبري 9: 1430، وابن الأثير 5:96.
الشاهاجان، وأهدر دم ابن وشاح، ثم أعدمه، وهدد عقاب اللقوة الغداني التميمي1، لأنه حرض وشاح على الثورة. فهجاه اللقوة بهذه المقطوعة هجاء فاحشا عرض فيه به لانهزامه أمام أبي فديك الخارجي بالبحرين قبل أن يلي خراسان، وتخاذله في مجابهة الصغد ومكافحة موسى بن عبد الله بن خازم السلمي، وتنمره على العرب، وتحكمه في رقابهم، وحذره من مغبة إسرافه في تهديده له، واستخفافه به، معلنا أنه إذا استمر فيهما فإنه سيقود إليه جيشا ضخما يودي به. يقول2:
إن الحواضين تلقاها مجففة
…
غلب الرقاب على المنسوبة النجب3
تركت أمرك من جبن ومن خور
…
وجئتنا حمقا يا ألأم العرب4
لما رأيت جبال الصغد معرضة
…
وليت موسى ونوحا عكوة الذنب5
وجئت ذيخا مغذا ما تكلمنا
…
وطرت من سعف البحرين كالخرب6
أوعد وعيدك إني سوف تعرفني
…
تحت الخوافق دون العارض اللجب7
يخب بي مشرف عار نواهقه
…
يغشى الكتيبة بين العدو والحبب8
وفي السنة نفسها عبر أمية النهر للغزو، فحوصر حتى جهد، وأشرف جنوده على
1 في الطبري 8: 1025، ومعجم الشعراء ص: 106: عتاب اللقوة، وفي معجم الشعراء: العدواني بدل الغداني، والصواب من الاشتقاق لابن دريد ص:230.
2 الطبري 8: 1025، ومعجم الشعراء ص:106.
3 الحواضن: جمع حاضنة وهي الدجاجة، لأن أمية قال: وهل عقاب إلا دجاجة حاضنة "انظر الطبري 8: 1025" والحاضنة: التي تربي الطفل والمجففة: التي ليس في ثدييها حليب.
4 الحمق: قلة العقل. وفي معجم الشعراء: جمعا.
5 عكوة الذنب: أصله ومعظمه.
6 الذيخ: ذكر الضباع كثير الشعر، والمغذ: المسرع. والخرب: مصدر الأخرب، وهو العبد مثقوب الأذن. وفي معجم الشعراء: كالجرب.
7 الخوافق: السيوف. والعارض: الجيش الذي يسد الأفق لكثرته، واللجب: الذي له صوت وصياح وجلبه.
8 يخب: يعدو، والناهقان: عظمان بارزان في وجه الفرس أسفل من عينيه، وفي معجم الشعراء: أقود مستشرقا عار نواهقه.
الهلاك، فانصرف إلى مرو الشاهجان، فقال عبد الرحمن بن خالد بن العاص بن هشام بن المغيرة يهجوه بهذه المقطوعة هجاء وخزه به وخزا لأنه استهان به فيه، وحقره، حتى إنه لم يجد فائدة في مراجعته أو لومه1:
ألا بلغ أمية أن سيجزى
…
ثواب الشر إن له ثوابا
ومن ينظر عتابك أو يرده
…
فلست بناظر منك العتابا
محا المعروف منك خلال سوء
…
منحت صنيعها بابا فبابا
ومن سماك إذ قسم الأسامي
…
أمية إذ ولدت فقد أصابا
ونوع ثان من الهجاء كانت بواعثه وأهدافه شخصية، كأن يتعقب الوالي المنحرف من الشعراء ويحده، أو أن يقطع لأحدهم عهدا على نفسه ثم ينقضه ويغدر به، فحينئذ كان الشاعر ينقض على الوالي انقضاضا يقطعه به تقطيعا، إذ كان يسلبه كل فضيلة يتغنى بها العربي، وينسب إليه كل رذيلة ينفر منها السيد الأبي، انتقاما لنفسه منه. ومثال ذلك أن أبا السفاح عمرو بن قرثع التغلبي2، راود امرأة لأمية بن عبد الله عن نفسها، فجلده أمية، فهجاه أبو السفاح هجاء وصمه فيه بالعبودية والخسة والشح إذ يقول له3:
قريش كرام يا أمية سادة
…
وأنت بخيل يا أمي مسود
تجود لمن تخشى شذاة لسانه
…
وغيرك يعطي راغبا ويجود4
إذا راغب يوما أتاك منعته
…
وإن خفته بالجود منك عتيد5
وأنت إذا حرب تسامت فحولها
…
حيود هيوب للقاء ندود
فغضب أمية عليه وطارده، فاستخفى أبو السفاح منه، ولم يزل متواريا عنه، حتى عزل وقدم المهلب بن أبي صفرة، فأمنه، فظهر، فقتله مولى لأمية، ولم يطلب
1 الطبري 8: 1031.
2 انظر نسبه في الاشتقاق ص: 335، وجمهرة أنساب العرب ص:303.
3 معجم الشعراء ص: 50.
4 الشذاة: الحد.
5 عتيد: معد حاضر.
المهلب بدمه فكان ذلك مدعاة لهجاء عمرو بن عمرو بن قرثع المهلب وابنه يزيد، وكان هجاء خبيث اللسان، فشنع على المهالبة تشنيعا مقذعا، ومنه قوله في المهلب1:
فهلا منعت من قد أجرته
…
ولم يمس لحما بينهم يتمزع
أأعطيته الميثاق ثم خذلته
…
وكنت لئيما من خيالك تفزع
فلا تذكرن فجرا فلست بأهله
…
وجارك ثاو عرضه يتضعضع
فلو كنت حرا يا مهلب لم تكن
…
ذليلا وفي كفيك عضب موقع2
ولكن أبى قلب أطيرت بناته
…
عليك فما تخزى ولا تتقنع
تجللت عارا يا مهلب فالتمس
…
لنفسك عذرا والعذور مجدع
غدرت أبا السفاح عمرو بن قرثع
…
واسلمته لما بدا الموت يلمع
ولو مت دون التغلبي حفيظة
…
لقلنا كريم جاره ما يروع
أرأيت إليه كيف جرد المهلب من كل صفة حميدة يعتد بها العربي الكريم؟ أرأيت إليه كيف عراه من الإباء والوفاء، وجعله عاهرا لا يتستر ولا يتحفز؟ أرأيت إليه كيف أظهر لؤمه، لتهاونه في منع جاره من الموت، وتخاذله عن المطالبة بدمه بعد أن قتل؟ وإنه مهما يعتذر عن جرمه، ومهما يحتل لتسويفه فلن يمحو ما لحقه من الخزي والعار. وحتى لو اعتذر عنه فإنه يظل صغيرا، فثمة فرق كبير بين المدافع عن حرمة جاره، الهالك من دونه، وبين المقصر عن حمايته، المعلل لتقصيره فالأول معظم مذكور، والثاني مذموم محقور.
وعلى هذا النحو مضى ابن قرثع يتصرف في هجائه للمهلب وولده، ويشقق في
1 معجم الشعراء ص: 50.
2 العضب الموقع: السيف المحدد المسنون.
معاني هجائه لهما، ويفتن في عرضها، حتى فضحهما، إذ يقول ليزيد بن المهلب1:
أنت كز اليدين منتخب القلب
…
لئيم الفعال غير نضار2
وأبوك الذي تضاف إليه
…
عاجز الرأي زنده غير واري
لستما فاعلما إذا القوم نادوا
…
لنزال وبارزوا في الغرار3
بصبورين حين تحتد الحر
…
ب ولا سابقين في المضمار4
ويقول له5:
جدك يرعى غنما حزتها
…
فانعم ولا تشق أبا خالد
ونم على فرشك مستضعفا
…
لأشهدن يوما مع الشاهد
وإذا كان ابن قرثع ألح في المقطوعة الأولى على تقليد الجوار، وما يتكلفه العربي الشهم من تضحية في سبيل الحفاظ على من اعتصم به، وبسط هذا التقليد بسطا، واتخذه أساسا للإزراء بالمهلب، فإنه ركز في المقطوعة الثانية على قيمة الكرم، إذ نفاها عن المهلب وولده، ودمغهما بالبخل والدناءة، والتخلف عن غايات العظماء، كما استغل في المقطوعة الثالثة فكرة المنزلة الاجتماعية، فوصف ابن المهلب بوضاعة مكانته، وجعله معنيا برعاية الأغنام، شأنه في ذلك شأن جده، مشغولا بالقيام عليها، قاعدا عن السعي إلى المعالي.
وما من ريب في أن ابن قرثع عرف كيف ينفس عن حقده على المهالبة، وكيف يثأر لأبيه منهم، لأنهم لم يهبوا لحمايته، ولم يطالبوا بدمه، فقد جرحهم تجريحا، بل لقد مزقهم تمزيقا بسهام هجائه التي راشها نحوهم، ووقعت منهم في الصميم.
1 معجم الشعراء ص: 50.
2 منتخب القلب: جبار، والنضار: اسم الذهب.
3 الغرار: حد السيف.
4 المضمار: غاية الفرس في السباق.
5 معجم الشعراء ص: 51.
ويصح أن ندخل في الهجاء الشخصي الأهاجي التي تراشق بها الشعراء بسبب تنافسهم في الجوائز والمراكز عند الأمراء. وأشهر ما يروى من ذلك الهجاء الذي اتصل بين المغيرة بن حبناء التميمي، وزياد الأعجم مولى عبد القيس. فقد اجتمعا مع كعب الأشقري عند المهلب بن أبي صفرة، ومدحوه جميعا، فوهب زيادا غلاما فصيحا لينشد عنه شعره، لأنه كان ألكن لا يفصح، فظن المغيرة أنه فضله عليه، فراجعه، وبلغ زيادا ما كان منه فهجاه بقوله1:
أرى كل قوم ينسل اللؤم عندهم
…
ولؤم بني حبناء ليس بناسل2
يشب مع المولود مثل شبابه
…
ويلقاه مولودا بأيدي القوابل
ويرضعه من ثدي أم لئيمة
…
ويخلق من ماء امرئ غير طائل3
تعالوا فعدوا في الزمان الذي مضى
…
وكل أناس مجدهم بالأوائل
لكم بفعال تعرف الناس فضله
…
إذا ذكر الأملاء عند الفضائل4
فغازيكم في الجيش ألأم من غزا
…
وقافلكم في الناس ألأم قافل
وما أنتم من مالك غير أنكم
…
كمغرورة بالبو في ظل باطل5
بنو مالك زهر الوجوه وأنتم
…
تبين ضاحي لؤمكم في الجحافل6
فأجابه المغيرة بقوله7:
أزياد إنك والذي أنا عبده
…
ما دون آدم من أب لك يعلم
1 الأغاني "طبعة دار الكتب" 13: 90.
2 ينسل: يسقط.
3 غير طائل: خسيس، وضيع.
4 الأملاء: جمع ملأ، وهم الأشراف.
5 كمغرورة بالبو: أي كمخدوعة بالجلد الذي حشي تبنا، فتحن له. والمراد أن هذه القبيلة تتوهم أن نسبها إلى مالك نسب حقيقي.
6 الجحافل هنا: الشفاه.
7 الأغاني "طبعة دار الكتب" 13: 92.
فالحق بأرضك يا زياد ولا ترم
…
ما لا تطيق وأنت علج أعجم1
أظننت لؤمك يا زياد يسده
…
قوس سترت بها قفاك واسهم
علج تعصب ثم راق بقوسه
…
والعلج تعرفه إذا يتعمم
ألق العصابة يا زياد فإنما
…
أخزاك ربي إذ غدوت ترنم
واعلم بأنك لست مني ناجيا
…
إلا وأنت ببظر أمك ملجم
نهجو الكرام وأنت ألأم من مشى
…
حسبا وأنت العلج حين تكلم
ولقد سألت بني نزار كلهم
…
والعالمين من الكهول فأقسموا
بالله ما لك في معد كلها
…
حسب وإنك يا زياد مؤذم2
لقد حاول زياد أن يعيب المغيرة من جهة نسبه وحسبه، ففتح له بابا واسعا يهجوه منه، إذ كان زياد أعجميا مولى لعبد القيس، وكان المغيرة عربيا تميميا، وابن عبد القيس من تميم شرفا وعظمة! ولم يزل المغيرة يأتيه من هذا الباب معرضا بعجميته، وأنه لا يمكن أن يبلغ مبلغ العرب الأصلاء الصرحاء، مهما تعرب، وكيفما اصطنع التعرب، وكيفما شد العمامة على رأسه، ومهما يحمل من الأقواس والسهام، لأن لسانه يفضحه ويدل على أصله، حتى لم يبق فيه بقية من كرامة أو عزة، وحتى أذل مواليه من عبد القيس، لأنهم شجعوه على هجائه، فرضخوا له، وتبرأوا إليه منه، على أن يكف عن هجائهم3.
واحتدمت منافرة ثانية بين ثابت قطنة الأزدي، وحاجب بن ذبيان التميمي، في مجلس يزيد بن المهلب، لتسابقهما إلى الصلات السنية والمكانة الأدبية. ذلك أن حاجبا وفد على يزيد فمدحه، فأمر له بدرع وسيف ورمح وفرس4، فاستاء
1 العلج: الرجل من كفار العجم.
2 الموذم: المقطع، وكلب موذم: أي في عنقه قلادة.
3 الأغاني "طبعة دار الكتب" 13: 95.
4 الأغاني "طبعة دار الكتب" 14: 264.
ثابت، ثم إنه مدح يزيد مرة أخرى، وسأله، فلبى له ما طلبه1، فحسده ثابت، وهجاه بقوله2:
أحاجب لولا أن أصلك زيف
…
وأنكم مطبوع على اللؤم والكفر
وإني لو اكثرت فيك مقصر
…
رميتك رميا لا يبيد يد الدهر
فقل لي ولا تكذب فإني عالم
…
بمثلك هل في مازن لك من ظهر
فإنك منهم غير شك ولم يكن
…
أبوك من الغر الجحاجحة الزهر3
أبوك ديافي وأمك حرة
…
ولكنها لا شك وافية البظر4
فلست بهاج وابن ذبيان إنني
…
سأكرم نفسي عن سباب ذوي الهجر5
فهو يقذفه بسقوط النسب، وخبث الطبع، وفساد الدين، ويعبث به عبثا ظاهرا في سائر هجائه له، فهو يوثق نسبه في مازن، ولكنه ينفي أن يكون أبوه من سادتها النابهين المقدمين، أو أن يكون له فيها سند قوي، ويستمر في العبث به، زاعما أن أباه نبطي، وأن أمه عربية، غير أنه ينكر عليها أن تكون مسلمة، لأنها لم تختتن.
فهاج حاجب، ولم يقنع بهجاء ثابت والأزد وحدهم، بل عمم بهجائه أهل اليمن جميعهم، راميا لهم بالضعف والخمول، ومفضلا عليهم الزنج نسبا ومكانة، وواصفا إياهم بالصغار، وأنهم يهتضمون القهر، ويستنيمون للهوان، ولا يطيرون لنجدة جيرانهم، بل يتركونهم للغزاة، وأفحش في هجائه لهم، إذا اختتمه باتهام نسائهم بأنهن رغيات يأتيهن كل من أرادهن، يقول6:
1 المصدر نفسه ص: 267.
2 المصدر نفسه ص: 267.
3 الجحاجحة: جمع جحجح: وهو السيد.
4 دياف: من قرى الشام أو الجزيرة، وأهلها نبط، وإذا عرضوا برجل أنه نبطي نسبوه إليها.
5 الهجر: القبيح من الكلام.
6 الأغاني "طبعة دار الكتب" 14: 268.
دعوني وقحطانا وقولوا لثابت
…
تنح ولا تقرب مصاولة البزل1
فللزنج خير حين تنسب والدا
…
من ابناء قحطان العفاشلة الغرل2
أناس إذا الهيجاء شبت رأيتهم
…
أذل على وطء الهوان من النعل
نساؤهم فوضى لمن كان عاهرا
…
وجيرانهم نهب الفوارس والرجل
ولم يزل بثابت يهجوه كلما أخطأ أو أساء حتى لطخه بكثير من النقائص، وحد من غلوائه وكبريائه.
ونوع ثالث من الهجاء دوافعه أو مقاصده قبلية أو حزبية، فهو يعود من ناحية إلى تناقض مصالح الحلف الواحد، وتفسخ قبائله، وتصارعها وتعازلها وانطواء كل قبيلة منها على نفسها. ومن الشواهد على ذلك الهجاء الذي تقاذف به كعب الأشقري، وزياد الأعجم بسبب شر وقع بين الأزد وعبد القيس، وحرب سكنها المهلب، وأصلح بينهم، وتحمل ما أحدثه كل فريق على الآخر، وأدى دياته3. ومنه قول كعب يهجو عبد القيس بالخمول، ويتنصل من انتسابه إليها عن طريق أمه4:
إني وإن كنت فرع الأزد قد علموا
…
أخزى إذا قيل عبد القيس أخوالي
فهم أبو مالك بالمجد شرفني
…
ودنس العبد عبد القيس سربالي
وقوله يسمها بضعة منزلتها، وضعفها، وأنها لا تثور للدفاع عن محارمها وأعراضها، ولا تغني في المحن5:
لعل عبيد القيس تحسب أنها
…
كتغلب في يوم الحفيظة أو بكر6
يضعضع عبد القيس في الناس منصب
…
دني وأحساب جبرن على كسر
1 البزل: جمع بازل، وهو الرجل الكامل في تجرته.
2 العفاشلة: جمع عفشل، وهو الثقيل الوخم. والغرل: جمع أغرل، وهو الذي لم يختن.
3 الأغاني "طبعة دار الكتب" 14: 287.
4 المصدر نفسه ص: 288.
5 المصدر نفسه ص: 289.
6 الحفيظة: الذب عن المحارم، والمنع لها عند الحرب.
إذا شاعر أمر الناس وانشقت العصا
…
فإن لكيزا لا تريش ولا تبري1
ففند زياد أقواله، وألصق بالأزد كل العيوب التي ألصقها بعبد القيس، وغلا في تحقيره لهم، إذ ادعى أنه لا يعلم بوجودهم على وجه الأرض، وأنهم إن وجدوا، فهم قليلون منسيون لا يزيدون ولا يتكاثفون، بل يبقون ثابتين على قلتهم وضياعهم، وهم أيضا ليس لهم نسب يذكر، ولا أثر يعرف، ولا خير يعجب، بل لقد جعلهم لا يساوون نعلا من نعال عبيد عبد القيس. يقول2:
نبئت أشقر تهجونا فقلت لهم
…
ما كنت أحسبهم كانوا ولا خلقوا
لا يكثرون وإن طالت حياتهم
…
ولو يبول عليهم ثعلب غرقوا
قوم من الحسب الأدنى بمنزلة
…
كالفقع بالقاع لا أصل ولا ورق3
إن الأشاقر قد أضحوا بمنزلة
…
لو يرهنون ببغلي عبدنا غلقوا4
وعلى الرغم من أن زيادا ليس عربيا أصلا، وإنما هو مولى، فكانت أعجميته موطن ضعفه الذي وجه إليه المغيرة بن حبناء التميمي هجاءه، فأصابه في مقتله، وخفف من سلاطته وغطرسته، حين اختلفا وتهاجيا، كما قدمنا، فإن زيادا هو الذي استفاد في هجائه لكعب من فكرة العروبة والأصالة، إذ راح يعيب الأزد بأنهم موال، وأنهم أعجام، أسلموا، واستعربوا، واستلحقوا ببعض القبائل العربية ليعرفوا وينبه ذكرهم، يقول5:
هل تسمع الأزد ما يقال لها
…
في ساحة الدار أم بها صمم
إختتن القوم بعدما هرموا
…
واستعربوا ضلة وهم عجم6
1 لكيز: هو لكيز بن أقصى بن عبد القيس، وراش السهم: ركب عليه الريش.
2 المصدر نفسه ص: 288.
3 الفقع: نوع من الكمأة يطلع من الأرض، فيظهر أبيض، وهو رديء سريع الفساد. والجيد ما حفر عنه واستخرج، ويشبه الرجل الذليل بالفقع.
4 غلق الرهن: استحقه المرتهن، إذا لم يفك في الوقت المشروط.
5 الأغاني "طبعة دار الكتب" 14: 288.
6 ضلة: حيرة.
واستمر يستعلي على كعب بعراقة عبد القيس، ومفاخرها الصادقة الذائعة بين الناس، يقول1:
لئن نصبت لي الروقين معترضا
…
لأرمينك رميا غير ترفيع2
إن المآثر والأحساب أورثني
…
منها المجاجيع ذكرا غير موضوع3
والمهم أن كلا منهما كان يؤمن بأنه يناضل عن نفسه وقومه، فحين شكا كعب زيادا إلى المهلب، فدعاه وعاتبه. قال له4:"اسمع ما قال في وفي قومي، فإن كنت ظلمته فانتصر، وإلا فالحجة عليه، ولا حجة على امرئ انتصر لنفسه وحسبه وعشيرته! ".
وهو يعود من ناحية أخرى إلى محافظة كل قبيلة من قبائل الحلف الواحد في أوقات السلم على كيانها، وشعورها بأنه ينبغي أن يكون لها احترامها ووزنها، وأن لا تتحكم القبيلة معها في سياستها، ولا تزور عنها، ولا يعيرها رجالها بما حققوا من المكاسب لها. وانصع مثال على ذلك، هذه المقطوعة لنهار بن توسعة البكري في هجاء يزيد بن المهلب5:
لقد صبرت للذل أعواد منبر
…
تقوم عليها في يديك قضيب
رأيتك لما شبت أدركك الذي
…
يصيب رجال الأزد حين تشيب
بخفة أحلام وقلة نائل
…
وفيك لمن عاب المزون معيب
فقد فهم نهار أن ابن المهلب تطاول على بكر، ومن عليها، ووقف منها موقف المراقب والمحاسب. لأنها بايعت -كما بايع الأزد- وكيع بن أبي سود التميمي، بعد اغتيال قتيبة بن مسلم. فتصدى له وسخر منه سخرية موجعة، ذاهبا إلى أنه تنفخ
1 المصدر نفسه ص: 289.
2 غير ترفيع: غير سار.
3 المجاجيع: يعني مجاعة بن مرة الحنفي، ومجاعة بن عمرو بن عبد القيس.
4 الأغاني "طبعة دار الكتب" 14: 288.
5 نقائض جرير والفرزدق 1: 368.
وادعى الفضل لأنه شاخ، فإن من تقدمت به السن من الأزد يفسد عقله، ويخلط تفكيره، ولذلك فإن الناس لا يحملون ما يهذي به محمل الحد، بل يصفحون عنه، ويشفقون بسببه عليه.
وهو يعود من ناحية ثالثة إلى اعتقاد أفراد كل قبيلة أو حلف بوجوب تحزب الوالي لهم، وخصه إياهم بالمناصب، لأنه ينتسب إليهم، ولأن فترة حكمه هي الفرصة المتاحة لهم، لتعويض ما فقدوه من المراكز والمنافع في الفترات الماضية. وأسطع شاهد على ذلك هذه المقطوعة لثابت قطنة في هجاء أسد القسري1:
أرى كل قوم يعرفون أباهم
…
وأبو بجيلة بينهم يتذبذب
إني وجدت أبي أباك فلا تكن
…
ألبا علي مع العدو تجلب2
أرمي بسهمي من رماك بسهمه
…
وعدو من عاديت غير مكذب
أسد بن عبد الله جلل عفوه
…
أهل الذنوب فكيف من لم يذنب
أجعلتني للبرجمي حقيبة
…
والبرجمي هو اللئيم المحقب3
عبد إذا استبق الكرام رأيته
…
يأتي سكيتا خاملا في الموكب4
إني أعوذ بقبر كرز أن أرى
…
تبعا لعبد من تميم محقب
ذلك أن أسدا قلد ثابتا ولاية سمرقند في إمارته الأولى، ثم أعفاه منها وولاها عيسى بن شداد البرجمي التميمي، وجعله المسؤول الأول عنها، وثابتا الرجل الثاني بعده. فثار لنقص أسد درجته، لأنهما يتحدران من أصل واحد، ما يقضي أن يثبته ويرفعه لا أن يخفض منزلته.
وهذه المقطوعة لأبي الأنواح مطرف الهجيمي5، في هجاء نصر بن سيار6:
1 الطبري 9: 1503.
2 الألب: القوم يجتمعون على عداوة إنسان.
3 الحقيبة: التبع والردف. والمحقب: الثعلب.
4 السكيت: الذي يجيء في الحلبة آخر الخيل.
5 انظر الاشتقاق ص: 201، وجمهرة أنساب العرب ص: 207، 209.
6 معجم الشعراء ص: 306.
ألا أبلغ أبا ليث رسولا
…
علانية وليس من السرار
أإن أدنيت أو أعطيت قصرا
…
ووافقت المعيشة في قرار
ظللت علي من أشر تنزى
…
ستعلم في الكريهة من تجاري1
فذر أهل الحروب فلست منهم
…
وراجع صفق كفك في التجار2
فتلك تجارة إن قلت فيها
…
صدقت حديثها ليست بعار
وإنما ذم أبو الأنواح نصرا بأنه حديث النعمة، طارئ على الرئاسة، هيوب في القتال، بارع في التجارة، لأنه أهمله، ولم يبوئه المنصب الذي كان يستحقه أو الذي كان يطمع فيه، ولأنه كان رأس بني تميم في أيامه بخراسان، كما أنه كان ينتظر منه أن يقربه أو يحابيه، لأنه من كتلة بني تميم وأعوانهم.
وظاهر أن أسلوب الهجاء عند العرب بخراسان لم يختلف عن أسلوب شعراء العراق، فكلهم اتكأوا في جانب كبير من أهاجيهم على المثالب التي اتكأ عليها الشعراء الهجاؤون في الجاهلية، إذ عابوا مهجويهم بوضاعة النسب، ودناءة الحسب، وبالبخل وشدته، وبالإحجام وقلة البلاء في الحروب، وبالجهل وخفة العقول، وبالغدر والتحلل من المواثيق، وإن كان بعض شعراء خراسان قد طعنوا في إسلام بعض مهجويهم، واتهموهم بضعف العقيدة، كما مر بنا عند مالك بن الريب التميمي في هجائه لسعيد بن عثمان، شأنهم في ذلك شأن شعراء العراق، الذين تشككوا في إسلام بعض مهجويهم، ورموهم بفساد الدين.
ويحسن أن نشير إلى أن شعراء الحلفين المتعارضين لم يشتبكوا في معارك هجائية لأسباب قبلية أو حزبية، بل لأسباب شخصية وفنية، نشأت عن تسابقهم إلى المكانة الأدبية، كما رأينا في الخصومة التي احتدمت بين زياد الأعجم، والمغيرة بن حبناء التميمي وفي الخصومة التي ثارت بين ثابت قطنة الأزدي، وحاجب بن ذبيان التميمي. ولكن شعراء الحلف الواحد، وخاصة شعراء الأزد، وبكر وعبد
1 الأشر: البطر. تنزى: تثب.
2 الصفق: التبايع: وضرب اليد على اليد.
القيس هم الذين شجر الخلاف بينهم، واختصموا، وبالغ بعضهم في هجاء بعض، وفي هجاء زعمائهم، لأن قبائل هذا الحلف، وإن اتحدت لاشتراكها في الهدف السياسي، وهو منافسة قيس وتميم، فإنها كانت متباغضة متحاسدة، وكانت كل قبيلة منها تحس ذاتها، وتقدم مصلحتها على مصلحة غيرها، وفي اصطدام كعب الأشقري بزياد الأعجم، وفي هجاء نهار بن توسعة البكري ليزيد بن المهلب، وهجاء ثابت قطنة لأسد القسري ما يفصح عن تنافرها وتناحرها.
أما شعراء قيس وتميم فلم يشتبكوا في معارك هجائية، ولم يهاجموا أمراءهم إلا نادرا، كما يتضح في سخط أبي الأنواح الهجيمي على نصر بن سيار، لأنه جفاه، ثم إنهم هم الذين انتقدوا الولاة المترددين الخائبين في الحروب، لاستنهاض هممهم وتحميسهم، حتى يفوزوا في الغزوات التالية، على نحو ما استظهرنا ذلك من هجاء مالك بن الريب التميمي لسعيد بن عثمان بن عفان، ومن هجاء عقاب اللقوة التميمي، وعبد الرحمن بن خالد القرشي لأمية بن عبد الله الأموي.
جـ- الفخر:
وأما الفخر فتطور به الشعراء بخراسان تطورا فرقه عما كان عليه في الجاهلية، فهم لم يتمجدوا فيه بأنسابهم وقبائلهم ومآثرهم، ولا بمنعتها وعزتها ولا بأخذها الثأر لأبنائها، ولا بنجدتها للمستصرخين، ولا بحمايتها للمستجيرين، ولا بإطعامها للمحتاجين، وإنما تمجدوا فيه بمواقف قبائلهم من الأحداث العظام التي كانت تؤثر في حاضر الأمة، وتقرر مصيرها، فقد تغنوا فيه بنضالها في سبيل العرب والمسلمين، وبإخلاصها للجماعة والخليفة، وإن سقطت إلى قصائدهم بعض عناصر الفخر الجاهلية، فإنها تكون قليلة ضيئلة، كما أن الشاعر الذي كان يبدأ بالمكاثرة بنسبه وماضي قومه، هو الذي كان يقود خصمه إلى مفاخرته بأصوله، وأحساب قبيلته.
ولا مفر من التنويه بأن شعراء القيسية والمضرية لهم أكثر القصائد الفخرية، وأنهم هم الذين أعطوا القصيدة الفخرية العربية بخراسان مضمونها الجديد، وهو
مضمون يعود إلى إحساس شعراء هذه القبائل بأنهم لا يعيشون وحدهم، ولا لقبائلهم، ولا للدفاع عن حماها وذمارها، بل لأنفسهم ولغيرهم، وللحفاظ على حقيقتهم، وحقيقة القبائل الأخرى، وإن اختلفت معهم وزاحمتهم. ثم إن القبائل العربية بخراسان، وإن ظلت منظمة تنظيما قبليا، وبقيت كل قبيلة منها متمسكة بكيانها، فإن وظيفة هذا التنظيم القبلي كانت في جوهرها وظيفة عسكرية فكل قبيلة كانت أشبه بلواء عسكري تصارع مع سواها من ألوية القبائل جيش الترك في حروب مستمرة طاحنة، كانت تلتهم كل متراجع ومحجم. وهي حروب لم يكن النسب أو الحسب يقدم فيها للإنسان شيئا، وإنما الذي كان يغني عنه حقا قتاله واستبساله وصموده في المآزق، وتفانيه مع أفراد قبيلته، وتعاونه مع سائر أفراد الألوية الأخرى.
ومن أجل ذلك صفت هذه الحروب الدائمة الضارية نفوس شعراء المضرية ونفوس جنودها من رواسب الفخر الجاهلية، وفتحت أمامهم آفاقا جديدة للفخر، هي آفاق الاعتداد بمصارعة الأعداء، والثبات في ميدان التضحية والفداء، وآفاق التمجد بما يحرزه الجندي وأفراد لوائه من نصر عزيز للجماعة. وحتى إن افتخر الشاعر الفارس من القيسية وسائر المضرية بشخصيته، لتنافسه مع غيره من كبار الشخصيات في المجد والسعي إلى السلطة، فإنه كان يفتخر بجهاده من أجل الأمة، وحرصه على تجنيبها الأخطار والدمار، وإن تمدح بقبيلته لتسابقها مع سواها من القبائل إلى الإمارة، فإنه كان يتمدح بدفاع فرسانها عن وجود العرب وما اضطلعوا به من أعمال ماجدة، وما حققوه من فتوحات خالدة نفعت جميع العرب، ورفعت من مكانتهم.
ومهما تضق دائرة الفخر، وتبد فيها بعض مظاهر الفردية والعصبية، فإنها لا تتحول عند شعراء المضرية كافة إلى صورة ثانية عن الفخر الجاهلي، وإنما تصبح من قبيل الرد المشروع على تبجح شاعر مغرور موتور من الأزد، استحكمت في نفسه الكراهية لهم، وتمكنت منها الأطماع، فانزلق إلى التنفخ القبلي، وجاوزه إلى الوعيد والتهديد.
ومن أدق القصائد تمثيلا لصورة الفخر الجديدة، هذه القصيدة للأصم بن الحجاج الباهلي، وهي تتوالى على هذا النمط1:
ألم يأن للأحياء أن يعرفوا لنا
…
بلى نحن أولى الناس بالمجد والفخر
نقود تميما والموالي ومذحجا
…
وأزد وعبد القيس والحي من بكر
نقتل من شئنا بعزة ملكنا
…
ونجبر من شئنا على الخسف والقهر
سليمان كم من عسكر حوت لكم
…
أسنتنا والمقربات بنا تجري2
وكمن من حصون قد أبحنا منيعة
…
ومن بلد سهل ومن جبل وعر
ومن بلدة لم يغزها الناس قبلنا
…
غزونا نقود الخيل شهرا إلى شهر
مرن على الغزو الجرور ووقرت
…
على النفر حتى ما تهال من النفر3
وحتى لو ان النار شبت وأكرهت
…
على النار خاضت في الوغى لهب الجمر
تلاعب أطراف الأسنة والقنا
…
بلباتها والموت في لجج خضر4
بهن أبحنا أهل كل مدينة
…
من الشكر حتى جاوزت مطلع الفجر
ولو لم تعجلنا المنايا لجاوزت
…
بنا ردم ذي القرنين ذي الصخر والقطر
ولكن آجالا قضين ومدة
…
تناهى إليها الطيبون بنو عمرو
فمع أن الشاعر كان ممزق النفس، مفرق العواطف، موزع الفكر، لما كان يحسه من الألم والحزن الشديد، بعد مقتل قتيبة بن مسلم الباهلي غيلة بفرغانة، فإنه لم يفتخر في قصديته إلا بسياسة قتيبة الحازمة وقيادته الصارمة، فإذا كل القبائل بخراسان تذعن له، لأنه كان يقوم المعوج منها، ويعاقب المذنب فيها، وإذا هو ينجز بها ولها الانتصار. وهو يذكر سليمان بن عبد الملك بما أحرز قتيبة من الفتوحات في أثناء ولايته، فلقد جعل غايته فيها غزو ما وراء النهر فأباد الجيوش الجرارة،
1 الطبري 9: 1303، وانظر معجم الشعراء ص: 241، ففيه شاهد آخر على هذا النوع الجديد من الفخر، لكثير ابن العزيرة النهشلي.
2 المقربات من الخيل: هي التي تدني وتكرم وتصان للغزو.
3 وقرت على النفر: وطنت عليه، وصلبت.
4 اللبات: جمع لبة. وهي وسط الصدر والمنخر. واللجج: جمع لجة: وهي معظم كل شيء.
واجتاح القلاع الحصينة، واجتاز من الأرض سهلها وجبلها، وافتتح من المدن والبلدان ما لم يخطر ببال من سبقه من العمال أن يزحف إليه، ولم يفكر في الإغارة عليه. وجعل ديدنه إعداد الخيول وتدريبها، فإذا هي لطول التمرين، ولكثرة ما بلت الحرب، لا تبالي بالمهالك، ولا تهاب الردى، حتى إنها لو أريدت على النار المستعرة لاقتحمتها، ولاحتملت وقع الرماح بنحورها وأعناقها، دون أن تحيد عنها أو تخاف منها. فبهذه الخيول الأصيلة الكريمة استباح قتيبة وجنده حصون الترك وهزم عساكرهم ولو تأخرت عنه المنية حينا من الدهر، لبلغ مطلع الشمس، ولاحتل كل بلاد الصين، بل لتعداها.
فالشاعر لم يفاخر بأصل قتيبة، ولا بماضي قبيلته، وإنما فاخر القبائل كلها، وطاول الخليفة نفسه بإدارته الحكيمة، ومنجزاته العظيمة، مما كان فيه الخير والقوة للعرب أجمعين، وما جعله أهلا لأن يكون بطلا من الأبطال الخالدين على مر الأجيال والسنين.
ولم تنحصر آثار هلاك قتيبة في مطاولة القبائل بعضها لبعض، ولا في عزو كل منها الدور الأساسي في قتله لنفسها، ولا في تصريحها أو تلويحها بأنها إنما أودت بحياته لأنه عصا الخليفة، وإنما أغرت بعض شعراء اليمنية بالكشف عن دخائل نفوسهم وعدائهم الدفين لتميم، فإذا شاعر كالزغل الجرمي ينذر بني تميم بأن اليمنية سينتقمون منهم لأنهم ناصروا عبد الله بن خازم على الأزد وربيعة، إذ يقول1:
أبعد قتيلينا بمرو تعدنا
…
تميم نسينا أو ترجي لنا نصرا
فنحن مع الساعي عليكم بسيفه
…
إذا نحن آنسنا لعظمكم كسرا
ربيعة لا تنسى الخنادق ما مشت
…
ولا الأزد قتلتم سراتهم قسرا
فرد عليه جرير بن عرادة التميمي بقصيدة فخرية منها قوله2:
وقد قلت للزغلي لا تنطق الخنا
…
فإني لم أفخر عليك بباطل3
1 نقائض جرير والفرزدق 1: 369.
2 المصدر نفسه ص: 369- 370.
3 الخنا: أفحش الكلام وأقبحه.
متى تلقنا عند المواسم تحتقر
…
سليما وتغمرك الذرى والكواهل1
وترجع وقد قلدت قومك سبة
…
يعضون من مخزاتها بالأنامل
ومنا رسول الله أرسل بالهدى
…
وأنت مع الجحاد سحار بابل
ولم يجعل الله النبوة فيكم
…
ولا كنتم أهلا لتلك الرسائل
ولكنكم رعيان بهم وثلة
…
تردون للمعزى بطون المسايل3
إذا الخيل ألوت بالنهاب فزعتم
…
إلى حفل الضرات قمر الجحافل4
إلى حرة سوداء تشوي وجوهكم
…
وإقدامكم رمضاؤها بالأصائل
فإن كنت أزمعت المهاداة فالتمس
…
مساعي صدق قبل ما أنت قائل
فإنك مجرى في الجياد فمتعب
…
إلى أمد لم تخشه متماحل5
وأنت حديث السن مستنبط الثرى
…
سقطت حديثا بين أيدي القوابل
وذاك ولم تسمع بأعور سابق
…
دقيق الشوى أرساغه كالمغازل6
نصبتم لبيت الله ترمون ركنه
…
وكان عظيما رميه بالجنادل
ونحن حززنا من قتيبة رأسه
…
وذاق ابن عجلى حد أبيض فاصل7
عشية نحدو قيس عيلان بالقنا
…
وهم بارزو الإستاة حدل الكواهل8
فابن عرادة لم يبدأ المكاثرة والوعيد، فقد هب للدفاع عن قومه، لأنه استشف أن الزغل الجرمي لم ينطلق في تهديده لهم من ذاته المريضة الحاقدة فحسب، وإنما
1 الذرى: جمع ذروة، وهي أعلى كل شيء. والكواهل: جمع كاهل، وهو أعلى مقدم ظهر البعير.
2 سحار بابل: يعني المختار الثقفي.
3 البهم: جمع بهمة، وهي الصغير من أولاد الغنم. والثلة: جماعة الغنم.
4 القمر: جمع أقمر وقمراء. والقمرة لون إلى الخضرة، أو بياض فيه كدرة، والحجافل: جمع جحفلة، وهي ما تتناول به الدابة العلف. أي هي بمنزلة الشفة للإنسان، والمشفر للبعير.
5 المتماحل: المتباعد.
6 الشوى: اليدان والرجلان والرأس. الأرساغ: جمع رسغ، وهو مفصل ما بين الكتف والذراع، أو مجتمع الساقين والقدمين.
7 ابن عجلى: عبد الله بن خازم السلمي. والفاصل: القاطع.
8 الحدل: جمع أحدل، وهو المائل.
انطلق فيه أيضا من السياسة الحقيقية للأزد وبكر، وما كانت تقوم عليه من إضمار الشر والعدوان لبني تميم، وانتظار الفرص المواتية لاضطهادهم وإذلالهم.
ولذلك فإنه رد عليه ردا عنيفا، عمد فيه إلى استعراض تاريخ الأزد وبني تميم في الجاهلية والإسلام استعراضا عميقا نفاذا، لينتهي إلى إخراسه، ووضع قومه في الوضع اللائق بهم، وليعري موقفهم الخبيث اللئيم، لا من بني تميم وحده بل من القبائل الثائرة على بني أمية، والأحزاب المناوئة لهم. فقد هاجمه هجوما مضادا من ناحيتين: أولاهما منزلة الأزد وبني تميم في الماضي والحاضر، وأخراهما موقف كل منهم بعد الإسلام. فمن الناحية الأولى لا يقاس الأزد ببني تميم أصلا وجاها، وغنى وبأسا، فهم رعاة أغنام، يجيدون تربيتها وخدمتها، ولا يحسنون القتال، ولا يفيدون في الشدائد والنوازل، بل هم إذا اشتعلت نار الحرب، وخرج الفرسان منها منتصرين، وعادت خيولهم تحمل الأسلاب، اختفوا عن أعين الناس، وانزووا في أرضهم المجدبة القاحلة، وعكفوا على قطعان أغنامهم، فرحين بها، مكتفين بألبانها، وبنو تميم عظماء أصلاء يضربون بجذورهم في أعماق التاريخ، ومقاتلون أشداء يفتكون بأعدائهم فتكا، وفي قتلهم لعبد الله بن خازم، وقتيبة بن مسلم دليل لا يدفع على جبروتهم وسطوتهم.
ومن الناحية الثانية لم يكن الأزد أهل تقوى وصلاح، حتى يظهر فيهم عظيم، أو يؤثر عنهم موقف كريم، فهم خلو من الاستقامة والنزاهة، طارئون على مسرح السياسة ومعترك الأحداث، متلونون متقلبون، انحازوا إلى المختار الثقفي السحار الدجال ليشتهروا، فلما قضى مصعب بن الزبير عليه، أصبحوا أدوات وصنائع للأمويين، فبطشوا بالقبائل المتمردة، وانتهكوا الحرمات والمقدسات، واجترأوا على ضرب مكة والمسجد الحرام بالمجانيق. وبنو تميم من المضرية، أصحاب القدر والخطر، وبيت النبوة، وهم أرباب العقائد والمبادئ الراسخة، والمواقف الشريقة المعروفة.
فالفخر في قصيدة ابن عردة التميمي يرتكز في جانب من جوانبه على ماضي قومه المرموق، وأصلهم العريق، لانتسابهم إلى المضرية، أولي الفضل، بل أهل النبوة
والرسائل، ويرتكز في جانب آخر من جوانبه على حاضرهم الإسلامي المشرق، وعملهم الخير، فقد كانوا متشبثين بالدين، في مواقفهم من الدولة، متصلبين في انتصارهم للحق والعدل.
ويصح أن نحمل على هذا الوجه مقطوعة أخرى لمنقذ بن عبد الله القريعي التميمي قالها في ظلال الخلاف الأخير بين اليمنية والربعية، وبين المضرية، وهي تجري على هذا النحو1:
سائل ربيعة والأحياء من يمن
…
عن حربنا إنهم قوم بنا خبر
ترى فوارس سعد غير ناكلة
…
بيض الوجوه إذا ما اسودت الصور2
فازوا بحظوتها عفوا وأحرزها
…
منهم بهاليل والأخطار تبتدر3
وكل أيامنا غرة مشهرة
…
إذا تذوكرت الأيام والغرر
رامت ربيعة والأحياء من يمن
…
أن يقهرونا فهم بالله ما قهروا
وحقا هو يفتخر بصلابة فرسان قومه، وإقدامهم في الحرب، وصبرهم على المكروه، وسبقهم غيرهم في المجد والشرف، ولكنه يبرز حقيقتهم، وفضلهم في أنفسهم، ومبادراتهم المستمرة إلى حماية العرب بخراسان. فقد يسرت لهم هذه الصفات الأصيلة إخماد كل الفتن التي أثارها اليمنية والربعية، والتي خططوا في كل فتنة منها لاستبعاد المضرية، ومكنتهم من الحفاظ على حريتهم، وحرية البقية الباقية من العرب. وهم في الفتنة الأخيرة لا يكافحون عن أنفسهم وقومهم، بل يكافحون كذلك ذبا عن الوالي الشرعي، ودعما لسيادة العرب التي أخذت تتعرض للانهيار منذ بداية الفتنة، ثم لم تلبث أن انقضت واندثرت بعد زمن قصير.
ولو أخذنا المقطوعة أخذا خاطفا دون أن نحيط بالظرف التاريخي الذي نظمت
1 معجم الشعراء ص: 329.
2 الناكل: الجبان الضعيف.
3 البهاليل: جمع بهلول، وهو العزيز الجامع لكل خير، والأخطار: جمع خطر وهو السبق الذي يترامى عليه في التراهن. وبادر الخطر وابتدره غير إليه: عاجله.
فيه، لخفي علينا فهمها فهما دقيقا، ولقلنا إنه يستكبر فيها على اليمنية والربعية استكبارا ممقوتا، ويتنفخ عليهم تنفخا فارغا.
واستمع إلى نصر بن سيار يتمدح ببطولته في معركة الشعب تمدحا يقول فيه1:
إني نشأت وحسادي ذوو عدد
…
يا ذا المعارج لا تنقص لهم عددا
إن تحسدوني على حسن البلاء لكم
…
يوما فمثل بلائي جر لي الحسدا
يأبى الإله الذي أعلى بقدرته
…
كعبي عليكم وأعطى فوقكم عضدا2
نرمي العدو بأفراس مكلمة
…
حتى اتخذن على حسادهن يدا3
من ذا الذي منكم في الشعب إذ وردوا
…
لم يتخذ حومة الأثقال معتمدا
فما حفظتم من الله الوصاة ولا
…
أنتم بصبر طلبتم حسن ما وعدا
ولا نهاكم عن التوثاب في عتب
…
إلا العبيد بضرب يكسر العمدا
هلا شكرتم دفاعي عن جنيدكم
…
وقع القنا وشهاب الحرب قد وقدا
وضربي الترك عنكم يوم فرقكم
…
بالسيف في الشعب حتى جاوز السندا
فهو يجابه منافسيه الذين اهتضموا دوره الكبير في صد الترك الذين كادوا يفنون الجيش العربي، وهو يعتمد في مجابهته لهم على قتاله الباسل، حين انكسرت عزائم الجنود العرب، وولوا الأدبار إلى نسائهم وأمتعتهم، دون أن يردعهم عن الفرار من ساحة المعركة تفكير في مصيرهم، أو في مستقبل غيرهم، أو يرغبهم في الجهاد والاستشهاد عزة في الدنيا أو ثواب في الآخرة.
ولعل في الشواهد القليلة السابقة ما يبين كيف أن الشعراء العرب بخراسان اتجهوا بالفخر اتجاها جديدا، غيروا به مضمونه الجاهلي، لأنهم اعتدوا فيه اعتدادا
1 الطبري 9: 1546، 1553، وابن الأثير 5:170.
2 العضد: القوة، والمعين.
3 المكلمة: المجروحة.
4 السند: ما قابلك من الجبل وعلا عن السفح.
قويا بحاضر قبائلهم ومواقفها المؤيدة للمصلحة العامة، واستمدوا فيه استمدادا محدودا من ماضيها وتاريخها القديم.
د- الرثاء:
وأما الرثاء فبث فيه الشعراء أحزانهم وآلامهم لفقد عظام الولاة، وضخام الشخصيات، أو لهلاك أشقائهم وأبنائهم، ووصفوا ما أصاب العرب عامة، وما حل بأهل الموتى والقتلى خاصة من الرزء الفادح لغيابهم. بل هم قد جمعوا فيه بين الندب والتأبين، وأضافوا إليهما العزاء، إذ بكوا المفقودين والهالكين، وناحوا عليهم، ودعوا بالرضوان لهم. وعددوا فضائلهم، وأحصوا محامدهم، وتطرقوا إلى التعزية فيهم، مرددين أن الموت قدر محتوم.
وأقل ما نقل من شعر الرثاء بخراسان يتعلق برثاء الشهداء الذين جادوا بأرواحهم وهم يفتحون خراسان، أو وهم يغيرون على بلاد ما وراء النهر، ومن أقدمه بيتان من قصيدة طويلة لكثير بن الغريزة النهشلي يستنزل فيهما رحمة الله الواسعة على الفرسان الذين استشهدوا مع الأقرع بن حابس التميمي في فتح الجوزجان، وهو يقول فيهما1:
سقى مزن السحاب إذا استهلت
…
مصارع فتية بالجوزجان2
إلى القصرين من رستاق خوط
…
أقادهم هناك الأقرعان3
ومن أندره وأشرفه وأبلغه ثلاث قصائد طوال للشمردل بن شريك اليربوعي
1 فتوح البلدان ص: 398، والطبري 5: 2902، وابن الأثير 3: 126، وياقوت 2: 149، والبداية والنهاية 7: 160، والإصابة 3: 312، وخزانة الأدب 4:118.
3 المزن: جمع مزنة، وهي المطرة، والسحابة ذات الماء.
3 خوط: قرية من قرى بلخ وأقادهم: تقدمهم.
التميمي1، في رثاء إخوته الثلاثة الذين استشهدوا في جهاد الفرس والترك، على حدود خراسان في آخر القرن الأول. قال أبو الفرج الأصفهاني2. "كان الشمردل بن شريك شاعرا من شعراء بني تميم في عهد جرير والفرزدق، وكان قد خرج هو وإخوته: حكم، ووائل، وقدامة إلى خراسان، مع وكيع بن أبي سود، فبعث وكيع أخاه وائلا في بعث إلى سجستان، فقال له الشمردل: إن رأيت أيها الأمير أن تنفذنا معا في وجه واحد، فإنا إذا اجتمعنا تعاونا وتناصرنا وتناسبنا فلم يفعل ما سأله، وأنفذهم إلى الوجوه التي أرادها". قال أبو عبيدة معمر بن المثنى3: "ولم ينشب أن جاءه نعي أخيه قدامة من فارس، قتله جيش لقوهم بها، ثم تلاه نعي أخيه وائل بعده بثلاثة أيام" فقال يرثيهما4:
أعاذل كم من روعة قد شهدتها
…
وغصة حزن في فراق أخ جزل5
إذا وقعت بين الحيازيم أسدفت
…
علي الضحى حتى تنسيني أهلي6
وما أنا إلا مثل من ضربت له
…
أسى الدهر عن ابني أب فارقا مثلي7
أقول إذا عزيت نفسي بإخوة
…
مضوا لاضعاف في الحياة ولا عزل8
1 انظر أخباره وأشعاره في الحيوان 3: 91، والشعر والشعراء ص: 704، وحماسة البحتري ص: 71، 433، والكامل للمبرد 1: 57، وأمالي اليزيدي ص: 31، 45، والأغاني 13: 351، وأمالي القالي: 1: 238، والمؤتلف والمختلف ص: 205، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص: 666، 869، 1611، وأمالي المرتضى 1: 97، وسمط الآلي ص: 544، 608، 784، وحماسة الشجري ص: 310، 361، والحماسة البصرية 1: 223، ومجموعة المعاني ص: 116، وخزانة الأدب 3: 663، 4:550.
2 الأغاني 13: 351.
3 الأغاني 13: 352.
4 الأغاني 13: 352.
5 الروعة: الفزعة: والجزل: الكريم العطاء، والعاقل الأصيل الرأي.
6 الحيازيم: جمع حيزوم، وهو ما استدار بالظهر والبطن، أو صليع الفؤاد وما اكتنف الحلقوم من جانب الصدر: أسدفت: أظلمت.
7 الأسى: جمع اسوة، وهي ما يتأسى به الحزين ويتعزى.
8 العزل: جمع أعزل، وهو من لا سلاح معه.
أبى الموت إلا فجع كل بني أب
…
سيمسون شتى غير مجتمعي الشمل
سبيل حبيبي اللذين تربصا
…
دموعي حتى أسرع الحزن في عقلي1
كأن لم نسر يوما ونحن بغبطة
…
جميعا وينزل عند رحليهما رحلي
فعيني إن أفضلتما بعد وائل
…
وصاحبه دمعا فعودا على الفضل2
خليل من دون الأخلاء أصبحا
…
رهيني وفاء من وفاة ومن قتل
فلا يبعدا للداعيين إليهما
…
إذا أغبر آفاق السماء من المحل3
فقد عدم الأضياف بعدهما القرى
…
وأخمد نار الليل كل فتى وغل4
وكانا إذا أيدي الغضاب تحطمت
…
لواغر صدر أو ضغائن من تبل5
تحاجز أيدي جهل القوم عنهما
…
إذا اتعب الحلم التترع بالجهل6
كمستأسدي عريسة لهما بها
…
حمى هابه من بالحزونة والسهل7
فهو حزين مكلوم، قد أظلمت عليه الدنيا، وأخذ يتجرع الحياة غصصا مريرة، ويذرف الدموع الغزيرة، حتى كاد يجن لموت أخويه. ولا يلبث أن يعزي نفسه بهما، ويخفف عنها الخطب فيهما، فقد كانا بطلين مغوارين جبارين، قتلا في ساحة الوغى، واستشهدا في النضال عن حوزة الإسلام، ولا سبيل إلى الخلود، والبقاء السرمدي فيها. ثم ينتقل إلى تأبينهما، منوها بخصالهما الحميدة من كرم فياض في الحدب، وحلم عند الغضب، وسداد في الرأي، وجلالة ومهابة في قومهما.
وقال يرثي أخاه وائلا، وهي من مختار المراثي، وجيد شعره8:
1 تربصا دموعي: استنزفاها قليلا قليلا.
2 أفضلت العين الدمع: أبقت منه بقية، وتركت منه شيئا.
3 المحل: الجدب وانقطاع المطر.
4 الوغل: النذل الساقط المقصر في الأشياء.
5 الوغر: التوقد من الغيظ. والتبل: العداوة.
6 تحاجز: تتحاجز. والتترع: التسرع.
7 المستأسد: الجريء عنى به الأسد. والعريسة: مأوى الأسد. الحزونة: الأرض الغليظة.
8 الأغاني 13: 353، وأمالي اليزيدي ص: 31، وحماسة ابن الشجري ص: 310، والحماسة البصرية=
لعمري لئن غالت أخي دار غربة
…
وآب إلينا سيفه ورواحله1
وحلت به أثقالها الأرض وانتهى
…
بمثواه منها وهو عف مآكله2
لقد ضمنت جلد القوى كان يتقى
…
به جانب الثغر المخوف زلازله3
وصول إذا استغنى وإن كان مقترا
…
من المال لم يحف الصديق مسائله4
ملح لأضياف الشتاء كأنما
…
هم عنده أيتامه وأرامله
رخيص نضيح اللحم مغل بنيئه
…
إذا بردت عند الصلاء أنامله5
أقول وقد رجمت عنه فأسرعت
…
إلي بأخبار اليقين محاصله6
إلى الله أشكو لا إلى الناس فقده
…
ولوعة حزن أوجع القلب داخله
وتحقيق رؤيا في المنام رأيتها
…
فكان أخي رمحا ترفض عامله7
سقى جدثا أعراف غمرة دونه
…
ببيشة ديمات الربيع ووابله8
بمثوى غريب ليس منا مزاره
…
بدان ولا ذو الود منا مواصله
إذا ما أتى يوم من الدهر دونه
…
فحياك عنا شرقه وأصائله
سنا صبح إشراق أضاء ومغرب
…
من الشمس وافى جنح ليل أوائله
تحية من أدى الرسالة حببت
…
إليه ولم ترجع بشيء رسائله
= 1 1: 223، ومنها أبيات في حماسة البحتري ص: 71، والمؤتلف والمختلف ص: 205، وأمالي المرتضي 1: 97، وسمط اللآلي ص: 608، 784، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص: 666، ومجموعة المعاني ص:116.
1 غالت: أهلكت.
2 حلت به أثقالها الأرض: معناه أنه لما مات حل عنها بموته ثقل لسؤدده وشرفه، أو زينت موتاها به.
3 الزلازل: الشدائد.
4 المقتر: القليل المال. وأحفاه: برح به الإلحاح عليه، أو سأله فأكثر عليه الطلب.
5 الصلاء: اسم للنار أو للوقود.
6 الترجيم: من الرجم وهو القذف بالغيب والظن.
7 عامل الرمح: صدره وهو ما يلي السنان. وترفض: تكسر وتحطم.
8 الجدث: القبر، والأعراف: جمع عرف، وهو ظهر الجبل وأعاليه، وغمرة: جبل، وبيشة: واد يصب سيله من الحجاز حجاز الطائف، ثم ينصب في نجد حتى ينتهي في بلاد عقبل.
أبى الصبر أن العين بعدك لم يزل
…
يخالط جفنيها قذى لا يزايله1
وكنت أعير الدمع قبلك من بكى
…
فأنت على من مات بعدك شاغله
يذكرني هيف الجنوب ومنتهى
…
مسير الصبا رمسا عليه جنادله2
وهتافة فوق الغصون تفجعت
…
لفقد حمام أفردتها حبائله
من الورق بالإصباح نواحة الضحى
…
إذا الفرقد التفت عليه غياطله3
وسورة أيدي القوم إذ حلت الحبا
…
حبا الشيب واستعوى أخا الحلم جاهله4
فعيناي إذ أبكاكما الدهر فابكيا
…
لمن نصره قد بان منا ونائله5
إذا استعبرت عوذ النساء وشمرت
…
مآزر يوم ما توارى خلاخله6
وأصبح بيت الهجر قد حال دونه
…
وغال امرأ ما كان يخشى غوائله7
وثقن به عند الحفيظة فارعوى
…
إلى صوته جاراته وحلائله8
إلى ذائد في الحرب لم يك خاملا
…
إذا عاذ بالسيف المجرد حامله9
كما ذاد عن عريسة الغيل مخدر
…
يخاف الردى ركبانه ورواحله10
1 القذى: ما يقع في العين، وما ترمي به العين من غمص ورمص.
2 الهيف: ريح حارة تأتي من نحو اليمن. والصبا: ريح طيبة مهبها من مطلع الثريا إلى بنات نعش. والرمس: القبر. والجنادل: الحجارة.
3 الورق: جمع ورقاء، وهي الحمامة في لونها سواد وبياض. والغياطل: جمع غيطلة، وهي الشجر الكثير الملتف، وكذلك العشب وقيل هو اجتماع الشجر والتفافه.
4 الحبا: جمع حبوة، وهي الثوب يحتبى به، وحل الحبا: كناية عن الاستعداد للحرب. واستعوى فلان جماعته: نعق بهم إلى الفتنة.
5 النائل: العطاء.
6 استعبرت: جرت عبراتهن. والعائذ: كل أنثى إذا وضعت مدة سبعة أيام، لأن ولدها يعوذ بها
7 غال: أهلك. والغوائل: الدواهي.
8 الحفيظة: المحافظة على العهد، والمحاماة على الحرم ومنعها من العدو، وارعوى: رجع إليه، واجتمع عليه.
والحلائل: جمع حليلة، وهي الزوجة.
9 الذائد: المدافع المحامي.
10 العريسة: مأوى الأسد. والغيل: الأجمة والشجر الكثير الملتف. والمخدر: الأسد في خدره، أي عرينه.
فما كنت ألفي لامرئ عند موطن
…
أخا بأخي لو كان حيا أبادله
وكنت به أغشى القتال فعزني
…
عليه من المقدار من لا أقاتله1
لعمرك إن الموت منا لمولع
…
بمن كان يرجى نفعه ونوافله2
فما البعد إلا أننا بعد صحبة
…
كأن لم نبايت وائلا ونقايله3
سقى الضفرات الغيث ما دام ثاويا
…
بهن وجادت أهل شوك مخايله4
وما بي حب الأرض إلا جوارها
…
صداه وقول ظن أني قائله
وهذه هي أطول قصيدة في رثاء شهيد لقي وجه ربه راضيا مرضيا، وهو يقاتل في سبيل الله بخراسان.
وهو يسترسل في تعداد محاسن أخيه، فقد كان كالطود الشامخ الراسخ لكثرة خيره وفضله، فزينت به الأرض موتاها حين لبى نداء ربه، وكان طاهر النفس، شديد البأس يجاهد عن حياض المسلمين، ويسد ثغورهم المخوفة. وكان برا بالسائلين في اليسر والعسر، وعطوفا عليهم، متهللا للمحتاجين، رحيما بهم، كأنهم أهله وأقاربه، بل أيتامه وأرامله. وكان صبورا رزينا، كأنه الشيخ المجرب المحنك. وكان فتى قومه المنصور، وفارس قبيلته المظفر، تفزع إليه، وتأمن به المكاره والمهالك، وتتقي به الأخطار والأهوال. وكان سند أخيه الذي يعتمد عليه، وسيفه الذي يضرب به، لا نظير له بين الرجال في غنائه وبلائه في المحن والشدائد، فلما قضى نحبه ضعف وذل.
ثم مضى إلى وصف حرقته عليه، ولوعته به، فقد أضناه الوجد به وأهزله وبكاه بكاء حارا، ووقف دموعه للبكاء عليه. ومما زاد من ألمه وحسرته أنه مات بمكان قصي، يصعب الوصول إليه، وتستحيل زيارته لأنه من بلاد الأعداء، وتلهف على الأيام الماضية التي قضاها معه، حتى لقد خيل إليه بعد أن غاب عنه أنهما لم
1 عزني: غلبني.
2 النوافل: جمع نافلة، وهي العطية.
3 بايته: بات معه، وقايله: نام معه وقت القائلة، وهي الظهيرة.
4 الضفرات: جمع الضفرة، وهي أرض سهلة مستطيلة. وشوك: ناحية نجدية قريبة من الحجاز.
يهجعا في الليل. ولم يقيلا في الظهيرة سويا. وأخذ يدعو لقبره بالسقيا، ويحييه على البعد تحيات دائمة أناء الليل وأطراف النهار.
ثم قتل أخوه حكم أيضا في وجهه وبرز بعض عشيرته إلى قاتله فقتله، وأتى أخاه الشمردل أيضا نعيه فقال يرثيه1:
يقولون احتسب حكما وراحوا
…
بأبيض لا أراه ولا يراني2
وقبل فراقه أيقنت أنني
…
وكل ابني أب متفارقان
أخ لي لو دعوت أجاب صوتي
…
وكنت مجيبه أنى دعاني
فقد أفنى البكاء عليه دمعي
…
ولو أني الفقيد إذا بكاني
مضى لسبيله لم يعط ضيما
…
ولم ترهب غوائله الأداني
قتلنا عنه قاتله وكنا
…
نصول به لدى الحرب العوان3
قتيلا ليس مثل أخي إذا ما
…
بدا الخفرات من هول الجنان4
وكنت سنان رمحي من قناتي
…
وليس الرمح إلا بالسنان
وكنت بنان كفي من يمين
…
وكيف صلاحها بعد البنان
وكان يهابك الأعداء فينا
…
ولا أخشى وراءك من رماني
فقد أبدوا ضغائنهم وشدوا
…
إلى الطرف واغتمزوا لباني5
فداك أخ نبا عنه غناه
…
ومولى لا تصول له يدان
فهو متألم لفقد أخيه، على الرغم مما استقر في نفسه من أن الحياة لا تدوم، وأن الموت غاية كل حي، وأن كل أخوين لا بد أن تعدو المنية على أحدهما قبل الآخر.
1 الأغاني 3: 355، وأمالي اليزيدي ص:45.
2 احتسب عند الله خيرا إذا قدمه، ومعناه اعتده فيما يدخر.
3 العوان من الحروب: التي قوتل فيها مرة بعد مرة.
4 الخفرات: جمع خفرة، وهي الشديدة الحياء. الجنان: القلب.
5 الطرف: الكريم من الخيل. واغتمزوا لباني: استضعفوا اللين مني.
وهو لا يكاد يصبر على موت أخيه، لعظم رزئه به، فقد كانا أخوين متحابين متراحمين، إذا أصاب أحدهما أذى واساه الآخر، وإذا حاق به خطر هب لنجدته. وكان أخوه سمحا رفيقا بعشيرته، كثير الإحسان إليها، واسع المعروف فيها، مخلصا في الدفاع عنها. فلما مات هان على الناس، إذ أصبح وحيدا لا نصير له، كأنه الرمح لا سنان له يطعن به، واليد اليمنى القوية لا أصابع لها تغني بها. بل لقد تألب الأعداء عليه، واستهانوا به، لضعفه وعجز مواليه!
وأكثر ما حفظ من شعر الرثاء بخراسان يتصل برثاء الأشقاء والأبناء والأمراء، الذين قتلوا في الفتن السياسية، أو الذين لاقوا حتوفهم على فرشهم.
ومن أول الشعر الذي صاح به الشعراء على صرعى الحروب القبلية مقطوعة لموسى بن عبد الله بن خازم، ناح بها على أخيه محمد، وقد أهلكه بنو تميم بهراة، يقول1:
ذكرت أخي والخلو مما أصابني
…
يغط ولا يدري بما في الجوانح2
دعته المنايا فاستجاب دعاءها
…
وأرغم أنفي للعدو المكاسح3
فلو ناله المقدار في يوم غارة
…
صبرت ولم أجزع لنوح النوائح
ولكن أسباب المنايا صرعته
…
كريما محياه عريض المنازح4
بكف امرئ كز قصير نجاده
…
خبيث نثاه عرضه للفضائح5
فهو موجع الفؤاد، ملتاع النفس، لأن بني تميم سفكوا دم أخيه هدرا، وهو يرى أنه لو خر صريعا في ميدان الحرب، لكان في موته بها ما يعزيه عنه، وما يخفف
1 معجم الشعراء ص: 287.
2 الخلو: الفارغ. وغط في نومه: نخر. والجوانح: أوائل الضلوع تحت الترائب مما يلي الصدر.
3 المكاشح: العدو الذي يضمر عداوته ويطوي عليها كشحه أي باطنه.
4 عريض المنازح: بعيد الضرب في الأرض.
5 في الأصل: خبيث ثناه. بتقديم الثاء، وهو تحريف ظاهر. والكزم: البخيل الذي لا ينبسط وجهه. وقصير نجاده: أي حمائل سيفه قصيرة، وهي كناية عن قصر القامة. والنثا: الحديث عن الشخص بالشر أو بالخير.
مصابه فيه. ولكن الذي يؤذيه ويسوؤه أنه قتل غدرا، ففقد شقة نفسه، وأهينت كرامته، ووهنت قوته، وأذعن صاغرا لخصومه الذين يدارون عداوتهم له، ولا يجهرون بها جهرا. ومما زاد من هول الكارثة التي نزلت به أن من اغتال أخاه الأريحي الجريء، شخص لئيم بخيل، قصير، ناقص الخلقة، فاسد السيرة، سيئ السمعة.
ومثل أبيات ابن خازم في حرارتها وصدقها أبيات لعبد الرحمن بن جمانة الباهلي1 في رثاء قتيبة بن مسلم الباهلي، فكلاهما فجع في إنسان تربطه به روابط الدم ووشائج القريي، وكلاهما روع في شخص له مكانته وقيمته، بل إن أبيات ابن جمانة تفوق أبيات ابن خازم شجا وحزنا، فإنه لم ينكب في قريب له، عزيز عليه فقط، وإنما نكب في بطل له تاريخه وماضيه، وفي رجل كان رأس قبيلته، وسيدها العظيم، الذي ارتفعت بحياته، وانحطت بمماته، يقول2:
كأن أبا حفص قتيبة لم يسر
…
بحيش إلى جيش ولم يعل منبرا
ولم تخفق الرايات والقوم حوله
…
وقوف ولم يشهد له الناس عسكرا
دعته المنايا فاستجاب لربه
…
وراح إلى الجنات عفا مطهرا
فما رزئ الإسلام بعد محمد
…
بمثل أبي حفص فبكيه عبهرا3
فقد تملك عليه الحزن قلبه وحرقه، واستبد به الذهول من شدة الصدمة التي صدم بها بعد اغتيال قتيبة، حتى إنه لم يصدق أن ذلك الفارس المغوار، والقائد المظفر، والخطيب الساحر أصبح جثة هامدة تحت التراب، لا حياة فيها، ولا حول لها. ولم يزل إحساسه بالفاجعة الأليمة يتضخم في نفسه حتى تصور أنه أكبر شخصية امتحن العرب بفقدها بعد الرسول الكريم ولكنه لم يلبث أن صحا من سكرته،
1 في نقائض جرير والفرزدق 1: 363، جمانة بن عبد الملك، وهو رجل من بني أوس بن معن بن مالك. وفي المؤتلف والمختلف ص: 109، عبد الملك بن جمانة الباهلي.
2 الطبري 9: 1303، ونقائض جرير والفرزدق 1: 363، والبداية والنهاية 9:68.
4 عبهر: يعني أم ولده.
فقد لبى قتيبة نداء ربه، وانتقل من الحياة الدنيا إلى جنات الخلد لينزل مع الأبرار والصديقين جزاء جهاده وعفته.
وصرخ نصر بن سيار صرخة مدوية حين أردي ابنه تميم في الحرب الأخيرة بين اليمنية والمضرية بمرو الشاهجان، يقول1:
نفى عني العزاء وكنت جلدا
…
غداة جلا الفوارس عن تميم2
وما قصرت يداه عن الأعادي
…
ولا أضحى بمنزلة اللئيم
وفاء للخليفة وابتذالا
…
لمهجته يدافع عن حريم
فمن يك سائلا عني فإني
…
أنا الشيخ الغضنفر ذو الكليم3
نمتني من خزيمة باذخات
…
بواسق ينتمين إلى صميم
فعندما قتل ابنه انهد ركنه، وخارت قواه، ولم يعد به طاقة على التصبر والتجلد، وهو الشيخ الحليم الصبور، الذي عركته الأيام، وصلبته المحن. ولكن ما سلاه عنه بعض التسلية، أنه قتل قتلة مشرفة يتمناها غيره من الشبان، إذ استشهد في ساحة الوغى، ولم يغمد سيفه إلا بعد أن قاوم مقاومة الفتيان، إلى آخر رمق، انتصارا للخليفة، وحماية لعرضه وحوزته، وسرعان ما تماسك نصر أشد التماسك، وصبر أجمل الصبر، وعاد يعلن أنه الكهل الأصيل الحمول، وأنه كالأسد المتوحش إذا جرح حمي أنفه، وشمخ برأسه، وزادته الجراح حدة وقوة، واستجمع عزيمته ليثب على خصمه، ويثأر لنفسه منه.
وفارق الحياة بخراسان غير وال وشخصية بارة، فأقام الشعراء المآتم لهم باكين عليهم، وذاكرين مآثرهم، وواصفين جسامة الخسارة فيهم. وأول من توفي منهم
1 الدينوري ص: 355.
2 يقال للقوم إذا كانوا مقبلين على شيء محدقين به ثم انكشفوا عنه: قد افرجوا عنه وأجلوا عنه.
3 الغضنفر: الأسد الغليظ الخلق متغضنه. والكليم: الأسد إذا طعن هاج.
المهلب بن أبي صفرة، إذ مات حتف أنفه بمرو الروذ، وهو عائد من كس بما وراء النهر إلى مرو الشاهجان. فأبنه نهار بن توسعة البكري تأبينا مؤثرا بقوله1:
ألا ذهب الغزو المقرب للغنى
…
ومات الندى والحزم بعد المهلب
أقام بمرو الروذ رهن ترابه
…
وقد غيبا عن كل شرق ومغرب
إذا قيل أي الناس أولى بنعمة
…
على الناس؟ قلناه ولم نتهيب2
أباح لنا سهل البلاد وحزنها
…
بخيل كأرسال القطا المتسرب3
يعرضها للطعن حتى كأنما
…
يجللها بالأرجوان المخضب4
تطيف به قحطان قد عصبت به
…
وأحلافها من حي بكر وتغلب
وحيا معد عوذ بلوائه
…
يفدونه بالنفس والأم والأب
فهو يفرد المقطوعة للثناء عليه وتجسيم المصيبة فيه، فقد تعطلت الغارات بوفاته، وهو الذي استفرغ حياته، وأفنى عمره في الإغارة حتى فتح الفتوحات الكثيرة، وحاز الانتصارات الكبيرة، وحتى احتل المدن الجبلية، والبلدان السهلية، بطوائف الأفراس التي كان يفرقها في النواحي المختلفة، فتندفع بفرسانها لا تخاف الطعن، ولا تخشى العطب، بل تتقدم بهم نحو الأعداء، وترجع سالمة، وآثار الدماء لا تزال تصبغ هواديها وأجسادها. وانتهى الكرم المعروف بانطوائه، وأفل من سماء العرب نجم ساطع كان يضيء لهم على تعدد أحيائهم، وتباين أهوائهم، فقد كان ملاذ الأزد، وحلفائهم من بكر وتغلب، كما كان ملجأ مضر وقيس.
والمبالغة في نعيه له، وإطرائه عليه واضحة، وهي لا تنبثق من منجزاته العسكرية الضخمة، لأن المهلب لم يحرز هذه الانتصارات العظيمة، وإنما تنبثق من تحيز نهار له، وهو حليف الأزد الذي تقوى بقوتهم، وتضعف بضعهم.
1 التعازي والمراثي ص: 135، والطبري 8: 1084، وابن الأثير 4: 476، ووفيات الأعيان 4: 435، وسنشير إليه بابن خلكان.
3 قلناه: أي قلنا: هو.
3 الأرسال: جمع رسل، أي قطيع بعد قطيع.
4 الأرجوان: صبغ أحمر شديد الحمرة.
وتوفي هبيرة بن مشمرج الكلابي بقرية من فارس، وهو في طريقه من مرو الشاهجان إلى دمشق، وقد أوفده قتيبة بن مسلم إلى الوليد بن عبد الملك بعد أن عاد من الصين، فرثاه سوادة بن عبد الله السلولي بقوله1:
لله قبر هبيرة بن مشمرج
…
ماذا تضمن من ندى وجمال
وبديهة يعيا بها أبناؤها
…
عند احتفال مشاهد الأقوال
كان الربيع إذا السنون تتابعت
…
والليث عند تكعكع الأبطال2
فسقت بقرية حيث أمسى قبره
…
غر يرحن بمسبل هطال
بكت الجياد الصافنات لموته
…
وبكاه كل مثقف عسال3
وبكته شعث لم يجدن مؤسيا
…
في العام ذي السنوات والامحال4
فهو يبكي فيه حسنه وفصاحته وإنسانيته وشجاعته، ويستسقي لقبره، ويبين عظم البلية فيه، بحيث تألم لوفاته كل النساء الفقيرات اللاتي كان يشملهن بعطفه وبره في الضائقات، وبحيث شاركت في الحزن عليه الخيول التي كان يركبها، ويغزو بها، والرماح التي كان يستخدمها ويطاعن فيها، فإذا هي تسكب الدموع حسرة لفراقه، وإجلالا لذكراه.
واختطفت يد المنية الجنيد بن عبد الرحمن المري بمرو الشاهجان، فنعاه أبو الجويرية عيسى بن عصمة العبدي بقوله5:
هلك الجود والجنيد جميعا
…
فعلى الجود والجنيد السلام
أصبحا ثاويين في أرض مرو
…
ما تغنت على الغصون الحمام
1 الطبري 8: 1280، وابن الأثير 5:7.
2 تكعكع الأبطال: جبنهم وإحجامهم.
3 الصافنات: جمع صافن، وهو من الخيل القائم على ثلاث، وقد أقام الرابعة على طرف الحافر. والمثقف، المقوم المصقول. والعسال: الرمح اللدن المضطرب.
4 الشعث: مغبرة الشعور. والأمحال: جمع محل. وهو الشدة والجوع.
5 الطبري 9: 1565، ومعجم الشعراء ص: 95، وتهذيب تاريخ ابن عساكر 3: 416، والبداية والنهاية 9:312.
كنتما نزهة الكرام فلما
…
مت مات الندى ومات الكرام
والمهم في المقطوعة أن صاحبها كان جريئا شجاعا، وكان وفيا للجنيد، فقد صور حزنه وتفجعه عليه، ورفع صوته بالدعاء له، مع أنه توفي بعد أن أعفاه هشام بن عبد الملك من منصبه، ومع أن الوالي الجديد، وهو عاصم بن عبد الله الهلالي كان يبغضه بغضا شديدا، وتعقب عماله وأقرباءه وسجنهم. فجر عليه رثاؤه للجنيد، بل وفاؤه له حيا وميتا أن تحاماه عاصم، وتحامل عليه خالد بن عبد الله القسري1، أمير العراق، لأن الأخير كان يريد من أبي الجويرية، وهو من حلفاء الأزد وأهل اليمن أن يجرح الجنيد، ويطعن في شخصيته، وينتقد الولاة القيسيين الذين خلفوا أخاه أسدا على خراسان.
ومات أسد بن عبد الله القسري بقرية من قرى بلخ، فرثاه ابن عرس العبدي بقوله2:
نعى أسد بن عبد الله ناع
…
فريع القلب للملك المطاع
ببلخ وافق المقدار يسري
…
وما لقضاء ربك من دفاع
فجودي عين بالعبرات سحا
…
ألم يحزنك تفريق الجماع
أتاه حمامه في جوف صيغ
…
وكم بالصيغ من بطل شجاع3
كتائب قد يجيبون المنادي
…
على جرد مسومة سراع4
سقيت الغيث إنك كنت غيثا
…
مريعا عند مرتاد النجاع5
فالشاعر وإن استسلم للقضاء وأذعن للقدر، فإنه عاجز عن التجلد على الفجيعة بأسد، فقد كبرت الرزية به، ولذلك فإنه يبكيه، ويعول في البكاء عليه، بل على خلاله النبيلة من الإباء والمضاء والجود، والنخوة والمروءة.
1 الطبري 9: 1565.
2 الطبري 9: 1638، وابن الأثير 5: 217، وتهذيب تاريخ ابن عساكر 2:464.
3 صيغ: ناحية من نواحي خراسان، كان بها ملك أسد القسري.
4 الجرد من الخيل: القصيرات الشعر، وذلك من علامات العتق والكرم. والمسومة: المعلمة.
5 المريع: الخصيب.
وكان سليمان بن قتة، مولى بني تميم بن مرة القرشيين، صديقا لأسد، فرثاه بدوره رثاء حارا تحرق فيه عليه، واستسقى لقبره، وأشاد به. فقد كان أسد في رأيه حاميا لحقيقتهم، قائما بأمورهم، حاملا لهمومهم، ساعيا لانتزاع حقوقهم، آخذا بثاراتهم، وكان فارسهم المشهور، الذي طالما حز بسيفه رؤوس أعدائهم حزا، وطعنهم برمحه طعنا، يقول:1:
سقى الله بلخا سهل بلخ وحزنها
…
ومروي خراسان السحاب المجمما2
وما بي لتسقاه ولكن حفرة
…
بها غيبوا شلوا كريما وأعظما3
مراجم أقوام ومردى عظيمة
…
وطلاب أوتار عفرنا عثمثما4
لقد كان يعطي السيف في الروع حقه
…
ويروي السنان الزاغبي المقوما5
وتتضح من النصوص السابقة ظاهرتان: الأولى أن الشعراء العرب بخراسان، لم يبتدعوا معاني في الرثاء، على كثرة ما نظموا فيه، ولم يعدلوا في أسلوبه أي تعديل، وإنما احتذوا فيه بالمرثية الجاهلية أدق الاحتذاء، بحيث أبدأوا وأعادوا في معانيها وقوالبها التعبيرية، وهم يندبون أو يؤبنون أو يعزون6.
والظاهرة الثانية أنهم لم يرثوا إلا أولى القربى من الإخوة والأولاد والولاة، وأنهم لم يرثوا إلا العمال الذين كانوا يحابونهم، ويمالئون قبائلهم. وذلك بين في رثاء الشمردل بن شريك التميمي لإخوته قدامة، ووائل، وحكم، وفي رثاء موسى بن عبد الله بن خازم السلمي لأخيه محمد، وفي رثاء نصر بن سيار لابنه تميم، وفي رثاء عبد الرحمن بن جمانة الباهلي لقتيبة بن مسلم، وفي رثاء نهار بن توسعة البكري
1 الطبري 9: 1639، وتهذيب تاريخ ابن عساكر 2:464.
2 المجمم: الكثير.
3 الشلو: الجلد أو الجسد.
4 الرجم: القتل، وراجم عن قومه: ناضل عنهم، والعفرني: الداهية النافذ في الأمر. المبالغ فيه مع خبث.
والعثمثم: الأسد القوي الطويل في غلظ.
5 الزاعبي: الرمح اللين إذا هز تدافع كله كأن آخره يجري في مقدمه.
6 الرثاء للدكتور شوقي ضيف ص: 12، 54، 86.
للمهلب بن أبي صفرة الأزدي، وفي رثاء سوادة بن عبد الله السلولي القيسي لهبيرة بن مشمرج الكلابي القيسي، وفي رثاء ابن عرس العبدي لأسد بن عبد الله القسري البجلي اليمني. ولم يخرج على ذلك إلا أبو الجويرية العبدي وسليمان بن قتة، فقد رثى أولهما الجنيد بن عبد الرحمن المري، ورثى ثانيهما أسدا القسري. ومرجع ذلك إلى الصداقة الحميمة التي انعقدت بين الشاعرين والواليين، وما نالاه من هباتهما وصلاتهما، مما يدل على عصبية الشعراء ومواقفهم العدائية من الأشخاص والولاة الذين لم يكونوا من قبائلهم ولا من حلفائهم، وعلى ضيقهم بهم، وحقدهم عليهم لا في حياتهم فحسب، بل بعد مماتهم أيضا.