الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شاعر أزدي مفتون متهور:
كعب بن معدان 1:
هو من الأشاقر، وهم قبيلة من الأزد، وأمه من عبد القيس. وأخباره في الشطر الأول من عمره قليلة، بل ضائعة مجهولة. ونحن نظن ظنا أنه بصري المولد والمربى، وأنه حين بلغ سن الفتيان اتصل بالمهلب بن أبي صفرة، وكافح معه الخوارج بفارس، إذ يقول أبو الفرج الأصفهاني:"إنه شاعر خطيب معدود في الشجعان من أصحاب المهلب. والمذكورين في حروبه للأزارقة"2.
وعندما عين المهلب واليا على خراسان رافقه كعب، وجاهد معه الترك بما وراء النهر3. وشجر خلاف بين الأزد وحلفائهم من عبد القيس في ولاية المهلب، فاندلعت الحرب بينهم، وأوقع كل فريق منهم بالآخر خسائر وأضرارا، واشتبك شعراؤهم في معركة هجائية، فكان كعب يهجو عبد القيس، وينال منهم، وزياد الأعجم مولى عبد القيس يجيبه، وينسب إلى الأزد كل مثلبة وسوءة. ولم تزل
1 انظر أخباره في الكامل للمبرد 3: 403، والاشتقاق ص: 501، وجمهرة أنساب العرب ص:381. والأغاني "طبعة دار الكتب" 14: 283، وأمالي القالي 1: 261، ومعجم الشعراء ص: 236، وسمط الآلي 1: 588، وزهر الآداب 2: 787، ولكعب بن معدان الأشقري ترجمة وافية في الجزء الرابع عشر من تاريخ دمشق المخطوط.
2 الأغاني 14: 283.
3 الطبري 8: 1079.
القبيلتان تتقاتلان، والشاعران يتناقضان، حتى فض المهلب النزاع الحربي بينهما، ودفع ديات القتلى لكل منهما، وأمر الشاعرين بالكف عن الهجاء فكفا واصطلحا، ولكن بعد أن قطع زياد عرض كعب تقطيعا، ولطخ وجوه الأزد بالمعايب تلطيخا1.
ولما توفي المهلب حف كعب بأولاده، وقاتل معهم، ومدحهم، فقد شهد فتح يزيد بن المهلب لقلعة باذغيس سنة أربع وثمانين2، ومدحه، وحضر احتلال المفضل بن المهلب للقلعة مرة ثانية سنة خمس وثمانين، وسجل اكتساحه لها في مقطوعة من شعره3.
وبعد أن عزل الحجاج بن يوسف المهالبة عن إدارة خراسان، وأسند حكمها لقتيبة بن مسلم، لم ينزو كعب عنه، ولم ينكب على نفسه، كثابت قطنة، وإنما قصده، وحارب الترك معه، وكأنما وجد في عهده الحافل بالمعارك ما يرضي نزعة الحرب والفروسية في نفسه، وما يشغله عن التفكير في مشكلات قبيلته، وفي أحوال المهالبة. فخاض بجانبه أكثر الوقائع التي نازل فيها الترك، إذ كان معه سنة ثلاث وتسعين، حين غزا خوارزم، وفتح عاصمتها4، وكان معه في السنة نفسها، يوم أن زحف على سمرقند وافتتحها5. وانفعل ببطولاته وانتصاراته، فخرج عن طبيعته، وخلد اجتياحه لخوارزم في مقطوعة لام فيها يزيد بن المهلب، لأنه كان وجه إليها حملة فلم يتمكن من احتلالها6. وبلغت مقطوعته ابن المهلب فغضب عليه. وما هي إلا أن يغتال قتيبة، ويقبل ابن المهلب واليا على خراسان للمرة الثانية، فإذا كعب يتوجس منه ريبة. وهنا يختلف الرواة في أخباره، فمن قائل: إنه بقي
1 الأغاني 14: 287، 289.
2 الطبري 8: 1129.
3 الطبري 8: 1144.
4 الطبري 8: 1239.
5 الطبري 8: 1252.
6 الأغاني 14: 299.
بخراسان، فحبسه، ثم دس إليه ابن أخ له كان يبغضه، فقتله1. ومن قائل: إنه هرب إلى عمان، ونزل بها مدة، ثم كرهها، فأرسل إلى ابن المهلب قصيدة اعتذر له فيها، وسأله العفو عنه فلم يقبل اعتذاره، بل ظل ناقما عليه، ثم أغرى به ابن أخيه المذكور، وجعل له مالا على قتله، فضرب رأسه بفأس وهو بعمان2.
والأرجح عندي أنه أقام بخراسان في ولاية ابن المهلب، فسجنه، ثم أطلق سراحه، وفي أخباره ما يشير إلى ذلك إشارة واضحة3. واستمر يقيم بخراسان بعد إقصاء عمر بن عبد العزيز لابن المهلب عنها. وأقوى برهان على ذلك أنه ضج بالشكوى من عمال الخراج بخراسان في خلافه عمر بن عبد العزيز، وبعث إليه قصيدة دعاه فيها إلى محاسبة الخونة منهم حسابا شديدا4. ثم فر إلى عمان بعد أن نمي إليه أن المهالبة يدبرون لقتله، وظل ينزل بها حتى أغرى به ابن المهلب ابن أخيه فقتله سنة اثنتين ومائة.
وأكثر ما وصل إلينا من شعره يدور على مديح المهالبة، وذكر حروبهم للأزارقة بفارس، والإشادة بأصولهم العريقة التي زكتهم للنهوض بتلك المهمة، ومكنتهم من تحقيق الانتصارات العظيمة، والافتخار بأفضالهم على أهل البصرة والكوفة، لوقايتهم إياهم من عبث الأزارقة وخطرهم. ومنه هذه القصيدة الرائية يصف فيها قتال المهلب وأولاده للأزارقة بكرمان والأهواز وهي تتوالى على هذا النمط5:
طربت وهاج لي ذاك ادكارا
…
بكش وقد أطلت به الحصارا6
وكنت ألذ بعض العيش حتى
…
كبرت وصار لي همي شعارا
1 الأغاني 14: 293.
2 الأغاني 14: 292، 298.
3 الأغاني 14: 298.
4 البيان والتبيين 3: 213.
5 الأغاني 14: 282، 287، 295.
6 كش: قرية بأصبهان.
رأيت الغانيات كرهن وصلي
…
وأبدين الصريمة لي جهارا1
غرضن بمجلس وكرهن وصلي
…
أوان كسيت من شمط عذارا2
زرين علي حين بدا مشيبي
…
وصارت ساحتي للهم دارا3
أتاني والحديث له نماء
…
مقالة جائر أحفى وجارا4
سلوا أهل الأباطح من قريش
…
عن العز المؤبد أين صارا5
ومن يحمي الثغور إذا استحرت
…
حروب لا ينون لها غرارا6
لقومي الأزد في الغمرات أمضى
…
وأوفى ذمة وأعز جارا
هم قادوا الجياد على وجاها
…
من الأمصار يقذفن المهارا7
بكل مفازة وبكل سهب
…
بسابس لا يرون لها منارا8
إلى كرمان يحملن المنايا
…
بكل ثنية يوقدن نارا9
شوازب لم يصبن الثأر حتى
…
رددناها مكلمة مرارا10
ويشجرن العوالي السمر حتى
…
ترى فيها عن الأسل ازورارا11
غداة تركن مصرع عبد رب
…
يثرن عليه من رهج عصارا12
1 الصريمة: القطيعة.
2 غرضن بمجلسي: مللنه، وضجرن منه. والشمط: بياض بالرأس يخالط سواده. والعذار: جانبا الرأس.
3 زرى عليه: عابه.
4 يقال في كلام فلان إحفاء، وذلك إذا ألصق بك ما تكره وألح في مساءتك، كما يحفى الشيء: أي ينتقض.
5 المؤبد: الخلد.
6 لا ينون لها: لا يتوانون عنها ولا يفترون. والغرار: جمع غار، وهو الغافل.
7 الوجى: الحفا. والمهار: جم مهر، وهو ولد الفرس.
8 المفازة والسهب والبسبس: كلها بمعنى الأرض الواسعة المقفرة المخوفة المهلكة.
9 الثنية: الطريق في الجبل.
10 الشوازب: الضوامر. ومكلمة: مجرحة.
11 العوالي: أسنة الرماح. والسل: الرماح المعتدلة الطويلة المستوية الدقيقة.
12 الرهج: الغبار. والعصار: الغبار الشديد.
ويوم الزحف بالأهواز ظلنا
…
نروي منهم الأسل الحرارا1
فقرت أعين كانت حزينا
…
ولم يك نومها إلا غرارا2
صنائعنا السوابغ والمذاكي
…
ومن بالمضر يجتلب العشارا3
فهن يبحن كل حمى عزيز
…
ويحمين الحقائق والذمارا4
طوالات المتون ويصن إلا
…
إذا سار المهلب حيث سارا
فلولا الشيخ بالمصرين ينفي
…
عدوهم لقد تركوا الديارا
ولكن قارع الأبطال حتى
…
أصابوا الأمن واجتنبوا الفرارا
إذا وهنوا وحل بهم عظيم
…
يدق العظم كان لهم جبارا
ومبهمة يحيد الناس عنها
…
تشب الموت شد لها الإزارا
شهاب تنجلي الظلماء عنه
…
يرى في كل مبهمة منارا
بل الرحمن جارك إذ وهنا
…
بدفعك عن محارمنا اختيارا
براك الله حين براك بحرا
…
وفجر منك أنهارا غزارا
بنوك السابقون إلى المعالي
…
إذا ما أعظم الناس الخطارا5
كأنهم نجوم حول بدر
…
دراري تكمل فاستدارا6
ملوك ينزلون بكل ثغر
…
إذا ما الهام يوم الروع طارا7
رزان في الأمور ترى عليهم
…
من الشيخ الشمائل والنجارا8
1 الحرار: جمع حران، وهو العطشان.
2 الحزين: المحزونة. والغرار: القليل.
3 الصنائع: جمع صنيعة، وهي المعروف والإحسان. والسوابغ: الدروع التامة الطويلة. والمذاكي: الخيل التي أتى عليها بعد قروحها سنة أو سنتان. والعشار: النوق التي مضى لحملها عشرة أشهر.
4 الذمار: ما يلزمك حفظه وحمياته.
5 الخطار: المراهنة.
6 الكوكب الدري: المضيء.
7 الهام: الرؤوس.
8 النجار: الأصل. والشمائل: جمع شمال، وهو الطبع.
نجوم يهتدى بهم إذا ما
…
أخو الظلماء في الغمرات حارا
والقصيدة توضح ما كان بنفس الشاعر بل بنفوس الأزد من سخط وضيق بمصيرهم بعد الإسلام، وكيف أنهم حرموا حقهم في الرئاسة1، وتفصح عن آمالهم العراض فيها. فهو معتد بالأزد أقصى الاعتداد، شامخ بالمهالبة منهم أعلى الشموخ. وهو يستند في اعتداده وشموخه إلى أساسين: الأول عزهم الجاهلي المؤثل الباقي على الدهر، والثاني مجدهم الإسلامي الأصيل النامي على مر السنين، والمتمثل في مساهمتهم القوية في القضاء على الثورات العنيفة، التي كاد أصحابها يديلون من الخلفاء الأمويين، لولا مساعدة الأزد لهم. وهو يريد الخلفاء الأمويين القرشيين أن يعترفوا بمكانة الأزد وعظمتهم، ويريدهم أن يردوا إليهم نصيبهم في الحكم. وهو لذلك لا يكاثر القبائل التي ليس لها حظ كبير في الملك، وإنما يختار القرشيين على وجه التخصيص، ويطاولهم ويستعلي عليهم. فهم الذين يستأثر الأمويون منهم بالخلافة، وهم الذين كان للأزد وأهل اليمن دور في تأييدهم وتعضيدهم في أول عهد الإسلام، وهم الذي تنكروا لمن ساعدهم وجحدوهم حقهم. وهم الآن عاجزون عن حماية أنفسهم من الخارجين عليهم، مقصرون عن توفير الأمن والاستقرار في الأمصار التي تغلي بالثورة عليهم، فعادوا إلى التماس العون من الأزد، فسارعوا إلى دعمهم، وثبتوا سلطانهم. وهو لا يريد أن تتكرر المأساة من جديد، ولا أن يغمط الأزد حظهم في المشاركة الفعلية في الزعامة.
وبعد أن فتك المهلب بالأزارقة فتكا ذريعا، أرسل كعبا إلى الحجاج بن يوسف، ليقدم إليه تقريرا عن سير العمليات ونتائجها، ويزف إليه بشرى انتصاره الساحق في كل عملية منها. فإذا هو لا يقدم إليه تقريرا موجزا في مقطوعة، بل ينشد بين يديه قصيدة مطولة تبلغ ثلاثة وثمانين بيتا، وتكاد تكون ملحمة قصيرة. لسرده فيها سردا قصصيا حماسيا وقائع المهلب مع الأزارقة، وهو يقول فيها بعد المقدمة الغزلية ومديح الحجاج، واصفا حال الناس بالبصرة، واستخفافهم بأمر الأزارقة، حتى تكاثفوا وتعاظم خطرهم، فاختبأ الرجال في منازلهم، وأحجموا عن
1 حديث الأربعاء 1: 261.
قتالهم، وأصبحوا كالنساء يرتجفون رعبا ورهبا. حتى إذا هب المهلب لنضالهم، لبت قبيلته نداءه، وخرجت في كتائب جرارة لمكافحتهم1:
واستسلم الناس إذ حل العدو بهم
…
فما لأمرهم ورد ولا صدر
وما تجاوز باب الجسر من أحد
…
وعضت الحرب أهل المصر فانجحروا
وأدخل الخوف أجواف البيوت على
…
مثل النساء رجال ما بهم غير
واشتدت الحرب والبلوى وحل بنا
…
أمر تشمر في أمثاله الأزر
نظل من دون خفض معصمين بهم
…
فشمر الشيخ لما أعظم الخطر
كنا نهون قبل اليوم شأنهم
…
حتى تفاقم أمر كان يحتقر
لما وهنا وقد حلوا بساحتنا
…
واستنفر الناس مرات فما نفروا
نادى امرء لا خلاف في عشيرته
…
عنه وليس به في مثله قصر
تلبسوا لقراع الحرب بزتها
…
فأصبحوا من وراء الجسر قد عبروا
ساروا بألوية للمجد قد رفعت
…
وتحتهن ليوث في الوغى وقر
ومضى يفصل في منازلة المهلب والأزد للأزارقة في رام هرمز، وسابور، وكازرون، ودشت بارين، وجييرين، وكرمان، وما تكبده الفريقان من الضحايا، حتى نفاهم المهلب عن كل تلك الأماكن نفيا، وخسفهم بها خسفا:
تأتي علينا حزازات النفوس فما
…
نبقي، عليهم وما يبقون إن قدروا
ولا يقبلوننا في الحرب عثرتنا
…
ولا نقيلهم يوما إذا عثروا
ولا عذر يقبل منا دون أنفسنا
…
ولا لهم عندنا عذر إذا اعتذروا
صفان بالقاع كالطودين بينهما
…
كالبرق يلمع حتى يشخص البصر2
1 الطبري 8: 1007- 1017، وانظر مقتطفات من القصية في الأغاني 14: 284، وسمط الآلي1:589.
2 شخص البصر، سما وارتفع وطمح.
على بصائر كل غير تاركها
…
كلا الفريقين تتلى فيهم السور
يمشون في البيض والأبدان إذ وردوا
…
مشي الزوامل تهدي صفهم زمر1
وشيخنا حوله منا ململمة
…
حي من الأزد فيما نابهم صبر2
من موطن يقطع الأبطال منظره
…
تشاط فيه نفوس حين تبتكر
ما زال منا رجال ثم تضربهم
…
بالمشرفي ونار الحرب تستعر
وباد كل سلاح يستعان به
…
في حومة الموت إلا الصارم الذكر
ندوسهم بعناجيج مجففة
…
وبيننا ثم من صم القنا كسر3
يغشين قتلى وعقري ما بها رمق
…
كأنما فوقها الجادي يعتصر4
قتلى بقتلى قصاص يستقاد بها
…
تشفي صدور رجال طال ما وتروا
مجاورين بها خيلا معقرة
…
للطير فيها وفي أجسادهم جزر5
في معرك تحسب القتلى بساحته
…
أعجاز نخلٍ زفته الريح ينعقر6
وفي مواطن قبل اليوم قد سلفت
…
قد كان للأزد فيها الحمد والظفر
وفي كل يوم تلاقي الأزد مفظعة
…
يشيب في ساعة من هولها الشعر
والأزد قومي خيار الناس قد علموا
…
إذا قرومهم يوم الوغى خطروا7
فيهم معاقل من عز يلاذ بها
…
يوما إذا شمرت حرب لها درر8
حي بأسيافهم يبغون مجدهم
…
إن المكارم في المكروه تبتدر9
1 الأبدان: الدروع. والزوامل: جمع زاملة، وهو البعير يحمل المتاع والطعام.
2 الململة: الكتيبة المجتمعة.
3 العناجيج: جمع عنجوج، وهو من الخيل الجواد الطويل العنق. والمجففة من الخيل: التي عليها التجفاف وهو ما يجلل به الفرس من السلاح وآلة تقيه الجراح.
4 الجادي: الزعفران.
5 المعقرة: المجرحة المصروعة. والجزر: اللحم الذي تأكله السباع والطير.
6 زفته: رفعته. وتنعقر: تنقلع من أصلها.
7 القروم: جمع قرم، وهو السيد المعظم. وخطروا: خرجوا للحرب نشيطين معجبين بأنفسهم.
8 الدر: جمع درة، وهي في الأمطار أن يتبع بعضها بعضا.
9 تبتدر: تسرع.
لولا المهلب للجيش الذي وردوا
…
أنهار كرمان بعد الله ما صدروا
إنا اعتصمنا بحبل الله إذ جحدوا
…
بالمحكمات ولم نكفر كما كفروا
جاروا عن القصد والإسلام واتبعوا
…
دينا يخالف ما جاءت به النذر
فعقدة العز اليمني الجاهلي التالد، والمجد الأزدي الإسلامي الصاعد، لا تزال تؤرقه فتدفعه دفعا بعد وصفه الحي الرائع لمعارك المهلب مع الأزارقة إلى اختتام قصيدته بالزهو والعجب بحسب الأزد، وأفعالهم الكريمة، وجانبهم المنيع، وسعيهم المتصل إلى المعالي، تنفيسا عما يتعمقه من الشعور بحقهم الضائع في تزعم العرب، مع ما يبذلونه من التضحيات، وما يسجلونه من الانتصارات، التي تحفظ للأمويين عروشهم في الأزمات. وهو لذلك لا يكتفي بالتغني بهموم قومه السياسية، بل يفاخر بالأزد كافة القبائل العربية ويطاولها، ويصدر في النهاية حكمه بتفضيلهم عليها، جاعلا المهلب عنوانا لعزهم الحديث المؤكد، ورمزا لمجدهم الخالد المتجدد.
وله يمدح المهلب مصورا ما حققه لأهل البصرة والكوفة من أمن واطمئنان، وما أغدقه عليهم من العطاء، دون تمييز بين قبائلهم، يقول1:
شفيت صدورا بالعراقين بعدما
…
تجاوب فيها النائحات الصوادح
مددت الندى والجود للناس كلهم
…
فهم شرع فيه صديق وكاشح2
ويقول في مديح يزيد بن المهلب، وقد احتل قلعة باذغيس3:
ثنائي على حي العتيك بأنها
…
كرام مقاريها، كرام نصابها4
إذا عقدوا للجار حل بنجوة
…
عزيز مراقيها منيع هضابها5
1 معجم الشعراء ص: 236.
2 شرع فيه: داخلون فيه، شاربون منه.
3 الطبري 8: 1130، وابن الأثير 4:499.
4 المقاري: القدور والجفان التي يقرى فيها الأضياف. والنصاب: الأصل.
5 النجوة: المكان المرتفع لا يعلوه السيل.
نفى نيزكا عن باذغيس ونيزك
…
بمنزلة أعيا الملوك اغتصابها
محلقة دون السماء كأنها
…
غمامة صيف زل عنها سحابها
ولا يبلغ الأروى شماريخها العلى
…
ولا الطير إلا نسرها وعقابها1
وما خوفت بالذئب ولدان أهلها
…
ولا نبحث إلا النجوم كلابها
تمنيت أن ألقى العتيك ذوي النهى
…
مسلطة تحمى بملك ركابها
كما يتمنى صاحب الحرث عطشت
…
مزارعه غيثا غزيرا ربابها2
فأسقي بعد اليأس حتى تحيرت
…
جداولها ريا وعب عبابها3
لقد جمع الله النوى وتشعبت
…
شعوب من الأفاق شتى مآبها
ويقول المرزباني: "إنه استفرغ شعره في مدح المهلب وولده"4. ولعله وثابت قطنة، اقتصرا عن عمد ووعي على مديح المهالبة، ليضخما شخصياتهم، ويغلباها على شخصية أي مسؤول في الدولة الأموية، مهما يكن مركزه، وأيا كان منصبه. وإلا فما معنى صمتهما عن نظم بيت واحد يذكران فيه الخلفاء الأمويين؟ وما معنى عزوفهم عن التنويه بأعمال الولاة القيسيين بخراسان، إلا ما كان من مديح كعب لقتيبة بن مسلم بمقطوعتين، ينازعه في مقطوعة منهما شاعر آخر؟
وعلى نحو ما ناضل ثابت قطنة في قسم كبير من أهاجيه عن الأزد والمهالبة، ناضل كعب أيضا في كثير من أهاجيه عنهم. فقد كان لا يهتضم المساس بهم، ولا التشكك في مقدرتهم الحربية، ولا النقد والتوجيه لهم حتى من المشرفين عليهم. ففي أثناء محاربة المهلب للأزارقة، كتب إليه الحجاج يأمره بمناجزتهم، ويستبطئه، ويضعفه ويعجزه في تأخيره أمرهم ومطاولتهم. فرد عليه المهلب بأنه المسؤول عن كل ما يفعل، وأنه يدبر أمر الحرب كما يرى، فإن أمكنته الفرصة انتهزها، وإن لم تمكنه
1 الأروى: اسم جمع للذكر والأنثى من الوعول. والشماريخ: رؤوس الجبال.
2 الرباب: السحاب المتعلق الذي تراه دون السحاب.
3 تحيرت: امتلأت. وعب: كثر وارتفع. والعباب: معظم الماء وكثرته.
4 معجم الشعراء ص: 236.
توقف. فاستلهم كعب إجابة المهلب له، وراح يسخف رأيه ويرميه بأنه لا يحسن القتال، وينصحه في كثير من السخرية بالعكوف على ملاهيه وجواريه، فتلك صناعته التي يبرع فيها. يقول1:
إن ابن يوسف غره من غزوكم
…
خفض المقام بجانب الأمصار
لو شاهد الصفين حين تلاقيا
…
ضاقت عليه رحيبة الأقطار
من أرض سابور الجنود وخيلنا
…
مثل القداح بريتها بشفار2
من كل خنذيذ يرى بلبانه
…
وقع الظباة مع القنا الخطار3
ورأى معاودة الرباع غنيمة
…
أزمان كان محالف الإقتار4
فدع الحروب لشيبها وشبابها
…
وعليك كل خريدة معطار5
وكما هجا ثابت قطنة بكرا، وأخذ عليها أنها لا تؤازر حلفاءها مع الأزد في الأزمات، وإنما تطالبهم بالحقوق والامتيازات، وتستغيث بهم في النازلات، كذلك هجا كعب عبد القيس بكرا، وشكا من أنهما لا تغنيان في النائبات. وفي القبيلة الأولى يقول، وقد اختلفت مع الأزد وحاربتهم في ولاية المهلب6:
ثوى عامين في الجيف اللواتي
…
مطرحة على باب الفصيل7
أحب إلي من ظل وكن
…
لعبد القيس في أصل الفسيل8
1 الأغاني 14: 291.
2 القداح: السهام، تشبه بها الخيل في الضمور. والشفار: جمع شفرة، وهي السكين العريضة العظيمة المحددة.
3 الخنذيذ من الخيل: الجواد الطويل. واللبان: الصدر. والظباة: جمع ظبة، وهي حد السيف. والقنا الخطار: الرماح شديدة الاهتزاز لرقتها.
4 الرباع: جمع ربع، وهو ربع الغنيمة يأخذه الرئيس في الغزو دون أصحابه.
5 المعطار: التي اعتادت أن تتعهد نفسها بالطيب، وتكثر منه.
6 الأغاني 14: 289.
7 الثواء: الإقامة الطويلة، والفصيل: ولد الناقة إذا فصل عن أمه.
8 الكن: الستر. والفسيل: جمع فسيلة، وهي النخلة الصغيرة.
إذا ثار الفساء بهم تغنوا
…
ألم تربع على الدمن المثول
تظل لها ضبابات علينا
…
موانع من مبيت أو مقيل
أرأيت إلى تهكمه بالعبديين حلفاء قومه؟ إنه يؤثر أن يقيم بين الجيف المتعفنة، على أن يقيم بين مزارع نخيلهم، توقيا من فسائهم الكثيف، وروائحه الكريهة التي تطرد الطارق لهم، والوافد عليهم طردا، فلا يأمل في الاستراحة وقت الهاجرة عندهم، ولا يرجو قضاء ليلة بينهم!
بل إنه شكا تقاعس بعض العشائر اليمنية، وتذمر من أنها أصبحت عبئا يثقل كاهل الأزد، وحث يزيد بن المهلب على الاستغناء عنها، وعلى اسقاط عبد القيس معها، وفي ذلك يقول1:
لا ترجون هنائيا لصالحة
…
واجعلهم وهدادا أسوة الحمر2
حيان ما لهما في الأزد مأثرة
…
غير النواكة والإفراط في الهذر3
واجعل لكيزا وراء الناس كلهم
…
أهل الفساء وأهل النتن والقذر
قوم علينا ضباب من فسائهم
…
حتى ترانا له ميدا من السكر4
أبلغ يزيدا بأنا ليس ينفعنا
…
عيش رغيد ولا شيء من العطر
حتى تحل لكيزا فوق مدرجة
…
من الرياح على الأحياء من مضر5
ليأخذوا لنزار خط سبتها
…
كما أخذنا بخط الحلف والصهر
ويقول في بكر موبخا لرجالها الذين يقبلون سيادة أغنيائهم عليهم، لا أهل
1 الأغاني 14: 290.
2 هناء: حي من طيء: وهداد: حي من اليمن.
3 النواكة: الحمق. والهذر: سقط الكلام.
4 الميد: جمع مائد، وهو المترنح من السكر.
5 لكيز: حي من عبد القيس، والمدرجة: الطريق.
الحمية والحفيظة فيهم، فإذا هم يجبرونهم على الاستكانة للظلم، واستساغة الضيم1:
لقد خاب أقوام سروا ظلم الدجى
…
يؤمون عمرا ذا الشعير وذا البر
يؤمون من نال الغنى بعد شيبة
…
وقاسى وليدا ما يقاسي ذوو الفقر
فقل للجيم يا لبكر بن وائل
…
مقالة من يلحى أخاه ومن يزري2
فلو كنتم حيا صميما نفيتم
…
بخيلكم بالرغم منه وبالصغر3
ولكنكم يا آل بكر بن وائل
…
يسودكم من كان في المال ذا وفر
هو المانع الكلب النباح وضيفه
…
خميص الحشا يرعى النجوم التي تسري4
ومثلما حرض ثابت قطنة المهلب بن أبي صفرة على حجر المناصب الإدارية الرفيعة والتافهة للأزد، وعنفه حين رآه يوظف بعض الموالي في مركز صغير، وهاج حين أعفاه أسد القسري من حكم سمرقند، ولامه، فإننا نرى كعبا يسلك سلوكه. وآية ذلك أنه عذل عمرو بن عمير اليحمدي، وهو شيخ من شيوخ الأزد، لأنه رضي بمنصب متواضع أسنده إليه يزيد بن المهلب، وهو إدارة بلدة الزم على شط جيحون، وشجعه على المطالبة بمنصب أرفع يليق بمقامه، لأنه ليس أقل من شيوخ بني ربيعة الذين كانوا يشغلون أكبر المراكز، ولم يزل يهيجه حتى رد عهد يزيد عليه، فحرمه الوظيفة سنة. يقول5:
لقد فازت ربيعة بالمعالي
…
وفاز اليحمدي بعهد زم
فإن تك راضيا منهم بهذا
…
فزادك ربنا غما بغم
1 الأغاني 14: 297.
2 زرى عليه: عابه.
3 الصغر: الذل.
4 خميص الحشا: ضامر البطن.
5 الأغاني 14: 294.
إذا الأزدي وضح عارضاه
…
وكانت أمه من حي جرم1
فثم حماقة لا شك فيها
…
مقابلة فمن خال وعم2
ويقول مخاطبا عمر بن عبد العزيز ومنددا بموظفي الخراج والجزية بخراسان في خلافته، تنديدا قصد منه دون ريب إلى مهاجمته مباشرة، لأنه اتهم يزيد بن المهلب بسرقة المبالغ الطائلة من بيت المال بخراسان، وأعفاه من ولاتها، وسجنه3:
إن كنت تحفظ ما يليك فإنما
…
عمال أرضك بالبلاد ذئاب
لن يستجيبوا للذي تدعو له
…
حتى تجلد بالسيوف رقاب
بأكف منصلتين أهل بصائر
…
في وقعهن مزاجر وعقاب
والهجاء في المقطوعات السالفة هجاء قبلي سياسي، إذ الهدف منه الذب عن الأزد، ونقض تخرصات خصومهم التي عابوا بها زعماءهم. والهدف منه أيضا المحافظة على مصالح الأزد والدعوة إلى احتجاز كل فائدة وسلطة لهم، والمناداة بإعادة النظر في سياستهم لحلفائهم، والبحث عن أسلوب جديد في معاملتهم، يلائم موقف كل حليف منهم ويعادله ويكافئه.
وليس في شعره من الهجاء الذاتي إلا بيتان، قالهما يذم ابن أخيه الذي كان بينه وبينه عداوة وتباعد، والذي قتله فيما بعد بالتواطؤ مع المهالبة. وهو يعيره فيهما بأنه ابن أمة سوداء، وأنه ورث الخبث من أخواله4:
إن السواد الذي سربلت تعرفه
…
ميراث جدك عن آبائه النوب5
أشبهت خالك خال اللؤم مؤتسيا
…
بهدية سالكا في شر أسلوب
1 وضح عارضاه: شاب جانبا وجهه.
2 مقابلة: أي من كلا طرفيها، من الأب والأم.
3 البيان والتبيين 3: 213.
4 الأغاني 14: 298.
5 النوب: جمع نوبي، وهم سكان بلاد النوبة جنوبي مصر.
ومع تهوره في تحيزه للأزد، ولجاجته في التمدح بل التبجح بهم، فإنه لم يتجاهل بني تميم، ولم يقلل من مكانتهم وقيمتهم، فقد كانوا أضخم كتلة عربية بخراسان، وكانوا يخلصون في قتالهم الترك مع جميع الولاة، في كل الغزوات، ويصدقون في دفاعهم عن العرب في الضائقات، وكان هو يبصر بعينيه حفاظهم الصلب، وجهادهم العنيد عن العرب أيا ما كانت قبائلهم وأهواءهم، فأرغمته حقيقتهم وأفعالهم على الإقرار بضخامتهم وشجاعتهم، خاصة يوم أن أسرعوا لإغاثة العرب المحاصرين بقصر الباهلي من أعمال بسمرقند، ونجحوا في فك الطوق الذي ضربه الترك عليهم، وتمكنوا من تحريرهم. وفي عظمتهم وبطولتهم يقول معترفا معجبا1:
أتاك أتاك الغوث في برق عارض
…
دروع وبيض حشوهن تميم2
أبوا أن يضموا حشو ما تجمع القرى
…
فضمهم يوم اللقاء صميم
ورزقهم من رائحات يزينها
…
ضروع عريضات الخواصر كوم3
ولكنه عاد فحقد عليهم، لانتقاصهم المهالبة عند قتيبة بن مسلم، كما فرح بنكبة قتيبة لهم لأنهم أثاروا عليه الجند، وحملوهم على سوء الطاعة له، فاستأذن الحجاج في قتلهم، ثم قطع رؤوسهم. وراح يذكرهم بحسن معاملة المهالبة لهم، وكيف أنهم استشفعوا لهم عند الحجاج، واستوهبوا دماءهم منه، يوم أن كتب إلى المفضل ويزيد ابني المهلب بإعدامهم. وفي رعاية المهالبة لهم، وفتك قتيبة بهم يقول4:
قل للأهاتم من يعود بفضله
…
بعد المفضل والأغر يزيد
ردا صحائف حتفكم بمعاذر
…
رجعت أشائم طيركم بسعود
ردا على الحجاج فيكم أمره
…
فجزيتم إحسانه بجحود
1 الطبري 7: 493.
2 العارض: الجيش الذي يسد الأفق لكثرته.
3 الكوم: جمع كوماء، وهي الناقة الضخمة السنام.
4 الأغاني 14: 293.
فاليوم فاعتبروا فعال أخيكم
…
إن القياس لجاهل ورشيد
ونظم بأخرة من عمره مقطوعات صور فيها آلامه النفسية، وهمومه الذاتية، وما جلبه عليه ذمه للمهالبة في ولاية قتيبة بن مسلم من خوف وتشرد وانكسار، وضياع وافتقار. وفي إحداها يقول واصفا عزمه على الرحيل من مرو الشاهجان إلى عمان، للاختفاء بها، فرارا من ابن المهلب، وهربا من كيده، ونجاة من غدره، وإفلاتا من عقابه1:
وإني تارك مروا ورائي
…
إلى الطبسين معتام عمانا2
لآوي معقلا فيها وحرزا
…
فكنا أهل ثروتها زمانا
وفي مقطوعة ثانية يقول معبرا عن سوء حاله بعمان، ومكفرا عما ارتكبه من جرم شنيع بتشويهه سيرة المهالبة، معلنا أن قتيبة هو الذي خدعه وغرر به، فعابهم وثلبهم، بعد انقطاعه إليهم بخمسين عاما، يدعو لهم، ويثني عليهم، وطالبا العفو منهم، حتى يعود إليهم، ويستأنف حياته بجوارهم3:
بئس التبدل من مرو وساكنها
…
أرض عمان وسكنى تحت أطواد
يضحي السحاب مطيرا دون منصفها
…
كأن أجبالها علت بفرصاد4
يا لهف نفسي على أمر خطلت به
…
وما شفيت به غمري وأحقادي5
أفنيت خمسين عاما في مديحكم
…
ثم اغتررت بقول الظالم العادي
أبلغ يزيد قرين الجود مألكة
…
بأن كعبا أسير بين أصفاد
فإن عفوت فبيت الجود بيتكم
…
والدهر طوران من غي وإرشاد
وإن مننت بصفح أو سمحت به
…
نزعت نحوك أطنابي وأوتادي
1 الأغاني 14: 292.
2 اعتام: اختار.
3 الأغاني 14: 292.
4 المنصف: الوسط من كل شيء. وعلت: سقيت مرة بعد مرة. والفرصاد: صبغ أحمر.
5 خطل: تسرع. والغمر: الحقد والغل.
وفي مقطوعة ثالثة يشكو ويبكي لغربته وبؤسه، فقد بلغ من العمر عتيا، واصطلحت عليه الأسقام والأدواء، فأصبح يعاني همين: اعتلال صحته، وفناء ثروته، واحتاج وأملق، وأخذ يترقب الموت بين لحظة وأخرى، يقول1:
يا قوم غيرني وأذهب قوتي
…
دهر ألح بطارفي وتلادي2
فكأنما في المال نار باشرت
…
حرثا قد آذن أهله بحصاد
كبر ووقع حوادث نزلت بنا
…
والفقر بعد كرامة ومهاد3
تغتال كل مؤجل أيامه
…
وتصير بهجة ما ترى لنفاد
فشخصية كعب -كما توضحها أشعاره- شخصية متعصبة للأزد، ولا سبيل إلى التفريق بينه وبين ثابت قطنة، ولا إلى القول بأنه كان أقل منه حقدا، ولا أصفى نفسا. بل لقد كان كعب أشد ميلا للأزد، وأكثر إحساسا بحقيقتهم ومجدهم المخلد، وأحد استشعارا لدورهم الإسلامي المهمل، وأكثر اعتزازا بالسادة فيهم، والقادة منهم، وأبين إبانة عما احتبسوه في ضمائرهم من المطامع السياسية، وأدل دلالة على ما اعتصر نفوسهم من التغيظ والتذمر بوضعهم في الدولة الأموية، حتى إنه كاثر الخلفاء الأمويين، وأهل الأباطح القرشيين بما تكلفه الأزد من الأعباء في سبيل الذود عنهم، وقمع الثائرين بهم، وتنفخ على القبائل العربية في البصرة والكوفة بحماية الأزد لها، ووثوبهم وحدهم لإبعاد خطر الأزارقة عنها.
وكان يمكن أن نذهب إلى أن انحيازه للأزد، واغتراره بهم، ومفاخرته الخلفاء والقبائل العربية كانت جميعا من نزوات الشباب، وأنه أسرف فيها، وهو يصارع الأزارقة مع المهلب في عنفوان صباه لو أنه تخفف من حميته لقومه بخراسان. غير أنه استمر يتحزب لهم، حينا يذم البكريين والعبديين، وحينا ينتقد المهالبة ويدعوهم إلى الاقتصار في الوظائف على الأزد، ويستشيط غضبا لتقلد البكريين بعض المناصب
1 حماسة البحتري ص: 152.
2 الطارف: المال المستحدث. والتلاد: المال الموروث.
3 المهاد: الفراش الوثير الناعم.
الكبيرة. أما مديحه لقتيبة بن مسلم، واستحسانه لفتوحاته، وتقديمه إياه على المهالبة، فكانت من أخطائه القبيحة التي انحرف إليها، وسقط فيها، لتضليل قتيبة له، وتغريره به، كما صرح هو بذلك في شعره.
أما من الناحية الفنية فهو يتفوق على ثابت قطنة تفوقا كبيرا، فبعض قصائده أطول وأجود، واحتذاؤه فيها على التقاليد أظهر وأتم، فقد كانت عنده القدرة على الاستفاضة في الوصف والمديح، والوقوع فيهما على المعاني الطريفة، والصور اللطيفة، وقصيدتاه الرائيتان اللتان مدح بهما المهلب وبنيه، ونقل فيهما معاركهم مع الأزارق خير شاهد على ذلك. وقد أعجب عبد الملك بن مروان1، وأبو جعفر المنصور بقصيدته الرائية الأولى إعجابا شديدا، وسألا الشعراء أن يمدحوهما بمثلها1، واعتده الفرزدق أنبغ الشعراء الذين أنجبهم الأزد، وأخرجتهم عمان3، وجعله نظيرا له ولجرير والأخطل4.
1 الأغاني 14: 283.
2 معجم الشعراء ص: 236.
3 الأغاني 14: 283.
4 الأغاني 14: 283.