المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تصوير الأحوال السياسية: - الشعر في خراسان من الفتح إلى نهاية العصر الأموي

[حسين عطوان]

الفصل: ‌تصوير الأحوال السياسية:

‌الفصل الثاني: موضوعات الشعر وخصائصه

‌تصوير الأحوال السياسية:

لم يترك الشعراء العرب حادثة صغيرة ولا كبيرة وقعت بخراسان إلا ألموا بها، وبينوا مواقف قبائلهم منها، فقد كانوا يقظين على الأحداث الداخلية وتطوراتها، بصيرين بخفايا السياسة الأموية ونتائجها، مقدرين لانعكاساتها على قبائلهم وحلفائهم، عارفين بتأثيراتها في مقدرتهم الذاتية، إزاء القوى الخارجية التركية التي كانت تتحين الفرص للانقضاض عليهم، والفتك بهم، بحيث لا نبالغ إذا قلنا: إنهم عرضوا لكل المسائل الإدارية والسياسية، والمشكلات العصبية والقبلية، والفتن الداخلية، بكل تفاصيلها ودقائقها، سواء كانوا من أنصار الوحدة والتضامن، أو من دعاة الفرقة والتطاحن. ونحن نورد كل ما ظفرنا به من أشعارهم في هذا الجانب، مرتبا على السنوات لا مبوبا في موضوعات، حتى يتسق مع القضايا التي أحطنا بها في الفصل السابق، ويكون موضحا لها.

ولما كان الوجود العربي بخراسان لم يتأكد ولم يتوطد إلا بعد أن انتهى النزاع بين علي ومعاوية على الحكم، وصفا الجو لمعاوية، وفاز بالخلافة، وسير ولاته على الأمصار، وازداد عدد العرب من القبائل المختلفة بخراسان، ونظموا تنظيما سياسيا وعسكريا، وأصبح لكل منهم دوره الإداري والحربي، كما أصبح لكل منهم أطماعه في السلطة والنفوذ، فقد خلت الفترة الأولى من أي شعر فيه إشارة إلى الأوضاع الداخلية التي لم تكن صورتها قد استقرت، ولم تكن اتجاهاتها قد تحددت. أما بعد ذلك فيكثر الشعر، ويحمل في تضاعيفه كل ما دار من أحداث.

ص: 81

ففي سنة إحدى وخمسين مات الحكم بن عمرو الغفاري1 عامل خراسان لزياد بن أبي سفيان، أمير العراق، وكان قد استخلف قبل وفاته أنس بن أبي أناس الكناني2 وكتب بذلك إلى زياد، فعزل أنسا، ووليد خليد بن عبد الله الحنفي، فغضب أنس غضبا شديدا، وهتف بهذه الأبيات مصورا سخطه على سياسة زياد، ورأيه في بني حنيفة، وكيف أنهم لم يكونوا يصلحون للولاية والحكومة، بل للحرث والزرع وفيها يقول3:

ألا من مبلغ عني زيادا

مغلغلة يخب بها البريد4

أتعزلني وتطعمها خليدا

لقد لاقت حنيفة ما تريد

عليكم باليمامة فاحرثوها

فأولكم وآخركم عبيد

ولما توفي يزيد بن معاوية، ومعاوية بن يزيد، وقتل يزيد بن زياد بسجستان، وأسر أخوه أبو عبيدة بها أيضا5، أخفى سلم بن زياد هذه الأخبار السيئة عن العرب بخراسان، لكيلا يموجوا ويضطربوا. فبلغت بعضهم، ومنهم ابن عرادة الشاعر، فصاح بمقطوعة أخذ فيها على سلم إخفاءه الأخبار والأسرار عنهم، وإيصاده بابه من دونهم، وأعلمه أنهم يعرفون كل ما وقع، وما بدا معه، أن دولة بني أمية انتقضت أركانها انتقاضا، إذ يقول له فيها6:

يا أيها الملك المغلق بابه

حدثت أمور شأنهن عظيم

قتلى بجنزة والذين بكابل

ويزيد أعلن شأنه المكتوم7

1 انظر ترجمته في طبقات ابن سعد 7: 366، والتاريخ الكبير 1: 2: 328، والجرح والتعديل 1: 2: 119، والاستيعاب ص: 356، وأسد الغابة 2: 36، والبداية والنهاية 8: 47، والإصابة 1: 346، وتهذيب التهذيب 2: 436، وتقريب التهذيب 1:192.

2 انظر ترجمته في الشعر والشعراء ص: 737، والإصابة 1: 69، وخزانة الأدب 3:120.

3 الطبري 7: 155.

4 المغلغة: الرسالة. يخب: يسرع.

5 الطبري 7: 488.

6 الطبري 7: 488، وابن الأثير 4:154.

7 جنزة: مدينة بأرمينية. وكابل: ولاية من ثغور طخارستان.

ص: 82

أبني أمية إن آخر ملككم

جسد بحوارين ثم مقيم1

طرقت منيته وعند وساده

كوب وزق راعف مرثوم2

ومرنة تبكي على نشوانه

بالصنج تقعد مرة وتقوم3

وكان من نتائج إذاعة هذا الشعر في الناس، وانتشاره بينهم، أن أظهرهم سلم على ما حجبه عنهم، وفاوضهم في مبايعته ومساندته حتى يجتمع العرب على خليفة. فوالوه وأيدوه شهرين، ثم وثبوا به، فرجع إلى دمشق، وخلف عليهم المهلب بن أبي صفرة.

وفي سنة خمس وستين قاومت بكر بن وائل عبد الله بن خازم4 حين هجم عليها بهراة، بعد أن قتل سليمان بن مرثد بمرو الروذ، وأخاه عمرا بالطالقان، وكان بنو تميم يساعدونه في هجومه عليها، فاحتل المدينة، وقتل من بكر مقتلة عظيمة. وفي ذلك يقول المغيرة بن حبناء التميمي معيرا بكرا بانهزامها ومذلتها، وبفتك ابن خازم بعليتها وسراتها5:

وفي الحرب كنتم في خراسان كلها

قتيلا ومسجونا بها ومسيرا

ويوم احتواكم في الحفير ابن خازم

فلم تجدوا إلا الخنادق مقبرا

ويوم تركتم في الغبار ابن مرثد

وأوسا تركتم حيث سار وعكسرا6

وسرعان ما تضاربت مصالح بني تميم الاقتصادية والسياسية مع مصالح عبد الله بن خازم، فقد منعهم من الاستقرار بهراة استقرار الفاتحين7. فخرجوا عليه في السنة

1 حوارين: قرية من قرى حمص، وبها مات يزيد بن معاوية. وثم: هناك.

2 الراعف: السائل. والمرثوم: المكسور الذي تتقطر الخمر منه.

3 المرنة: المرأة النائحة الصالحة. والنشوات: جمع نشوة، وهي السكر، وفي الأصل:"نشوانه" بالنون، والنشوان: السكران. والصبخ: الدف.

4 انظر ترجمته في الحبر ص: 221، والمعارف ص: 418، والاستيعاب ص: 886، وأسد الغابة 3: 148، والبداية والنهاية 8: 326، والإصابة 1: 301، وتهذيب التهذيب 5: 194، وتقريب التهذيب 1:411.

5 الطبري 7: 496.

6 أوس: هو أوس بن ثعلبة البكري، فر إلى سجستان وبها مات بعد احتلال ابن خازم لهراة.

7 الطبري 7: 593.

ص: 83

التي أيدوه فيها على بكر، واجتاحوا المدينة، وقتلوا ابنه محمدا، واستمروا ينازعونه عليها، ويناهضونه فيها سنتين كاملتين1 فقال موسى2 بن عبد الله بن خازم يتحسر لاغتيال تميم أخاه محمدا، وما نجم له من تفرق صفوف تميم وقيس وتناحرهم، بعد أن كانوا متحالفين متعاونين على خصومهم من بكر، ويحتج كذلك لاقتصاص أبيه منهم، وملاحقته لهم، فإنهم هم الذين نكثوا العهد، ونقضوا الحلف، وهم الذين عادوه وقاتلوه، وهم الذين أصروا على مخالفتهم له ومنازعتهم إياه. وهو لذلك حين ينتقم منهم، فإنه لا يجور عليهم، بل يجزيهم سوءا بسوء3:

ومن عجب الأيام والدهر أصبحت

تميم وقيس بالرماح تشاجر

وكنا يدا حتى سعى الدهر بيننا

ففرقنا والدهر فيه الدوائر4

يفرق ألافا ويترك عالة

أناسا لهم وفر من المال وافر5

هم بدأونا بالقطيعة وارتضوا

له خطة لا يرتضيها المعاشر6

1 الطبري 7: 595.

2 جاء في معجم الشعراء للمرزباني في ذكر من اسمه مرداس ص: 274: "مرداس

تميم بخراسان، وكانت تميم قتلت ابنه محمد بن عبد الله". ففي النص نقص وتخليط، لأن المعروف أن عبد الله بن خازم كان له خمسة أبناء، وهم "موسى، ومحمد، ونوح، وخازم، وإسحاق" "انظر جمهرة أنساب العرب ص: 262". أما محمد فقتله بنو تميم بهراة سنة خمس وستين. "انظر الطبري 7: 59" وأما موسى فقتله المفضل بن المهلب بن أبي صفرة بالترمذ سنة خمس وثمانين "انظر الطبري 7: 1154" وأما أبناؤه الثلاثة الآخرون فلم يكن لهم شأن ولا ذكر بخراسان. ولعل الصحيح أن الأبيات لموسى بن عبد الله بن خازم، ومما يقوي ذلك أنه كان شاعرا، "انظر معجم الشعراء ص: 287" ولعل النص يستقيم على هذا النحو: "قال موسى بن عبد الله بن خازم، وكانت تميم قتلت أخاه محمد بن عبد الله بخراسان".

3 معجم الشعراء ص: 274.

4 في الأصل: فصرفنا، وهو تحريف ظاهر. والدوائر: الدواهي والهزيمة والسوء والشر.

5 العالة: الذي يتكفل غيره به، وينفق عليه. والوافر: الكثير وفي الأصل داثر. والدثر: المال الكثير من الإبل، ولم يستعمل داثر بهذا المعنى.

6 المعاشر: القريب والصديق.

ص: 84

فما كان ظلما قتلنا القوم إذ بغوا

وضاقت عليهم في البلاد المصادر1

وللأبيات أهمية تاريخية كبيرة، لأنها تكشف كشفا دقيقا عن تحالف قيس وتميم في هذه الفترة المبكرة، لاتفاق مصالحهم المختلفة، ولأنها تبين عن معاداتهم جميعا لبكر، ومما لم يطلعنا عليه المؤرخون. بمثل هذا الوضوح المطلق.

وعندما ضيق ابن خازم على بني تميم بهراة، تفرقوا في مدن خراسان، فمضى بحير بن ورقاء إلى نيسابور، واتجه دثار بن شماس العطاردي ناحية أخرى، وقيل: أتى سجستان، وأخذ عثمان بن بشر بن المحتفر إلى فرتنا، فنزل قصرا بها، وسار الحريش بن هلال ناحية مرو الروذ، فاتبعه ابن خازم، فلحقه بقرية من قراها يقال لها: قرية الملحمة، أو قصر الملحمة، فتنازلا طويلا، صمد الحريش لابن خازم صمودا شديدا، وصده صدا عنيفا. وفي ذلك يقول الخريش يصف قوة بأسه وصلابته، وحسن بلائه في مقارعته لابن خازم عامين متصلين، ويصف سهره وحذره، وامتشاقه لرمحه، وسله لسيفه، ومعالجته لفرسه2:

أزال عظم يميني عن مركبة

حمل الرديني في الإدلاج والسحر3

حولين ما اغتمضت عيني بمنزلة

إلا وكفي وساد لي على حجر

بزي الحديد وسربالي إذا هجعت

عني العيون محال القارح الذكر4

1 المصادر: المواضع.

2 الطبري 7: 598، وابن الأثير 4: 210،.

3 الرديني: الرمح. والإدلاج: سير آخر الليل.

4 البز: السلاح التام يدخل فيه الدرع والمغفر والسيف. والسربال: الدرع. والمحال: الكيد والتدبير وروم الأمر بالحيل، والقارح: الفرس في الخامسة. والذكر من الحديد: أيبسه وأشده وأجوده. ولعله استعار هذا الوصف للفرس.

ص: 85

نهايتهم، يتألم لفقدهم، ويعتذر من تقصيره من إغاثتهم، بأنه بذل كل ما في وسعه، وينعي على قومه تخاذلهم وجبنهم، ويرثي أبطال قبيلته، الذين لاقوا مصارعهم، ويصور ما انتابه من غم وهم، وما أصابه من قنوط ويأس1:

أعاذل إني لم ألم في قتالهم

وقد عض سيفي كبشهم ثم صما2

أعاذل ما وليت حتى تبددت

رجال وحتى لم أجد متقدما

أعاذل أفناني السلاح ومن يطل

مقارعة الإبطال يرجع مكلما3

أعيني إن انزفتما الدمع فاسكبا

دما لازما لي دون أن تسكبا دما4

أبعد زهير وابن بشر تتابعا

وورد أرجي في خراسان مغنما5

أعاذل كم من يوم حرب شهدته

أكر إذا ما فارس السوء أحجما6

1 وهكذا استمر ابن خازم يتعقب بني تميم بنواحي خراسان، التي تبعثروا فيها، ولجأوا إليها، وينكل بمن يقع بيديه منهم أبشع التنكيل، ويمثل بهم أشنع التمثيل، حتى كسر شوكتهم، وحطم كبرياءهم، وقتل زعماءهم، وحتى أرغم الحريش بن خلال على الاستسلام والإذعان له بقرية الملحمة. فهادنه الحريش وصالحه على أن يخرج من خراسان كلها، ولا يعود إلى قتاله، ووصله بن خازم بأربعين ألف درهم، وضمن له قضاء دينه.

1 الطبري 8: 700، وابن الأثير 4:256.

2 لم ألم: لم آت من الأفعال ما ألام عليه. والكبش: سيد القوم، يريد به ابن خازم، وكان الحريش ضربه برأسه ضربة أطارات فروته على وجهه. وعض السيف: جرح وصمم: مضى في العظم وقطعه.

3 المكلم: المجرح.

4 أنزفت العين: ذهب ماؤها ونضب. واللازم: المفروض.

5 زهير: هو زهير بن ذؤيب وابن بشر: هو عفان بن بشر بن المحتفر، وورد: هو ورد بن الفلق العنبري، وكلهم من فرسان بني تميم وسادتهم.

6 فارس السوء: فارس الهزيمة والشر، ضد فارس الصدق.

ص: 86

فكان لما حاق ببني تميم من الهزائم المتلاحقة أثر بالغ في نفوس أبنائهم وشعرائهم، فأخذوا يتلاومون، وجعل كل فريق يلقي التبعة على الفريق الآخر، كما مر بنا في أبيات الحريش السابقة، وكما يتضح من هذين البيتين لأحد شعرائهم، وهو يشيد فيها بالحريش وبطولته وغنائه في القتال، ويرمي غيره بالتقاعس والانهزام، ويردد أنهم لو صبروا صبره لما قدر ابن خازم عليهم،، ولما استطاع البطش بهم، بل لتغلبوا عليه، وأذاقوه مر الهزيمة، وشر الانكسار1.

فلو كنتم مثل الحريش صبرتم

وكنتم بقصر الملح خير فوارس

إذا لسقيتم بالعوالي ابن خازم

سجال دم يورثن طول وساوس2

ومع كل ما لحق بني تميم من الكرب بهراة حتى تقهقروا عنها واستبد ابن خازم بها، وتشتتوا في مدن خراسان، ومع كل ما حل بهم من التفرق والتمزق بمرو الروذ حتى سيطر ابن خازم عليها، وفتك بهم فتكا ذريعا فيها، فقد بقيت منهم بقية بنيسابور كان بحير بن ورقاء على رأسها، فأشعلت هناك ثورة على ابن خازم سنة اثنتين وسبعين، فأسرع إليها، وأناب على مرو الروذ بكير بن وشاح التميم. وبينما كان يحارب بحيرا طلب إليه عبد الملك بن مروان أن يبايع له على أن يفوض إليه حكم خراسان سبع سنين، فأنف من قبول هذا العرض، فكاد عبد الملك له، وكتب إلى ابن وشاح أن ينضوي تحت لوائه، ويدخل في طاعته على أن يوليه على خراسان، فوافق ابن وشاح على ذلك. وهنا ضعف مركز ابن خازم، فقرر التوجه إلى الترمذ، والانضمام إلى ابنه موسى بها، فاتبعه ابن ورقاء وقتله أحد الموالي الذين كانوا معه، وهو وكيع بن الدورقية الخوزستاني، وكان ابن خازم قتل أخاه لأمه من قبل. فقال وكيع يذكر صرعه لابن خازم، وأخذه بثأره منه3:

1 الطبري 7: 597.

2 السجال: جمع سجل وهي الدلو الضخمة المملوءة ماء، وجعلها هنا مملوءة دما.

3 فتوح البلدان ص: 406.

ص: 87

ذق يا بن عجلى مثل ما قد أذقتني

ولا تحسبني كنت عن ذاك غافلا1

وكتب ابن ورقاء إلى عبد الملك أنه أحبط تمرد ابن خازم، وسفك دمه، وأرسل رسولا من بني غدانة ليحمل إليه الخبر، ولم يبعث معه بالرأس، فاغتصبه ابن وشاح، وحبس ابن ورقاء، وأرسل إلى عبد الملك، فحار في الأمر، ولم يتبين حقيقته. فقال رجل من بني سليم يأسف الهلاك ابن خازم، ويأسف لبعده عن قومه، وانقطاعه عنهم، مما هيأ الفرصة لأعدائه، فأطاحوا به، وحزوا رأسه:2

أليلتنا بيسابور ردي

علي الصبح ويحك أو أنيري3

كواكبها زواحف لا غبات

كأن سماءها بيدي مدير4

تلوم على الحوادث أم زيد

وهل لك في الحوادث من نكير5

جهلن كرامتي وصددن عني

إلى أجل من الدنيا قصير

فلو شهد الفوارس من سليم

غداة يطاف بالأسد العقير6

لنازل حوله قوم كرام

فعز الوتر في طلب الوتور7

فقد بقيت كلاب نابحات

وما في الأرض بعدك من زئير

1 ابن عجلى: عبد الله بن خازم السلمي، وأمه عجلى، وكانت سوداء، أحد غربان العرب في الإسلام:"انظر الكامل للمبرد 1: 241، والمحبر ص: 308".

2 الطبري 8: 834.

3 ويحك: كلمة تقال رحمة لمن تنزل به بلية، وتنصب على المصدرية.

4 البيت لمهلهل بن ربيعة. "انظر أمالي القالي 2: 127".

والزواحف: المعييات التي لا تقدر على النهوض والاغبات مثلها، كررها توكيدا لما اختلف اللفظ. "كأن سماءها بيدي مدير". يريد أن سماءها أثقل من أن يديرها مدير، فهو إذا تكلف إدارتها لم يقدر عليها.

5 النكير: النكران والرد.

6 العقير: المعقور المجروح.

7 الوتر: الثأر. والوتور: كثير الجناية على غيره.

ص: 88

ونشأ عن سجن ابن وشاح لابن ورقاء، ونسبته قتل ابن خازم إلى نفسه، واستئثاره بالسلطة من دونه أن تشعب بنو سعد التميميون إلى شعبتين، إذ ساعدت عوف بن وشاح، وأيدت مقاعس والبطون ابن ورقاء، فاستطار الشر بين المجموعتين المتناحرتين على السلطة، واستمر الخلاف بينهما على أشده سنتين. وفي سنة أربع وسبعين تفاقم العداء بينهم، وتعاظم خطره، فاتفق العرب بخراسان على أن يكتبوا إلى عبد الملك بن مروان أن يعين عليهم واليا قرشيا، حتى يخلصهم من الفتنة والهلكة، فانتخب أمية بن عبد الله الأموي وسيره إليهم. فقال رجل من بكر بن وائل يصف ما ثار من الخصام والصدام بين عشائر بني تميم، وما نجم عنه من تسلط ابن وشاح عليهم، ويعلن انتهاء الأزمة وانفراجها، بقدوم أمية إليهم1:

أتتك العيس تنفخ في براها

تكشف عن مناكبها القطوع2

كأن مواقع الأكوار منها

حمام كنائس بقع وقوع3

بأبيض من أمية مضرحي

كأن جبينه سيف صنيع4

وحاول ابن ورقاء الانتقام لنفسه، فخف لاستقبال أمية، وحذره من غدر ابن وشاح، فلم يستمع أمية إليه، بل ثبت موظفي ابن وشاح في مناصبهم وجرب أن يستميله ويصانعه بتوليته قيادة شرطته، فأبى فولاها ابن ورقاء5، فسخط وراح يتربص بأمية. وفي سنة سبع وسبعين غزا أمية بخارى والترمذ، وأقام ابنه زيادا عنه بمرو الشاهجان، وكلف ابن وشاح بملازمته، حتى يعنى به ويضبط عمله. فانتهز فرصة غياب أمية، وأخذ ابنه فحبسه، ودعا الناس إلى خلعه فأجابوه. وبلغ أمية النبأ،

1 الطبري 8: 861. والأبيات في الأغاني "طبعه الساسي" 12: 69، وفي اللسان 3: 358، 10: 156 لعبد الرحمن بن الحكم يمدح معاوية بن أبي سفيان وفي اللسان 10: 156، للأعشى أو لزياد الأعجم.

2 البري: جمع برة، وهي الحلقة في أنف البعير. والمناكب: جمع منكب، وهو مجتمع عظم العضد والكتف. والقطوع: جمع قطع، وهي النمرقة والطنفسة تكون تحت الرحل على كتفي البعير.

3 الكور: الرحل، والبقع: التي خالط بياضها لون آخر.

4 المضرحي: السيد السري الكريم، والصنيع: السيف المجلو المصقول اللامع.

5 الطبري 8: 862.

ص: 89

فصالح أهل بخارى على فدية قليلة، ورجع إلى مرو الشاهجان، فقضى على الفتنة، وصفح عن ابن وشاح. وعندما تأكد من أنه لم ينصرف عن الكيد له، والتحريض عليه، سجنه، وأمر بقتله، ووكل به ابن ورقاء، فضرب عنقه، وقال له قبل أن ينفذ الحكم فيه "لا يصلح بنو سعد ما دمنا حيين"1. فتصدعت صفوف بني سعد، وامتلأت صدور بني عوف والأبناء غضبا على ابن ورقاء، وأخذ شعراؤهم يحضونهم على الأخذ بثأر ابن وشاح. ومما قيل في ذلك هذه الأبيات لعثمان بن رجاء، أحد بني عوف ابن سعد2:

لعمري لقد أغضيت عينا على القذى

وبت بطينا من رحيق مروق3

وخليت ثأرا طل واخترت نومة

ومن يشرب الصبهاء بالوتر يسبق4

فلو كنت من عوف بن سعد ذوابة

تركت بحيرا من دم مترقرق5

فقل لبحير نم ولا تخش ثائرا

بعوف فعوف أهل شاء حبلق6

دعوا الضأن يوما قد سبقتم بوتركم

وصرتم حديثا بين غرب ومشرق7

وهبوا فلو أمسى بكير كعهده

صحيحا لغاداهم بجأواء فيلق8

وقال عثمان بن رجاء أيضا يستنهض بني عوف والأبناء ويحمسهم لإدراك ثأرهم ونفي العار عنهم9:

1 الطبري 8: 1022، 1031.

2 الطبري 8: 1048، وابن الأثير 4:457.

3 القذى: المكروه والعار. والبطين: عظيم البطن. والمورق: المصفى.

4 طل: أهدر.

5 ذؤابة القوم: أعلاهم وأشرفهم.

6 الحبلق: الغنم الصغار لا تكبر.

7 في الأصل: دع.

8 الجأواء: الكتيبة التي يعلو لونها السواد لكثرة الدروع.

9 الطبري 8: 1048، وابن الأثير 4:458.

ص: 90

فلو كان بكر بارزا في أداته

وذي العرش لم يقدم عليه بحير1

ففي الدهر إن أبقاني الدهر مطلب

وفي الله طلاب بذاك جدير

وعلم ابن ورقاء أن الأبناء يهددونه، فقال يعتد بقوة عزيمته، ومقدرة أنصاره، ويفتخر بدقه عنق ابن وشاح بسيفه2:

توعدني الأبناء جهلا كأنما

يرون فنائي مقفرا من بني كعب

رفعت له كفي بحد مهند

حسام كلون الملح ذي رونق عضب3

ولم تنته الخصومة بين عشائر بني سعد إلا سنة إحدى وثمانين، حين تعاقد سبعة عشر رجلا من بني عوف ابن كعب بن سعد على الطلب بدم ابن وشاح4. فخرج أحدهم من بادية البصرة إلى خراسان، وهو صعصعة بن حرب العوفي، واغتال ابن ورقاء بآخرون، وهو غاز مع المهلب بن أبي صفرة5، بعد أن غير اسمه ولقبه، وانتحل شخصية رجل من بكر بن وائل. فأهدر المهلب دم صعصعة وقتله. فثار بنو عوف والأبناء وقالوا: علام قتل صاحبنا، وإنما طلب بثأره، فنازعتهم مقاعس والبطون، حتى خاف العرب أن يعظم الأمر فقال أهل الحجى: احملوا دم صعصعة، واجعلوا دم ابن ورقاء بواء وسواء بدم ابن وشاح. فودوا صعصعة. فقال رجل من الأبناء بمدحه، وينوه بما تجشم من الصعاب والعقاب، وما بذل من الجهد حتى قتل ابن ورقاء6:

1 أداته: سلاحه.

2 الطبري 8: 1048، وابن الأثير 4:458.

3 الحسام والعضب: السيف القاطع. الرونق: الماء واللمعان.

4 الطبري 8: 1049.

5 انظر ترجمته في طبقات ابن سعد 7: 129، وطبقات خليفة بن خياط ص: 478، والمحبر ص: 216، والتاريخ الكبير 4: 2: 25، والمعارف ص: 399، وشرح نهج البلاغة 4: 144، والجرح والتعديل 4: 1: 369، ووفيات الأعيان 5: 350، والبداية والنهاية 9: 43، وشذرات الذهب 1:90.

6 الطبري 8: 1051.

ص: 91

لله در فتى تجاوز همه

دون العراق مفاوزا وبحورا

ما زال يدأب نفسه ويكدها

حتى تناول في خرون بحيرا

وفي سنة خمس وثمانين فصل الحجاج بن يوسف، أمير العراق، يزيد بن المهلب1 عن ولاية خراسان، وكلف بها أخاه المفضل، فجعل يستحث يزيد على السفر إلى العراق، فقال له: إن الحجاج لا يقرك بعدي، وإنما دعاه إلى توليتك مخافة أن أمتنع عليه. فظن المفضل أن أخاه حسده. فخرج يزيد عائدا إلى العراق، فاستغنى الحجاج عن المفضل، فقال أحد الشعراء هذه الأبيات للمفضل وأخيه عبد الملك، يتهمهما فيها بقصر النظر، مما جعل الحجاج يطرد المهالبة جميعا من خراسان2:

يا ابني بهلة إنما أخزاكم

ربي غداة غدا الهمام الأزهر

أحفرتم لأخيكم فوقعتم

في قعر مظلمة أخوها المعور3

جودوا بتوبة مخلصين فإنما

يأبى ويأنف أن يتوب الأخسر

وكان يزيد بن المهلب استشار الحضين بن المنذر الرقاشي البكري4 قبل أن يرحل عن خراسان، فنهاه عن السفر، ونصحه أن يقيم ويعتل، وأن يكتب إلى عبد الملك بن مروان ليقره، فإنه حسن الرأي فيه. فلم يعمل يزيد بمشورته، وقال له:"إنما نحن أهل بيت بورك لنا في الطاعة، وأنا أكره الخلاف" فقال الحضين فيه هذين البيتين، شامتا به، وساخرا منه، وقد جرد من منصبه، وراجعته نفسه فيه5:

أمرتك أمرا حازما فعصيتني

فأصبحت مسلوب الإمارة نادما

وما أنا بالباكي عليك صبابة

وما أنا بالداعي لترجع سالما

1 انظر ترجمته في المعارف ص: 300، ووفيات الأعيان 6:278.

2 الطبري 8: 1142.

3 المعور: أعمى العين.

4 انظر ترجمته في طبقات ابن سعد 7: 155، وطبقات خليفة بن خياط ص: 487، والتاريخ الكبير 2: 1: 128، والجرح والتعديل 1: 2: 311، وتهذيب التهذيب 2: 395، وتقريب التهذيب 1:185.

5 الطبري 8: 1142، وابن الأثير 4:504.

ص: 92

وفي سنة ست وتسعين أراد الوليد بن عبد الملك أن يجعل ولاية العهد لابنه عبد العزيز، وأن يخلع أخاه سلمان عنها، فأيده الحجاج بن يوسف، وقتيبة بن مسلم1، فمات الوليد في السنة نفسها، واستخلف سليمان، فخافه قتيبة2، وتوقع منه غدرا وشرا، فغزا فرغانة، وهناك حث مقاتلة القبائل على رفض الانصياع له، فلم يؤيدوه في هذه المغامرة السياسية الخطيرة، واستغل رؤساء الأخماس من الأزد، وبكر، وتميم الموقف، وراحوا يخططون لخلعه، وكان الأزد هي التي بدأت بالكيد له، ثم اجتمع زعيمها بحلفائه من بكر، فصوبوا رأيه. لكنهم كانوا يعرفون أن تميما أضخم الأخماس وأقواها، وأنها إن لم تشترك معهم في المؤامرة، فإنها ستأخذ جانب قتيبة، وستنكل في النهاية بهم3. فمشوا إلى رئيسها وكيع بن أبي سود التميمي4، وكان ناقما على قتيبة، لأنه نحاه عن رئاسة بني تميم، ولم يحترمه حين استشفع عنده للأهاتم من بني قومه، فوافقهم، فأسندوا إليه قيادتهم، ثم وثبوا بقتيبة فقتلوه، فادعى شعراء كل قبيلة أن سادتها وفرسانها هم الذين اغتالوه جزاء وفاقا لتجبره عليهم. وظلمه لهم.

فهذا ثابت قطنة الأزدي، يصور حال قتيبة بفرغانة، وما آل إليه من المذلة قبل أن يقتل، وما انتهى إليه من مصير مروع فظيع، فقد قطعت رأسه، ولطخ الدم جبينه تلطيخا، بعد أن كان في حياته عاتيا متسلطا5:

ألم تر أن الباهلي بن مسلم

بفرغانة القصوى بدار هوان

تمور أسابي الدماء بوجهه

وقد كان صعبا دائم الخطران6

وهذا نهار بن توسعة يفتخر بأن قومه من بكر هم الذين سفكوا دمه، لأنه طغى وبغى. يقول:7

1 الطبري 8: 1284.

2 انظر ترجمته في المعارف ص: 406، ومعجم الشعراء ص: 212، ووفيات الأعيان 4: 86، والبداية والنهاية 9: 167، وخزانة الأدب 3:657.

3 الطبري 8: 1289.

4 جمهرة أنساب العرب ص: 226.

5 نقائض جرير والفرزدق 1: 364.

6 الأسابي: طرائق الدم، ودائم الخطران: كثير الوعيد والتهديد.

7 الطبري 9: 1301.

ص: 93

ولما رأينا الباهلي بن مسلم

تجبر عممناه عضبا مهندا1

وهذا الحضين بن المنذر الرقاشي، سيد بكر، يتمدح بأن حلفاءه من الأزد هم الذين فتكوا به، وأنهم هم الذين ساعدوا تميما على الأخذ بثأرها منه، إذ اختاروا لقتله رجلين جبارين، وانتخبت هي رجلا هزيلا، أسود الأنف، مختوم الذراعين، أصم الأذنين، قبيح الخلقة، بشع الوجه، وهو وكيع بن أبي الأسود، يقول2:

وإن ابن سعد وابن زحر تعاورا

بسيفهما رأس الهمام المتوج3

وما أدركت في قيس عيلان وترها

بنو منقر إلا بالازد ومذحج

عشية جئنا بابن زحر وجئتم

بأدغم مرقوم الذراعين ديزج4

أصم غداني كأن جبينه

لطاخه نقس في أديم ممجمج5

أما بيهس بن حاجب التميمي فيذهب إلى أن وكيعا هو الذي ثار لقتلى عشيرته من الأهاتم، وانتصر للخلافة، ولسليمان بن عبد الملك، إذ لم يكد ينادي شجعان قومه حتى لبوا نداءه، لأن من عادتهم أن يسرعوا إلى المستغيث، ويتسابقوا إلى المعالي، مع إعداد العدة للحرب، والفوز فيها بالنصر. يقول6:

ورد على سعد وكيع دماءها

حفاظا وأوفى للخليفة بالعهد

ولما دعى فينا وكيع أجابه

فوارس ليسوا بالرباب ولا سعد

فوارس من أبناء عمرو بن مالك

سراع إلى الداعي سراع إلى المجد

1 تقول العرب للرجل إذا سود قد عمم. وكانوا إذا سودوا رجلا عمموه عمامة حمراء. "اللسان 15: 320" ونهار يشاكل بين تعميم الرجل بالعمامة الحمراء إذا سود، وبين تعميمه بالسيف إذا قتل.

2 نقائض جرير والفرزدق 1: 362، والطبري 9:1297.

3 ابن زحر: هو جهم بن زحر بن قيس الأزدي. وابن سعد هو سعد بن نجد الأزدي "الاشتقاق ص: 407".

4 الديزج: الأدغم.

5 اللطاخة: البقعة. والنفس: الحبر. والممجمج: كثير اللحم.

6 نقائض جرير والفرزدق 1: 365.

ص: 94

ميامين لا كشف اللقاء لدى الوغى

ولا نكد إن حشت الحرب بالنكد1

وتمجد وكيع بن أبي سود تمجدا كثيرا بنفسه، فيه العجب والكبر، وفيه الصلف والغرور، إذ يقول مصورا ازورار العرب عنه، وتحاميهم له، لبذاءة لسانه، وكثرة شره وأذاه2:

قد جربوني ثم جربوني

من غلوتين ومن المئين3

حتى إذا شبت وشيبوني

خلوا عناني وتنكبوني

ويقول معتزا بنسبه وأصالته4:

أنا ابن خندف تنميني قبائلها

للصالحات وعمي قيس عيلانا

وعلى نحو ما تمدح القبائل العربية في خراسان بالثورة على قتيبة، وعزا كل منهم قتله إلى قبيلته أو إلى حلفائها، تمدح الشعراء في العراق من القبائل نفسها بذلك. فالطرماح بن حكيم الطائي القحطاني الكوفي يكرر المعاني التي رجعها شعراء الأزد كثيرا بخراسان، مع الإفاضة فيها، والتعظيم لأمرها، ومع الإحساس القوي بالعصبية لأهل اليمن والتعالي بهم على العرب كافة، ومع المن على المسلمين والخلفاء الأمويين. فقومه هم الذين صانوا للعرب وحدتهم وسيادتهم، وهم الذين وفوا للخليفة، لأنهم حماة الإسلام في أول عهده، وأنصار الأمويين، الذائدين عنهم، الموطدين لحكمهم، وذلك قوله5:

لولا فوارس مذحج ابنة مذحج

والأزد زعزع واستبيح العسكر

1 الميامين: المباركون، والكشف: الذين لا تروس معهم في الحرب والنكد: المسئومون. وحشت: اسعرت وهيجت.

2 الطبري 9: 1298.

3 الغلوة: الغاية قدر رمية بسهم.

4 الطبري 9: 1298، ونقائض جرير والفرزدق 1:363.

5 ديوانه ص: 248، والطبري 9:1302.

ص: 95

وتقطعت بهم البلاد ولم يؤب

منهم إلى أهل العراق مخبر

واستطلقت عقد الجماعة وازدري

أمر الخليفة واستحل المنكر1

قوم هم قتلوا قتيبة عنوة

والخيل جانحة عليها العثير2

بالمرج من مرج الصين حيث تبينت

مضر العراق من الأعز الأكثر

إذ حالفت جزعا ربيعة كلها

فتفرقعت مضر ومن يتمضر

وتناقلت أزد العراق ومذحج

للموت يجمعها أبوها الأكبر3

من مذحج والازد حين تجمعت

للحرب زمزمة تغط وتهدر4

كفت الذين تغيبوا من قومهم

من كان يعرف منهم أو ينكر

والأزد تعلم أن تحت لوائها

ملكا قراسية، وموت أحمر5

والأزد تعلم ما يقال ضحى غد

تحت اللواء فتستحد وتصبر6

قحطان تضرب رأس كل متوج

وعلى بصائرها وإذ لا تبصر

في عزنا انتصر النبي محمد

وبنا تثبت في دمشق المنبر#

أما الفرزدق شاعر بني تميم في البصرة فينسب كل ما حدث بخراسان إلى قومه، ويستشعر مكانة قبليته استشعارا عارما. ويبدئ ويعيد في المعاني التي رددها شعراء تميم بخراسان، مع الإسهاب فيها، والتضخيم لها، فإذا قومه هم الذين أراقوا دم قتيبة، ومنعوا أخاه ضرارا من الموت، وإذا هم الذين جاهدوا جهادا قويا لإعلاء كلمة الله في الأرض، فانتشر الإسلام في كل ناحية، وارتفع صوت المؤذن في كل

1 استطلقت عقد الجماعة: اختل نظامها وانحلت وتفرقت.

2 جانحة: مائلة على شق في جريها حين الغارة من فرط النشاط. والعثير: الغبار.

3 تناقلت: أسرعت.

4 الزمزمة: الصوت البعيد تسمع له دويا، وتغط: تهدر.

5 الملك القراسية: القوي العظيم. وموت أحمر: أي وثم مت أحمر، رفعه على الابتداء.

6 تستحد: تغضب وتثور للحرب.

ص: 96

زاوية، وإذا وكيع بن أبي سود هو الذي انتصر للأمة والدين والخليفة فاستحق جنات الخلد، يقول1:

ومنا الذي سل السيوف وشامها

عشية باب القصر من فرغان

عشية لم تمنع بنيها قبيلة

بعز عراقي ولابيمان

عشية ود الناس أنهم لنا

عبيد إذ الجمعان يضطربان

عشية ما ود ابن غراء أنه

له من سوانا إذ دعا أبوان2

عشية لم تستر هوازن عامر

ولا غطفان عورة ابن دخان3

رأوا جبلا يعلو الجبال إذا التقت

رؤوس كبيريهن ينتطحان

رجال على الإسلام إذ ما تجالدوا

على الدين حتى شاع كل مكان4

وحتى دعا في سور كل مدينة

مناد ينادي فوقها بأذان

فيجزى وكيع بالجماعة إذ دعا

إليها بسيف صارم وسنان

جزاء بأعمال الرجال كما جزى

ببدر وباليرموك فيء جنان

وواضح من كل الأبيات والمقطوعات التي استشهدنا بها، والتي نظمها الشعراء في خراسان والعراق، بعد هلاك قتيبة أن ما يشيع فيها من المنافسة والمفاخرة والمكاثرة يعود إلى سببين أساسيين: الأول استبداد الروح الجاهلية، والعصبية القبلية بنفوس قبائلهم، وقوة إحساسهم بالفردية والذاتية، وضعف تمثلهم لفكرة الوحدة والأمة. والثاني رغبة كل قبيلة في منافقة سليمان بن عبد الملك ومصانعته، فقد أعلن شعراء كل قبيلة أن قومهم رفضوا الخروج عليه، وعدوا عصيان قتيبة له عبثا وجرما كبيرا، ولذلك فإنهم انفصلوا عن قتيبة، وفتكوا به، إيمانا منهم بحق سليمان في الخلافة، واعتقادا منهم بأن الفتنة يجب أن توأد مهدها، لما تنذر به من أخطار جسيمة.

1 ديوانه 2: 331، ونقائض جرير والفرزدق 1: 351، والطبري 9:1301.

2 ابن غراء: هو ضرار بن مسلم أخو قتيبة بن مسلم، وأمه غراء بنت ضرار بن القعقاع بن معبد بن زرارة.

3 ابن دخان: لقب باهلة.

4 تجالدوا: جاهدوا وصبروا.

ص: 97

تهدد الدين، وتوهن جانب المسلمين ولسنا نشك في أنهم إنما كبروا هذه المعاني، وجهروا بها، لأن كل قبيلة كانت تطمع في أن يكافئها سليمان بالولاية لقاء تعلقها به، ووفائها له.

وقام وكيع بن أبي سود التميمي بالولاية، بعد ذلك الاضطراب وتلك الفوضى، ففرح العرب واستبشروا خيرا، حتى إن نهار بن توسعة البكري نفخ في رأسه، وعظم دوره، ومضى يحبب للناس شخصيته، معلنا أنهم أسلموا إليه زمام أمرهم، لأنه مشهور بفنائه في الحروب، مذكور بوفائه للخليفة، وأنه قادهم قيادة سليمة، وساسهم سياسة عادلة، فاجتمعت كلمتهم، والتأمت صفوفهم، واتحدوا بزعامته تحت راية الإسلام، وفي ذلك يقول1:

أراد بنو عمرو لتهلك ضيعة

فقد تركت أجسادهم بمضيع

ستبلغ أهل الشام عنا وقيعة

صفا ذكرها للحنظلي وكيع

وقد أسندت أهل العراق أمورها

إلى حامل ما حملوه منيع

له راية بالثغر سوداء لم تزل

تفض بها للمشركين جموع

مباركة تهدي الجنود كأنها

عقاب نحت2 من ريشها لوقوع

على طاعة المهدي لم يبق غيرها

فأبنا وأمر المسلمين جميع

على خير ما كانت تكون جماعة

على الدين دينا ليس فيه صدوع

ولكن وكيعا أخلف ظنون العرب به، وخيب آمالهم فيه، فقد تحكم برقابهم، وبطش بهم، ولم يقف عند اضطهادهم والتعدي عليهم، بل خرج على حدود الشرع وقواعده، فإذا هو لا يقنع بجلد السكران جلدا، بل يسفك دمه سفكا. فلما روجع في ذلك "وقيل له: ليس عليه القتل، إنما عليه الحد، قال أنا لا أعاقب بالسياط،

1 نقائض جرير والفرزدق 1: 364.

2 نحت: اعتمدت.

ص: 98

إنما أعاقب بالسيف"1. فساءت سيرته في ولايته التي لم تتجاوز تسعة أشهر، ورجع نهار بن توسعة البكري عن رأيه الأول فيه، وراح يندد به، ويشهر بحكمه الغاشم، إذ يقول2:

وكنا نبكي من الباهلي

فهذا الغداني شر وشر

وحين ولي يزيد بن المهلب خراسان لسليمان بن عبد الملك، وغزا جرجان وطبرستان، كان على خزائنه شهر ابن حوشب الأشعري3، فرفع عليه أنه أخذ خريطة، فسأله عنها فأتاه بها، فدعا يزيد من رفع عليه فشتمه، ووهبها لشهر فقال: لا حاجة لي فيها، فقال القطامي الكلبي، أو سنان بن مكحل النميري: يغمز شهرا، ويستهجن أن يسرق شيئا بخسا، وهو من كبار القراء، مما حط من قيمته، ودنس سمعته4:

لقد باع شهر دينه بخريطة

فمن يأمن القراء بعدك يا شهر

أخذت به شيئا طفيفا وبعته

من ابن جرير إن هذا هو الغدر

وقال مرة النخعي يتهم يزيد بن المهلب بإفساد خيرة القراء من كبار موظفيه5:

يا بن المهلب ما أردت إلى امرئ

لولاك كان كصالح القراء

وفي إمارة سعيد بن عبد العزيز على خراسان وشى عبيد الله بن عبد الحميد بن عامر بن كريز بجهم بن زحر الجعفي وجماعة من أهل اليمن، ونقل إلى سعيد أنهم

1 الطبري 9: 1301، ونقائض جرير والفرزدق 1:364.

2 نقائض جرير والفرزدق 1: 364، والطبري 9:1301.

3 انظر ترجمته في طبقات ابن سعد 7: 449، وطبقات خليفة بن خياط ص: 794، والتاريخ الكبير 2: 2: 259، والمعارف ص: 448، والجرح والتعديل 2: 1: 382، وحلية الأولياء 6: 59، وتهذيب تاريخ ابن عساكر 6: 345، وتاريخ الإسلام: 4: 13، وتذكرة الحفاظ 1: 103، والبداية والنهاية 9: 304، والنجوم الزاهرة 1: 271، وغاية النهاية في طبقات القراء 1: 329، وتهذيب التهذيب 4: 369، وتقريب التهذيب 1: 355، وشذرات الذهب 1:119.

4 الطبري 9: 1329، وتهذيب تاريخ ابن عساكر 6: 346، وانظر المعارف ص: 448، وتهذيب التهذيب 4:370.

5 الطبري 9: 1329.

ص: 99

احتجنوا أموالا في أثناء عملهم مع يزيد بن المهلب، فسجنهم، ثم عذبهم، حتى يؤدوا الأموال التي طولبوا بها، فهلك جهم، فثار ثابت بن قطنة الأزدي له، وأخذ يتوعد عبد الله وأتباعه بالقتل، يقول1:

أتذهب أيامي ولم أسق ترفلا

وأشياعه الكأس التي صبحوا جهما2

ولم يقرها السعدي عمرو بن مالك

فيشعب من حوض المنايا لها قسما

ويدل هذا الخبر مع شعر مرة النخعي على سياسة يزيد بن المهلب المالية، وكيف أنه كان يختان الأموال، ويعرض هبات على المسؤولين عنها، لكي يغضوا الطرف عما كان يستولي عليه منها، وكيف أنه كان يوظف أبناء عشيرته وأهل اليمن، ويطلق أيديهم في أعمالهم دون محاسبة أو مراقبة.

وعندما اندلعت الفتنة بالبروقان بين المضرية، وبين اليمنية والربعية، وانهزم الأخيرون، وقتل بنو تميم عمرو بن مسلم الباهلي الذي اجتمعوا إليه، وولوه قيادتهم، قال بيان العنبري التميمي يصف حرب بني تميم، وكيف أنهم محقوا رؤوس الفتنة من الأزد وبكر، وأوقعوا في قلوبهم الذعر، فإذا البكريون كلما ذكروا ذلك اليوم يبكون ويتألمون، ويعير البكريين بالجبن والتخاذل، لأنه ليس من طبعهم الثبات في الميدان حين يشتد القتال3:

أتاني ورحلي بالمدينة وقعة

لآل تميم أرجفت كل مرجف4

تظل عيون البرش بكر بن وائل

إذا ذكرت قتلى البروقان تذرف5

هم أسلموا للموت عمرو بن مسلم

وولوا شلالا والأسنة ترعف6

وكانت من الفتيان في الحرب عادة

ولم يصبروا عند القنا المتقصف7

1 أنساب الأشراف 5: 162.

2 ترفل: هو عبيد الله بن عبد الحميد بن عامر بن كريز.

3 الطبري 9: 1477.

4 ارجفت: أفزعت. والمرجف: الذي يولد الأخبار الكاذبة التي يكون معها اضطراب الناس.

5 البرش: جمع أبرش، وهو الذي في لونه نقطة حمراء وأخرى سوداء أو غبراء.

6 ولوا شلالا: أي مطرودين متفرقين. وترعف: تقطر دما.

7 المتقصف: المتكسر.

ص: 100

وقال نصر بن سيار الذي قاد بني تميم يذكر إيقاعه ببكر، شامتا بهم، لأنهم لم يقتنعوا بمحالفة الأزد في موقعة البروقان فحسب، بل حالفوا أيضا عمرو بن مسلم الباهلي، وكانوا يرجون أن يحقق لهم النصر العظيم، فجروه وجروا أنفسهم إلى معركة خاسرة، متشفيا بخالد بن عبد الله القسري، لما آل إليه من الحبس على يد يوسف بن عمر الثقفي بالعراق، سنة عشرين ومائة1:

أرى العين لجت في ابتدار وما الذي

يرد عليها بالدموع ابتدارها

وما أنا بالواني إذا الحرب شمرت

تحرق في شطر الخميسين نارها

ولكنني ادعو لها خندف التي

تطلع بالعبء الثقيل فقارها

وما حفظت بكر هنالك حلفها

فصار عليها عار قيس وعارها

فإن تك بكر بالعراق تنزرت

ففي أرض مرو علها واوزرارها2

وقد جربت يوم البروقان وقعة

لخندف إذ حانت وآن بوارها

اتتني لقيس في بجيلة وقعة

وقد كان قبل اليوم طال انتظارها

وفي ولاية أسد بن عبد الله القسري3 الأولى على خراسان أحس البكريون إحساسا قويا أنه تنكر لهم، وأبعدهم عن المراكز الهامة، وأنه مال للأزد ميلا شديدا، فقدمهم وخصهم بأرفع الوظائف، فتضجروا وتسخطوا، وجعل أبو البريد البكري ينطق في شعره عن تذمرهم وتبرمهم، ويلوم الأزد، ويأخذ عليهم أنهم تحللوا من الحلف المعقود بينهم وبين قومه في البصرة، على أن يكونوا متساوين متساندين، إذ يقول4:

إن تنقض الأزد حلفا كان أكده

في سالف الدهر عباد ومسعود5

1 الطبري 9: 1475، 1654.

2 العل: الشربة الثانية، وعل الضارب المضروب: تابع عليه الضرب.

3 انظر ترجمته في التاريخ الكبير 1: 2: 50، وتهذيب تاريخ ابن عساكر 2: 461 وابن الأثير 5: 216، وميزان الاعتدال 1: 206، والبداية والنهاية 9: 325، وتهذيب التهذيب 1: 259، وتقريب التهذيب 1:63.

4 الطبري 9: 1497.

5 مسعود: هو مسعود بن عمرو الأزدي: ومالك: هو مالك بن مسمع البكري.

ص: 101

ومالك وسويد أكداه معا

لما تجرد فيها أي تجريد1

حتى تنادوا أتاك الله ضاحية

وفي الجلود من الإيقاع تقصيد2

فمشى به أحد الأزد، إلى عبد الرحمن بن صبح، عامل أسد على بلخ، فأنكر ما نسب إليه، وأنشد عبد الرحمن بيتا من شعره يؤكد فيه تمسك قومه بمحالفة الأزد، وحرصهم على صداقهم، يقول3:

الأزد إخوتنا وهم حلفاؤنا

ما بيننا نكث ولا تبديل

ولم يقف أسد في ولايته الأولى عند حرمان بكر من المناصب الكبيرة، فقد تخطاه إلى التضييق على مضر، وحبس أنصارها، فسجن نصر بن سيار، ونفرا من مضر، وجلدهم، فتحرك بنو تميم، وحاولوا إطلاق سراح نصر بالقوة، فنهاهم نصر عن اللجوء إلى السلاح في كل مشكلاتهم، فساقه أسد وبقية المضريين إلى أخيه خالد بالعراق، وكتب إليه أنهم فكروا في الثورة عليه. فلما قدم بهم عليه لام أسدا واتهمه بأنه تساهل في معاقبتهم، لأنه اكتفى بضربهم دون قتلهم4. فقال نصر يستهجن اعتقال أسد له، ويذم كل من تحدروا من قسر، ويدمغهم بالصغار والمهانة، وبالدهاء والخيانة، لأنهم يتسلطون على الناس، ويضطهدون أشرافهم، ويتنقصون أقدارهم5:

بعثت بالعتاب في غير ذنب

في كتاب تلوم أم تميم

إن أكن موثقا أسيرا لديهم

في هموم وكربة وسهوم

رهن قسر فيما وجدت بلاء

كإسار الكرام عند اللئيم

أبلغ المدعين قسرا وقسر

أهل عود القناة ذات الوصوم6

1 التجريد: انتضاء السيف، وإخراجه من غمده.

2 التقصيد: التكسير.

3 الطبري 9: 1498.

4 الطبري 9: 1498، 1499.

5 الطبري 9: 1500.

6 الوصوم: جمع وصم وهو الصدغ في العود دون بينونة، والعيب في النسب.

ص: 102

هل فطتم عن الخيانة والغد

ر أم أنتم كالحاكر المستديم1

وقال عرفجة الدارمي التميمي يستغرب أن يكون دعاة الخليفة وحماته من أمثال نصر بن سيار مقيدين يسامون العذاب في الحبس، وخصومه الحقيقيون أحرارا يعيشون ويفسدون2:

فكيف وأنصار الخليفة كلهم

عناة وأعداء الخليفة تطلق3

بكيت ولم أملك دموعي وحق لي

ونصر شهاب الحرب في الغل موثق4

كذلك هاج بنو تميم في البصرة، وكشف الفرزدق عن حنقهم وتحفزهم في أبيات هدد بها خالد بن عبد الله القسري، إذ يقول فيها: إن قومه إنما أحجموا عن إنقاذ نصر بالعنف، لأنهم اعتصموا بحبل الله، ولاذوا بالصبر، كراهية لمخالفة بني أمية، وخشية من تطور الأحداث وتفجرها5:

أخالد لولا الله لم تعط طاعة

ولولا بنو مروان لم توثقوا نصرا

إذا للقيتم دون شد وثاقه

بني الحرب لا كشف اللقاء ولا ضجرا6

والقصيدة طويلة، وقد ندد في آخرها ببني أمية وأنذرهم وخوفهم7.

وحين أمعن أسد في محاباة الأزد، وأفرط في العصبية حتى أفسد الناس8، استدعاه هشام بن عبد الملك من خراسان، وولى عليها أشرس بن عبد الله السلمي،

1 الحاكر: من حكر إذا ظلم وتنقص وأساء المعاشرة.

2 الطبري 9: 1500.

3 العناة: جمع عان، وهو الأسير.

4 الغل: القيد.

5 الطبري 9: 1500.

6 الكشف: الذين لا تروس معهم، أو الذين لا يثبون في الحرب ولا يصدقون القتال. الضجر: جمع ضجور، وهو ضيق النفس القلق المتبرم.

7 ديوان الفرزدق 1: 323.

8 الطبري 9: 1501.

ص: 103

فارتاح أكثر العرب من قيس وتميم لتعيينه أميرا لهم، واعتدوه نعمة، أسبغها الله عليهم، إذ حباهم بقائد قوي تقي، مبارك ميمون، وذلك قول رجل منهم1:

لقد سمع الرحمن تكبير أمة

غداة أتاها من سليم إمامها

إمام هدى قوى لهم أمرهم به

وكانت عجافا ما تمخ عظامها2

وللأشعار التي قيلت في موقعة البروقان، وفي سياسة أسد بن عبد الله القسري الداخلية قيمة تاريخية عظيمة، لأنها تعرض العلاقات القبلية والمحالفات السياسية بين القبائل العربية بخراسان عرضا غاية في البساطة والدقة، ولأنها تؤكد جملة الحقائق التي استخلصناها من الأخبار التاريخية، حين تحدثنا في الفصل الأول عن طبيعة تلك العلاقات والمحالفات، فهي من ناحية ترجح أن التحالف بين قبائل كل مجموعة كان يدور في دائرة المصالح المشتركة، بل كان يقوم في جوهره على أساسها، وأن قبائل كل مجموعة من المجموعتين المتسابقتين كانت تتضافر وتتعاون على قبائل المجموعة الثانية، ما دامت مصالحها ملتقية متفقة. وهذا واضح أشد الوضوح في موقف تميم ونصر بن سيار من الأزد وبكر في معركة البروقان. وفي انتقام أسد للأزد وبكر من تميم وأعوانها فيما بعد. وهي من ناحية ثانية تقطع بأن التعاضد أو التساند بين قبائل الحلف الواحد لم يكن قويا ولا متصلا، وإنما كان يضعف، وكانت تمر به فترات من التخلخل والفتور، لأن القبيلة المحالفة لقبيلة أخرى إنما كانت تدعمها وتشد أزرها ما دامت ترعى لها حقوقها ومنافعها، وتنحاز إليها، فإذا ما تعصبت إحداهما لنفسها، وجارت على الأخرى، أخذت القبيلة المضطهدة المغبونة تتململ وتنتقد القبيلة الباغية المستبدة، لعلها تثوب إلى الرشد والسداد، وتفيء إلى الحق والصواب. وهذا ظاهر على أكمل وجه في تعصب أسد للأزد وإهماله لبكر.

ومع أن القدماء وصفوا أشرس بن عبد الله السلمي بالخير والفضل والكمال3.

1 الطبري 9: 1502.

2 العجاف: جمع عجف وهو المهزول: وأمخ العظم: صار فيه مخ. وهو دليل القوة.

3 الطبري 9: 1502.

ص: 104

فإن يجيى بن الحضين، سيد بكر، لم يسعده اختياره واليا لخراسان، لأنه كان من قيس، فملأت عليه المخاوف والشكوك نفسه، بحيث لم تؤثر في عقله الواعي فحسب، بل أثرت أيضا في عقله الباطن، فإذا هو يهجس بكرهه له في الأحلام، وإذا هو ينشر في قبيلته أنه رأى في المنام قبل قدوم أشرس قائلا يقول له:"أتاكم الوعر الصدر، الضعيف الناهضة، المشئوم الطائر"1 وإذا هو يتكهن بفشل أشرس تكهنا، ويتنبأ بأنه سيورط الجيش العربي في التهلكة، إذ يقول2:

لقد ضاع جيش كان جغر أميرهم

فهل من تلاف قبل دوس القبائل3

فإن صرفت عنهم به فلعله

وإلا يكونوا من أحاديث قائل

وخرج الحارث بن سريج التميمي4 بالنخد في إمارة عاصم بن عبد الله الهلالي، وسيطر على أكثر مدن خراسان الشرقية والجنوبية، وكاد يستولي على مرو الشاهجان، لولا ثبات عاصم في مجابهته، وصدق بكر بقيادة يحيى بن الحضين في مواجهته5. ولكنهم لم ينتصروا عليه انتصارا حاسما، فأقام بقرية زرق على مقربة من المدينة، ثم عاد إلى محاربة عاصم. وكان الحارث يرى رأي المرجئة، فحمل عليه نصر بن سيار حملة شديدة، ليصد الناس عن الانضمام إليه، ويصرف أشياعه عنه، وهي حملة أذاعها في قصيدته النونية الطويلة التي تجري على هذا النمط6:

دع عنك دنيا وأهلا أنت تاركهم

ما خبر دنيا وأهل لا يدومونا

إلا بقية أيام إلى أجل

فاطلب من الله أهلا لا يموتونا

1 الطبري 9: 1505.

2 الطبري 9: 1505.

3 جغر: لقب أشرس بخراسان.

4 انظر ترجمته وأخبار ثورته في الطبري "طبعة دار المعارف" 7: 117- 125، 329- 342، والعيون والحدائق 3: 188، والملل والنحل 1: 40، وابن الأثير 5: 128، والبداية والنهاية 10: 26، ولسان الميزان 2: 142، والسيادة العربية ص: 123، وتاريخ الدولة العربية ص: 442، 459، والفرق الإسلامية في الشعر الأموي ص:273.

5 الطبري 9: 1571.

6 الطبري 9: 1575.

ص: 105

وأكثر تقى الله في الأسرار مجتهدا

إن التقى خيره ما كان مكنونا

واعلم بأنك بالأعمال مرتهن

فكن لذاك كثير الهم محزونا

إني أرى الغبن المردى بصاحبه

من كان في هذه الأيام مغبونا

تكون للمرء أحيانا فتمنحه

يوما عثارا ويوما تمنح اللينا

بينا الفتى في نعيم العيش حوله

دهر فأمسى به عن ذاك مزبونا1

تحلو له مرة حتى يسر بها

حينا وتمقره طعما أحايينا2

هل غابر من بقايا الدهر تنظره

إلا كما قد مضى فيما تقضونا3

فامنح جهادك من لم يرج آخرة

وكن عدوا لقوم لا يصلونا

واقتل مواليهم منا وناصرهم

حينا تكفرهم والعنهم حينا

والعائبين علينا ديننا وهم

شر العباد إذا خابرتهم دينا

والقائلين سبيل الله بغيتنا

لبعد ما نكبوا عما يقولونا4

فاقتلهم غضبا لله منتصرا

منهم به ودع المرتاب مفتونا

إرجاؤكم لزكم والشرك في قرن5

فأنتم أهل إشراك ومرجونا

لا يبعد الله في الأجداث غيركم

إذ كان بينكم بالشرك مقرونا6

ألقى به الله رعبا في نحوركم

والله يقضي لنا الحسنى ويعلينا

كيما نكون الموالي عند خائفة

عما تروم به الإسلام والدينا

وهل تعيبون منا كاذبين به

غال ومهتضم حسبي الذي فينا

يأبى الذي كان يبلى الله أولكم

على النفاق وما قد كان يبلينا

فهو يسفه الحارث ويكفره لأنه اتبع مذهب المرجئة، ويحثه على ترك الاعتقاد

1 المزبون: المدفوع الممنوع.

2 تمقره: من مقره إذا جعله مرا، ويريد تذيقه مر العيش.

3 الغابر هنا: الباقي.

4 نكبوا: مالوا.

5 لزكم: شدكم وألصقكم. والقرن: الحبل الذي يقرن به بعيران.

6 الأجداث: جمع جدث، وهو القبر.

ص: 106

به، وينقض مبادئ المرجئة وما تقوم عليه من القول بأن العمل لا يدخل في الإيمان، لما في قولهم من شرك، وإلحاد، وتعطيل للفروض ويبرهن له على فساد معتقده بأن الدنيا لا تستقر على حال، وأن زينتها لا تدوم مهما تكثر وتعطل وتتصل. ويدعوه في النهاية إلى ندب نفسه لمكافحة من لا يقيمون الصلاة.

ولكن دعاية ضد الحارث والمرجئة لم تجد نفعا، كما أن عاصما لم يتمكن من التغلب عليه، فاختلت الأوضاع بخراسان واضطربت، فعزل هشام بن عبد الملك عاصما عن إدارتها، وأرسل إليها أسد بن عبد الله القسري. فلما علم عاصم بفصل هشام له، صالح الحارث، وكتب بينه وبينه كتابا على أن ينزل الحارث أي كور خراسان شاء، وعلى أن يناشدا هشاما العمل بالكتاب والسنة، فإن امتنع اتفقا عليه1، وحارباه معا. وساندته أكثر القبائل إلا بكرا فإنها خالفته وقال سيدها يحيى بن الحضين:"هذا خلع لأمير المؤمنين"2. فقال خلف بن خليفة البكري في موقف يحيى3:

أبى هم قلبك إلا اجتماعا

ويأبى رقادك إلا امتناعا

بغير سماع ولم تلقني

أماول من ذات لهو سماعا

حفظنا أمية في ملكها

ونخطر من دونها أن تراعا4

ندافع عنها وعن ملكها

إذا لم نجد بيديها امتناعا

أبى شعب ما بيننا في القديم

وبين أمية إلا انصداعا5

ألم نختطف هامة ابن الزبير

وننتزع الملك منه انتزاعا

جعلنا الخلافة في أهلها

إذا اصطرع الناس فيها اصطراعا

نصرنا أمية بالمشرفي

إذا انخلع الملك عنها انخلاعا

1 الطبري 9: 1577.

2 الطبري 9: 1577.

3 الطبري 9: 1577- 1579.

4 نخطر: نخرج للقتال نشيطين.

5 الشعب: أبو القبائل الذي ينسبون إليه، أي يجمعهم ويضمهم.

ص: 107

ومنا الذي شد أهل العراق

ولو غاب يحيى عن الثغر ضاعا

على ابن سريج نقضنا الأمور

وقد كان أحكمها ما استطاعا

حكيم مقالته حكمة

إذا شتت القوم كانت جماعا

عشية زرق وقد أزمعوا

قمعنا من الناكثين الزماعا

ولولا فتى وائل لم يكن

لينضج فيها رئيس كراعا1

فقل لأمية ترعى لنا

أيادي لم نجزها واصطناعا

أتلهين عن قتل ساداتنا

ونأبى لحقك إلا اتباعا

أمن لم يبعك من المشترين

كآخر صادف سوقا فباعا

أبى ابن حضين لما تصنـ

ـعين إلا اضطلاعا وإلا اتباعا

ولو يأمن الحارث الوائلين

لراعك في بعض من كان راعا

وقد كان أصعر ذا نيرب

أشاع الضلالة فيما أشاعا2

كفينا أمية مختومة

أطاع بها عاصم من أطاعا

فلولا مراكز راياتنا

من الجند خاف الجنود الضياعا

وصلنا القديم لها بالحديث

وتأبى أمية إلا انقطاعا

ذخائر في غيرنا نفعها

وما إن عرفنا لهن انتفاعا

ولو قدمتها وبان الحجا

ب لارتعت بين حشاك ارتياعا

فأين الوفاء لأهل الوفاء

والشكر أحسن من أن يضاعا

وأين ادخار بني وائل

إذا الذخر في الناس كان ارتجاعا

ألم تعلمي أن أسيافنا

تداوي العليل وتشفي الصداعا

إذا ابن حضين غدا باللوا

ء وأسلم أهل القلاع القلاعا

إذا ابن حضين غدا باللوا

ء أثار النسور به والضباعا3

1 يقال للضعيف الدفاع: فلان لا ينضج الكراع، والكراع: ما دون من الدواب.

2 الأصعر: المعرض بوجهه كبرا. ذو نيرب: أي ذو شر ونميمة.

3 أثار النسور به والضباعا: كناية عن ظفره بأعدائه، وقتله لهم في كل حرب يقاتلهم فيها.

ص: 108

إذا ابن حضين غدا باللوا

ء ذكى وكانت معد جداعا1

وإنما أنشدنا القصيدة بتمامها. لأنها تشرح مواقف قبيلة بكر ومطالبها، وأخفى أحاسيسها وعواطفها، ولأنها توضح موقف الخلفاء الأمويين منها. فمن ناحية كان زعماء بكر يتصرفون في المحن والشدائد تصرفا بارعا فيه كثير من الدهاء، بحيث كانوا يبدون معه، وكأنهم لم يتأثروا بالإحن والضغائن القبلية، ولم يراعوا منافعهم الشخصية، ولم ينساقوا وراء المحالفات السياسية. ويظهر هذا في رفض يحيى بن الحضين البكري الموافقة على المعاهدة التي أبرمت بين الحارث وعاصم، والتوقيع على الكتاب الذي كتباه إلى هشام، وارتضته بقية القبائل، لأنه رأى في ذلك خروجا على الخليفة، وخلعا له، فقدر أن الواجب يفرض على عاصم أن يواصل قتاله للحارث، حتى يقضي عليه قضاء مبرما، لا أن يسالمه ويساومه، ثم يلتقي معه على عصيان الخليفة. ولذلك فإنه حثه على متابعة نضاله للحارث، وجاهده معه قبل أن يتفقا مجاهدة قوية2.

ولكننا نشك في نزاهة موقف يحيى بن الحضين، ونعتقد بأنه كان موقفا سياسيا قبليا، لا نضاليا قوميا، وإذا استذكرنا أن عاصما بن قيس، وأن الحارث بن تميم، وأن هاتين القبيلتين كانتا أكثر القبائل منافسة لبكر، وأنه كان يخشى أن تغلبا على خراسان، فتستبعدا قبيلته وتستذلاها، اتضح لنا كيف أن موقفه لم يكن بوازع من ضميره، ولا بدافع من حرصه على مصلحة الأمة وطاعة الخليفة، وإنما كان موقفا مبنيا على انتهاز الأحداث واستغلالها لمنفعة قبيلته، وكان أيضا موقفا قائما على المكر بتميم وقيس والدس عليهما عند هشام، وقد نجح في تحقيق هذه الغاية، إذ عين هشام أسد بن عبد الله القسري واليا على خراسان، فعاقب عاصما، وقمع قيسا وتميما.

ومن ناحية أخرى لم يكلف الخلفاء الأمويون رجلا من سادة بكر بولاية خراسان، على امتداد حكمهم لها، ولم يصانعوها إلا نادرا. ومع أنها نكبت في عهد عبد الله بن

1 الجداع: الموت والهلال.

2 الطبري 9: 1571.

3 الطبري 9: 1692.

ص: 109

خازم نكبة عظيمة، إذ قتل منها عددا كبيرا، ويقدر في بعض الروايات بثمانية آلاف1، فإنها ظلت تساهم في الغزوات الخارجية، وتشارك في الأحداث الداخلية وفق ارتباطاتها وظروفها ومصالحها، دون أن يثق الأمويون بها، أو يعترفوا بفضلها. وخلف بن خليفة البكري يذكر هشاما بذلك كله في قصيدته، ويدعوه دعوة صريحة إلى تغيير مواقفه القديمة الثابتة من القبائل، وتقديره لها تقديرا جديدا، وتمييزه بينها تمييزا عادلا، يعتمد على إيمانها به، وذيادها عنه، بحيث يولي السلطة في النهاية أصدقها موالاة له، وأصلبها مدافعة عنه.

غير أن هشاما كان سيء الظن لا في قبيلة بكر وحدها، بل في قبائل ربيعة كلها، كما كان يرى أنها لا تصلح للإمارة، إذ كان يقول:"إن ربيعة لا تسد بها الثغور"2. وإذا استرجعنا تعليل عبد الله بن خازم للخصومة بين بكر ومضر، عندما طلبت بكر من أوس بن ثعلبة أن يخرج مضر كلها من خراسان، حتى تنقاد له، وتصالح ابن خازم، وقد قتل سادتها بمرو الروذ والطالقان، وتقدم إليها بهراة في جيش من تميم، وهو "أن ربيعة لم تزل غضابا على ربها منذ بعث الله النبي من مضر"3 انجلى الغموض الذي يكتنف موقف الخلفاء الأمويين من بكر، وانكشف لنا أنهم كانوا يعلمون مدى حقدها عليهم، وحسدها لهم، وأنهم لذلك كانوا يفسرون مواقفها المؤيدة لهم، على أنها مناورات سياسية فيها الخبث والدهاء والبراعة، لا على قرارات نزيهة خالصة من أجلهم.

وكان من نتائج خروج عاصم بن عبد الله الهلالي على طاعة الخليفة أن حبسه أسد بن عبد الله القسري، بعد وصوله إلى خراسان، وحاسبه حسابا عسيرا، فتبرم من عنفه به، معتقدا بأنه ليس من العدل والإنصاف في شيء أن يكون أسد العدو الذي يخاصمه، والقاضي الذي يحاكمه، إذ يقول4:

1 الطبري 7: 496.

2 الطبري 9: 1662.

3 الطبري 7: 493.

4 معجم الشعراء ص: 118.

ص: 110

تخاصمني بجيلة ثم تقضي

لأنفسها لبئس الحكم ذاكا

إذا ما كان خصمك يا بن عمرو

هو القاضي الذي يقضي علاكا1

وحسبك من بلاء أن تولى

قضاء في أمورك من دهاكا2

ويظهر أن أسدا لم يهتم لصرخات احتجاجه، ولم يرحمه، بل مضى يسومه سوء العذاب، فكبر عليه المصاب، وتمنى لو هلك قبل أن يقبض عليه وذلك قوله3:

أضحت بجيلة من خوفي مسلطة

خطب جليل لعمري شأنه عجب

يا ليتني مت لم تظفر بجيلة بي

كذلك الدهر بالإنسان ينقلب

وفي سنة عشرين ومائة مات أسد ببلخ، وأقصى هشام أخاه خالدا عن العراق، واستعمل عليها يوسف بن عمر الثقفي، فولى على خراسان جديع بن علي الكرماني الأزدي، فلم يتقبله هشام، ولم يرض عنه، فأعفاه وأبعده، وعهد بالولاية إلى نصر بن سيار4، فقال يعبر عن فرحته، لاختياره لها، وظفره بها، ويفتخر بشخصيته، وكيف أن قوته وبسالته في الحرب، وما عرف عنه من حفظه للعهود، وإخلاصه للخليفة، وامتثاله لأوامره، هي التي زكته لهذا المنصب الرفيع، ويمدح أيضا هشاما، مشيدا بشجاعته وأصالته، وكيف أنه ورث الخلافة عن أجداده الأنجاد الأمجاد5.

أبت لي طاعتي وأبى بلائي

وفوزي حين يعترك الخصام

وإنا لا نضيع لنا ذماما

ولا حسبا إذا ضاع الذمام6

ولا نغضي على غدر وإنا

نقيم على الوفاء فلا سلام

خليفتنا الذي فازت يداه

بقدح الحمد والملك الهمام

نسوسهم به ولنا عليهم

إذا قلنا مكارمه جسام

علاكا: أي عليك.

2 دهاه: ختله وأصابه بمنكر.

3 معجم الشعراء ص: 118.

4 الطبري 9: 1663.

5 الطبري 9: 1665، وابن الأثير 5:228.

6 الذمام: الحرمة، وكل ما يلزمك حفظه.

ص: 111

أبو العاصي أبوه وعبد شمس

وحرب والقماقمة الكرام1

ومروان أبو الخلفاء عال

عليه المجد فهو له نظام

وبيت خليفة الرحمن فينا

وبيتاه المقدس والحرام

ونحن الأكرمون إذا نسبنا

وعرنين البرية والسنام2

فأمسينا لنا من كل حي

خراطيم البرية والزمام3

لنا أيد نريش بها ونبرى

وأيد في بوادرها السمام4

وبأس في الكريهة حين نلقى

إذا كان النذير بها الحسام

فاصطنع نصر المضريين، واستعان بهم، ولم يستعمل في السنوات الأربع الأول من ولايته إلا مضريا5، فاستاء الأزد، وقال رجل من أهل الشام من اليمانية:"ما رأيت عصبية مثل هذه"، فقال نصر:"بلى، التي كانت قبل هذه"6، يعني انحياز أسد بن عبد الله القسري للأزد وأهل اليمن. وازدهرت الحياة بخراسان في إمارته، وعمرت البلاد عمارة لم تعمر قبل مثلها، وصلحت أحوال العرب والعجم. فقال سوار بن الأشعر يمدحه، موازنا بين عهده وما عم فيه من الطمأنينة، والاستقرار والانتعاش، وعهد أسد وما ساد فيه من الرعب والقلق والكساد7:

أضحت خراسان بعد الخوف آمنة

من ظلم كل غشوم الحكم جبار

لما أتى يوسفا أخبار ما لقيت

اختار نصرا لها نصر بن سيار

وهو يدعي أن يوسف بن عمر الثقفي هو الذي انتخب نصرا أميرا لخراسان، لينقذ العرب بها من مفاسد سياسة أسد السابقة، ويرفع عنهم الحيف والعسف. وهو بذلك يزيف وقائع التاريخ وحقائقه، إذ الصحيح أن يوسف لم يزك نصرا، بل تشكك

1 القماقمة: جمع قمقام، وهو من الرجال السيد الكثير الخير، الواسع الفضل.

2 العرنين: أول الأنف حيث يكون فيه الشمم.

3 الخراطيم: جمع خرطوم، وهو الأنف أو مقدمه، وخراطيم القوم سادتهم ومقدموهم في الأمور.

4 السمام: جمع سم. والبوادر: جمع بادرة، وهي أول ما يسبق من الإنسان عند الغضب.

5 الطبري 9: 1664.

6 الطبري 9: 1664.

7 الطبري 9: 1665، والبداية والنهاية 9:326.

ص: 112

في أمره في رسالة بعث بها إلى هشام، وعرض فيها عليه أسماء عدد من سادة العرب بخراسان، ليختار منهم واليا لها، وقدم القيسية وأطراهم، وأخر نصرا، وطعن عليه، زاعما أنه "قليل العشيرة بخراسان"1.

وفي سنة ثلاث وعشرين ومائة أرسل نصر وفدا من أهل الشام وأهل خراسان إلى العراق، وصير عليهم مغراء ابن أحمر النميري القيسي2، وكان على العراق حينئذ يوسف بن عمر الثقفي القيسي، وكان يتعصب لقيس، ويكره نصرا ويحسده، لأن خراسان دانت له، واستقامت في ولايته، وكان يود لو جعلت إليه، فولى عليها قيسيا. فلما وفد مغراء عليه، ساءه أن يستأثر نصر بن سيار الكناني بحكم خراسان، من دون قيس، وأن يغلبها على منطقة نفوذها وسلطانها3. فأطعمه إن هو تنقص نصرا عند هشام بن عبد الملك أن يوليه السند. وأشار عليه أن يعيبه بالشيخوخة والضعف، فتردد مغراء في أول الأمر، لأن نصرا أسدى إليه جميلا لا يجحد، "إذ "كان مغراء رأس أهل قنسرين بخراسان، فآثره نصر، وسنى منزلته، وشفعه في حوائجه، واستعمل ابن عمه الحكم بن نميلة على الجوزجان، ثم عقد له على أهل العالية"4. ولكنه لم يلبث أن وافقه، ونفذ ما أغراه به، ودفعه إليه، فعاب نصرا عند هشام، ولم تخف المكيدة عليه، فقد عرف أنها من تدبير يوسف، ثم علم نصر بما حدث، "فتغير لقيس، وأوحشه ما صنع مغراء". وفي ذلك يقول أبو نميلة، صالح بن الأبار، مولى عبس، معرضا بمغراء، وواصما له بالغدر والخيانة، والتنكر لمن أحسن إليه، ورفع مكانته، ومشيدا بنصر وسياسته العادلة، وأن كل ما أرجف به المرجفون عنه لم يضر به، ولم يحط من شأنه5:

فاز قدح الكلبي فاعتقدت

مغراء في سعيه عروق لئيم6

1 الطبري 9: 1663.

2 الطبري 9: 1719.

3 الطبري 9: 1720.

4 الطبري 9: 1723.

5 الطبري 9: 1724.

6 الكلبي: هو حملة الكلبي، وكان من أعضاء الوفد. وحين نقص مغراء نصرا عند هشام بأنه شيخ متهالك، كذبه حمله، وقال:"كذب والله ما هو كما قال، هو هو""انظر الطبري 9: 1721".

ص: 113

فأبيني نمير ثم أبيني

ألعبد مغراء أم لصميم

فلئن كان منكم لا يكون

الغدر والكفر من خصال الكريم

ولئن كان أصله كان عبدا

ما عليكم من غدره من شتيم

وليته ليت وأي ولاة

بأياد بيض وأمر عظيم

اسمنته حتى إذا راح مغبو

طا بخير من سيبها المقسوم

كاد ساداته بأهون من

نهقة عير بعفرة مرقوم1

فضربنا لغيرنا مثل الكلب

ذميما والذم للمذموم

وحمدنا ليثا ويأخذ بالفضل

ذوو الجود والندى والحلوم

فاعلمن يا بني القساورة الغلب

وأهل الصفا وأهل الحطيم2

أن في شكر صالحينا لما يد

حض قول المرهق المرصوم3

قد رأى الله ما اتيت ولن

ينقص نبح الكلاب زهر النجوم

فاعتذرت القيسية لنصر، فلم يقبل اعتذارهم، بل أسرف في إبعادهم وإهانتم، فقال في ذلك بعض الشعراء، يأخذ على نصر تجبره على القيسية، وإذلاله لأشرافهم النابهين، وتقريبه لرجال القبائل الأخرى، وإجلاله للمغمورين منهم4:

لقد بغض الله الكرام إليكم

كما بغض الرحمن قيسا إلى نصر

رأيت أبا ليث يهين سراتهم

ويدني إليه كل ذي والث غمر5

ومنذ سنة ست وعشرين ومائة استفحل الخلاف بين أبناء البيت الأموي على السلطة، إذ قتل يزيد بن الوليد ابن عمه الوليد بن يزيد، وظل الخلاف مستحكما

1 المرقوم: المخطط المزين.

2 القساورة: جمع قسورة، وهو العزيز الذي يقهر غيره. والغلب: الغالبون. والصفا: أحد جبلي المسعى. والحطيم: حجر مكة، أو جدار الكعبة.

3 المرهق: الذي يغشى المحارم، والموصوم: المعيب في نسبه.

4 الطبري 9: 1725.

5 السراة: جمع سري، وهو الشريف، والوالث: الذي لا يحكم العهد أو العقد ولا يؤكده، والغمر: المغمور الذي لا يجرب الأمور، ولم تحنكه التجارب.

ص: 114

بينهم حتى سنة ثمان وعشرين ومائة، حين غلب مروان محمد على الخلافة. فكان لذلك الصراع العنيف المتصل آثاره السيئة في خراسان، فقد عزل يزيد بن الوليد يوسف بن عمر الثقفي عن العراق، وقلدها منصور بن جمهور الكلبي1، فسعى إلى تولية أخيه منصور على خراسان، فامتنع عليه نصر2.

وأشاعت الأزد أن منظورا قادم، فهدد نصر بقتله، واتخذ مجموعة من التدابير، ليضبط أمور خراسان، ويسيطر على مقاليد الحكم فيها، أهمها أنه تخلى عن العصبية القبلية، وأشرك أكثر القبائل في الوظائف، فولى ربيعة واليمن، وولى يعقوب بن يحيى بن الحضين البكري على طخارستان، ومسعدة بن عبد الله اليشكري على خوارزم، ثم أتبعه بأبان بن الحكم الزهراني، واستعمل المغيرة بن شعبة الجهضمي على قوهستان، وأمرهم جميعا بحسن السيرة3. فدعا المغيرة قومه من بكر بقوهستان إلى مبايعة نصر فبايعوه، فقال يصف موالاتهم له، وينوه بموقفه السليم الحازم، ويثني عليه لتمكينه للعرب بخراسان ومساواته بينهم، وبره بهم، ويعلن أن قومه واثقون به، مطمئنون إليه، ثابتون على عهدهم له، حتى ينجلي الأمر، وينتهي الصدام بين بني أمية، ويلتئم شملهم، وتستقيم سياستهم4:

أقول لنصر وبايعته

على جل بكر وأحلافها

يدي لك رهن ببكر العرا

ق سيدها وابن وصافها

أخذت الوثيقة للمسلمين

لأهل البلاد وألافها

إذ آل يحيى إلى ما تريد

أتتك الرقال بأخفافها5

دعوت الجنود إلى بيعة

فأنصفتها كل إنصافها

وطدت خراسان للمسلمين

إذا الأرض همت بإرجافها6

1 الطبري 9: 1836.

2 الطبري 9: 1846.

3 الطبري 9: 1847.

4 الطبري 9: 1847.

5 الرقال: جمع مرقل ومرقال، وهي الناقة السريعة.

6 الإرجاف: التزلزل.

ص: 115

أجار وسلم أهل البلا

د والنازلين بأطرافها

فصرت على الجند بالمشرقين

لقوحا لهم در أخلافها1

فنحن على ذاك حتى تبين

مناهج سبل لعرافها

وحتى تبوح قريش بما

تجن ضمائر أجوافها

فأقسمت للمعبرات الرتا

ع للغزو أوفى لأصوافها2

إلى ما تؤدي قريش البطا

ح أحلافها بعد أشرافها

فإن كان من عز بز الضعيـ

ف ضربنا الخيول بأعرافها4

إذا ما تشارك فيه كبت

خواصرها بعد إخطافها5

فنحن على عهدنا نستديم

قريشا ونرضى بأحلافها

سنرضى بظلك كنا لها

وظلك من ظل أكنافها

لعل قريشا إذا ناضلت

تقرطس في بعض أهدافها6

وتلبس أغشية بالعراق

رمت دلو شرق بخطافها7

وبالأسد منا وإن الأسود

لها لبد فوق أكتافها

فإن حاذرت تلفا في النفا

ر فالدهر أدنى لإتلافها

فقد ثبتت بك أقدامنا

إذا انهار منهار أجرافها8

1 اللقوح: الناقة الحلوب.

2 المعبرات: النوق كثيرة الوبر. والرتاع: الراعية.

3 أعراف الخيل: منابت الشعر في أعناقها.

4 العلائف: جمع عليف، وهي الناقة التي تعلف للسمن. والأواري: المعالف.

5 الإخطاف: السرعة.

6 تقرطس: تصيب.

7 الخطاف: الحديدة التي تعقل بها البكرة من جانبيها، فيها المحور.

8 الأجراف: جمع جرف، وهو ما أكل السيل من أسفل شق الوادي أو النهر.

ص: 116

وجدناك برا رؤوفا بنا

كرأمة أم وإلطافها1

وتشابه هذه القصيدة في الأغراض المشروحة فيها، والغايات المتوخاة منها، قصيدة خلف بن خليفة البكري، التي تمثلنا بها قبل قليل على وقوف يحيى بن الحضين البكري إلى جانب الخلافة، ورفضه التوقيع على الميثاق الذي أبرم بين عاصم بن عبد الله الهلالي، والحارث بن سريج التميمي. فإن المغيرة انضم إلى نصر، واتخذ جانب الخلافة في وقت مبكر. بل منذ اللحظة الأولى التي بدأ الأزد يتصدون فيها لنصر ويناوئونه، ويسعون للعبث بولايته، وإفساد الأمر عليه، إذ وهب نفسه للذب عن نصر، ونذر قبيلته للدفاع عن الخلافة دون أن يعبأ بمحالفة قومه للأزد، أو يمالئ جديع بن علي الكرماني، لأنه استشرف أن الظرف لا يحتمل التردد والتأجيل، ولا يسمح بالمماطلة والمراوغة. وتمنى لو حذا يحيى بن الحضين البكري حذوه، وحالف نصرا، فشد من أزره، وقوى موقفه، وهو يراجع الأمويين في تغافلهم عن قبيلته، وعدم انتفاعهم لها، وقلة اعتمادهم عليها، وتجاهلهم لقيمتها، وجحودهم لخدماتها، مع أهميتها وقدرتها، ومع ما لها من الأفضال العظيمة عليهم، والمواقف الكريمة منهم.

ولكن البكريين الذين كانوا بمرو الروذ، ومرو الشاهجان، كان لهم موقف آخر من الأحداث، إذ لم يكفوا عن معارضة نصر، ولم يعزفوا عن معاونة جديع بن علي الكرماني، ولم يتمثلوا مصلحة الأمة إلا في زمن متأخر، فلم تغن مسالمتهم لنصر شيئا، ولم تجد مصافاتهم له نفعا، ولم يمنع تأييدهم له من تردي الأمر بخراسان، وانهيار الدولة الأموية. فقد تشغبت جماعة من الأزد على نصر بمرو الروذ سنة ست وعشرين ومائة، مدعين أنه لم يدفع لهم عطاءهم، فحذرهم من الفرقة، وذكرهم بأنهم "مسلحة2 في نحور العدو"3، فلم يهتموا لنصحه، ولم يطيعوا لرأيه، بل زادوا من عنادهم له، ومعاداتهم إياه. فتعمق الشعور بالمأساة المرتقبة نفوس بعض الشعراء

1 الرامة: العطف، وإلطاف الأم: رفقها وبرها وتحفيها وإتحافها.

2 المسلحة: القوم الذين يحفظن الثغور من العدو، لئلا يطرقهم على غفلة، فإذا رأوه أعلموا أصحابهم به، ليتأهبوا له.

3 الطبري 9: 1857.

ص: 117

القيسيين، فإذا الحارث بن عبد الله بن الحشرج الجعدي يهيب بالعرب من القبائل المختلفة أن يتحدوا، ولا يألوا جهدا في تبصيرهم بعواقب الفتنة، فإنه يقول1:

أبيت أرعى النجوم مرتفقا

إذا استقلت تجري أوائلها2

من فتنة أصبحت مجللة

قد عم أهل الصلاة شاملها

من بخراسان والعراق ومن

بالشام كل شجاه شاغلها

فالناس منها في لون مظلمة

دهماء ملتجة غياطلها3

يمسي السفيه الذي يعنف

بالجهل سواء فيها وعاقلها

والناس في كربة يكاد لها

تنبذ أولادها وحواملها

يغدون منها في ظل مبهمة

عمياء تغتالهم غوائلها4

لا ينظر الناس في عواقبها

إلا التي لا يبين قائلها

كرغوة البكر أو كصيحة

حبلى طرقت حولها قوابلها

فجاء فينا أزرى بوجهته

فيها خطوب حمر زلازلها

على أن عزل يزيد بن الوليد لمنصور بن جمهور الكلبي عن العراق، وتوليته عليها عبد الله بن عمر بن عبد العزيز، لأن أهلها كانوا يميلون إلى أبيه5، وتثبيت الأخير لنصر على خراسان، أزعج الأزد، وحملهم على إظهار بغضهم لنصر، وتحديهم له، كما أثار الكرماني، الذي كان يكره نصرا، لأنه أحسن إليه، وحقن دمه في ولاية أسد ابن عبد الله القسري، ولأن نصرا لما ولي صرفه عن رئاسة الأزد، وصيرها لحرب بن عامر الواشجي، فمات حرب، فأعاد الكرماني عليها، فلم يلبث إلا يسيرا حتى عزله،

1 الطبري 9: 1857.

2 مرتفقا: متكئا على مرفقه.

3 الدهماء: الفتنة السوداء المظلمة. والغياطل: جمع غيطلة، وهي الظلمة المتراكبة. والملتجة: الشديدة الكثيفة.

4 الغوائل: الدواهي.

5 الطبري 9: 1854.

ص: 118

وصيرها لجميل بن النعمان1، وكان الكرماني يسعى للزعامة بكل الوسائل، حتى ليقال فيه:"إنه لو لم يقدر على السلطان والملك إلا بالنصرانية واليهودية، لتنصر وتهود"2. فجعل يتربص بنصر، فهاجت المضرية، وألحت على نصر أن ينفيه أو يعتقله أو يقتله3، فلم يمتثل لعواطفها الملتهبة، بل هدأ من غضبها، وتركه طليقا، حتى لا يتضاعف الموقف توترا وتفجرا، ثم إنه قبض عليه وحبسه، حين توثق من أنه يترصد له، ويذيع في الأزد أنه كان يخطط منذ زمن طويل للثورة على بني أمية، وأن غايته من طاعتهم أن يكبر ولداه ويقلدا السيوف، فيطلب بثأر المهالبة منهم4. ففر بعد وقت قصير من حبسه، ومضى يستثير الأزد. حتى إذا تكاثروا انتحى بهم في مرج نوش، فقال خلف بن خليفة البكري5:

أصحروا للمرج أجلى للعمى

فلقد أصحر أصحاب السرب6

إن مرج الأزد مرج واسع

تستوي الأقدام فيه والركب

ومن غريب الأمر أن يؤلب هذا الشاعر البكري الأزد على الوثوب بنصر، وهو نفسه الذي دعا قبل عشر سنوات إلى ضرورة تضامن العرب من القبائل المختلفة وترابطهم، من أجل حماية الوجود العربي بخراسان، وفي سبيل المحافظة على الخلافة، ولكن استغرابنا سرعان ما يزول، فبكر خراسان لم تقطع صلاتها بالأزد، ولا تخلت عن أسلوب المناورة، فمن جهة ظلت تفي في هذه الفترة من الأزمة لحلفها مع الأزد، ليكون لها نصيب في السلطة إن انتصروا على مضر، ومن جهة ثانية ظلت ترقب تطور الفتنة، حتى إذا رأت أن من مصلحتها أن تتخذ قرارا بالانفصال عن الأزد، فعلت ذلك، لتحظى بغنيمة، وتفوز بحظ في الحكومة القائمة.

وخلف بن خليفة إنما يلتزم بمنهج قبيلته السياسي، ويصدر عن خطتها المرحلية،

1 الطبري 9: 1859.

2 الطبري 9: 1859.

3 الطبري 9: 1858.

4 الطبري 9: 1858.

5 الطبري 9: 1862.

6 أصحر: خرج. والسرب: الإبل الكثيرة.

ص: 119

فقد استمرت بكر تساند الأزد على نصر ومضر منذ ابتداء النزاع إلى سنة تسع وعشرين ومائة، حين قتل الكرماني، فاختلف ميزان القوى، وانعكس اتجاه الأحداث، وأخذ الموقف يتمخض عن نتائج لم تكن متوقعة، حينئذ نظر زعيم بكر إلى موضعها وفائدتها، وقرر تبديل موقعها وموقفها، فانحاز إلى نصر ومضر، ليعزز مكانة قبيلته، ويضمن مستقبلها.

ونزل نصر بباب مرو الروذ بإزاء الكرماني، واجتمع إليه أنصاره، غير أنهما لم يصطدما، بل جنحا للسلم وتصافيا1. ولكن عودة الحارث بن سريج التميمي إلى مرو الشاهجان سنة سبع وعشرين ومائة فجرت الأزمة ثانية، إذ كان الكرماني يضمر العداء لنصر، وإن أظهر أنه صالحه، فتعاقد مع الحارث على مقارعته معا إذا لم يعمل بالكتاب والسنة ولم يستمل أهل الخير والفضل2. وزاد من تفجر الموقف أن فاز مروان بن محمد بالخلافة، فعين على العراق يزيد بن عمر بن هبيرة الفزاري، فكتب لنصر بعهده على خراسان، فبايع لمروان بن محمد، فثار الحارث، ونابذ نصرا، زاعما أن يزيد بن الوليد هو الذي أمنه، وأنه أصبح يتوجس من مصيره، فاقتتلا، واستولى سلم بن أحوز، قائد نصر، على أكثر أبواب المدينة ونواحيها3، فقال المنذر الرقاشي البكري، ابن عم يحيى بن الحضين البكري يصف صبر القاسم الشيباني في قتاله لسلم4:

ما قاتل القوم منكم غير صاحبنا

في عصبة قاتلوا صبرا فما ذعروا

هم قاتلوا عند باب الحصن ما وهنوا

حتى أتاهم غياث الله فانتصروا

فقاسم بعد أمر الله أحرزها

وأنت في معزل عن ذلك مقتصر

فهذا الشاعر البكري لا يزال يفصح عن مناهضة قومه بمرو الشاهجان لنصر

ومضر، ويعتد بصمود بعض قادتهم أمام سلم بن أحوز التميمي، لأنه يصدر عن رأي

1 الطبري 9: 1863.

2 الطبري 9: 1889.

3 الطبري 9: 1917.

4 الطبري 9: 1923.

ص: 120

قبيلته، ويسوغ سياستها، ويؤيد موقفها، شأنه في ذلك شأن خلف بن خليفة البكري.

فتزلزل مركز الحارث، فساعده الكرماني، فاختل جانب نصر اختلالا شديدا فتقهقر إلى نيسابور، وانفرد الحارث والكرماني بالمدينة، ثم إنهما تنازعا فقتل الكرماني الحارث وصلبه، فخلت المدينة لأهل اليمن، فهدموا دور المضرية، ونهبوا أموالهم1. فقال نصر يعرب عن فرحته بمقتل الحارث، لما ألحق بالعرب من الضرر، ولما أنزل بمضر من المكروه والشر2:

يا مدخل الذل على قومه

بعدا وسحقا لك من هالك

شؤمك أردى مضرا كلها

وعض على قومك بالحارك3

ما كانت الأزد وأشياعها

تطمع في عمرو ولا مالك

ولا بني سعد إذا الجموا

كل طمر لونه حالك4

وكان لغلبة الكرماني على المدينة، وتدميره لمنازل المضريين، واغتصابه لأموالهم، وإهانته لهم وقع بالغ على نفوسهم، عبر عنه شعراؤهم من النساء والرجال بمرارة وحسرة. فهذه أم كثير الضبية تأخذ على بني تميم تقاعسهم وإحجامهم، وتتوجع لما تردت إليه أحوالهم، بحيث تحكم الكرماني فيهم، وتسلط عليهم، وتهددهم بالتبرؤ منهم إذا لم يهبوا لاسترداد المدينة، ولم يثوروا لشرفهم. فإنها تقول لهم5:

لا بارك الله في أنثى وعذبها

تزوجت مضريا آخر الدهر

أبلغ رجال تميم قول موجعة

أحللتموها بدار الذل والفقر

إن أنتم لم تكروا بعد جولتكم

حتى تعيدوا رجال الأزد في الظهر

1 الطبري 9: 1934.

2 الطبري 9: 1935، والبداية والنهاية 10:27.

3 عض: كسر. والحارك: أعلى الكاهل.

4 الطمر: الفرس الجواد المستفز للوثب، المستعد للعدو، وبنو عمرو ومالك وسعد من عشائر بني تميم.

5 الطبري 9: 1935.

ص: 121

إني استحيت لكم من بذل طاعتكم

هذا المزوني يجبيكم على قهر

وهذا عباد بن الحارث يطالب نصرا بالمبادرة إلى استرجاع المدينة، ويشرح له وضعهم البائس، وموقفهم الحرج، فقد بطش بهم الأزد بطشا عنيفا، وقتلوهم تقتيلا، ويدعو على مضر بالهلاك إن لم تغضب لهم، ولم تسارع إلى إنقاذهم، يقول1:

ألا يا نصر قد برح الخفاء

وقد طال التمني والرجاء2

وأصبحت المزون بأرض مرو

تقضي في الحكومة ما تشاء3

يجوز قضاؤها في كل حكم

على مضر وإن جار القضاء

وحمير في مجالسها قعود

ترقرق في رقابهم الدماء

فإن مضر بذا رضيت وذلت

فطال لها المذلة والشقاء

وإن هي أعتبت فيها وإلا

فحل على عساكرها العفاء4

وقال ينبه المضريين اللاهين عن خطر الأزد، ويظهرهم على استبعادهم لقومهم، لعلهم يتيقظون5:

ألا يا أيها المرء الذي

قد شفه الطرب6

أفق ودع الذي قد كنت

تطلبه ونطلب

فقد حدثت بحضرتنا

أمور شأنها عجب

الأزد رايتها عزت

بمرو وذلت العرب

فجاز الصفر لما كا

ن ذاك وبهرج الذهب7

1 الطبري 9: 1935، والبداية والنهاية 10:27.

2 برح: زال وانقشع.

3 المزون: اسم من أسماء عمان. والمزون: الملاحون. ويعني بهم الأزد. لأنهم كانوا ملاحين "انظر معجم البلدان 4: 522، واللسان 17: 294".

4 أعتبت: تركت ما كنت أجد عليها من أجله، ورجعت إلى ما أرضاني عنها، بعد إسخاطها إياي عليها.

5 الطبري 9: 1936.

6 شفه: لذعه وأنحله وذهب بعقله.

7 الصفر: جمع صفراء، وهي الذهب، وبهرج الذهب: زيف وغش.

ص: 122

فاستفزت هذه الصيحات والصرخات نصرا، فتحفز لاستخلاص المدينة من أيدي الأزد، ووجه إليها خيرة جيشه وقادته، فاصطدموا في حرب بطيئة مع الأزد وربيعة بقيادة الكرماني. وعلى الرغم من أنهم حاولوا اقتحام المدينة واحتلالها مرارا، واستماتوا في القتال، فإنهم لم يتمكنوا من دخولها واستعادتها. فاستمد نصر يزيد بن عمر بن هبيرة، والي العراق، ووصف له في أبيات من شعره ما شاع بخراسان من الاضطراب خلال العامين الماضيين، وحذره من خطورة الوضع، وأنه ينذر بعاقبة وخيمة إذا استمر في التدهور، ولم يعالج معالجة حكيمة حازمة، إذ يقول مستصرخا له1:

أبلغ يزيد وخير القول أصدقه

وقد تبينت ألا خير في الكذب

إن خراسان أرض قد رأيت بها

بيضا لو أفرخ قد حدثت بالعجب

فراخ عامين إلا أنها كبرت

لما يطرن وقد سربلن بالزغب2

فإن يطرن ولم يحتل لهن بها

يلهبن نيران حرب أيما لهب3

فلم يمده بأحد، لأنه كان مشغولا بمجالدة الخوارج بالعراق4، فاستغاث بمروان بن محمد في الشام، وأعلمه، "حال أبي مسلم، وخروجه، وكثرة من معه، ومن تبعه". وكتب إليه بهذه الأبيات يصور له الفتنة القائمة، والكارثة المحتومة، إن لم ينجده بمدد من عنده، وفيها يقول5:

1 الطبري 9: 1973، ومروج الذهب 3: 257، والبداية والنهاية 10:33.

2 سربلن: اكتسين، والزغب: أول ما يبدو من ريش الفرخ.

3 ويقول الدينوري إن نصرا بعث تلك الأبيات إلى مروان بن محمد. ويضيف إليها بيتين هما:

يا أيها الملك الواني بنصرته

قد آن للأمر أن يأتيك من كتب

أضحت خراسان قد باضت صقورتها

وفرخت في نواحيها بلا رهب

"الدينوري ص: 360".

4 الطبري 9: 1944، 1974، ومروج الذهب 3:257.

5 الدينوري ص: 357، والعقد الفريد 4: 478، ومروج الذهب 3: 255، والطبري 9: 1973، والأغاني "طبعة دار الكتب 7: 56، والعيون والحدائق 3: 189، وابن الأثير 5: 365، والبداية والنهاية 10:32.

ص: 123

أرى خلل الرماد وميض جمر

فيوشك أن يكون له ضرام

فإن النار بالعودين تذكى

وإن الحرب مبدؤها الكلام

فإن لم تطفئوها تجن حربا

مشمرة بشيب لها الغلام

فقلت من التعجب ليت شعري

أأيقاظ أمية أم نيام

فإن يقظت فذاك بقاء ملك

وإن رقدت فإني لا ألام

فإن يك أصبحوا وثووا نياما

فقل قوموا فقد حان القيام

ففري عن رحالك ثم قولي

على الإسلام والعرب السلام1

ويقال: إن مروان لم ينجده، وإنما أشار عليه أن يعتمد على قوته، ويتصرف على قدر طاقته2. ويقال: بل أرسل إلى هبيرة "يأمره أن ينتخب من جنوده اثني عشر ألف رجل، مع فرض يفرضه بالعراق من عرب الكوفة والبصرة، ويولي عليهم رجلا حازما، يرضى عقله وإقدامه، ويوجه بهم إلى نصر بن سيار". فاعتذر له، وكتب إليه "أن من معه من الجنود لا يفون باثني عشر ألفا، ويعلمه أن فرض الشام أفضل من فرض العراق، لأن عرب العراق ليست لهم نصيحة للخلفاء من بني أمية، وفي قلوبهم إحن"3.

وعندما عجز نصر عن السيطرة على الوضع بمرو الشاهجان، وقطع الأمل من مساعدة ابن هبيرة له، وفقد الرجاء في ضرب مروان بعثا إليه، أخذ يبث حملة إعلامية إلى العرب بالمدينة، مستثيرا لعواطفهم الدينية والقومية، فقد حث ربيعة على الانفصال عن الكرماني والأزد، والكف عن مناصرتهم على إخوتهم المضريين، وناشدهم أن يتآلفوا ليقفوا في وجه أبي مسلم الذي أصبح يهدد وجودهم ومصيرهم، وحذرهم كذلك من شيعته إذ وصفهم بأنهم غرباء دخلاء، لا ينتمون إلى العرب المشهورين، ولا إلى الموالي المعروفين، وراح يردد أنهم يعتنقون مذهبا مخالفا للإسلام، ومنافيا لكل ملة ونحلة مألوفة، وأنهم لا يبتغون سوى إبادة العرب، يقول4:

1 فري عن رحالك: ابحثي عنها، وانظري إليها.

2 الطبري 9: 1973.

3 الدينوري ص: 360.

4 الدينوري ص: 361، والعقد الفريد 4: 479، وابن الأثير 5:367.

ص: 124

أبلغ ربيعة في مرو وإخواتها

أن يغضبوا قبل أن لا ينفع الغضب

ما بالكم تلقحون الحرب بينكم

كأن أهل الحجا عن فعلكم غيب1

وتتركون عدوا قد أظلكم

فيمن تأشب لا دين ولا حسب

ليسوا إلى عرب منا فنعرفهم

ولا صميم الموالي إن هم نسبوا2

قوم يدينون دينا ما سمعت به

عن الرسول ولا جاءت به الكتب

فمن يكن سائلي عن أصل دينهم

فإن دينهم أن تقتل العرب

فلم تكترث ربيعة لدعايته، ولم تبال بندائه، بل استمرت تدعم الأزد، وتشدد الكرماني في مخالفته لنصر، واحتياله للانتصار عليه، بتردده على معسكر أبي مسلم، وتواطئه معه، فخاف نصر أن ينحاز الكرماني بمن معه من الربعية واليمنية إلى أبي مسلم، فتكون نهايته، فلجأ إلى موادعته ومصالحته، ليفرق بينه وبين أبي مسلم، وبدءا يتفاوضان، فلما آنس نصر منه غفلة دس إليه ابن الحارث بن سريج في طائفة من الفرسان فقتله. وقد تباينت الآراء في مقتله. فمن قائل: إنه كان بإيعاز من نصر3، ومن قائل: إنه لم يكن له علم به4. ولكن نصرا يعترف في شعره بأنه دبر مقتله، ويصرح بأنه لم يرض عن مؤازرة ربيعة له، وانسلاخها عن الأزد، بعد أن استفحل الخطر المطبق عليه، واهتز موقفه، لأنها ناهضته في أول الأمر، وأعانت الكرماني، عن إصرار، يدفعها إلى ذلك منافستها للمضريين، وسعيها للاستيلاء على السلطة منهم، ورغبتها في قهرهم وتحطيمهم، إذ يقول5:

لعمري لقد كانت ربيعة ظاهرت

عدوي بغدر حين خابت جدودها6

وقد غمزت منا قناة صليبة

شديدا على من رامها الكسر عودها

1 الحجا: العقل والفطنة.

2 فيمن تأشب: أي انضم إليه، والتف عليه من أخلاط الناس.

3 الدينوري ص: 362، والطبري 9: 1975، وجمهرة أنساب العرب ص:381.

4 تاريخ الدولة العربية، الحاشية ص:465.

5 الدينوري ص: 363.

6 في الأصل: ظافرت.

ص: 125

وكنت لها حصنا وكهفا وجنة

يؤول إلى كهلها ووليدها

فمالوا إلى السوءات ثم تعذروا

وهل يفعل السوءات إلامريدها

فأوردت كرمانيها الموت عنوة

كذاك منايا الناس يدنو بعيدها1

فتأزم الوضع بعد هلاك الكرماني تأزما شديدا، وحين رأى العرب أن أبا مسلم هو الذي استفاد من انقسامهم واقتتالهم، تعاقدت عامة قبائلهم على المسالمة. ليشتغلوا بمجاهدة أبي مسلم. فتحللت ربيعة من حلفها مع الأزد، ومالت إلى نصر ومضر، تأمينا في أغلب الظن لمنفعتها وتمكينا لمصيرها. وراح يحيى بن نعيم بن هبيرة البكري يتوسط بين شيبان بن سلمة الحروري، حليف الكرماني، وبين نصر، ووفق في وساطته، فقد تهادنا، كما سالم علي بن جديع الكرماني نصرا. غير أن أبا مسلم نجح في تحريض ابن الكرماني على نصر، بتذكيره بقتل نصر لأبيه، وتعييره بمسالمته له، وسكوته عن المطالبة بثأره منه، فعاد إلى مقاتلة نصر2، فتزلزت قوته، فانهزم إلى نيسابور، سنة ثلاثين ومائة، وخلصت مرو الشاهجان لأبي مسلم.

ويقال إن نصرا بعث قبل وفاته بمدينة ساوه بين الري وهمذان بكتاب إلى مروان بن محمد، ضمنه أبياتا من شعره أنبأه فيها بخروجه عن خراسان، بعد أن بذل كل ما استطاع للسيطرة على الأمر، وضبطه وإحكامه، وأخبره أيضا بقيام الدولة العباسية: وبخطرها الذي أصبح ينذر بسقوطه وزواله بين يوم وآخر. وفيها يقول له3:

إنا وما نكتم من أمرنا

كالثور إذ قرب للناخع4

أو كالتي يحسبها أهلها

عذراء بكرا وهي في التاسع

1 يبدو أن نصرا كان ينظم بعض مقطوعاته بعد الأحداث التي يتكلم فيها عليها، كهذه المقطوعة فإنه يشير فيها إلى قتله للكرماني، وإلى تحول ربيعة عن الأزد، مع أن ربيعة إنما انحازت إليه بعد مقتل الكرماني. ومثل هذه المقطوعة مقطوعة ثانية سبق أن استشهدنا بها على واقعة البروقان التي حدثت سنة ست ومائة، فإنه ذكر فيها إيقاعه بربيعة، كا ذكر فيها أيضا حبس يوسف بن عمر الثقفي لخالد بن عبد الله القسري، سنة عشرين ومائة.

2 الطبري 9: 1975.

3 الدينوري ص: 360، ومروج الذهب 3:258.

4 الناخع: من نخع الشاة أو الثور إذا ذبحه حتى بلغ القطع إلى النخاع.

ص: 126

من مبلغ عني الإمام الذي

قام بأمر بين ساطع

إني نذير لك من دولة

قام بها ذو رحم قاطع

والثوب إن أنهج فيه البلى

أعيا على ذي الحيلة الصانع1

كنا نداريها فقد مزقت

واتسع الخرق على الراقع2

وبذلك باءت بالفشل الخطوة السياسية العميقة التي اتخذها يحيى بن نعيم بن هبيرة البكري، بموادعته لنصر، ولم ترد على قبيلته شيئا من المكاسب التي توخاها منها، على نحو ما آتت خطوة يحيى بن الحضين البكري ثمارها حين أيد الخليفة على عاصم بن عبد الله الهلالي، والحارث بن سريج التميمي، وحققت لقبيلته أكبر الفائدة، لأنه غامر بوقوفه بقبيلته مع الكرماني زمنا طويلا، واستغل رجوعه إلى نصر ومضر في ظرف متأخر، ووضع متدهور فجنى على قبيلته وحلفائها، وقضى على مضر وحلفائها. ولو أن حرصه على وجود العرب وسيادتهم هو الذي أملى عليه أن يتخذ قراره النهائي بالانقطاع عن الأزد، لكان ينبغي عليه أن يتخذه منذ اشتعال الفتنة الأخيرة بين اليمنية والمضرية.

ومما يرجع تفسيرنا لمواقف بكر تفسيرا سياسيا قبليا، ويغري به، هذا الالتحام الوثيق الذي نبصره بين مواقف قادتها من الأحداث وسيرها، ومواقف شعرائها. فقد كانوا عصبة واحدة متراصة متعاونة، لا يخالف أحدهم الآخر ولا يشذ عنه. ومرد ذلك فيما نعتقد وضوح تمثلهم لسياسة قبيلتهم، وصدورهم جميعا عنها، ودقة علمهم بمصلحتها، وإخلاصهم في العمل لها. فعندما كانت بكر ضالعة مع الأزد، دافع شعراؤها عن موقفها، وصوبوا رأي زعمائها، كما مر بنا عند خلف بن خليفة، والمنذر الرقاشي، وحينما آلت إلى نصر ومضر تشبث شعراؤها بخطتها، وانتصروا لها. ويظهر ذلك في قطعة من قصيدة رواها المرزباني لعمارة بن فراس الحنفي قالها بعد تحول قبيلته عن

1 انهج: انتشر.

2 ويقول الدينوري: إن نصر نظم الأبيات قبل أن يهرب من خراسان، وأنه أرسلها يستعجل نجدة مروان بن محمد. ولكن مضمون الأبيات يدل على أنه قالها بعد أن غادر خراسان، وخرج الأمر عن سلطانه. "انظر الدينوري ص: 360".

ص: 127

الأزد والتحاقها بنصر. فهو ينعي فيها على العرب من ربيعة ومضر اصطدامهم

وتصارعهم على السلطة، فإذا هم يفني بعضهم بعضا، وإذا النتيجة المحققة لتنازعهم استهلاكهم لقوتهم، وانحطاط مكانتهم، وسهولة وقوعهم فريسة في أيدي أعدائهم، وذلك قوله1:

أمست ربيعة في مرو وإخوتها

على عظيم من الأحداث والخطر

يا ليت شعري بمرو الشاهجان غدا

أي الأميرين من بكر ومن مضر

يصلي بقتل ذريع في مغمضة

حتى يصير ذليلا غير ذي نفر2

أما قيس فكان رأيها في الأزمة غاية في الصراحة والصرامة، فقد وقفت بجانب تميم، ولم تشمت بها، لتغلب الأزد وبكر عليها، ولم تتردد في مناصرتها مع أنها قتلت عبد الله بن خازم السلمي، كما أنها مالت إلى نصر، ولم تفرح بانهزامه أمام الكرماني، ولم تتأخر عن مساندته3، مع أنه جفاها وأبعدها4 بعد أن رماه مغراء بن أحمر عند هشام بن عبد الملك بأنه شيخ متهالك لا يصلح للولاية5. وكان موقف شعرائها مماثلا لموقفها، فقد تعالوا عن الحزازات والثارات، وقدمنا أن عبد الله بن الحشرج الجعدي حذر من النتائج الوخيمة للفتنة منذ بدايتها، ونضيف إلى ذلك أبياتا للمفضل بن خالد السلمي يعلن فيها أنه نهى الأزد عن التمادي في الفوضى والشغب حتى ينجوا جميعا من الهلاك، وأنه حين تبين له أنهم يتعظوا ولم يعتبروا انتقدهم، واتهم الكرماني بالتورط في المغامرة والمؤامرة، إذ يقول فيها6:

قد قلت للأزد قولا ما ألوت به

نصحا وأعدت القول لو نفعا7

1 معجم الشعراء ص: 78.

2 المغمضة: الأمر العظيم الذي يركبه الرجل، وهو يعرفه، فكأنه يغمض عينيه عنه تعاميا وهو يبصره.

ويصلي: يحرق.

3 الطبري 9: 1929.

4 الطبري 9: 1723.

5 الطبري 9: 1721.

6 معجم الشعراء ص: 298.

7 ما ألوت به نصحا: أي لم أدع نصحا.

ص: 128

يا معشر الأزد إني قد نصحت لكم

فلا تطيعوا جديعا أيما صنعا

فما تناهوا ولا زادتهم عظة

إلا لجاجا وقالوا الهجر والقذعا1

يا معشر الأزد مهلا قد أظلكم

ما لا يطاق له دفع إذا وقعا

وواضح أن المنازعات التي احتدمت بين القبائل العربية بخراسان هي التي استغرقت أكثر الشعر الذي تصايح به الشعراء وهم يصفون مواقف قبائلهم منها. فقد استفرغوا معظم ما نظموه في الحديث عن معاداة عبد الله ابن خازم لبكر، ومخالفة تميم له، وفتكها به، وما نشأ عنه من تطاحن عشائرها، وفي الحديث عن اجتماع الأزد وبكر وتميم على خلع قتيبة بن مسلم، واغتيالها له، وما نجم عنه من ادعاء كل قبيلة منها أنها هي التي وثبت به، لأنها كانت أحرص على طاعة الخليفة، وفي الحديث عن الفتنة الأخيرة بين اليمنية والمضرية وأخطارها، وآثارها ونتائجها.

ويؤكد هذا الشعر بمجموعه الحقائق التي أسسنا عليها تصورنا للمنافسة التي اشتدت بين تلك القبائل في الحكم، وهي أن العصبية القبلية والمحالفات الحزبية، وما ارتبطت به من المنافع السياسية والمادية كانت سبب كل خلاف وتباغض واقتتال، فقد سيطرت كل هذه العوامل على وجدان كل قبيلة، وحددت اتجاهها وسياستها، وحملتها على إهمال فكرة الأمة والوحدة، وإيثار مصلحة الجماعة على مصلحتها. فقلما أنار هذا الإحساس قلوب زعمائها وشعرائها، وقلما خفف من حميتهم لقبائلهم وحلفائها. وحتى من كانوا يتخلون عن عصبيتهم في بعض الأحيان، فقد كانوا لا يلبثون أن يعودوا إليها.

ولكن لابد من التمييز بين موقف الأزد وبكر، وموقف تميم وقيس، فقد كانت القبيلتان الأوليان موتورتين، وكانتا مصدر الشغب والفوضى باستمرار، لأنهما كانتا تسعيان للسلطة، وتريدان استبعاد القبيلتين الأخريين.

1 اللجاج: التمادي في الشر. والهجر: القبيح من القول. والقذاع: الفحش من الكلام الذي يقبح ذكره.

ص: 129