الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تسجيل الغزوات الحربية:
مر بنا أن السيادة العربية لم تتثبت بخراسان إلا بعد أن استأثر معاوية بالخلافة، وعين عماله على الأمصار، والتفت إلى تنظيم شئون الدولة المختلفة. وقد ظل العمال العرب مشغولين ببسط نفوذهم على مقاطعات خراسان، وتوطيد سلطانهم على نواحيها التي لم تذعن لهم حتى بداية النصف الثاني من القرن الأول. وبعد ذلك شرعوا يعدون العدة للفتوحات في إقليمين ملاصقين لخراسان، كانا يشكلان ثغريها الهامين، وهما إقليم ما وراء النهر1، وإقليم طخارستان2. وكان الإقليم الأول هدفا شنوا عليه أكثر غاراتهم وأشدها، لسعته، وكثرة بلدانه، وتمرد أهله، ونقضهم للمواثيق التي طالما عقدوها مع العرب.
وعلى نحو ما أوردنا الشعر الذي قيل في الأحداث الداخلية، والأزمات السياسية، منظما على الأعوام، لا مصنفا في أغراض فإننا نصنع الصنيع نفسه في الشعر الذي لهج به الشعراء والفرسان في الغزوات الحربية الخارجية، لكي يتلاءم مع المباحث السابقة، ويكون مكملا لها، ولكي نتتبع من خلاله سير حركة الفتوحات تتبعا تاريخيا، ونتبين مواقف الشعراء منها، وهل أهملوا بعضها، أو اهتموا بها جميعا، بحيث سجلوها في أشعارهم تسجيلا دقيقا، وعرضوا لكل تفاصيلها عرضا صادقا، في لحظة النصر، وساعة الشدة والهزيمة التي مني بها بعض القادة، وهل وضحوا دور كل قبيلة
1 الإصطخري ص: 161 وتاريخ الدولة العربية ص: 410.
2 الإصطخري ص: 156.
وقائد فيها، وهل طبعت أشعارهم في هذا الموضوع بطابع القبلية والفردية، أو أنهم تناسوا قبائلهم وذواتهم، وتغلغلت في نفوسهم فكرة الأمة والوحدة، بحيث نوهوا بالقائد المظفر الموفق، ونقدوا القائد المغلب المخفق، سواء كان من قبائلهم وحلفائهم، أو من القبائل المنافسة لهم.
وقبل أن نمضي في استقصاء هذه الأشعار، نود أن نقف قليلا عند الأشعار التي جرت على ألسنة الجند، وهم يكتسحون خراسان، ويحتلون مدنها، لما لها من أهمية تاريخية كبيرة، بل لأنها تفوق في دقتها واتساقها الروايات التي نقلها المؤرخون عن فتح العرب لخراسان، فهي تعطينا صورة واضحة لبداية الفتح، وأحداثه، وتطوراته، ونهايته، دون تخليط أو تقطع. وأول ما تشير إليه أشعار المقاتلين أن الفتح تم بقيادة الأحنف بن قيس التميمي، سنة اثنتين وعشرين في خلافة عمر بن الخطاب، وأنهم غلبوا فيه على نيسابور، ومرو الروذ، ومرو الشاهجان، وطوس، وهراة، وبلخ، وقاتلوا الأتراك الذين أعانوا يزدجرد عليهم، وطاردوهم إلى حدود بلادهم. وفي ذلك يقول ربعي بن عامر التميمي1. وهو أحد الجند الأبطال الذين اشتركوا في القتال2:
ونحن وردنا من هراة مناهلا
…
رواء من المروين إن كنت جاهلا3
وبلخ ونيسابور قد شقيت بنا
…
وطوس ومرو قد أزرن القنابلا4
أنخنا عليها كورة بعد كورة
…
نفضهم حتى احتوينا المناهلا5
فلله عينا من رأى مثلنا معا
…
غداة أزرن الخيل تركا وكابلا
وحين زحف خاقان في جموع الترك لمساعدة يزدجرد، واحتل بلخ، وتقدم إلى
1 انظر أخباره في الطبري 3: 440، 464، 518، 535، 4: 38، 85، 94، 127، وابن الأثير 2: 463، 554، 3:64.
2 ياقوت 2: 410.
3 المناهل: جمع منهل، وهو كل مورد يطؤه الطريق، والماء الرواء: الكثير المروي، والماء الرواء: العذب
4 القنابل: جمع قنبلة، وهي الطائفة من الخيل.
5 أناخ البعير: أبركه.
مرو الروذ، وعسكر على مشارفها، لاقاه الأحنف بن قيس التميمي1، وقتل ثلاثة من فرسانه، كانوا طليعة يضربون بالطبول، إيذانا بتحرك الجيش التركي، ليبدأ المعركة، وارتجز أبياتا وهو يتجسس على الترك، ويردي كل من خرج من معسكرهم، صور فيها دور القائد، وواجبه الذي ينبغي عليه أن ينهض به. ومنها قوله2:
إن الرئيس يرتبي ويطلع
…
ويمنع الخلاء إما أربعوا3
وقوله4:
إن على كل رئيس حقا
…
أن يخضب الصعدة أو تندقا5
إن لنا شيخا بها ملقى
…
سيف أبي حفص الذي تبقى
وبعد سنتين من خلافة عثمان بن عفان، تزايد بنو كنازا، وهم أخوال كسرى بنيسابور، فثاروا، وثنى أهل مرو الشاهجان، وثلث نيزك التركي فاستولى على بلخ، وألجأ من بها من العرب إلى مرو الروذ، وكان عليها عبد الرحمن بن سمرة، فكتب إلى عثمان بخلع أهل خراسان، وبالمثل وصف الشعراء الفرسان ثورة أهل خراسان، ونصحوا الخليفة أن لا يستهين بها. وسألوه أن يمدهم ببعث حتى يتمكنوا من قمع الخارجين عليهم، وفي ذلك يقول6 أسيد بن المتشمس التميمي7:
ألا بلغا عثمان عني رسالة
…
فقد لقيت عنا خراسان بالغدر
1 انظر ترجمته في طبقات ابن سعد 7: 93 والتاريخ الكبير 1: 2: 50، والمعارف ص: 433، والجرح والتعديل 1: 1: 321، والاستيعاب ص: 144، وأسد الغابة 1: 55، وتهذيب تاريخ ابن عساكر 7: 13، والبداية والنهاية 8: 326، وفيات الأعيان 2: 499، والإصابة 1: 100، وتهذيب التهذيب 1: 191، وتقريب التهذيب 1: 49، وشذرات الذهب 1:78.
2 الطبري 5: 2687.
3 يرتبي: يعلو الرابية، وهي المكان المرتفع. والخلاء: المخيلون الفارغون، وأربعوا: اطمأنوا.
4 الطبري 5: 2687، وتهذيب تاريخ ابن عساكر 7: 17، والبداية والنهاية 7:128.
5 الصعدة: القناة المستوية تنبت كذلك ولا تحتاج إلى تثقيف. واندق: انكسر.
6 ياقوت: 2: 412.
7 انظر ترجمته في طبقات خليفة بن خياط ص: 462، والجرح والتعديل 1: 1: 316، وتهذيب التهذيب 1: 347، وتقريب التهذيب 1:78.
فأذك هداك الله حربا مقيمة
…
بمروى خراسان العريضة في الدهر
ولا تفترز عنا فإن عدونا
…
لآل كنازءا الممدين بالجسر1
فندب عثمان عبد الله بن عامر عامله على البصرة، لنجدة العرب المحاصرين، فخرج على رأس حملة، وتولج خراسان من جهة الطبسين، وبث الجنود في كورها، فافتتحها في سنتين، وأعاد الولاة العرب عليها. فقال أسيد بن المتشمس التميمي يذكر استردادهم لخراسان، وخضوع أهلها لهم، وتجديدهم الصلح معهم2:
ألا أبلغا عثمان عني رسالة
…
لقد لقيت عنا خراسان ناطحا
رميناهم بالخيل من كل جانب
…
فولوا سراعا واستقادوا النوائحا3
غداة رأوا الخيل العراب مغيرة
…
تقرب منهم أسدهن الكوالحا4
تنادوا إلينا واستجاروا بعهدنا
…
وعادوا كلابا في الديار نوابحا
بل إن الشعراء أحاطوا بنهاية يزدجرد، فهم يذهبون إلى أنه انخلع قلبه من الخوف، حين رأى أبطالهم مقبلين على مرو الشاهجان، يتعقبونه ويلاحقون فلوله، فلجأ إلى طاحونة على نهر رزيق، فلقي حتفه بها، مما سهل الأمر لهم، ويسر عليهم استرجاع المدينة. وذلك قول5 أبي بجيد نافع بن الأسود التميمي6:
ونحن قتلنا يزدجرد ببعجة
…
من الرعب إذ ولى الفرار وغارا7
غداة لقيناهم بمرو نخالهم
…
نمورا على تلك الجبال ونارا
1 افترز: اعتزل وانقطع. والممدين: المتكاثرين. والجسر: موضع على الفرات قرب الحيرة، كانت فيه وقعة بين العرب والفرس في خلافة عمر بن الخطاب، دارت فيها الدوائر على العرب.
"انظر ياقوت 2: 82".
2 ياقوت 2: 412.
3 استقادوا النوائح: سألوا نساءهم المفجوعات أن ينتقمن بهم من قاهريهم.
4 الخيل العراب: العربية العتيقة السليمة من الهجنة: والكوالح: جمع كالح، وهو العابس.
5 ياقوت 2: 777.
6 انظر أخباره في الطبري 4: 10، 34، وابن الأثير 2:514.
7 البعجة: من بعجه الأمر إذا حزبه.
قتلناهم في حربة طحنت لهم
…
غداة الرزيق إذ أراد جوارا
ضممنا عليهم جانبيهم بصادق
…
من الطعن ما دام النهار نهارا
فوالله لولا الله لا شيء غيره
…
لعادت عليهم بالرزيق بوارا
وكل ذلك يوضح أن الشعراء الذين ساهموا في فتح خراسان واستعادتها كانوا أدق من المؤرخين الذين نقلوا وقائع الفتح إلينا. فقد رووها منظمة متوالية دون نقص أو تحريف أو تخليط. ولا غرابة في ذلك، فهم الذين صنعوها وبلوها، ومن أجل ذلك فإن أشعارهم ترتفع إلى مرتبة الوثائق الدقيقة التي يعتد بها أكثر من الروايات التاريخية التي حملها المؤرخون إلينا، فإن تلك الأشعار خالية من التناقض، بل إنها تصحح بعض الأوهام التاريخية، وتؤكد أن الفتح إنما كان سنة اثنتين وعشرين، وأن الفتح الثاني إنما كان استرجاعا لخراسان، وتمكينا للوجود العربي بها، بعد أن نكث أهلها.
وأول ما يلقانا من شعر الغزوات الخارجية بيتان لمالك بن الريب التميمي1، الذي خرج مع سعيد بن عثمان بن عفان إلى خراسان، وغزا معه الصغد وسمرقند. ويبدو أن سعيدا تخاذل بعض التخاذل في مجابهة الصغد، وفضل الراحة على الجهاد، والصلح على الفتح، فلم تعجب سياسته مالكا، وهو الصعلوك الفتي الأبي، بل غاظته وأحنقته، فحثه على القتال حثا، ولكن يظهر أنه لم يستمع إليه، فازداد برما به، ونقمة عليه، وانبرى يعرض به تعريضا لاذعا، راميا له بالوهن، ورقة العقيدة، ونافيا إياه عن والده عثمان، صاحب الرأي السديد، والهمة العالية، والعزيمة القوية، ففيه يقول2:
ما زلت يوم الصغد ترعد واقفا
…
من الجبن حتى خفت أن تنتصرا
وما كان في عثمان شيء علمته
…
سوى نسله في رهطه حين ادبرا
1 انظر أخباره وأشعاره في المحبر ص: 230، والشعر والشعراء ص: 353، وأنساب الأشراف 5: 120، وفتوح البلدان ص: 403، والطبري 7: 179، والأغاني 22: 285، ومعجم الشعراء ص: 265، وذيل الأمالي ص: 135، وسمط الآلي ص: 418، وحماسة ابن الشجري ص: 21، والأنساب للسمعاني 4: 155، ومعجم البلدان 3: 138، 338، 5: 141، 6: 4، 309 وخزانة الأدب 1: 317، وشرح شواهد المغني ص:215.
2 الطبري 7: 179، وفتوح البلدان ص:403.
فلم يلق سعيد بالا إليه، بل استمر يسالم الصغد ويساومهم، فاتهمه مالك بقلة الفضل والخير، لكي يحمسه حتى ينقض على الصغد، ويحتل بلادهم، باعثا في نفسه الأمل باستعراضه للانتصارات العظيمة التي أحرزها جنوده في يوم طاسى ويوم النهر، اللذين أبلى فيهما مالك وغيره من المقاتلين أحسن البلاء، وتغلبوا على أعدائهم، يقول1:
يا قل خير أمير كنت اتبعه
…
أليس يرهبني أم ليس يرجوني
أم ليس يرجو -إذا ما الخيل شمصها
…
وقع الأسنة- عطفى حين يدعوني2
لا تحسبنا نسينا من تقادمه
…
يوما بطاس ويوم النهر ذا الطين
ولم يزل به يحرضه على النضال حتى لاقى الصغد، وقارعهم مقارعة عنيفة انتهت بانتصاره عليهم، ودخوله مدينتهم.
وأغار سلم بن زياد3 على سمرقند إحدى وستين، ففتحها، وأنقذ فرقة إلى خجندة، وهي مدينة على شاطئ نهر جيحون، فانهزمت، وكان أعشى همدان أحد الجنود الغازين المغلوبين. فقال يصف أسفه لانكساره مع غيره من الجنود، ويتمنى لو أسر واستشهد ولقي وجه ربه4:
ليت خيلي يوم الخجندة لم تهزم
…
وغودرت في المكر سليبا
تحضر الطير مصرعي وتروحت
…
إلى الله بالدماء خضيبا
وفي سنة أربع وثمانين هاجم يزيد بن المهلب قلعة باذغيس بمقاطعة هراة، وكان نيزك ينزل بها. فتحين يزيد غرة منه، ووضع العيون عليه، فلما علم أنه خرج منها، خالفه إليها، فرجع نيزك وصالحه على أن يدفع إليه ما في القلعة من الخزائن، ويرتحل بعياله عنها. فقال كعب بن معدان الأشقري يصور علو القلعة الشاهق، الذي يطاول
1 ياقوت: 3: 488.
2 شمصها: نفرها. والعطف: الكر والإقدام.
3 انظر ترجمته في تهذيب تاريخ ابن عساكر 6: 237.
4 فتوح البلدان ص: 403، وياقوت 2: 404، وابن الأثير 4:97.
عنان السماء، حتى إن أضواءها لتتراءى في الليل المظلم، كأنها النجوم المتلألئة، وكيف أن من تحصن بها امتنع على كل مهاجم. فلما تقدم إليها وطوقها وقع الذعر في قلوب أهلها، فأذعنوا له كارهين، وأدوا ما فرضه عليهم من الجزية صاغرين. ثم مضى يشيد بيزيد وغنائه في الملمات والحادثات، ذاهبا إلى أن الله هو الذى وفقه في
محاصرة القلعة واقتحامها، وأنه شديد النكاية بأعدائه، كثير البر والرحمة بسائليه. يقول:1:
وباغاديس التى من حل ذروتها
…
عز الملوك فإن شا جار أوظلما 2
منيعة لم يكدها قبله ملك
…
إلا إذا واجهت جيشا له وجما 3
تخال نيرانها من بعد منظرها
…
بعض النجوم إذا ما ليلها عتما
لما أطاف بها ضاقت صدورهم
…
حتى أقروا له بالحكم فاحتكما
فذل ساكنها من بعد عزته
…
يعطي الجزى عارفا بالذل مهتضما 4
وبعد ذلك أياما نعددها
…
وقبلها ما كشفت الكرب والظلما
أعطاك ذاك ولي الرزق يقسمه
…
بين الخلائق والمحروم من حرما
يداك أحدهما تسقي العدو بها
…
سما وأخرى نداها لم يزل ديما
فهل كسيب يزيد أو كنائله
…
إلا الفرات وإلا النيل حين طما
ليسا بأجود منه حين مدهما
…
إذ يعلوان حداب الأرض والأكما 5
وفي سنة خمس وثمانين غزا المفضل بن المهلب باذغيس مرة ثانية، ففتحها وأصاب مغنما، فقسمه بين الناس، فنال كل منهم ثمانية دراهم. ثم أغار على آخرون وشومان بما وراء النهر، فظفر وغنم، وفرق ما احتواه على الناس فقال كعب
الأشقري قصيدة شخص فيها رجاحة عقله، وسماحة خلقه، وجلالة أعماله، وجوده الغمر، مما
1 الطبرى 8: 1129، وابن الأثير 4:499.
2 شا: شاء.
3لم يكدها: لم يقهرها. ووجم: سكت على غيظ واشتد حزنه.
4 الجزى: جمع جزية، وهي المال الذي يؤخذ من أهل الذمة والمهتضم: المرتضي.
5 المد: زيادة ماء النهر. والحداب: جمع حدب، وهو الغليظ المرتفع من الأرض. والأكم: جمع أكمة وهي ما دون الجبل.
جعله قبلة العرب من كل قبيلة، يغدون إليه يطلبون معروفه مستبشرين، وينصرفون عنه راضين بما أخذوا من نواله، ومما ممكنه من تحقيق النصر بشومان، فكان خير خلف لأبيه الذي بلغ شأوا لم يبلغه أحد1:
ترى ذا الغنى والفقر من كل معشر
…
عصائب شتى ينتوون المفضلا
فمن زائر يرجو فواضل سيبه
…
وآخر يقضي حاجة قد ترحلا
إذا ما انتوينا غير أرضك لم نجد
…
بها منتوى خيرا ولا متعللا
إذا ما عددنا الأكرمين ذوي النهي
…
وقد قدموا من صالح كنت أولا
لعمري لقد صال المفضل صولة
…
أباحت بشومان المناهل والكلا
صفت لك أخلاق المهلب كلها
…
وسربلت من مسعاته ما تسربلا
أبوك الذي لم يسع ساع كسعيه
…
فأورث مجدا لم يكن متنحلا
وواضح أن كعبا ركز في قصيدتيه السابقتين على شخصية يزيد، وشخصية الفضل، وأثنى على سياستهما ومقدرتهما العسكرية الفائقة، وتغافل عن الجيش الذي احتمل أعباء الزحف إلى باذغيس وشومان وآخرون، وتكلف التضحيات حتى دخل تلك المدن، وتناسى كذلك القادة ورؤساء الأخماس الذين اشتركوا معهما في تلك المغازي الناجحة، مدفوعا إلى ذلك بعصبيته للأزد، الذين ينتمي هو ويزيد والمفضل إليهم. ولا تظنن أن تقاليد المدحة وما جرى عليه العرف فيها من الإشادة بالممدوح وأصله وعراقته، وتميزه لذلك من غيره هي التي جعلته يبرز دور المهالبة، ويهمل أدوار غيرهم من القادة والمقاتلين فنحن على شبه اليقين من أن تحزبه للأزد كان له التأثير الأكبر في لجاجته في إظهار دور المهالبة وتكبيره له، وفي تنويهه بوالدهم، واعتزازه به، وإعلائه إياه فوق كل العاملين، لمساعيه الجليلة، ومحامده الأصيلة، بل لأمجاده العظيمة التي لم تكن متنحلة لأننا حين درسنا شخصيته من خلال أخباره وأشعاره في الفصل الأخير، صح لنا أنها كانت تنطوي على عصبية جامحة للأزد.
1 الطبري 8: 1144.
ولعل أحدًا من ولاة خراسان لم يغز ولم يفتح مثلما غزا قتيبة بن مسلم، وفتح. فقد كان في كل عام من أعوام ولايته العشرة يتأهب في الربيع للإغارة على بلاد ما وراء النهر، وكانت الكتائب العسكرية العربية تأتيه من سائر مقاطعات خراسان ومدنها، وتتجمع بمرو الشاهجان، ثم تخرج للغزو تحت إمرته. وكان قائدا شجاعا لبقا بإدارة العمليات العسكرية وتوجيهها، فانتصر لذلك في أكثر المعارك التي خاضها في طخارستان، وخوارزم، وبخارى، وسمرقند، وفرغانة، واستعد في آخر سنة من ولايته للزحف نحو الصين. بل لقد أشرفت أول فرقة سيرها إليها على حدودها، إذ وصلت مدينة كاشغر، فكان الوالي الوحيد الذي مكن للعرب ببلاد ما وراء النهر، فقلده شعراء تميم، وقيس مدحا باقية على الدهر، مجدوا فيها فتوحاته، وخلدوا بها انتصاراته، واعترفوا له بالفضل والمقدرة الجبارة، وعدوه المحامي عن حقيقة العرب، المعلي لشأنهم، المدافع عن الإسلام، والناشر لكلمة الله في أنحاء الأرض القاصية، كما أكره بعض شعراء الأزد وبكر على الإقرار بكفاءته والمشاركة في الثناء على بطولاته.
ففي سنة سبع وثمانين هاجم بيكند، وهي أقرب مدن بخارى إلى نهر جيحون، فاستجاش أهلها الصغد عليه، فكادوا يوقعون به، ولكن جنوده صبروا، وراح هو يستنهض هممهم فقاتلوا قتالا ضاريا، حتى غلبوا أعداءهم، وأدخلوهم في مدينتهم، فوضع الفعلة في أصلها ليهدمها، فسألوه الصلح، فصالحهم. ثم إنهم نقضوا الصلح، بعد أن ارحل عنهم، وقتلوا عامله عليهم، فعاد إليهم، وقارعهم شهرا حتى ظفر بهم، وفتح مدينتهم عنوة، وقتل كل من لاذ بها في جيشهم، فقال الكميت بن يزيد1:
ويوم بيكند لا تحصى عجائبه
…
وما يخاراء مما أخطأ العدد
وفي سنة تسع وثمانين أغار على بخارى، ففتح راميشن، ورجع إلى مرو الشاهجان. فكتب إليه الحجاج يأمره بالهجوم على بخارى، فارتد إليها، ولم يكد يقطع النهر حتى تكاثف عليه الصغد، وأهل كس ونسف في طريق صحراوي، فناهضوه، فتغلب عليهم، ومضى إلى بخارى، فنزل خرقانة السفلى، فلقيه أهلها بجمع كثير، فجاهدهم.
1 الطبري 8: 1189.
يومين ثم انتصر عليهم، ولكنه لم يتمكن من وصول بخارى واحتلالها. فقال نهار بن توسعة البكري يذكر صبرهم، وصبر أعدائهم في القتال بخرقانة1:
وباتت لهم منا بخرقان ليلة
…
وليلتنا كانت بخرقان أطولا
ولم يحفظ القدماء شعرا نظمه الشعراء في مهاجمة قتيبة لبيكند وبخارى، مع ما صادفه من مصاعب ومعاطب، حتى كاد يهزم، ومع أنه لم يحقق الغاية التي خطط لها قتيبة عندما زحف إلى بخارى. ومن السهل أن نتعلل بما به الباحثون في مثل هذه الحال، فنفترض أن الشعر الذي قيل في هاتين المعركتين ضاع غير أننا نضيف إلى ذلك أن الشعراء لم يكونوا قد ارتبطوا بقتيبة ارتباطا وثيقا، لجدة صلتهم به، وضعف معرفتهم له.
وفي سنة تسعين تمرد نيزك طخارستان، وحرض ملوك بلخ، ومرو الروذ، والطالقان، والفارياب، والجوزجان على العصيان فأخذهم قتيبة بالعنف والشدة، حتى استرد بلادهم، وتوغل في طخارستان يتعقب نيزك إلى أن دخل شعب خلم المهلك، فمزق الجنود القائمين على حراسته، وطوق نيزك بالقلعة التي احتمى بها. وحينما عجز عن اقتحامها فاوضه في الصلح، فلما خرج إليه فتك به، وبابن أخيه، وبصول ولي عهد طخارستان فاستاء بعض العرب، واتهموا قتيبة بالمكر، ووجد ثابت قطنة شاعر الأزد المتعصب الموتور في ذلك فرصة، لكي ينصحه نصحا مشوبا بالطعن عليه، والهجاء له. إذ دعاه أن لا يركن إلى الخديعة في حروبه، لأنه إذا استفاد منها مرة فقد تهلكه مرة أخرى، فإنه يقول له2:
لا تحسبن الغدر حزما فربما
…
ترقت به الأقدام يوما فزلت
أما المغيرة بن حبناء التميمي فمدح قتيبة مدحا معجبا، لقمعه ثورة نيزك وقتله إياه، واسترسل يصفه بالعظمة والبطولة في النائبات والأهوال، وأنه الذائد عن ديار الإسلام المختار لكل خطب، المفرج لكل شدة، الذخر لكل كارثة، العدة لكل
1 الطبري 8: 1198.
2 الطبري 8: 1225، وابن الأثير 4:552.
حادثة. وأودع ذلك قصيدتين أولاهما تائية طويلة لم ينقل الطبري إلا مطلعها، وهو قوله1:
لعمري لنعمت غزوة الجند غزوة
…
قضت نحبها من نيزك وتعلت
وثانيتهما ميمية سردها الطبري برمتها، وهي تجري على هذا النمط2:
لمن الديار عفت بسفح سنام
…
إلا بقية أيصر وثمام3
عصف الرياح ذيولها فمحونها
…
وجرين فوق عراصها بمدام
دار لجارية كأن رضابها
…
مسك يشاب مزاجه بمدام
أبلغ أبا حفص قتيبة مدحتي
…
واقرأ عليه تحيتي وسلامي
يا سيف أبلغها فإن ثناءها
…
حسن وإنك شاهد لمقامي
يسمو فتتضع الرجال إذا سما
…
لقتيبة الحامي حمى الإسلام4
لأغر منتجب لكل عظيمة
…
نحر يباح به العدو لهام5
يمضي إذا هاب الجبان وأحمشت
…
حرب تسعر نارها بضرام6
تروى القناة مع اللواء أمامه
…
تحت اللوامع والنحور دوامي
والهام تفريه السيوف كأنه
…
بالقاع حين تراه قيض نعام7
وترى الجياد مع الجياد ضوامرا
…
بفنائه لحوادث الأيام
1 الطبري 8: 1223.
2 الطبري 8: 1226.
3 سنام: جبل مشرف على البصرة، وجبل لبني دارم بين البصرة واليمامة. والأبصر: حبل صغير قصير يشد به أسفل الخباء إلى وتد. والنمام: نبت ضعيف له خوص يحشى به خصاص البيوت ويسد.
4 تتضع: تتطامن وتخفض رؤوسها.
5 الأغر: أبيض الوجه مستبشرة، والنحر: الحاذق الماهر العاقل المجرب، واللهام: الجيش الكثير كأنه يلتهم كل شيء واللهم من الرجال: الرغيب الرأي، العظيم الكافي، والمنتجب: المختار من كل شيء وقد انتجب فلان فلانا إذا استخلصه واصطفاه اختيارا على غيره.
6 أحمشت: ألهبت.
7 الهام: جمع هامة، وهي الرأس أو أعلاها، وتفريه: تقطعه. والقيض: قشرة البيضة اليابسة التي خرج فرخها أو ماؤها كله فتصدعت وتشققت.
وبهن أنزل نيزكا من شاهق
…
والكرز حيث يروم كل مرام1
وأخاه شقرانا سقيت بكأسه
…
وسقيت كأسهما أخا باذام
وتركت صولا حين صال مجدلا
…
يركبنه بدوابر وحوام2
فنحن نرى المغيرة بن حبناء التميمي يعظم اغتيال قتيبة لنيزك، ويزهو به، ويصوب ارتكابه له، وينفي أن يكون جرما وإثما كبيرا، ويقرر أنه كان نصرا باهرا للعرب والمسلمين، في حين نرى ثابت قطنة الأزدي، يأخذه على قتيبة، ويعيبه به، ويهون من قدره لإقدامه عليه.
كذلك امتدح نهار بن توسعة البكري قتيبة لقضائه على الناكثين، وسوغ شدته عليهم، وعسفه بهم، فإنه إنما جازاهم ما يستحقون من العقاب، يقول3:
أراك الله في الأتراك حكما
…
كحكم في قريظة والنضير
قضاء من قتيبة غير جور
…
به يشفى الغليل من الصدور
فإن ير نيزك خزيا وذلا
…
فكم في الحرب حمق من أمير
وفي سنة ثلاث وتسعين استعان خوارزم شاه بقتيبة، ليؤازره في تثبيت عرشه، ويبطش بأخيه خرزاد الذي ثار عليه، ويقمع ملك خام جرد الذي ناصبه العداء، فسار قتيبة إلى خوارزم، فقتل أخوه عبد الرحمن ملك خام جرد، واستباح بلاده، وقبض هو على خرزاد، ودفعه إلى الشاه، ودخل مدينة فيل عاصمة خوارزم. فقال كعب الأشقري يسجل هذه الغزوة الموفقة، وكان يزيد بن المهلب حاصر المدينة في ولايته الأولى، فلم يقدر على فتحها، واستعصت عليه4 فهجاه لذلك أقذع هجاء، ودمغه بالتقصير، وغمزه بأنه هو وإخوته وآباءه وأجداده لا يغنون في الحروب، لأنهم مزارعون محترفون، لا محاربون متمرسون، وأعلى قتيبة عليهم،
1 الكرز: فارسي معرب، وهو المدرب المجرب من الرجال.
2 المجدل: المصروع، والدوابر: الأعقاب. والحوامي: ميامن الحافر ومياسره.
3 الطبري 8: 1226.
4 الأغاني "طبعة دار الكتب" 14: 299.
لرجولته ومضاء عزيمته، مما أتاح له إدراك ما عجزوا عن إدراكه، فقد قهر الترك، وغنم غنائم كبيرة وزعها بين جنوده، ورجا له طول العمر، حتى يفتح سمرقند مثلما فتح خوارزم1:
رمتك فيل بما فيها وما ظلمت
…
ورامها قبلك الفجفاجة الصلف2
لا يجزئ الثغر خوار القناة ولا
…
هش المكاسر والقلب الذي يجف3
هل تذكرون ليالي الترك تقتلهم
…
ما دون كازة والفجفاج ملتجف4
لم يركبوا الخيل إلا بعدما كبروا
…
فهم ثقال على أكتافها عنف
منهم شناس ومرداذاء نعرفه
…
وفسخراء قبور حشوها القلف5
إني رأيت أبا حفص تفضله
…
أيامه ومساعي الناس تختلف
قيس صريح وبعض الناس يجمعهم
…
قرى وريف فمنسوب ومقترف6
لو كنت طاوعت أهل العجز ما اقتسموا
…
سبعين ألفا وعز الصغد مؤتنف7
وفي سمرقند أخرى أنت قاسمها
…
لئن تأخر عن حوبائك التلف8
1 الأغاني "طبعة دار الكتب" 14: 299، والطبري 8: 1239، وياقوت 3:933.
2 الفجفاجة والفجفاج: الكثير الكلام والفخر لما ليس عنده. والصلف: الذي يجاوز القدر في الظرف والبراعة ويدعي فوق ذلك تكبرا.
3 يجزئ: يكفي ويغني. وخوار القناة وهشم المكاسر: الضعيف الذي لا يعتمد عليه في الشدائد ويجف: يضطرب ويخفف من الفزع.
4 كازة: من قرى مرو الشاهجان.
5 شناس: اسم أبي صفرة، فغيرة، وتسمى ظالما. ومرداذاء: أبو أبي صفرة: وسموه بسراق لما تعربوا وفسخراء: جده. وهم قوم من الحوز من أهل عمان، نزلوا الأزد ثم ادعوا أنهم صليبة صرحاء منهم "انظر الأغاني 14: 299" والقلف: جمع قلافة، وهي القشرة، ولحاء الشجرة والقلفة: جلدة الذكر التي ألبستها الحشفة هي التي انقطع من ذكر الصبي.
6 المنسوب: معروف النسب خالصة. والمقترف: المعيب المتهم الدعي.
7 مؤنتف: شامخ لم يوطأ ولم يستبح.
8 الحوباء: النفس. والتلف: الهلاك.
ما قدم الناس من خير سبقت به
…
ولا يفوتك مما خلفوا شرف
وفي السنة نفسها أغار على سمرقند، وخاض على مشارفها وحدودها معركة طاحنة ضد الصغد، وأهل الشاش وفرغانة، فانكسروا أمامه أسوأ انكسار، فنزل مدينتهم، ولم يفارقها إلا بعد أن حطم الأوثان، وشيد مسجدا، وترك بها رابطة عربية. فقال كعب الأشقري يمجد بطولته وسطوته على أعدائه، ويعجب من كثرة غزواته التي لم يخذل في غزوة منها، ويعجب أيضا من وفرة ما يفوز به من النهاب فيها، ويصف ما ألحقه بالصغد من هزائم متتالية، فإذا هم مشردون عن ديارهم، وإذا هم بين والد جريح الفؤاد يتفجع لموت ولده، وابن كسير النفس، يصرخ لغياب أبيه1:
كل يوم يحوي قتيبة نهبا
…
ويزيد الأموال مالا جديدا
باهلي قد ألبس التاح حتى
…
شاب منه مفارق كن سودا
دوخ الصغد بالكتائب حتى
…
ترك الصغد بالعراء قعودا
فوليد يبكي لفقد أبيه
…
وأب موجع يبكي الوليدا
كلما حل بلدة أو أتاها
…
تركت خيله بها أخدودا
وقد تزين لنا مقطوعتا كعب الظن بأنه تحول عن انحيازه لقبيلته تحولا شديدا، وأنه نزل عن تعاطفه السابق مع الأزد نزولا واضحا. ذلك أنه لم يقف فيها عند التفخيم لقتيبة فحسب، بل تعداه إلى التعريض بالمهالبة تعريضا قبيحا أزرى فيه بشرفهم وكرامتهم.
وربما كان في ظننا شيء من الصحة، وربما عاد موقف كعب المفاجئ إلى فترات الهدوء القصيرة التي كانت تخف فيها جدة المنافسة بين القبائل العربية. وهي
1 الطبري 8: 1252، وابن الأثير 4: 575، وهما يقولان إن المقطوعة تنسب أيضا لرجل من جعفى، وقد سماه البلاذري: المختار بن كعب الجعفي. "انظر فتوح البلدان ص: 411".
السنوات التي كانت تقطعها بالإعداد للحرب، والانهماك في قتال الأتراك. فكانت المعارك تستولي على أوقاتها، وتسيطر على عقولها وأفئدتها وقلوبها، وتشغلها عن المسابقة والمشاحنة.
ولكننا نحمل موقفه على أنه انحراف مؤقت وتخل قصير عن عقيدته، وفلسفته القبلية. فهو شاعر أزدي متعصب مغرور، كما استقام لنا بعد تحليلنا لشخصيته، وما يبدو من تغيره الطارئ يمكن أن يرد إلى انفعاله انفعالا شديدا، بانتصارات قتيبة الباهرة، لأنه "شاعر فارس خطيب معدود في الشجعان"1، ومثل هذه البطولات الرائعة لا بد أن تستثيره، وتخرجه عن طوره. وهذا هو الذي حدث، فيما نرجح، فقد سحرته فتوحات قتيبة سحرا أفضى به إلى هيجان عاطفي نسي معه شخصيته وفلسفته، ولم يتذكر فيه انتماءه لقبيلته. ومما يؤيد هذا التفسير أنه حينما رجع يزيد بن المهلب واليا على خراسان للمرة الثانية. وعلم أنه غضب عليه، وأضمر شرا له، لانتقاصه إياه، هرب إلى عمان، وأخذ يرسل القصائد إليه، يعتذر فيها عما فرط منه، ويعترف بأنه أذنب ذنبا عظيما، لجهله وتسرعه ويقرر أن قتيبة الذي كان يكره المهالبة، هو الذي استعداه عليه، وأغراه بعيبه2.
ولا بد من الإشارة إلى أن كعبا لم يفهم المديح والموازنة بين قتيبة ويزيد إلا فهما قبليا، ومن هنا انطلق يقارن بينهما مقارنة نعت الأول فيها بأنه صريح النسب، معروف العشيرة، وطعن في نسب الثاني، وسخر منه، كما وصف الأول بالفروسية، ورمى الثاني بطروئه عليها، وقلة خبرته بها. ثم نقض ما ادعاه من أن المهلب "لم يسع ساع كسعيه" وأنه "أورث مجدا لم يكن متنحلا". ورفع قتيبة عليه، زاعما أنه سبق بخيره ما قدمه الناس من خير، وفاق بشرفه ما خلفوه من شرف.
وفي سنة أربع وتسعين اقتحم قتيبة الشاش، ووصل إلى خجندة وكاشان، وهما مدينتا فرغانة، فقال سحبان وائل القيسي يصور جهاده بخجندة، وكيف أنه كان
1 الأغاني "طبعة دار الكتب" 14: 283.
2 الأغاني "طبعة دار الكتب" 14: 292.
يشرف على رفاقه من المقاتلين، ويعيد تنظيمهم إذا تفرقوا، ويتقدمهم إلى حومة الوغى، ويحتز بسيفه رؤوس الأعداء. ولم ينس قتيبة فقد جعله سيد قيس، وأشاد بعطائه الجزيل الذي بز به أمثاله من رجال قيس، كما بزهم والده من قبل، وأشاد أيضا بسياسته الحكيمة، وعطفه على قيس، ورفقه برجالها، وأخذه لهم أخذا رحيما في كل الظروف. فباهت به غيرها من القبائل، وطاولت بمجده أعلى الجبال1:
فسل الفوارس في خجندة تحت مرهفة العوالي2
هل كنت أجمعهم إذا
…
هزموا وأقدم في القتال
أم كنت أضرب هامة العا
…
تي واصبر للعوالي
هذا وأنت قريع قيس
…
كلها ضخم النوال3
وفضلت قيسا في الندى
…
وأبوك في الحجج الخوالي4
ولقد تبين عدل حكمك
…
فيهم في كل حال
تمت مروءتكم ونا
…
غى عزكم غلب الجبال5
وفي سنة ست وتسعين بلغ قتيبة فرغانة، وأقام بها، وفتح كاشغر، وهي أقرب المدن الخاضعة للصين، وأرسل لملك الصين وفدا من عشرة رجال، انتخبهم من خيرة جنده، عليهم مشمرج الكلابي، وأمرهم أن ينقلوا إليه أنه "قد حلف أن لا ينصرف حتى يطأ بلاد الصين، ويختم ملوكها، ويجبي خراجها". فقابلوا الملك، وأبلغوه الرسالة، فهددهم وخوفهم، ثم استراضهم وأجازهم، وبعث معهم بتراب من تراب الصين، وبأربعة من أبنائها، وبجزية من حرير وذهب. فقبل قتيبة الجزية، وختم الغلمان، وردهم، ووطأ التراب6 فقال سوادة بن عبد الله السلولي يمدح أعضاء
1 الطبري 8: 1257، وابن الأثير 4:581.
2 المرهفة: الرقيقة الحادة. والعوالي: جمع عالية، وهي سن الرمح.
3 القريع: خير القوم.
4 وأبوك: أي وفضلها أبوك.
5 ناغي الجبال: كاد يرتفع إليها. والغلب: الباذخة.
6 الطبري 8: 1277- 1279.
الوفد، لما تجشموا من الأخطار والشدائد، خاصا هبيرة بالثناء من دونهم، لأنه نهض بالمهمة التي كلف بها أحسن نهوض، وحقق الآمال التي عقدها قتيبة عليها1:
لا عيب في الوفد الذين بعثهم
…
للصين إذ سلكوا طريق المنهج2
كسروا الجفون على القذى خوف الردى
…
حاشا الكريم هبيرة بن مشمرج
لم يرض غير الختم في أعناقهم
…
ورهائن دفعت بحمل سمرج3
أدى رسالتك التي استرعيته
…
وأتاك من حنث اليمين بمخرج
وكان لهذه المغازي المتصلة الموفقة التي ملأت أنباؤها الأسماع أصداؤها وآثارها في القبائل بالعراق، فقد عظمت بها منزلة القيسية، وسائر المضرية، وأخذت تكاثر بها اليمنية. وقد احتفظ الطبري بقصيدتين للكميت بن زيد الكوفي الذي عرف بعصبيته الشديدة لمضر4. أما القصيدة الأولى فروى الطبري بيتا منها يباهي فيه الكميت بفتح قتيبة لسمرقند، لأنه رد الاعتبار والمكانة للقيسية والمضرية بالمدينة، بعد أن كانت منطقة نفوذ لليمنية، ومنذ أن أغار عليها سلم بن زياد بمعاونة المهلب بن أبي صفرة سنة إحدى وستين، يقول5:
كانت سمرقند أعقابا يمانية
…
فاليوم تنسبها قيسية مضر
وأما القصيدة الثانية فسرد قطعة منها، تحدث فيها الكميت عن غارات قتيبة على أهل خوارزم والصغد، وانتصاره عليهم، واحتيازه الأموال منهم، وتفريقه لها بين
1 الطبري 8: 1280، وابن الأثير 5:7.
2 في الأصل: إن.
3 السمرج: فارس معرب، وهو يوم الخراج.
4 الأغاني "طبعة الساسي" 15: 109.
5 الطبري 8: 1252، وابن الأثير 4:575.
جنوده. ورفعه درجات على سائر الناس الذين لا يجلبون على أقوامهم إلا المصائب والويلات. وامتدح إرادته الصلبة واجتياحه قلاع المشركين الحصينة، وتفانيه في سبيل نشر الدين الحنيف، وانتهى إلى الاعتداد بأعماله المجيدة، ومفاخرة الخليفة بضخامتها، وإلى التغني باخلاص القبائل المضرية للخلافة، وتأهبها الدائم لبذل كل ما تستطيع من قوة، وما تملك من مال من أجل إعلاء كلمة الله في جنبات الله يقول1:
وبعد في غزوة كانت مباركة
…
تردى زراعة أقوام وتحتصد2
نالت غمامتها فيلا بوابلها
…
والصغد حين دنا شؤبوبها البرد3
إذ لا يزال له نهب ينفله
…
من المقاسم لا وخش ولا نكد4
تلك الفتوح التي تدلي بحجتها
…
على الخليفة أنا معشر حشد5
لم تثن وجهك عن قوم غزوتهم
…
حتى يقال له بعدا وهم بعدوا
لم ترض من حصنهم إن كان ممتنعا
…
حتى يكبر فيه الواحد الصمد
ويجدر التنويه بأن الشعراء ألحوا على باهلية قتيبة، وأبرزوا قيسيته وضخموها، سواء في ذلك شعراء الأزد، مثل كعب الأشقري، أو شعراء بكر مثل نهار بن توسعة، أو شعراء مضر مثل الكميت بن يزيد، وكأنما كانوا يعرفون ما يعتمل بنفسه، ويؤذيها من ضعة باهلة وخمولها بالقياس إلى القبائل الكبيرة النابهة التي تحدرت من قيس6، فحاولوا حل عقدته النفسية، وتعويض ما يحسه من النقص، فعظموا باهلة، وأكدوا انتسابها إلى قيس، وجعلوها من خير قبائلها، ووصفوه بأنه خير رجالها، أو "باهلي قد ألبس التاج" و"قيس صريح" و"قريع قيس"، كما قالوا.
1 الطبري 8: 1281.
2 تردي: تزيد.
3 فيل: عاصمة خوارزم. والوابل: المطر الغزير. والشؤبوب: الدفعة من المطر.
4 ينفله: يجعله للجنود. والوخش: الرذل الصغير. والنكد: الذي يجلب الشؤم على أهله.
5 الحشد: الذين لا يدعون عند أنفسهم شيئا من الجهد والنصرة والمال.
6 جمهرة أنساب العرب ص: 244.
وهو على التحقيق كان من أكبر السادة الذين أنجبتهم باهلة، لا لأنه كان رجلا طموحا فحسب بل لأنه قرن طموحه أيضا بالسعي الموصول لبلوغ أقصى غايات المجد، فقام لذلك بدور بارز في خراسان، ولم يقم به عامل من العمال الذين سبقوه أو خلفوه عليها، إذ وطد السيادة العربية بها، كما ثبتها بما وراء النهر. ومن أجل ذلك وصفه ابن حزم بأنه "صاحب خراسان" ذو الآثار المشهورة"1.
ويظهر بجلاء من المقطوعات والقصائد التي أنشدناها أن شعراء المضرية بخراسان والعراق ابتهجوا بغزوات قتيبة الداخلية، وفتوحاته الخارجية، ومجدوها، لأنهم اعتدوها نصرا لهم، وتعزيزا لمكانة قبائلهم. أما بعض شعراء الأزد وبكر فلم يستطيعوا التغاضي عنها، ولا نكران أهميتها، ولذلك رأينا كعبا الأشقري، ونهار بن توسعة البكري يشاركان في الإشادة بها، ولكنهما لم يتشبثا بتعظيمهما لها، وإنما تنصلا منه، فقد تنازل كعب كما قلنا عن موقفه من قتيبة، واعتذر منه، لأنه كان موقفا انفعاليا عاطفيا، وبالمثل تحلل نهار من مديحه له، ولم يتمسك به، لأنه كان مديحا مؤقتا اضطراريا2. أما ثابت قطنة الأزدي فلم يصطنع أسلوب التقية، ولم يخف عداوته لقتيبة، ولذلك فإنه لم يرفع صوته بالثناء على أعماله ومنجزاته التي لا تجحد، وإنما ظل ساكتا عن الكلام، ووقف موقف المتفرج المشدوه المغيظ. حتى إذا علم أنه غدر بنيزك طخارستان وقتله، احتسب اغتياله له خطأ في الحرب، وراح يلومه ويقرعه، لكي ينفس عن حقده الدفين عليه.
وفي سنة ثمان وتسعين هاجم يزيد بن المهلب جرجان، ومهد لاحتلالها بمحاصرة دهستان، إحدى نواحيها محاصرة شديدة، ثم نازل أهلها حينا، فلم يفلح في احتلالها، فأحكم الطوق عليها، وبث الجنود في كل جانب منها، وقطع المواد عن أهلها، فلما جهدوا ونهكوا بعث صول دهقانها إليه يسأله المصالحة على أن يؤمنه على نفسه وأهل بيته وماله، ويدفع إليه المدينة وما فيها. فصالحه ووفى له بما اشترطه
1 المصدر نفسه ص: 246.
2 الشعر والشعراء 1: 537، وأمالي القالي 2:195.
عليه، ودخل المدينة، فأخذ ما كان فيها من الأموال والكنوز والسبي شيئا لا يحصى، وقتل أربعة عشر ألف تركي صبرا1. وفي خلال مقاتلة جيشه لأهلها اشترك بنفسه في إحدى المعارك، وأبى أن يعتزل القتال، فباغته الترك، وكادوا يقضون عليه، فدافع عنه فرسان الأزد دفاعا مستميتا، وفيهم الحجاج بن جارية الختعمي، الذي ناضل من ورائه، وحمى ظهره حتى سلم، وانتهى إلى ماء، وكان عطش هو وجنوده فشربوا، وانصرف عنهم العدو، فقال سفيان بن صفوان الخثعمي يمن بذب الحجاج عنه حتى حماه وأنجاه من الهلاك، ومكنه من ورود عين الماء2:
لولا ابن جارية الأغر جبنه
…
لسقيت كأسا مرة المتجرع
وحماك في فرسانه وخيوله
…
حتى وردت الماء غير متعتع3
وفي سنة اثنتين ومائة استضعف الترك سعيد بن عبد العزيز، والي خراسان الملقب بخذينة، أي الدهقانة ربة البيت، لأنه كان رجلا لينا سهلا متنغما4، فطمعوا فيه، وأغاروا على قصر الباهلي، وكان تابعا لوالي سمرقند، فاحتجزوا به مائة أهل بيت من العرب بذراريهم. فخافوا أن يبطئ عنهم المدد، فصالحوا الترك على أربعين ألفا، وأعطوهم سبعة عشر رجلا رهينة. فندب عثمان بن عبد الله الشخير، أربعين ألفا، وأعطوهم سبعة عشر رجلا رهينة. فندب عثمان بن عبد الله الشخير، والي سمرقند الناس للجهاد، وانتخب المسيب بن بشر الرياحي التميمي، وبعث معه أربعة آلاف من جميع القبائل، فسار معه منهم سبعمائة فارس، بعد أن عسكروا قبل مسيرهم، وعرضهم مرات، وبصرهم بهدفهم، وعرفهم بقوة عدوهم، إذ قال لهم:"إنكم تقدمون على حلبة الترك، حلبة خاقان وغيرهم، والعوض إن صبرتم الجنة، والعقاب النار إن فررتم، فمن أراد الغزو والصبر فليتقدم". فمضى بمن بقي معه منهم إلى القصر، فالتحموا مع الترك في موقعة ضارية استشهد فيها عدد من فرسانه المعدودين ولم يزالوا بالترك حتى هزموهم، ودخلوا القصر، وحملوا من فيه من
1 الطبري 9: 132.
2 الطبري 9: 1320.
3 غير متعتع: أي دون أن يلحقه أذى يقلقه ويزعجه.
4 الطبري 9: 1417.
العرب وعادوا إلى سمرقند. فقال ثابت قطنة، وكان أحد الفرسان الذين ساهموا في استرداد القصر، كما قتل عظيما من عظماء الترك، يفتخر ببلائه في ساحة القتال، افتخارا صاخبا، ويذكر الحفاظ المر لفرسان بني تميم، وخلقهم الوعر في الحرب، خاصا رئيسهم المسيب بن بشر بأعطر الثناء1:
فدت نفسي فوارس من تميم
…
غداة الروع في ضنك المقام
فدت نفسي فوارس اكنفوني
…
على الأعداء في رهج القتام2
بقصر الباهلي وقد رأوني
…
أحامي حيث ضن به المحامي
بسيفي بعد حطم الرمح قدما
…
أذودهم بذي شطب حسام3
أكر عليهم اليحموم كرا
…
ككر الشرب آنية المدام4
أكر به لدى الغمرات حتى
…
تجلت لا يضيق بها مقامي
فلولا الله ليس له شريك
…
وضربي قونس الملك الهمام5
إذا لسعت نساء بني دثار
…
أمام الترك بادية الخذام6
فمن مثل المسيب في تميم
…
أبي بشر كقادمة الحمام
كذلك تهاون سعيد بن عبد العزيز بعض التهاون في مجابهة الصغد، حتى اشتدت ثورتهم، وعم أذاهم العرب بسمرقند، فاستحثه جنوده وقادته على مقاتلتهم، واتهموه بأنه ترك الغزو7. فتحفز وعبر النهر إلى سمرقند، وواجه الثائرين بها متخاذلا متراخيا، فلم يحرز نصرا كبيرا، فاستخفوا به، وكادوا يفنون كتيبة من بني تميم لولا استبسال من نجا من فرسانها في مقارعتهم، فضاق الجنود به، وسخطوا عليه
1 الطبري 9: 1426، وابن الأثير 5:94.
2 أكنفوني: حفظوني وأعانوني. والرهج والقتام: الغبار.
3 الشطب: الطرائق التي في متن السيف.
4 اليحموم: الفرس الأسود اللون.
5 القونس: مقدم الرأس.
6 الخذام: جمع خذمة، وهي الخلخال.
7 الطبري 9: 1428.
وضاعف برمهم به أنه كان إذا بعث سرية فأصاب جنودها وغنموا وسبوا، رد الذراري السبي، وعاقب السرية.
فقال الهجري يهجوه هجاء مقذعا، فيه التحقير له، والتشنيع عليه، والتشهير به. وما من ريب في أن هجاءه يدل على حقيقة الرجل وسياسته، ويكشف عن رأي جنوده في قيادته العكسرية، وإدارته المدنية1:
وأنت لمن عاديت عرس حفية
…
وأنت علينا كالحسام المهند2
فلله در الصغد لما تحزبوا
…
ويا عجبا من كيدك المتردد
فأقصاه عمر بن هبيرة الفزاري عن خراسان، وولاها سعيد بن عمرو الحرشي3، فوصل إلى سمرقند والجنود العرب مطوقون، فحمسهم وشجعهم، ووعدهم بقيادة حازمة فخشي الصغد أن يفتك بهم، لأنهم تمرودا وأعانوا الترك في ولاية سعيد بن عبد العزيز، فرحلوا إلى فرغانة، ونزلوا بخجندة. فأسرع إليهم سنة أربع ومائة، وأوقع بهم، فاستسلموا له فقتل منهم ثلاثة آلاف، فيهم بعض رؤسائهم وأمرائهم، لأنهم غدروا ببعض الأسرى العرب، فقال ثابت قطنة يعبر عن سروره لما أنزل الحرشي بالصغد من العذاب4:
أقر العين مصرع كارزنج
…
وكشين وما لاقى بيار
وديواشني وما لاقى جلنج
…
بحصن خجند إذ دمروا فباروا5
وأعدم الحرشي كذلك دهقانا من دهاقين الصغد بمرو الشاهجان، وصلبه في الميدان. فقال أحد الرجاز يصف همة الحرشي القوية، وما أصاب الترك من البلاء على يديه، بعد أن ضيقوا على العرب6:
1 أنساب الأشراف 5: 161، والطبري 9: 1431، وابن الأثير 5:96.
2 في الطبري: عرس خفية. والعرس: الزوجة. والحفية: المبالغة في بر زوجها وإكرامه.
3 انظر ترجمته في تهذيب تاريخ ابن عساكر 6: 164.
4 الطبري 9: 1446، وابن الأثير 5:109.
5 ديواشي: دهقان أهل سمرقند. وكارزنج وكشين: من عظماء الصغد.
6 الطبري 9: 1449.
إذا سعيد سار في الأخماس
…
في رهج يأخذ بالأنفاس
دارت على الترك أمر الكأس
…
وطارت الترك على الأحلاس1
ولو فرارا عطل القياس
ولما ولي أسد بن عبد الله القسري، قصر عن متابعة حركة الغزو والفتح فيما وراء النهر، فاكتفى بمهاجمة نواحي هراة الجبلية. ففي سنة سبع ومائة غزا الغور، فعمد أهلها إلى أثقالهم فصيروها في كهف ليس إليه طريق. فأمر باتخاذ توابيت، ووضع فيها الرجال، ودلاها بالسلاسل، فاستخرجوا ما قدروا عليه. فقال ثابت قطنة يمدحه3:
أرى أسدا تضمن مفظعات
…
تهيبها الملوك ذوو الحجاب3
سما بالخيل في أكتاف مرو
…
توفزهن بين هلا وهاب4
إلى غورين حيث حوى أزب
…
وصك بالسيوف وبالحراب5
هدانا الله بالقتلى تراها
…
مصلبة بأفواه الشعاب
ملاحم لم تدع لسراة كلب
…
مهاترة ولا لبني كلاب
فأوردها النهاب وآب منها
…
بأفضل ما يصاب من النهاب
وكان إذا أناخ بدار قوم
…
أراها المخزيات من العذاب
ألم يزر الجبال ملع
…
ترى من دونها قطع السحاب
بأرعن لم يدع لهم شريدا
…
وعاقبها الممض من العقاب6
وفي السنة التالية قطع النهر إلى الختل، فاستجلب أميرها خاقان، فتقهقر أسد إلى
1 الأحلاس من الخيل: التي لونها بين السواد والسمرة.
2 الطبري 9: 1489.
4 المفظعات: الشدائد الشنيعة.
5 هلا: زجر للخيل لتسرع في العدو. وهاب: دعاء لها لكي تقبل وتتقدم. والقوفز: الوثوب.
5 الأزب: الداهية. والصك: الضرب الشديد.
6 الأرعن: الجبل الشاهق. والممض: المؤلم الموجع.
ما دون النهر، فاتبعه خاقان، وأصاب الجند في الغزاة جوع شديد. ويقال: إنه رجع مغلولا إلى خراسان، فتغنى عليه الصبيان بأبيات من الرجز فضحوه بها، وتهكموا عليه فيها1. ويقال: بل ظهر على الختل، واكتسحها فأسر وسبى وغنم. ثم عطف على غورين سنة تسع ومائة فأوقع بأهلها. فقال ثابت قطنة يمدحه2:
أرى أسدا في الحرب إذا نزلت به
…
وقارع أهل الحرب فاز وأوجبا3
تناول أهل السبل خاقان ردؤه
…
فحرق ما استعصى عليه وخربا4
أتتك وفود الترك ما بين كابل
…
وغورين إذ لم يهربوا منك مهربا
فما يغمز الأعداء من ليث غابة
…
أبى ضاريات حرشوه فعقبا5
أزب كأن الورس فوق ذراعه
…
كريه المحيا قد أسن وجربا6
ألم يك في الحصن المبارك عصمة
…
لجندك إذ هاب الجبان وأرهبا
بنى لك عبد الله حصنا ورثته
…
قديما إذا عد القديم وأنجبا
ويبدو أن أسدا شن تلك الغارات على المنطقة الجنوبية الشرقية من خراسان، وما يجاروها من الختل، ليطهرها تطهيرا تاما، لأنه كان يعد للانتقال من مرو الشاهجان إلى بلخ. ومع أن غاراته لم تسفر عن نتائج هامة فإنها حركت ثابت قطنة، وأنطقته بعد أن صمت عن النظم ما يربو على عشرين عاما، وقعت فيها معارك كبيرة، وأحداث خطيرة، فإذا هو يهلل لغزوات أسد ويضخمها، ويكيل له المديح عليها، لما سبق إليه بها من مكاسب عسكرية ومادية، مدعيا أنه حطم جيوشا
1 الطبري 9: 1492، 1494.
2 الطبري 9: 1496.
3 أوجب: عمل عملا يدخله الجنة.
4 السبل: أمير الختل. والردء: المعين.
5 في الأصل: "فما يغمز الأعداء" وهو تحريف ظاهر. وغمز: عصر، من الغمز، وهو العصر والكبس باليد. "انظر اللسان: غمز" وحرشوه: أثاروه وأغروه. وعقب: كر ورجع.
6 الورس: صبغ أصفر.
جرارة، قادها إليه السبل وخاقان، وحقق انتصارات غريبة نادرة، عجز عن تحقيقها من سبقوه من الولاة.
وهي انتصارات بعضها حقيقي يتمثل في ظفره بنمرون ملك غرجستان، وفي ظفره بأهل الغور والغورين، ولكنها تظل صغيرة، لا شأن لها بالنسبة إلى انتصارات قتيبة بن مسلم الكبيرة. وبعضه فيه شيء من التهويل، إن لم يكن ملفقا مختلفا، ولا سيما ما يتصل بهجومه على الختل، فإن المؤرخين لم يتفقوا على أن أسدا هزم السبل، وقهر خاقان، وإنما هم مختلفون في ذلك، فمنهم من يقول إنه قفل من الختل مدحورا، ومنهم من يقول: إنه عاد منصورا.
وإنما فخم ثابت قطنة غزوات أسد ونفخ فيها، لأنه كان متحزبا له ولليمنية، ولأنه كان يريد أن يكاثر به القيسية، فقد رفع أسد مكانة الأزد بعد انحطاطها في ولاية قتيبة بن مسلم، والجراح الحكمي، وسعيد بن عبد العزيز، وسعيد الحرشي، كما أنه أحرز لهم مناصب عظيمة حازوا بها فوائد جليلة لم يستطع يزيد بن المهلب تحقيقها لهم، حين ولي خراسان بعد هلاك قتيبة بن مسلم، لأن ولايته كانت قصيرة لم تتجاوز السنتين.
وفي سنة عشر ومائة خرج أشرس بن عبد الله السلمي إلى سمرقند ليقضي على فتنة الصغد والترك، فنزل بآمل، وأقام بها ثلاثة أشهر، وعبر قطن بن قتيبة الباهلي النهر في عشرة آلاف، فاندفع إليه الترك وحاصروه، فوجه إليه أشرس كتيبة ساعدته، وطردت الترك عنه، واستنقذت الأسرى من أيديهم. ثم اجتاز أشرس النهر إليه، وسير أمامه سرية بقيادة رجل اسمه مسعود أحد بني حيان، لتكون طليعة له، فأكمن الترك له كمينا، وقتلوا عددا من فرسانها. فرجع مسعود إليه مهزوما. فقال أحد الشعراء من الجند يهزأ به، ويسجل فضله1:
1 الطبري 9: 1513.
خابت سرية مسعود وما غنمت
…
إلا أفانين من شد وتقريب1
حلوا بأرض قفار لا أنيس بها
…
وهن بالسفح أمثال اليعاسيب2
وفي العام ذاته ارتد أهل كردر من خوارزم عن الإسلام، فحاربهم رجال المسلحة العربية هناك، وبعث إليهم أشرس كتيبة من ألف رجل عونا لهم، فصاروا إليهم، وتمكنوا جميعا من ملاحقة الترك، وإخضاع أهل كردر. فقال عرفجة الدارمي التميمي هذين البيتين يبين دور بني تميم في مناجزة الترك، وفي رد أهل كردر إلى الإسلام، ويعجب من استيلاء سواهم من جنود القبائل الأخرى على غنائمهم وأسلابهم3:
نحن كفينا أهل مرو وغيرهم
…
ونحن نفينا الترك عن أهل كردر
فإن تجعلوا ما قد غنما لغيرنا
…
فقد يظلم المرء الكريم فيصبر
وفي سنة اثنتي عشرة ومائة كانت وقعة الشعب على مشارف سمرقند بين خاقان والجنيد بن عبد الرحمن المري4. فانخذل الجيش العربي في بدايتها انخذالا مروعا، وفقد من جنوده أعدادا كبيرة لم يفقدها من قبل، واستشهد سورة بن الحر التميمي، عامل سمرقند، وهو في طريقه لإنقاذ الجنيد، وتخفيف وطأة الترك عليه. ومع أن الجنيد انتصر في نهايتها على خاقان، واقتحم سمرقند، وأخلى ذراري العرب منها، وحملهم إلى مرو الشاهجان، وأبقي المقاتلين فيها وحدهم، فإن نشوة النصر لم تنس العرب مرارة الهزيمة، لكثرة من هلكوا منهم، إذ يذكر الشعراء أن القتلى بلغوا خمسين ألفا، ولما لحق بهم، رجالا ونساء وأطفالا من العذاب. ومن أجل ذلك هتف الشعراء بالجنيد لائمين وناقدين وحاقدين لأنه لم يحتط للأمر، ولم يقدر قوة
1 الشد: العدو السريع. والتقريب: أن يرفع الفرس يديه ويضعهما معا إذا عدا عدوا دون الإسراع.
2 اليعاسيب: جمع يعسوب، وهو طائر دون الجرادة أو أعظم منها، طويل الذنب لا يضم جناحيه إذا وقع تشبه به الخيل في الضمر.
3 الطبري 3: 1513، وابن الأثير 5:154.
4 انظر ترجمته في تهذيب ابن عساكر 3: 415، وابن الأثير 5:182. والبداية والنهاية 9: 312.
خصمه، فباء لذلك بالخسران في أول معركة، واقرأ هذه الأبيات لابن السجف المجاشعي، فإنها تكشف عما عاناه العرب هناك من الكرب والأذى والهوان، إذ يقول مخاطبا هشام بن عبد الملك1:
أذكر يتامى بأرض الترك ضائعة
…
هزلى كأنهم في الحائط الحجل2
وارحم وإلا فهبها أمة دمرت
…
لا أنفس بقيت فيها ولا ثقل3
لا تأملن بقاء الدهر بعدهم
…
والمرء ما عاش ممدود له الأمل
لاقوا كتائب من خاقان معلمة
…
عنهم يضيق فضاء السهل والجبل4
لما رأوهم قليلا لا صريخ لهم
…
مدوا بأيديهم لله وابتهلوا5
وبايعوا رب موسى بيعة صدقت
…
ما في قلوبهم شك ولا دغل6
فابن السجف يرفع تقريرا إلى هشام بن عبد الملك عن بداية معركة الشعب، يوضح فيه ما حاق بهم من الهزيمة والعار، وكيف أنهم كانوا قلة ضعيفة بالقياس إلى عدوهم وضخامته، حتى أحبط كل محاولاتهم للخلاص منه، وشد عليهم، فإذا هم لا يملكون له دفعا، ولا يستطيعون منه انفكاكا، وإذا هم يتضرعون إلى الله أن ينجيهم ويكتب لهم السلامة، كما يطلب إلى هشام أن يتدبر الأمر مليا، ويتخذ قرارا حازما يحفظ من سلموا منهم، ويبقيهم على قيد الحياة، ويحذره من أنهم إذا هلكوا كان هلاكهم نذيرا بفنائه بعدهم.
أما الشرعبي الطائي فرفع تقريرا آخر عن نتائج المعركة إلى خالد بن عبد الله
1 الطبري 9: 1547.
2 الحجل: الكروان.
3 الثقل: المتاع والحشم.
4 معلمة: بارزة معلوم مكانها.
5 الصريخ: المغيث.
6 الدغل: الفساد.
القسري والي العراق، بين فيه قوة خصمهم، ونكايته بهم، وما أصاب النساء من الفزع والهلع، وما وقع على بعضهن من الأسر والسبي، حتى أخذن يستغثن ولا من مغيث، وبين فيه كذلك تخاذل الجنود وتقاعسهم، ووصم قائدهم بالخسة والدناءة وهو تقرير حزين مؤثر، تكاد النفس تذوب منه حسرة وألما، وهو يتوالى على هذه الشاكلة1:
تذكرت هندا في بلاد غريبة
…
فيا لك شوقا هل لشملك مجمع
تذكرتها والشاس بيني وبينها
…
وشعب عصام والمنايا تطلع
بلاد بها خاقان جم زحوفه
…
وجيلان في سبعين ألفا مقنع
إذا دب خاقان وسارت جنوده
…
أتتنا المنايا عند ذلك شرع
هناك هند ما لنا النصف منهم
…
وما إن لنا يا هند لفي القوم مطمع2
ألا رب خود خدلة قد رأيتها
…
بسوق بها جهم من الصغد أصمع3
أحامي عليها حين ولى خليلها
…
تنادي إليها المسلمين فتسمع
تنادي بأعلى صوتها صف قومها
…
ألا رجل منكم يغار فيرجع
ألا رجل منكم كريم يردني
…
يرى الموت في بعض المواطن ينفع
فما جاوبوها غير أن نصيفها
…
بكف الفتى بين البرازيق أشنع4
إلى الله أشكو نبوة في قلوبها
…
ورعبا ملا أجوافها يتوسع
فمن مبلغ عني الوكا صحيفة
…
إلى خالد من قبل أن نتوزع5
1 الطبري 9: 1554.
2 النصف: الانتصاف.
3 الخود: الفتاة الحسنة الخلق الشابة. والخدلة: غليظة الساق مستديرتها. والجهم: الغليط الكريه. والأصمع: صغير الأذنين.
4 النصيف: كنصف الخمار، وهو ما تغطي به المرأة رأسها، والبرازيق: الفرسان.
5 الألوك: الرسالة.
بأن بقايانا وأن أميرنا
…
إذا ما عددناه الذليل الموقع1
هم أطمعوا خاقان فينا وجنده
…
ألا ليتنا كنا هشيما يزعزع
وأما خالد بن المعارك العبدي المعروف بابن عرس، فرفع تقريرا ثالثا مفصلا إلى خالد، ضمنه أساه ولوعته لما حل بالجيش العربي من الدمار، فإذا أفراده مقتلون مصرعون، وإذا نساؤهم يبكين ويستصرخن. وعاب فيه على الجنيد جهله وتعجله. وفجاجة رأيه، وسوء تدبيره، وهجاه هجاء مقذعا، وشهر بأخطائه تشهيرا، ودعا عليه بالموت، لأنه ورطهم في معركة لا قبل لهم بها يقول2:
أين حماة الحرب من معشر
…
كانوا جمال المنسر الحارد3
بادوا بآجال توافوا لها
…
والعائر المهمل كالبائد4
فالعين تجري دمعها مسبلا
…
ما لدموع العين من ذائد
انظر ترى للميت من رجعة
…
أم هل ترى في الدهر من خالد
كنا قديما يتقى بأسنا
…
وندرأ الصادر بالوارد
حتى منينا بالذي شامنا
…
من بعد عز ناضر آبد5
كعاقر الناقة لا ينثني
…
مبتدئا ذي حنق جاهد
فتقت ما لا يلتئم صدعه
…
بالجحفل المحتشد الزائد6
تبكي لها إن كشفت ساقها
…
جدعا وعقرا لك من قائد7
تركتنا اجزاء معبوطة
…
يقسمها الجازر للناهد8
1 الموقع: المذلل الذي أصابته البلايا.
2 الطبري 9: 1566.
3 المنسر: القطعة من الجيش تمر أمام الجيش الكبير. والحارد: الجاد الغاضب المانع.
4 العائر: الأعور.
5 في الأصل: "ناصر". وهو تحريف ظاهر. والناضر: الحسن فيه غنى ونعمة، وفيه بهاء ورونق وشامنا: أخزانا وجلب علينا العار. والآبد: الدائم المقيم.
6 الجحفل: الجيش الكثير. والمحتشد: المجتمع.
7 جدعا وعقرا: يقال في الدعاء على الإنسان جدعا وعقرا، نصبوهما بفعل مضمر لا يظهر.
8 معبوطة: مذبوحة. والجازر: الذابح. والناهد: الصامد للعدو والشارع في قتاله.
ترقت الأسياف مسلولة
…
تزيل بين العضد والساعد
تساقط الهامات من وقعها
…
بين جناحي مبرق راعد
إذ أنت كالطفلة في خدرها
…
لم تدر يوما كيدة الكائد1
إنا أناس حربنا صعبة
…
تعصف بالقائم القاعد
أضحت سمرقند وأشياعها
…
أحدوثة الغائب والشاهد
وكم ثوى في الشعب من حازم
…
جلد القوى ذي مرة ماجد2
يستنجد الخطب ويغشى الوغى
…
لا هائب غس ولا ناكد3
ليتك يوم الشعب في حفرة
…
مرموسة بالمدر الجامد4
تلعب بك الحرب وأبناؤها
…
لعب صقور بقطا وارد
طار لها قلبك من خيفة
…
ما قلبك الطائر بالعائد
لا تحسبن الحرب يوم الضحى
…
كشربك المزاء بالبارد5
أبغضت من عينك تبريحها
…
وصورة في جسد فاسد
جنيد ما عيصك منسوبه
…
نبعا ولا جدك بالصاعد6
خمسون ألفا قتلوا ضيعة
…
وأنت منهم دعوة الناشد7
لا تمرين الحرب من قابل
…
ما أنت في العدوة بالجامد
قلدته طوقا على نحره
…
طوق الحمام الغرد الفارد8
1 الطفلة: الجاية رقيقة البشر ناعمتها والطفلة: حديثة السن. والخدر: الخباء والبيت.
2 ذي مرة: ذي قوة.
3 يستنجد الخطب: يستصغر الأمر العظيم ولا يبالي به، أخذه من قولهم: استنجد فلان بفلان، إذا ضري به واجترأ عليه بعد هيبته إياه. والغس: الضعيف اللئيم.
والناكد: المشؤوم.
4 مرموسة: مطمورة.
5 المزاء: الخمر اللذيذة الطعم.
6 العيص: الأصل، ومنسوبه: بدل اشتمال مما قبله. والجد: الحظ والنبع: شجر تتخذ منه القسي.
7 الدعوة: القرابة والإخاء.
8 الفارد: المنقطع عن غيره، المنتبذ بنفسه.
قصيدة حبرها شاعر
…
تسعى بها البرد إلى خالد
وفي سنة تسع عشرة ومائة غزا أسد بن عبد الله القسري في ولايته الثانية الختل، فاستغاث أميرها بخاقان، فأقبل في جموع الترك، وخاض النهر إلى الجوزجان، بعد أن قطعه أسد راجعا إلى خراسان، فدارت بين الفريقين معارك متصلة ساعد فيها الحارث بن سريج التميمي خاقان، فكسر أشد شوكتهما في إحداهما، فوليا الأدبار إلى طخارستان العليا، ومنها إلى بلاد الترك. فارتجز ابن السجف المجاشعي هذه الأرجوزة يمدح بها أسدا، وينوه بما أنجز من انتصار رائع. وهو يقول فيها1:
لو سرت في الأرض تقيس الأرضا
…
تقيس منها طولها والعرضا
لم تلق خيرا مرة ونقضا
…
من الأمير أسد وأمضى
أفضي إلينا الخير حين أفضى
…
وجمع الشمل وكان رفضا
ما فاته خاقان إلا ركضا
…
قد فض في جموعه ما فضا
يا بن سريج قد لقيت حمضا
…
حمضا به يشفى صداع المرضى
وقال أبو الهندي التميمي2، وكان رحل إلى خراسان بأخرة من عمره، يمدح أسدا، مثنيا على سلامة تقديره، وحسن تأتيه للأمور، ومبرزا ما كان لهزيمته خاقان من أثر في صيانة أمن العراق، وحماية بيت الله الحرام، وواصفا إيقاعه بالترك، وكيف لم ينصرف عن قتالهم إلا بعد أن شتت جموعهم، وخلفهم بين عظيم مصروع، وجرح مطروح، يلفظ أنفاسه الأخيرة، وأسير صاغر ينتظر العقاب،
1 الطبري 9: 1611، والبداية والنهاية 9:323.
2 قال الطبري 9: 1671، وابن الأثير 5: 206، إنه من أسد، والصحيح أنه من تميم وقد هاجر إلى خراسان في ولاية أسد القسري، وظل ينزل بها في ولاية نصر بن سيار، ثم استوطن سجستان بأخرة من عمره. وبها مات "انظر الشعر والشعراء ص: 682، والكامل للمبرد 3: 42، وطبقات ابن المعتز ص:136" والأغاني "طبعة الساسي" 21: 177، وسمط الآلي ص: 168، 208، وفوات الوفيات 3: 169، ومسالك الأبصار 1: 389، وقد جمع شعره عبد الله الجبوري، ونشره ببغداد سنة 1970، وانظر كتابنا، شعراء الدولتين الأموية والعباسية ص:307.
وفار مذعور يخشى الموت، ناعيا على القبائل المضرية المختلفة تخاذلها وترددها، حتى أغرت خاقان بالهجوم على غرب خراسان3:
أبا منذر رمت الأمور فقستها
…
وساءلت عنها كالحريص المساوم
فما كان ذو رأي من الناس قسته
…
برأيك إلا مثل رأي البهائم
أبا منذر لولا مسيرك لم يكن
…
عراق ولا انقادت ملوك الأعاجم
ولا حج بيت الله مذ حج راكب
…
ولا عمر البطحاء بعد المواسم
فكم من قتيل بين سان وجزة
…
كثير الأيادي من ملوك قماقم1
تركت بأرض الجوزجان تزوره
…
سباع وعقبان لحز الغلاصم2
وذي سوقة فيه من السيف خطة
…
به رمق حامت عليه الحوائم3
فمن هارب منا ومن دائن لنا
…
أسير يقاسي مبهمات الأداهم4
فدتك نفوس من تميم وعامر
…
ومن مضر الحمراء عند المآزم
هم اطمعوا خاقان فينا فأصبحت
…
حلائبه ترجو احتواء المغانم
ومن الغريب أن يتغاضى ابن السجف المجاشعي التميمي عن تعصب أسد للأزد5، ويحمد له معروفه، وتأليفه بين العرب، ويمجد إراداته وبسالته وردعه لخاقان والحارث بن سريج. والأغرب أن لا يقف أبو الهندي التميمي عند تعظيمه له، فقد تجاوزه إلى تقريع تميم وغيرها من القبائل القيسية، متهما لها بالتهاون وقلة المبالاة.
ولكن إذا عرف السبب، بطل العجب، كما يقولون. فشعراء تميم إنما وقفوا هذا
1 الطبري 9: 1617، ابن الأثير 5:206.
1 القماقم: جمع قمقام، وهو السيد الكثير الخير، الواسع الفضل. وسان: من قرى بلخ.
2 الغلاصم: جمع غلصمة، وهي اللحم الذي بين الرأس والعنق.
3 الحوائم: الطيور التي تدور حول الجريح تنتظر موته حتى تنقض عليه وتنهشه.
4 الأداهم: الدواهي.
5 الطبري 9: 1664.
الموقف من قبيلتهم وحلفائها، لأنهم قصدوا به إلى التكفير عما ارتكبته من خطأ جسيم حين أيدت المعاهدة التي عقدت بين عاصم بن عبد الله الهلالي، والحارث بن سريج، وارتضت ما اقترحاه على هشام بن عبد الملك من شروط حتى يظلا تابعين لحكومته، طائعين لسلطته، كما أنهم لجوا في انتقادهم للحارث بن سريج، الذي ينتسب إلى قبيلتهم، ليتبرأوا من جرائمه، ويتحللوا من مسؤولية مخالفته لخاقان، واشتراكه معه في محاربة العرب بخراسان.
ولم يحفظ القدماء شعرا كثيرا في غزوة نصر بن سيار آخر ولاة خراسان لما وراء النهر، بالقياس إلى ما حفظوه من أشعار غزيرة في غزوات الولاة السابقين، مع أنه شن حملة قوية على سمرقند والشاش وفرغانة، وقتل كورصول خليفة خاقان. فكل ما عثرنا عليه من الشعر الذي قيل في حملته الناجحة بيتان لأبي نميلة صالح بن الأبار، هتف بهما عند رجوع نصر سالما بعد أن قاومه كورصول التركي مقاومة عنيفة، ومنعه من عبور نهر الشاش، وهو يقول فيهما1:
كنا وأوبة نصر بعد غيبته
…
كراقب النوء حتى جاده المطر
أودى بأخرم منه عارض برد
…
مسترجف بمنايا القوم منهمر2
وصفوة القول في الأشعار التي لهج بها الشعراء في الوقائع الحربية بخراسان وطخارستان والختل، وخوارزم، وبخارى، وسمرقند، والشاش، وفرغانة، أن تيار العصبية يلتقي فيها بتيار القومية التقاء ضعيفا متقطعا، فإن الفردية والقبلية والحزبية هي الصفات الغلابة عليها، والظواهر المميزة لها. وهي صفات وظواهر تتضح بصورة عامة في اعتداد الشعراء الفرسان ببطولاتهم في القتال، وأدوار قبائلهم وحلفائهم في النضال. ولكنها تظهر بقوة عند شعراء الأزد وبكر وعبد القيس، فقد رأينا كعبا الأشقري، وثابت قطنة الأزديين يكبران أعمال يزيد بن المهلب، وأخيه المفضل، وأسد القسري تكبيرا استعراضيا أرادا به على أقل تقدير إحداث شيء من التوازن بين
1 الطبري 9: 1693.
2 أخرم: فارس تركي، ومسترجف: خافق مضطرب.
منجزات الولاة الأزديين واليمنيين، وبين منجزات الولاة القيسيين، وأرادا به كذلك مباهاة القبائل القيسية ومضاهاتها، ووجدنا الشاعر الأول يفخم فتوحات قتيبة بين مسلم، ثم يتخلى عن تفخيمه لها، ويرى أنه زلة وقع فيها، أما الشاعر الثاني فوقف منها ذاهلا ضائقا حاسدا. حتى إنه لم يقل شيئا في الثناء عليها، بل سعى لتشويهها، والتشنيع على صاحبها. وبالمثل تنصل نهار بن توسعة البكري حليف الأزد من إشادته بها. ولا بد أن نسجل على شعراء هذا الحلف أنهم هولوا الخسائر والأضرار التي لحقت بالعرب في معركة الشعب، وشكوا الجنيد بن عبد الرحمن المري إلى خالد بن عبد الله القسري، والي العراق، وشككوا في كفاءته ومقدرته، مع أنه ظهر في النهاية على خاقان، وانتصر عليه انتصارا عزيزا. وكأنما كان ابن عرس العبدي، والشرعبي الطائي يبتغيان من التهويل والتشكك الطعن في الجنيد، وحمل خالد القسري على نصح هشام بن عبد الملك بإعفائه من ولاية خراسان.
وصحيح أننا رأينا عند شعراء قيس وتميم شيئا من العصبية في إشادتهم بانتصارات قتيبة بن مسلم، وخاصة عند سحبان وائل، وسوادة بن عبد الله السلولي القيسيين، غير أنهم لم يبالغا فيها، ولم يكاثرا اليمنية والربعية لها. وأكثر من ذلك فقد لاحظنا في تمجيد المغيرة بن حبناء التميمي لفتوحات قتيبة وانتصاراته أبعادا قومية إسلامية، فقد اعتد قضاءه على نيزك طخارستان تمكينا للعرب، ودفاعا عن المسلمين.
ونادرا ما كان شعراء الحلفين المتنافسين يفيئون إلى الرشد والصواب. ويرتفعون إلى مستوى التفكير في المصلحة العامة، ولا يخضعون لعصبيتهم لقبائلهم، وهم يقدرون النتائج المهمة الناجمة عن غزوات الولاة الناجحة وآثارها في المحافظة على سيادة أمتهم. بل إنهم كانوا إذا اهتدوا إلى هذه الأفكار ولمعت بخواطرهم وخيالاتهم، يستشرفونها من خلال انفعالاتهم العاطفية بالمعارك الحربية الموفقة التي كانت ترضي في نفوسهم نزعات الحرب والفروسية، كما مر بنا عند ثابت قطنة الأزدي، حين مدح سعيدا الحرشي لبطشه بالصغد، أو من خلال مصالح قبائلهم وحلفائهم، كما مر بنا عند ابن السجف المجاشعي التميمي، وأبي الهندي التميمي، حين مدحا أسدا القسري، ونوها بصده لخاقان وللحارث بن سريج.