المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌خصائص موضوعية وفنية ولفظية: - الشعر في خراسان من الفتح إلى نهاية العصر الأموي

[حسين عطوان]

الفصل: ‌خصائص موضوعية وفنية ولفظية:

‌خصائص موضوعية وفنية ولفظية:

أهم ما يميز شعر الشعراء العرب بخراسان أنهم لم يصوغوه في مطولات، بل في مقطوعات، ومرد ذلك إلى أنهم لم ينظموا أكثره لا في الأغراض المألوفة التي تفرض عليهم أن يسهبوا في قصائده، ويحتفظوا فيها بالأجزاء التقليدية، ولا في الأجواء الهادئة التي تتيح لهم مد قصائده وتطويلها، وتنقيحها وتهذيبها وإنما نظموه في موضوعات جديدة، نابعة من طبيعة حياتهم السياسية والعسكرية، وفي ظروف عاجلة طارئة. فشعرهم هو مجموعة "إعلانات سياسية" عن مواقف قبائلهم من الأحداث الداخلية المفاجئة، و"بلاغات عسكرية" عن نتائج الوقائع الحربية التي خاضوها، داخل خراسان وخارجها. وطبيعي أن الشاعر المرتبط بقبيلته، الفاني في كيانها، الناطق الرسمي بلسانها، لا يستطيع أن يتريث طويلا في الأحداث الكبيرة السريعة لكي يصدر بيانا عن رأي قبيلته فيها، ويتوفر على صياغته ومراجعته وتدقيقه، حتى يخرج خلقا فنيا كاملا مفصلا، لأنه إن فعل ذلك، فإن الأحداث تكون قد سبقته، وحينئذ لا يكون لبيانه أهمية ولا قيمة فهو يجري مع الأحداث ويسابقها، ليذيع قرارات قبيلته فيها في الأوقات المناسبة لها. وأيضا فإن الشاعر المقاتل الذي يشهد المعركة ويخرج منها، لا يصبر كثيرا حتى يعبر عن دوره، ودور قبيلته فيها، وإنما يتعجل القول لينشر بلاغه العسكري في الظرف الملائم، كذلك كان أكثر الشعراء، وهكذا كانت أكثر أشعارهم.

وما دام شعرهم قد أخذ شكل المقطوعات، فإن ذلك أفضى بهم إلى أن يسقطوا منه معظم التقاليد الفنية التي تلقانا في القصائد الطويلة. فهم لم يفتتحوا

ص: 211

مقطوعاتهم بالمقدمات المعروفة، كالمقدمة الطللية أو المقدمة الغزلية، أو مقدمة وصف الظعن، أو مقدمة وصف الطيف، أو غيرها من المقدمات، وهم لم يصفوا الرحلة والراحلة، ولا حمر الوحش، ولا مناظر الصيد. فمقطوعاتهم تدور على موضوعات محددة لا يصح التفريع ولا الاستطراد فيها، بل يجب تكثيفها وتركيزها. أما القصائد الطويلة القليلة التي نظفر بها والتي تأنوا في نظمها، بحكم اتساع الوقت وانفساحه، فهي التي تطالعنا في أوائلها بعض المقدمات، مثل المقدمة الطللية، والمقدمة الغزلية، ومقدمة الحديث عن النفس وهمومها، وعن الجماعة وغاياتها. على أنهم تحولوا بالمقدمة الطللية من مرتبة الحذق والمهارة الفنية والبراعة في وصف الديار الدائرة، وبقاياها العافية، وما غيرها من عوامل الفناء، إلى صورة تنبض بالحنين إلى الوطن، والاشتياق إلى ديار الأهل في البصرة والكوفة. ومن أول الشواهد على هذا التحول مقدمة للمغيرة بن حبناء التميمي مهد بها لمديحه لقتيبة بن مسلم1، فقد نزع فيها نزوعا فياضا إلى بلاد قومه بالبصرة واغترابه عنها بفارس وهو يحارب الأزارقة مع المهلب بن أبي صفرة2، وقد استشهدنا بهاتين المقدمتين في موضعين آخرين، ونضيف إليهما مقدمة ثالثة لثابت قطنة، استهل بها مدحة له في نصر بن سيار، فإنهما توضح هذا التطور الذي أصاب المقدمة الطللية على أيدي شعراء العرب بخراسان: فهو يصور فيها حنينه إلى مسارح شبابه، ومراتع صاحبته، ويتألم لابتعاده عنها، واستقراره بخراسان، حيث تفصل بينه وبينها مسافات شاسعة وقفار وبحار، وحيث نزل بموطن مخوف نذر نفسه فيه لمصارعة الترك، وقاتلهم في معارك حامية متصلة، كان لهم الغلبة فيها تارة، وكان النصر حليف الترك فيها تارة أخرى، وبكت نساؤهم لاستشهاد فرسانهم مرة، وناحت نساء الترك على قتلاهم مرة ثانية، يقول3:

ما هاج شوقك من نؤي وأحجار

ومن رسوم عفاها صوب أمطار4

1 الطبري 8: 1226.

2 الأغاني "طبعة دار الكتب" 13: 87.

3 الطبري 9: 1510.

4 النؤي: الحفير حول الخيمة يقيها للسيول.

ص: 212

لم يبق منها ومن أعلام عرصتها

إلا شجيج وإلا موقد النار1

وماثل في ديار الحي بعدهم

مثل الربيئة في أهدامه العاري2

ديار ليلى قفار لا أنيس بها

دون الحجون واين الحجن من داري3

بدلت منها وقد شط المزار بها

وادي المخافة لا يسري بها الساري

بين السماوة في حزم مشرقة

ومعنق دوننا آذيه جاري4

نقارع الترك ما تنفك نائحة

منا ومنهم على ذي نجدة شادي

كذلك تحولوا بالمقدمة الغزلية من وصف التذلل والخضوع للمرأة، وتشخيص محاسنها ومفاتنها الجسدية التي تسحر الألباب، إلى الحديث للمحبوبة عن أدوارهم البطولية في القتال، وثباتهم في النزال، وبثوها آلامهم لما يطبق عليهم في بعض المواقع من خطر، يحمل معه نذر الموت، كما يظهر في مقدمة الشرعبي الطائي لقصيدته العينية التي ذم فيها الجنيد بن عبد الرحمن المري، لانهزامه في أول معركة الشعب5. ومثلها مقدمة لجرير بن عرادة التميمي أدار فيها حوارا بينه وبين صاحبته، سألته فيه أن يخف للذب عن بني تميم إزاء تصغير الزغل الجرمي لهم، فرد عليها بأنه نهاض دائما إلى الدفاع عنهم، في النائبات، يقول6:

ألم ترني أن الثريا تلومني

وقبلك ما عاصبت لوم العواذل

ألا حين كان الرأس لونين منهما

سواد ومخضوب به الشيب شامل

تقول أنى يوم القيامة فاصطنع

لنفسك خيرا قلت إني لفاعل7

1 الشجيج: الوتد المشقوق الرأس.

2 الماثل: الرماد. والربيئة: طليعة القوم الذي ينتظر لهم حتى لا يدهمهم للعدو. ولا يكون إلا على جبل، أو مرتفع ينظر منه.

3 الحجون: جبل بأعلى مكة.

4 الحزم: ما غلظ من الأرض وكثرت حجارته. والمشرقة: الشرقية. المعنق: المرتفع، والآذي: الموج.

5 الطبري 9: 1554.

6 نقائض جرير والفرزدق 1: 369.

7 في الأصل: أتى. وأنى: حان.

ص: 213

كريمة قوم حملوني مجدهم

وإني لهم ما دمت حيا لحامل

ورمز بعض شعرائهم بالغانية المحبوبة المطلوبة في مقدمته الغزلية، إلى أماني قبيلته السياسية، وآمالها في السلطة1.

وفي الجملة فإنهم لاءموا بين مقدمات قصائدهم وموضوعاتها ملاءمة دقيقة، وتأثروا الظروف التي نظمت فيها، والأهداف التي قيلت من أجلها. فهم إن وصفوا انكسارهم، ورثوا صرعاهم افتتحوا هذا الوصف والرثاء بالحديث عن الموت والحياة2، وإن أفردوا بعض قصائدهم لتصوير مطالب قبائلهم وحقوقها الضائعة صدروا هذا التصوير بالحديث عن الأرق والهم الشاغل3. وعلى هذا النحو كلما استقصينا مطولاتهم التي استهلوها بمقدمات، وجدنا اتساقا قويا بين مقدماتها وموضوعاتها ومناسباتها.

ونجم عن صبهم أكثر شعرهم في مقطوعات اختفاء التصريع من مطالعها إلا في مقطوعات وقصائد معدودة4، ونتج عن تسرعهم في نظمها انتشار الجوازات النحوية في بعضها، مثل جزم الفعل المضارع دون عامل يوجب جزمه5، أو رفع الاسم الذي ينبغي نصبه، مع أنه لا وجه لرفعه6. وعممت في بعضها الضرورات العروضية، حتى إن أكثرهم ومشاهيرهم أقووا مرات في مقطوعاتهم ومطولاتهم، كبيان العنبري التميمي7 وجرير بن عرادة التميمي8، وعرفجة الدارمي

1 الأغاني "طبعة دار الكتب" 14: 282، 284، 295.

2 الطبري 9: 1556.

3 الطبري 9: 1577.

4 الطبري 8: 1226، 9: 1414، 1490، 1510، 1577، 1935.

5 الطبري 9: 1558.

6 الشعر والشعراء 1: 433.

7 الطبري 9: 1477.

8 نقائض جرير والفرزدق 1: 369.

ص: 214

التميمي1، وأبي الهندي التميمي2، وثابت قطنة الأزدي3، ونهار بن توسعة البكري4، وأبي البريد البكري5، وزياد الأعجم6، ونصر بن سيار7.

أما أساليبهم فمتينة ناصعة، فألفاظهم فصيحة، وتراكيبهم صحيحة، وهي تشبه أساليب الجاهليين شبها قويا، وتسود في مقطوعاتهم وقصائدهم كلمات صعبة تحتاج إلى الاستخراج، وتتناثر في بعضها أشطار وأبيات، تخفى معانيها، وتستغلق مقاصدها.

ومع أنهم أقاموا بخراسان زمنا طويلا، يل قرنا كاملا، واختلطوا بأهلها، فإنهم لم يكثروا من استعمال الكلمات الفارسية، فنحن لم نعثر في كل ما جمعناه من شعرهم إلا بخمس كلمات فارسية عربوها واستخدموها، وهي ديزج8 ومعناها الأدغم9، وأصلها ديزه10، والكرز11، ومعناها المدرب المجرب، واللئيم، والنجيب، والحاذق12، وأصلها كرز13، والسمرج14، ومعناها يوم جباية الخراج، أو استخراج الخراج في ثلاث مرات15، وأصلها سمرج16، والبرازيق17، ومعناها الجماعات والفرسان18، وأصلها بروز19.

1 الطبري 9: 1526.

2 الطبري 9: 1617.

3 الطبري 9: 1503.

4 نقائض جرير والفرزدق 1: 364، والشعر والشعراء 1:537.

5 الطبري 9: 1497.

6 الشعر والشعراء 1: 433، والأغاني "طبعة دار الكتب" 13:92.

7 الطبري 9: 1935.

8 نقائض جرير والفرزدق 1: 362.

9 اللسان 3: 95.

10 الألفاظ الفارسية المعربة لإدي شير ص: 63، واللسان 3:95.

11 الطبري 8: 267.

12 اللسان 7: 267.

13 اللسان 7: 267.

14 الطبري 8: 1279.

15 اللسان 3: 125.

16 الألفاظ الفارسية المعربة ص: 93.

17 الطبري 9: 1555.

18 اللسان 11: 300.

19 الألفاظ الفارسية المعربة ص: 19.

ص: 215

على أن الظاهرة اللافتة للنظر والداعية إلى الاستغراب أنهم لم يعيروا بيئة خراسان الطبيعية والسكانية أي اهتمام، فنحن لم نجد أحدًا منهم وصف أنهارها، ولا أمطارها، ولا جبالها ولا ثلوجها، ولا أهلها، ولا أي جانب من جوانب الحياة فيها، وليس لها من تفسير إلا أحد احتمالين، فإما أن شعرهم في هذه الموضوعات ضاع، وإما أنهم كانوا منهمكين في حياتهم القبلية والسياسية والعسكرية انهماكا شديدا، شغلهم عن العناية بهذه الموضوعات.

ص: 216