المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌القبائل العربية بخراسان: - الشعر في خراسان من الفتح إلى نهاية العصر الأموي

[حسين عطوان]

الفصل: ‌القبائل العربية بخراسان:

‌القبائل العربية بخراسان:

ليس بين أيدينا صورة واضحة عن عدد العرب بخراسان، ولا عن منازلهم ووسائل معاشهم، وتنظيمهم الاجتماعي والعسكري، وتكتلهم السياسي، ولا عما شجر بين قبائلهم المتنافسة في السلطان من منازعات، ولا عن علاقاتهم بسكان خراسان الأصليين، وإنما كل ما لدينا عن ذلك كله مجموعة من الأخبار. وهي أخبار تكثر وتتسق في مبحث، وتقل وتتناقض في مبحث آخر. ومع ذلك فإنها تبقى الأساس الذي نقيم عليه تصورنا لكل تلك المباحث. وهو تصور يخضع في النهاية لمدى إحاطة الدارس بأحوال العرب بخراسان، ولاجتهاده في الاستنتاج والترجيح، أكثر مما يقوم على المعلومات الوافية المطردة.

أما عدد العرب بخراسان فيتعذر أن نعرفه معرفة دقيقة، لأن المؤرخين لم يهتموا به كثيرا، وإنما اكتفوا بالإشارة السريعة إلى المقاتلين دون عيالاتهم، وتغاضوا عن المهاجرين والآخرين، الذين لم ينزحوا إلى خراسان للانتظام في صفوف الجند، بل للإقامة والعمل، أو للالتحاق بذويهم وأقاربهم. على أننا إذا تتبعنا ما ذكره المؤرخون من الهجرات الرسمية أمكن أن نقدر عدد العرب التقريبي من عهد إلى عهد، وأمكن أن نتبين أي قبائلهم كانت أكثر عددا، وأكبر قوة.

وأخبار الحملة التي قادها ابن عامر لفتح خراسان، وعدد من اشترك فيها من الجند غامضة غموضا مطلقا، فكل ما نعرفه عنها أن القادة الذين استعان بهم كانوا يغزون في

ص: 39

ألوية متساوية، ويبلغ كل منها أربعة آلاف جندي. فقد بعث ابن عامر الأحنف بن قيس التميمي في أربعة آلاف إلى طخارستان1. ولما فتح الأحنف الجوزجان كان جيشه خمسة آلاف، أربعة آلاف من العرب، وألفا من مسلمي العجم2. وكان جيش عبد الله بن خازم السلمي الذي لقي به قارن التركي أربعة آلاف3. ولم يزل أهل البصرة يغزون من لم يكن صالحا من أهل خراسان، فإذا رجعوا خلفوا أربعة آلاف للعقبة. فكانوا على ذلك حتى كانت الفتنة بعد مقتل عثمان4.

والمظنون أن العرب تضعضعوا بخراسان عندما احتدم الصراع على الخلافة بين علي ومعاوية، وأنهم أخلوا بعض المناطق التي احتلوها، وتجمعوا في الأقاليم التي كان سلطانهم لا يزال قويا فيها، غير أنهم لم ينسجوا من خراسان كلها، لأن المؤرخين لا يتحدثون عن فتحها مرة ثانية في أيام معاوية، وإنما يتحدثون عن إعادة تنظيمه لشئونها، وتعيينه ولاة جددا على أهم مقاطعاتها.

ومهما يكن من أمر فإن مجموع العرب الذين كانوا بخراسان بعد فتحها مجهول، كما تنقطع أخبارهم حتى سنة خمس وأربعين، حين ولي زياد بن أبي سفيان البصرة لمعاوية، فولي أمير بن أحمر اليشكري مرو الشاهجان، وخليد بن عبد الله الحنفي نيسابور، وقيس بن الهيثم السلمي مرو الروذ، والطالقان، والفارياب، ونافع بن خالد الطاهي هراة وباذغيس وبوشنج. فكان أمير أول من أسكن العرب بمرو الشاهجان5.

والنص السابق لا يدل على عدد الذين قدموا مع الولاة الأربعة إلى خراسان، كما أن البلاذري وحده هو الذي أشار إلى أن أمير بن أحمر اليشكري كان أول من أنزل العرب بمرو الشاهجان، أما الطبري6، وابن الأثير7، فأغفلا هذه

1 الطبري 5: 2900، وتاريخ خليفة بن خياط 1:173.

2 فتوح البلدان ص: 398.

3 الطبري 5: 2906، وتاريخ خليفة بن خياط 1:178.

4 الطبري 5: 2906.

5 فتوح البلدان ص: 400.

6 الطبري 7: 79.

7 ابن الأثير 3: 451.

ص: 40

الإضافة. ولسنا ندري هل كان الذين أسكنهم ابن أحمر مرو الشاهجان من العرب السابقين، أو أنهم كانوا وافدين، ولكننا نفترض افتراضا أن بعضهم كانوا وافدين، لأن أخبار الولاة اللاحقين، تفيد أن كلا منهم، كان يستصحب معه عددا من المقاتلين والفرسان المشهورين.

وفي أول سنة إحدى وخمسين عين زياد بن أبي سفيان الربيع بن زياد الحارثي على خراسان، وبعث معه خمسين ألفا من البصرة والكوفة، ويختلف القدماء في عدد من كل مصر من المصرين، فالطبري يقول: إن زيادا بعث مع الحارث خمسين ألفا، من البصرة خمسة وعشرين ألفا، وعليهم الربيع، ومن الكوفة خمسة وعشرين ألفا، وعليهم عبد الله بن أبي عقيل، وعلى الجماعة الربيع بن زياد1. فنقل الناس عيالاتهم إلى خراسان ووطنوها2، أما البلاذري3 وابن الأثير4 فيذكران العدد نفسه، ولكنهما لا يحددان نسبة من جاء من البصرة والكوفة.

وشك الدكتور صالح العلي في أن العدد أخذ من أهل المدينتين بالتساوي والمناصفة، واستدل على ذلك، بأن الأخبار المتأخرة عن تنظيم العرب خراسان تظهر أن أهل الكوفة كانوا وحدة مستقلة لا تزيد عن سدس العرب هناك، وأن هذا التنظيم كان قائما على أساس الأخماس المتبع في البصرة، كما أن خراسان كانت متصلة بالبصرة أكثر من اتصالها بالكوفة5.

ومع أن استدلال الدكتور صالح العلي صحيح، لأن أخبار العرب بخراسان تقطع بأن أهل الكوفة كانوا أقل بكثير من أهل البصرة، فإن البلاذري6، والطبري7، وابن الأثير8، يروون خبرا آخر يفيد أن هشام بن عبد الملك أمد الجنيد بن عبد

1 الطبري 7: 81.

2 الطبري 7: 156.

3 فتوح البلدان ص: 400.

4 ابن الأثير 3: 452، 489.

5 استيطان العرب بخراسان ص: 38.

6 فتوح البلدان ص: 418.

7 الطبري 9: 1545.

8 ابن الأثير: 5: 168.

ص: 41

الرحمن المري، وهو يقاتل الترك بسمرقند سنة اثنتي عشرة ومائة بعشرين ألفا من الجنود، كان نصفهم من أهل البصرة، ونصفهم الثاني من أهل الكوفة، مما قد ينبئ بأن الخلفاء الأمويين كانوا يحرصون على تخفيف الضغط على أهل البصرة، الذي ألقي عليهم عبء إمداد خراسان بالجنود في أكثر الأحيان، فكانوا يجعلون بعض البعوث قسمة بين أهل المدينتين، ومما ينبئ بأن الخلفاء كانوا يبعدون العناصر المشاغبة في البصرة والكوفة إلى مناطق نائية، لكي يتخلصوا من خطرها، مع التمويه على هذه الغاية الخفية باختيار العناصر المبعدة شركة من المصرين1.

وعلى كل حال، فهذا هو أول ذكر صريح لعدد المقاتلة بخراسان، وهذه هي أول مرة يشير المؤرخون فيها إلى أن المقاتلة نقلوا أسرهم إلى خراسان. ولا بد أن الجنود الذين كانوا بخراسان في النصف الثاني من القرن الأول كانوا أكثر من خمسين ألفا، فإن من قدموا مع الربيع بن زياد هم الذين يشكلون هذا العدد، أما من كانوا بخراسان من قبل فلم يضافوا إليه.

وفي سنة أربع وخمسين ولى معاوية بن أبي سفيان على خراسان عبيد الله بن زياد، فقطع النهر في أربعة وعشرين ألفا2، وليس من ريب في أن قسما من هذا العدد وفد مع ابن زياد، ولم يكن من الجنود القدماء الذين كانوا يبلغون في ولاية الربيع بن زياد أكثر من خمسين ألفا.

ولم تنقطع الهجرات والنجدات عن خراسان بعد ذلك. وإنما استمرت وتوالت، فكان كل عامل يعين عليها يستقدم معه إليها طائفة من القادة النابهين، والمقاتلين المعروفين، الذين يعتمد عليهم، وكان الخلفاء وأمراء العراق لا يتوانون في توجيه البعوث الضخمة إلى عمالهم بخراسان، لتعويض خسائرهم في الجند، وخاصة حين كان أولئك العمال يكثرون من غزو ما وراء النهر، ويمنون بالهزائم، أو يعجزون عن إكمال غزواتهم.

ففي سنة ست وخمسين ولى معاوية بن أبي سفيان على خراسان سعيد بن عثمان بن

1 تاريخ الدولة العربية، لفلهاوزن ص:396.

2 فتوح البلدان ص: 401.

ص: 42

عفان، فخرج إليها، وخرج معه أوس بن ثعلبة التميمي، وطلحة بن عبد الله بن خلف الخزاعي، والمهلب بن أبي صفرة، وربيعة بن عسل، أحد بني عمرو بن يربوع، وأخرج معه قوما من الأعراب كانوا يصيبون الطريق ببطن فلج، فيهم مالك بن الريب المازني1.

وفي سنة إحدى وستين عين يزيد بن معاوية على خراسان سلم بن زياد، فقدم البصرة، فتجهز وسار إلى خراسان، فشخص معه عمران بن الفصيل البرجمي، وعبد الله بن خازم السلمي، وطلحة بن عبد الله بن خلف الخزاعي، والمهلب بن أبي صفرة، وحنظلة بن عرادة، وأبو حزابة الوليد بن نهيك، أحد بني ربيعة بن حنظلة، ويحيى بن معمر العدوي، حليف هذيل، وخلق كثير من فرسان البصرة وأشرافهم.

فكان معه منهم ألفان، وقيل ستة آلاف2.

وفي سنة خمس وستين كان من بقي مع الحريش التميمي بعد أن تفرق عنه أصحابه وهو يقاتل عبد الله بن خازم السلمي بمرو الروذ اثني عشر ألفا من بني تميم3. وإنما أوردنا هذا الخبر لندل به على حقيقة هامة، وهي أن بني تميم كانوا أكبر القبائل العربية بخراسان، لا في هذا الوقت فحسب، بل أيضا على مدار الحكم الأموي لخراسان.

وفي سنة سبع وسبعين قضى أمية بن عبد الله الأموي على بكير بن وشاح التميمي، فكتب إلى عبد الملك ابن مروان، فضرب إليه بخراسان بعثا، فتجاعل الناس، فأعطى سليل الأسدي جعالته4 رجلا من جرم5.

1 الطبري 7: 178.

2 الطبري 7: 393، وابن الأثير 4/ 96.

3 الطبري 7: 596، وابن الأثير 4:209.

4 الجعالة: أن يكتب البعث على الغزاة، فيخرج من الأربعة والخمسة رجل واحد ويجعل له جعل.

5 الطبري 8: 1029.

ص: 43

وقبل سنة تسعين خرج الشمردل بن شريك اليربوعي هو وإخوته حكم، ووائل، وقدامة إلى خراسان، مع وكيع ابن أبي سود التميمي1.

وفي سنة خمس وتسعين بعث الحجاج بن يوسف الثقفي جيشا من العراق إلى خراسان، فقدموا على قتيبة ابن مسلم، فغزا فلما كان بالشاش أو كشمهين أتاه موت الحجاج في شوال، فغمه، فقفل راجعا إلى مرو الشاهجان2.

وفي سنة ست وتسعين كان بخراسان من مقاتلة أهل البصرة أربعون ألفا: من أهل العالية تسعة آلاف، ومن بكر سبعة آلاف، رئيسهم الحفين بن المنذر، ومن تميم عشرة آلاف، عليهم ضرار بن حصين الضبي، ومن عبد القيس أربعة آلاف، عليهم عبد الله بن علوان، ومن الأزد عشرة آلاف، رأسهم عبد الله بن حوذان. وكان بها من مقاتلة أهل الكوفة سبعة آلاف. عليهم جهم بن زحر، أو عبيد الله بن علي3.

واعتمادا على الجدول السابق، قدر المستشرق فلهاوزن مجموع العرب بخراسان بمائتي ألف4. ويبدو لنا أن الأرقام التي وردت في الجدول، والتي استند إليها فلهاوزن في تقديره غير دقيقة، فآية ذلك أن أبا عبيدة، معمر ابن المثنى، الذي كان له كتاب عن خراسان، يذكر أن مقاتلة بني تميم كانوا في تلك الفترة التي سجلت فيها الإحصائية السالفة أربعة وعشرين ألفا5. ويمكن أن نستنتج من الفرق الكبير بين عدد المقاتلين التميميين الذي ذكره البلاذري، والطبري، وابن الأثير، وبين عددهم الذي ذكره أبو عبيدة أن عدد جنود كل قبيلة من القبائل العربية حينئذ لا بد أن يكون أكبر، وأن جملة الجنود العرب الذين كانوا بخراسان في تلك الفترة كانت أكثر من خمسين ألفا بكثير،

1 الأغاني "طبعة دار الكتب 13: 351". وأول مرة ذكر فيها اسم وكيع بن أبي سود التميمي بخراسان سنة تسعين، وما من ريب في أنه رحل إلى خراسان قبل ذلك.

"انظر الطبري "طبعة دار المعارف 6: 443"

2 الطبري 8: 1298، وابن الأثير 4:583.

3 فتوح البلدان ص: 413، والطبري 9: 1291، وابن الأثير 5:15.

4 تاريخ الدولة العربية ص: 408، 468.

5 نقائض جرير والفرزدق 1: 368.

ص: 44

فقد روى خليفة بن خياط أنه كان بخراسان مائة ألف مقاتل، حين اغتيل قتيبة بن مسلم سنة ست وتسعين1.

ويحتمل أن الجدول السابق لا يتضمن إلا مقاتلة القبائل المختلفة بمرو الشاهجان وحدها. ومما يقوي هذا الاحتمال أن يزيد بن المهلب غزا جرجان سنة ثمان وتسعين بمائة ألف مقاتل من أهل الكوفة وأهل البصرة وأهل الشام ووجوه أهل خراسان والري، سوى الوالي والمماليك والمتطوعين2وفي بعض الروايات أنه أغار عليها بأكثر من ذلك قال البلاذري:"غزا جرجان في مائة ألف وعشرين ألفا من أهل الشام والجزيرة والمصرين وخراسان"3. وقال الطبري: "يقال: كان يزيد بن المهلب في عشرين ومائة ألف، معه من أهل الشام ستون ألفا"4. وإذا افترضنا أن أهل خراسان كانوا يشكلون سدس جيشه، وهم على الترجيح لم يكونوا يشكلون أكثر من هذه النسبة، لأن أبا الصيداء صالح بن طريف شكا إلى عمر بن عبد العزيز سنة مائة من أن عشرين ألفا من الموالي يغزون مع العرب بلا عطاء ولا رزق5، فإن مجموع جنود القبائل العربية في جيشه كان مائة ألف.

ولم تتوقف الهجرات والبعوث عن خراسان بعد ذلك، بل بقيت تتدفق عليها، ففي سنة إحدى عشرة ومائة استعمل هشام بن عبد الملك على خراسان الجنيد بن عبد الرحمن فقدمها في خمسمائة6. وبعد ذلك تكبد الجيش العربي خسائر فادحة في معركة الشعب بسمرقند، فاستمد الجنيد هشاما، فبعث إليه بعمرو بن مسلم في عشرة آلاف رجل من البصرة، وبعبد الرحمن بن نعيم في عشرة آلاف من أهل الكوفة7.

ويزعم الشاعر خالد بن المعارك العبدي، المعروف بابن عرس، أن الذين هلكوا

1 تاريخ خليفة بن خياط: 1: 421.

2 الطبري 9: 1319، وابن الأثير 5:29.

3 فتوح البلدان ص: 331.

4 الطبري "طبعة دار المعارف" 6: 539.

5 الطبري 9: 1354.

6 الطبري 9: 1527.

7 الطبري 9: 1545، وفتوح البلدان ص: 418، وابن الأثير 5:168.

ص: 45

من الجنود العرب سنة اثني عشرة ومائة في موقعة الشعب، والتي دارت بين الجنيد وخاقان، كانوا خمسين ألفا1، وهو رقم لا شك أنه بالغ فيه بعض المبالغة، ولكن المهم هو أن الجيش الذي حارب به الجنيد بسمرقند لم يكن يؤلف جميع الجنود العرب الذين كانوا بخراسان عندئذ، وإنما كان يؤلف قسما منهم، ذلك أن الجنيد تحرك إلى سمرقند في الوقت الذي اتجهت فيه أكثر فرق الجيش العربي إلى طخارستان، فقد وجه الجنيد عمارة بن حريم إلى طخارستان في ثمانية عشر ألفا، وإبراهيم بن بسام الليثي في عشرة آلاف في وجه آخر، وعبد الرحمن بن مسلم في لواء ثالث إلى النيروز2، كما كان بخراسان كتائب وألوية أخرى لم تغز طخارستان، ولم تتحرك مع الجنيد إلى سمرقند، وإنما كانت تعسكر بمواقعها مع رؤسائها في مدن خراسان الأخرى، فقد كان البختري بن أبي درهم لا يزال مقيما هو وجنوده بهراة، كذلك لم يحضر إلى الجنيد الجنود الذين كانوا مرابطين بالطالقان3، ويجب أن نزيد على كل هذه الكتائب والألوية الغازية وغير الغازية فرقا وسرايا أخرى كان بعضها بالمراقب والثغور الهامة لخراسان، وكان جنودها طلائع يراقبون العدو ويحرسون الحدود4، وكان بعضها ببلاد ما وراء النهر مثل سمرقند، وبخارى، وخوارزم، وبين أيدينا خبر واحد عن عدد المقاتلين الذين كانوا بسمرقند، مع سورة بن الحر التميمي، فقد سار معه منها اثنا عشر ألفا لإغاثة الجنيد بالشعب حين كان محاصرا مجهودا5 مما يدل من بعض الوجوه على أن الجيش العربي بخراسان لم يقل كثيرا في هذه الفترة عن مائة ألف جندي، وهو مقارب للعدد الذي كان في ولاية يزيد بن المهلب الثانية على خراسان.

ويذكر الشاعر الكميت بن زيد الأسدي في قصيدة أرسلها من الكوفة إلى العرب بمرو الشاهجان، سنة سبع عشرة ومائة، حين اكتسح الحارث بن سريج التميمي أكثر

1 الطبري 9: 1559.

2 الطبري 9: 1532.

3 الطبري 9: 1533.

4 الطبري 9: 1429، 1597، 1610، 1614، 1693، 1771، 1915، وانظر استيطان العرب بخراسان ص: 76، 77.

5 الطبري 9: 1540.

ص: 46

مدن خرسان، وكاد يستولي على مرو الشاهجان، في ولاية عاصم بن عبد الله الهلالي، أنه كان بمرو الشاهجان بمفردها سبعون ألفا1 ولسنا ندري هل كان هذا العدد يمثل الجنود وحدهم، أو أنه كان يشملهم ويشمل عيالاتهم.

تلك هي أهم البعوث التي أرسلتها الدولة إلى خراسان منذ فاتحة العهد الأموي إلى خاتمته. وهي بعوث لم يحدد القدماء إلا عدد الجنود النظاميين الذين اشتركوا في كل بعث منها، أما المتطوعة فلم يهتموا بهم، ونحن نظن ظنا أنهم كانوا كثيرين، وأنهم كانوا يرتحلون إلى خراسان للمساهمة في الغزو مع الجيش النظامي، طمعا فيما يفوزون به من الغنائم والأسلاب. ومما يرجح هذا الظن أن الناس كانوا يتدافعون تدافعا، ويزحم بعضهم بعضا للانضمام إلى أحد البعوث، بحيث لم يستطع المشرفون على شؤون التعبئة أن يلبوا رغبة كل من تقدم إليهم للانتظام في ذلك البعث، فاختاروا واحدا من كل أربعة أو خمسة بالقرعة2.

ولا بد أن نضيف إلى تلك البعوث الرسمية موجات أخرى من الهجرات الفردية والجماعية، كانت تحدث من حين إلى حين، إما لزيادة الأهل والأحباب بخراسان، والإقامة عندهم، وإما للاشتغال في المرافق الاقتصادية المتعددة، وإن كان المؤرخون لم يحتفلوا بهذه الموجات من الهجرات إلا نادرا، وآية ذلك أنهم إنما أشاروا إليها مرة واحدة في ولاية الربيع بن زياد الحارثي، إذ نصوا على أن الجنود نقلوا أسرهم إلى خراسان، وسكنوا دون النهر3.

على أن البعوث الرسمية لم يكن كل جنودها يمكثون في خراسان، فقد كان بعضهم يتركونها ويعودون إلى بلدانهم، وخاصة بعد تقلص أمرائهم، كما كان كثيرون منهم يستشهدون في الحروب، ولذلك يصعب أن يعرف عدد من رجعوا منهم إلى أوطانهم، وعدد من استقروا استقرارا دائما، وعدد من قتلوا في المعارك، ويكون من الخطأ أن نجمع البعوث بعضها إلى بعض، ونستخرج منها عدد المقاتلين الكلي.

1 الطبري 9: 1575.

2 الطبري 9: 1029.

3 الطبري 7: 81، 156، وفتوح البلدان ص: 400، وابن الأثير 3: 452، 489.

ص: 47

وثمة حقيقة أخرى يجدر التنبيه عليها، وهي أن تميما كانت على امتداد الحكم الأموي لخراسان أكبر قبيلة عربية هناك، ففي نهاية القرن الأول كانت أكثر خراسان عربية1، وفي بداية القرن الثاني كانت كذلك أكثر أهل خراسان2، ولا جدال في أن الأزد كانت القبيلة الثانية في الضخامة والكبر بخراسان.

وإذا سلمنا بأن عدد المقاتلين في نهاية القرن الأول، وفي بداية القرن الثاني، أي في ولاية قتيبة بن مسلم، وولاية يزيد بن المهلب الثانية. وفي ولاية الجنيد بن عبد الرحمن المري كان مائة ألف، وافترضنا أن أسرة كل مقاتل كانت تتألف من أربعة أفراد، فإن جملة العرب بخراسان من المقاتلين والعيالات يمكن أن تكون قاربت نصف مليون نفس. وهو تقدير قد يكون فيه شيء من الزيادة، وقد يكون فيه شيء من النقضان.

وأما الأماكن التي سكن فيها العرب بخراسان فالحديث عنها أكثر صعوبة، وأشد تعقيدا، فنحن لا نعرف على وجه الدقة هل كان العرب يستوطنون داخل المدن التي كانوا يفتحونها، أو أنهم كانوا يستقرون على مشارفها. فالأخبار عن ذلك متناقضة، إذ يدل بعضها على أنهم شاركوا أهل البلاد في مدنهم سواء بخراسان أو فيما وراء النهر. ومن ذلك ما يروى من أن عبد الله بن عامر حين صالح مرزبان مرو الشاهجان، كان في الصلح أن يوسع أهلها للعرب في منازلهم3. ومنه أن قتيبة بن مسلم عندما رأى أهل بخارى يقبلون الإسلام في الظاهر، ويعبدون الأصنام في الباطن، أمرهم أن يعطوا نصف بيوتهم للعرب، ليقيموا معهم، ويطلعوا على أحوالهم، فيظلوا مسلمين بالضرورة4. ولما فتح المدينة للمرة الرابعة، وسيطر عليها، وأخذ صلحها، قسمها بين العرب والعجم، فأعطى ربيعة ومضر من باب النون إلى باب العطارين، والباقي لأهل اليمن5. وبنى المسجد الجامع داخل حصنها6. ومنه أيضا أن أسد بن عبد الله

1 نقائض جرير والفرزدق 1: 368.

2 الطبري 9: 1663.

3 فتوح البلدان ص: 396.

4 تاريخ بخارى ص: 73.

5 تاريخ بخارى ص: 80.

6 تاريخ بخارى ص: 84.

ص: 48

القسري نقل في مطلع القرن الثاني الجنود العرب الذين كانوا بالبروقان إلى بلخ، فأقطع كل من كان له مسكن بالبروقان بقدر مسكنه، ومن لم يكن له مسكن، أقطعه مسكنا، وأراد أن ينزلهم على الأخماس، فقيل له إنهم يتعصبون، فخلط بينهم1.

ويستدل من أخبار أخرى أن أهل البلاد الأصليين كانوا يرفضون مشاطرة العرب لهم في مدنهم، وأنهم كانوا يرون ذلك إجحافا بهم، وطغيانا عليهم، ومما يؤيد ذلك أنه حينما تولى عمر بن عبد العزيز الخلافة، وظهر عدله، وفد عليه قوم من أهل سمرقند أملا في عدله، ورفعوا إليه أن قتيبة بن مسلم ظلمهم، واستولى على أرضهم، ودخل مدينتهم، وأسكنها العرب على غدر، فكتب عمر إلى عامله يأمره بأن ينصب قاضيا لهم فيما ذكروا، فإن قضى بإخراج العرب أخرجوا لتعود الحال إلى ما كانت عليه قبل عهد قتيبة، فحكم القاضي بإخراجهم على أن ينابذوا أهل سمرقند الحرب، وأقروا الحرب، فأقاموا بين أظهرهم2.

وأيا ما كان الأمر، فالذي لا شك فيه أن قسما من العرب نزل بداخل بعض المدن، وأن قسما آخر منهم، ولعله أكثرهم، أقام بالمناطق القريبة منها، لأن تلك المدن لم تكن لتحتمل أهلها الأصليين، والعرب الوافدين، ونحن نرجح ترجيحا أن الجنود كانوا يعسكرون خارج المدن، وعلى حدودها، حيث الأرض الخالية التي تتسع لهم ولعوائلهم ولخيولهم، وحيث المكان الفسيح الذي يلائم أمزجتهم وطبيعة حياتهم.

ولما كانت مرو الشاهجان هي الحاضرة، وكان الولاة يتخذونها مركز إدارة مدني وحربي، فلا مفر من أن يكون لهم وجود فيها. غير أن أكثر ما نقل إلينا من الأخبار لا يدل على أنهم اختلطوا بسكانها المحليين، وامتزجوا بهم في فترة مبكرة، ولا يدل كذلك على أنهم كان لهم سككهم وأحياؤهم المستقلة، وإن كانت أخبار الفتنة الأخيرة بين اليمنية والمضرية تفيد أنه كان بالمدينة عدد من الأزد، وبكر، وتميم، وأن الكرماني حين

1 الطبري 9: 1490، وابن الأثير 5:138.

2 الطبري 9: 1364.

ص: 49

استولى عليها، هدم دور المضرية بها1. ولكننا لا نرتاب في أن والي خراسان وشرطته وقضاته والحامية التي كانت تقوم على حراسته، وغيرهم من المسؤولين الذين كانوا يشرفون على جمع الجزية والخراج، قد استوطنوا هم وأسرهم داخل المدينة.

على أن الأخبار المتأخرة عن العرب بخراسان تشير إلى أنهم استقروا بكثير من القرى المحيطة بمرو الشاهجان، وأن سادتهم وأشرافهم كانوا يملكون أكثر أراضي تلك القرى، بحيث نسبت إليهم، وهي قرى كان معظمها منتشرا في سهل المدينة، وواحتها. وقد حفظ الطبري لنا أسماء بعضها، ومنها قرية لطئ يقال لها بونية2، وقرية حرب بن عامر3، وقرية بالين أو اللين4، وقرية سفيذنج5، وقرية فنين6، وكلها لخزاعة. ومنها قرية لكندة، وقرية لبني العنبر7، وقرية لخالد بن إبراهيم8. إلى غير ذلك من القرى التي عددها، وسماها بأسمائها9. وكان العرب الذين سكنوا هذه القرى يمارسون الزراعة ويدفعون الضرائب10.

وكانت قيس هي الغالبة بنيسابور، في غربي خراسان، وخاصة في أواخر العصر الأموي11 وكانت بكر تمثل أكبر نسبة من القبائل العربية بهراة في جنوبي خراسان. ومعروف أنها كانت تنزل في أول الأمر بمرو الروذ، وأنها ظلت مقيمة بها حتى قتل عبد الله بن خازم السلمي سليمان بن مرثد فيها، وعمرو بن مرثد بالطالقان، فارتحل البكريون من مرو الروذ إلى هراة، ولحق بهم سائر أبناء قبيلتهم الذين كانوا مبثوثين بنواحي خراسان، فكان لهم بها جمع كثير12.

وفي شرقي خراسان كانت أرض بكر، وأرض تميم متداخلتين، وكانت القبيلتان تتنازعان على بعض الأماكن، كل منهما تدعي أنها هي التي سبقت إليها واحتلتها قبل

1 الطبري 9: 1934.

2 الطبري 8: 1026.

3 الطبري 9: 1862.

4 الطبري 9: 1952.

5 الطبري 9: 1952.

6 الطبري 9: 1914.

7 الطبري 9: 1579.

8 الطبري 9: 1952.

9 الطبري 9: 1957؟

10 الطبري 8: 1029.

11 الطبري 9: 1929.

12 الطبري 7: 491، 496.

ص: 50

الأخرى1، كما كانت بعض القرى شركة بين قبائل عديدة مثل قرية خلم التي اقتسمها الأزد، وتميم، وقيس2. وإن كان المقدسي يرى أنها بلاد الأزد3، ولعله يقصد بذلك أنهم كانوا أكثر القبائل بها.

كذلك كان العرب يقيمون بالبروقان التي تبعد فرسخين عن بلخ، وهي أكبر مدن الإقليم الشرقي. وكان الجنود يحتشدون فيها مع أمرائهم4. وفي نهاية القرن الأول أرسل إليها قتيبة بن مسلم اثني عشر ألف جندي، عليهم أخوه عبد الرحمن، ليقمع بهم ثورة نيزك طخارستان5. وفي مستهل القرن الثاني كان بها عشائر من قبائل مختلفة، من الأزد، وبكر، وتميم6. ثم حول أسد بن عبد الله القسري المقاتلة منها إلى بلخ، وبنى لهم فيها دورا، ونقل الدواوين إليها، وعمرها بعد أن كانت خرابا7. ومنذ ولاية أسد الأولى أهمل العرب البروقان، لأنها مكشوفة غير محصنة، وتجمعوا ببلخ فكان منهم بها سنة ثمانية عشرة ومائة ألفان وخمسمائة جندي من أهل الشام، بجانب الأزديين والبكريين والتميميين8.

وقد نقل اليعقوبي إحصائية موجزة للقبائل العربية بمدن خراسان، تظهر أن العشائر المنتمية إلى غير قبيلة كانت تقيم في المدينة الواحدة، وتظهر أيضا أن العرب كانوا مختلطين بالعجم فيها. وهي إحصائية وإن كانت غير منقولة ولا مسجلة في العصر الأموي، بل في العصر العباسي، فإنها تكشف لنا عن بقايا التجمعات العربية في المدن الخراسانية لعهد بني أمية. ومن تلك المدن التي وصف اليعقوبي سكانها نيسابور، وأهلها

1 تاريخ الدولة العربية ص: 395.

2 ياقوت 2: 465.

3 المقدسي ص: 303.

4 الطبري 9: 1490.

5 الطبري 8: 1207.

6 الطبري 9: 1473.

7 الطبري 9: 1490.

8 الطبري 9: 1590.

ص: 51

أخلاط من العرب والعجم1، وطوس، وبها قوم من العرب من طيئ وغيرهم، وأكثر أهلها من العجم2، ومرو الشاهجان، وأهلها أشراف من دهاقين العجم، وبها قوم من العرب، من الأزد وتميم وغيرهم3، وهراة، وبها قوم من العرب4، وبوشنج، وبها عرب يسير5، ويختتم اليعقوبي حديثه عن سكان مدن خراسان، وتحديده لنسبة العرب والعجم فيها، وتعيينه للقبائل العربية التي كانت في كل منها بقوله:"في جميع مدن خراسان قوم من العرب من مضر وربيعة، وسائر بطون اليمن"6.

وأما الأسباب التي كان العرب بخراسان يكتسبون أرزاقهم منها، فالواضح أن المقاتلين المسجلين في ديوان العطاء كانوا يتقاضون رواتب دائمة من الدولة، كما كانت الدولة تفرض عطاء لبعض أفراد أسرهم، كان يشمل زوجة المقاتل وواحدا أو اثنين من أولاده. وكان المقاتلون يفوزون بأسهم، من الغنائم التي كانوا يحتازونها في غزواتهم المستمرة لما وراء النهر.

وليس من السهل أن تحدد المبلغ الذي كانت الدولة تدفعه للمقاتل أو لزوجته أو لأولاده، ولكن يمكن أن نستأنس بما كانت تجريه على الجنود وعوائلهم وأطفالهم بالبصرة، لأن الكثرة المطلقة من مقاتلة خراسان كانت منها. فأعلى عطاء كانت الدولة تعطيه للجندي في البصرة ثلاثة آلاف درهم، وأدناه مائتان7. أما أغلبية الجند فكانت رواتبهم تتراوح ما بين مائتي درهم، وألف وخمسمائة درهم8. وكان عطاء النساء مائتي درهم، وعطاء الأطفال دون السابعة عشرة مائة درهم. ومن المشكوك فيه أن العطاء كان يخصص لكل الأطفال، لأن الميزانية لم تكن تساعد على ذلك9.

1 اليعقوبي ص: 278.

2 اليعقوبي ص: 277.

3 اليعقوبي ص: 279.

4 اليعقوبي ص: 280.

5 اليعقوبي ص: 280.

6 اليعقوبي ص: 294.

7 التنظيمات الاجتماعية والاقتصادية في البصرة ص: 150.

8 المصدر نفسه: ص: 154.

9 المصدر نفسه ص: 163.

ص: 52

على أننا لا نعرف شيئا يذكر عن بقية العرب الذين نزحوا إلى خراسان، ولم يكونوا يقبضون أعطيات من الدولة، لأنهم لم يكونوا من الجند. ومن المحتمل أن نفرا منهم اشتغلوا بالتجارة، غير أننا لا نملك شاهدا واحدا يعطينا فكرة ما عن ثرواتهم وتجاراتهم وأرباحهم.

ومن المؤكد أن كثيرين من العرب من الأزد، وبكر، وتميم، وقيس، تعاطوا الزراعة، وارتبطوا بالأرض، ويلاحظ أنهم لم يسكنوا القرى، ولم يعملوا في الزراعة بشكل واسع في القرن الأول، إذ لا يذكر من القرى التي نزلوا بها في هذا الزمن إلا عدد ضئيل1. أما في الربع الأول من القرن الثاني فازدادت ممارستهم للزراعة ازديادا كبيرا، يستخلص من كثرة القرى التي استقروا فيها والتي أحصينا بعضها قبل قليل.

ويلاحظ كذلك أن القرى التي استقروا بها لم تكن مقصورة على إقليم بعينه، وإنما كانت منتشرة في سائر الأقاليم، سواء في منطقة مرو الشاهجان، أو في هراة2. ويروى أن بعض الولاة كان يفرض عليهم ضرائب باهظة، ويستوفيها منهم بالعنف، فكانوا يضجون بمر الشكوى، ويرفعون أصواتهم بالنقد، وخاصة في عهد أمية ابن عبد الله، إذ كان التميميون يرددون أنه أخذ الناس بالخراج، واشتد عليهم فيه، وأنه سلط عليهم الدهاقين في الجباية3.

وهذه الصيحة المدوية ضد سياسية أمية المالية، إنما كان القصد منها الإساءة إلى أمية، وإثارة الناس عليه، وحملهم على مناوأته، أكثر من النقد الصحيح لسياسته المالية، لأن زعماء بني تميم، وعلى رأسهم بكير بن وشاح، وبحير بن ورقاء أرادوا أن يستبدوا بحكم خراسان، وأن يتصرفوا في شؤونها وفق مشيئتهم، لأن عبد الملك بن مروان تعهد لهم بذلك، قبل أن تخضع خراسان له، وهي بقبضة عبد الله بن خازم السلمي، فلما عرف أمية حقيقة نواياهم ومآربهم ضيق عليهم، فراحوا يتسقطون زلاته، ويختلقون الأخطاء له اختلاقا، ويلصقونها به إلصاقا، هذا من ناحية، ومن

1 الطبري 8: 1026، 1029.

2 الطبري 8: 1026، وياقوت 2:465.

3 الطبري 8: 1029.

ص: 53

ناحية أخرى فإن هذه هي المرة الوحيدة التي رفع فيها العرب شكوى على عامل من عمالهم على مدار العصر الأموي، بسبب سياسته المالية الجائرة.

ويبدو أن لهذه الشكوى سببا آخر، وهو أن الحجاج بن يوسف فرض الخراج على الأرض التي امتلكها العرب بالعراق وخراسان، فصارت أرضا عشرية، وكانت قبل امتلاكهم لها أرضا خراجية، وإنما اضطر الحجاج إلى اتخاذ هذا الإجراء، لانكسار خراج العراق. وبذلك ارتفعت الضريبة التي أصبح على العرب أن يدفعوها للدولة. فنددوا بتدبير الحجاج وقاوموه، وثاروا عليه في العراق، مع عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث الكندي، وأحرقوا السجلات، وادعوا بعد إخماد الثورة أن أرضهم كانت في الأصل عشرية، لا خراجية1.

وأما تنظيم العرب الاجتماعي والعسكري بخراسان فكان قائما على أساس الأخماس، وهو مماثل للترتيب الذي كان متبعا في البصرة، ومن المعلوم أن زياد بن أبي سفيان أعاد تنظيم مدينة البصرة، فقسمها بين خمس قبائل، كان كل منها يسمى خمسا، وكان يشتمل على عدد من العشائر، وكان عليه رئيس له سلطات واسعة، وكانت الغاية الأولى، من إيجاد نظام الأخماس عسكرية2.

وهذا النظام نفسه هو الذي كان سائدا بخراسان، لأنها كانت من فتوح أهل البصرة، ولأن أكثر من هاجر إليها وسكن فيها، كان منهم، ولأن معظم ولاتها كانوا يختارون من بينهم. أما أهل الكوفة وأهل الشام الذين كان عمال العراق، أو الخلفاء بدمشق يوجهونهم إلى خراسان في فترات متباعدة، على شكل أمداد، فكانوا قلة قليلة بالقياس إلى أهل البصرة، وهم على كل حال لم يدمجوا في أهل البصرة، ولم يفرقوا على أخماسهم الأساسية، وقبائلهم الكبرى، وهم كذلك لم يقسموا وفق النظام الذي كانوا مصنفين عليه في الكوفة أو في الشام، وإنما كان أهل الكوفة مجموعة قائمة برأسها،

1 مقدمة في التاريخ الاقتصادي العربي ص: 33، 49.

2 التنظيمات الاجتماعية والاقتصادية في البصرة ص: 53.

ص: 54

وأهل الشام مجموعة منفردة بذاتها، ونراهم دائما يوصفون في أحداث خراسان بأنهم أهل الكوفة1، وأهل الشام2.

وتتضمن الأخبار المتأخرة عن أهل الشام بخراسان الإشارة إلى المدن والبلدان التي جاءوا منها، وتتضمن أسماء رؤسائهم، فحين لقي أسد بن عبد الله القسري خاقان الترك، والحارث بن سريج، خرج إليه في إحدى المعارك عامله على الجوزجان المقدام بن عبد الرحمن بن نعيم الغامدي في مقاتلته، "فجعل الأزد، وبني تميم، والجوزجان بن الجوزجان وشاكريته ميمنته، وأضاف إليهم أهل فلسطين، عليهم مصعب بن عمرو الخزاعي، وأهل قنسرين، عليهم مغراء بن أحمر، وجعل ربيعة ميسرته، عليهم يحيى بن حضين، وضم إليم أهل حمص، عليهم جعفر بن حنظلة البهراني، وأهل الأزد، عليهم سليمان بن عمرو المقري من حمير، وعلى المقدمة منصور بن مسلم البجلي، وأضاف إليهم أهل دمشق، عليهم حملة بن نعيم الكلبي، وأضاف إليهم الحرس والشرطة وغلمان أسد"3.

ويتردد ذكر الأخماس، أي القبائل الخمس العامة بخراسان في سنوات متعاقبة، وخاصة في أثناء الاستعداد للقتال، وغزوها وراء النهر4. ويظن الدكتور صالح العلي أن المصادر لا تذكر الأخماس بعد عهد أسد بن عبد القسري. ذاهبا إلى أن ذلك قد يرجع إلى نقص ما وردنا من الأخبار، أو لتعديل هذا النظام نتيجة لاندماج أهل الكوفة وأهل الشام والموالي. فحلت ربيعة محل عبد القيس وبكر، واليمن محل الأزد وغيرهم، ومضر محل تميم وأهل العالية. إذ نجد ربيعة واليمن ومضر تتكرر في أحداث الدعوة العباسية.

ويظهر أنه لم يستقص أخبار العرب بخراسان بعد ولاية أسد بن عبد الله القسري، وإلا فإن المؤرخين أشاروا إلى الأخماس في ولاية نصر بن سيار سنة إحدى وعشرين

1 الطبري 9: 1291، 1545، 1552، 1582، 7:81.

2 الطبري 7: 168، 392، 9: 1313، 1318، 1690، 1704، 1707، 1710.

3 الطبري 9: 1609.

4 الطبري 8: 1254، 9: 1291، 1449، 1493، 1609، 1690.

5 استيطان العرب بخراسان ص: 41.

ص: 55

ومائة، حين غزا ما وراء النهر، وقتل كورصول1. ويوجب تطور الأحداث بخراسان بعد هذا التاريخ أن يختفي ذكر الأخماس، لأن نصر بن سيار توقف عن الإغارة على ما وراء النهر، وشغل بالأمور الداخلية إلى آخر أيامه، ولأن القدماء لم يذكروا الأخماس بخراسان قبل ذلك إلا في وقت الحرب، فقد كان الجيش العربي يتكون منها، وكانت كل قبيلة من القبائل الخمس تشارك في الغزو بعدد من الجنود حسب حجمها.

ولكن هذا التغير الذي طرأ على الأخماس والذي لاحظه الدكتور صالح العلي صحيح، وهو يعود من جهة أخرى إلى انصهار قبائل كل حلف من القبائل الخمس المتنافسة، بحكم اتحاد مصالحها، وتطاول السنين على اجتماعها وتآلفها. والباحث يرى بوضوح أن المؤرخين مثل اليعقوبي2، والدينوري3 والطبري4، وابن الأثير5، أخذوا يذكرون، منذ نهاية العقد الثالث من القرن الثاني، أهل اليمن، وربيعة، ومضر، بدلا من الأزد، وبكر، وتميم، على التوالي.

وكانت أخماس أهل البصرة بخراسان تتألف من خمس قبائل هي: أهل العالية، وبكر، وتميم، وعبد القيس، والأزد6. وكانت تميم أكبر الأخماس عددا، وأشدها قوة7، وكانت الأزد هي القبيلة الثانية المقابلة لتميم، والمزاحمة لها.

وكان لكل خمس أو قبيلة رئيس، غير أن القدماء لم يحتفظوا بأسماء عدد كبير من رؤسائها، إما لأن تلك الوظيفة كانت محدثة، وإما لأن دور صاحبها كان ضعيفا، وإما لأن العرب توزعوا بخراسان في مناطق متباعدة8. وقد أحصى الدكتور صالح العلي رؤساء كل خمس، وتحدث عن بعضهم حديثا مفصلا، ووقف عند قبائلهم،

1 الطبري 9: 1690.

2 تاريخ اليعقوبي 3: 75.

3 الدينوري ص: 351.

4 الطبري 9: 1934، 1935.

5 ابن الأثير 5: 227.

6 الطبري 9: 1291.

7 الطبري 9: 1693، ونقائص جرير والفرزدق 1:368.

8 استيطان العرب بخراسان ص: 42.

ص: 56

وخاصة بكرا، وتميما، وأهل العالية، والأزد، وترك الكلام على عبد القيس لقلة الأخبار عنها1. وليس من غرضنا أن نعيد القول فيما عرض له، لأنه أدخل في البحث التاريخي الخالص ولأننا لن نزيد فيه شيئا جديدا كثيرا.

وكل متتبع لأخبار العرب بخراسان يلاحظ بقوة أنهم افترقوا إلى كتلتين تتنافسان وتتصارعان طويلا، وتتوادعان وتتصافيان قليلا وقبل سنة خمس وستين لم يكن شيء من الخلاف قد دب بينهم، لأن قبائلهم لم تكن كثيرة وكبيرة، ولأنهم كانوا مهتمين بتأمين حياتهم، وسلامتهم في وطنهم الجديد، إلى أن كانت الفتنة بين بكر وعبد الله بن خازم السلمي، فانشقوا إلى مجموعتين، أما المجموعة الأولى فكانت تتكون من بكر، وأما المجموعة الثانية فكانت تتألف من تميم وقيس. وبعد سنة ثمان وسبعين كثر الأزد بخراسان، وعظم نفوذهم بمجيء المهالبة. وتوليهم مقاليد الحكم، وانحازوا إلى بكر بحكم ما كان يربط بين القبيلتين في البصرة من تحالف، فتغير ميزان القوة بين الحزبين المتسابقين، إذ أصبحت الأزد وبكر وعبد القيس في صف، وظلت تميم وقيس في الصف المعارض.

ونحن نرجح أن ما انعقد بين قبائلهم بخراسان من معاهدات ومحالفات، وما نشب بينها من خصومات ومشاجرات يرجع إلى سببين أساسين، كان لكل منهما دوره في إثارة العصبية القبلية والحزبية، وفي إذكاء المنافسات السياسية. أما السبب الأول فهو اجتماعي وثقافي. فهو يعود من ناحية إلى تركيب المجتمع الأموي السكاني. فقد كان المجتمع الأموي مجتمعا بدويا قبليا2، لأن القبيلة كان وحدته الرئيسة في البادية والمدينة، وفي بلاد العرب والمدن التي استحدثوها، والبلاد التي فتحوها3. وقد أدرك الباحثون العرب القدماء هذه الحقيقة منذ زمن بعيد، ولعل أحدا منهم لم يعرفها معرفة

1 استيطان العرب بخراسان ص: 42- 58.

2 العصر الإسلامي، للدكتور شوقي ضيف ص: 161، وتاريخ الدولة العربية ص:203.

3 فتوح البلدان ص: 274، 345، وخطط الكوفة لماسنيون ص: 10، وتاريخ الحضارة العربية لبارتولد ص: 30، وانظر تفصيل ذلك في كتابنا الشعراء الصعاليك في العصر الأموي ص: 47- 60.

ص: 57

عميقة، ولم يشر إليها إشارة دقيقة كالجاحظ، فإنه وصف الدولة الأموية بأنها "دولة عربية أعرابية"1.

وهو يعود من ناحية أخرى إلى ثقافة ذلك المجتمع المزدوجة، فقد ساد فيه تياران ثقافيان متناقضان، تيار الثقافة الجاهلية القبلية الموروث، الذي ظل العرب عامة يتمسكون به، ويخضعون له في تفكيرهم وسلوكهم خضوعا نسبيا متفاوتا2. وتيار الثقافة الإسلامية الحديث، الذي تغلغل في ضمائرهم قسم منهم، فآمنوا به، وحثوا على اتباعه.

ومن أجل ذلك كان من الطبيعي أن ينتج عن هذا التركيب الاجتماعي البدوي، وعن هذه الثقافة الجاهلية الواسعة الثابتة ضعف إيمان العرب في هذه المرحلة التاريخية بمبدأ الأمة الواحدة، وقلة إدراكهم لفكرة الدولة، وضآلة استجابتهم لها، وإذعانهم لقوانينها، لأن كل هذه المبادئ والأفكار لم تكن قد تغلغلت في نفوسهم، ولا اتضحت في أذهانهم، ولم تكن قد رسخت في قلوبهم، ولا نفذت إلى وجدانهم، لجدة عهدهم بها، وحداثة ممارستهم لها، ولقربهم من الحياة الجاهلية، واستبداد تقاليدها ومثلها بعقولهم وأفئدتهم. ولذلك بقيت كل قبيلة منهم تستشعر كيانها ومصالحها، ومنافع حلفائها، وتحرص على أن تكون الرئاسة فيها والسيادة لها، تشبثا بالسلطة، وحبا فيما تجلبه من فوائد مادية ومعنوية.

وأما السبب الثاني فسياسي، وهو يرد إلى موقف الخلفاء الأمويين من القبائل العربية التي عدت -كما دعا القرآن- أمة واحدة، فقد استعانوا بها على أنها جماعات قبلية متحاسدة، لا على أنها أمة واحدة متساوية في الحقوق، متكافئة في الواجبات.

وكان الخليفة منهم إذا مال إلى القبائل اليمنية، أو القيسية يحابيها، ويقدمها ويغلبها وينيط برجالها أهم الوظائف في معظم الولايات، ومنها خراسان. فأدى هذا الأسلوب في معاملة القبائل والاعتماد عليها بقصد أو بغير قصد، إلى إحساس كل قبيلة

1 البيان والتبيين 3: 217.

2 انظر كتابنا: الشعراء الصعاليك في العصر الأموي ص: 54.

ص: 58

منها بذاتها، وسعيها للمحافظة على وجودها، كما زاد من تعصبها لنفسها، ومنافستها لغيرها.

والأمثلة الدالة على هذه السياسة بخراسان كثيرة، فعندما قضى عبد الملك بن مروان على مناوئيه من القيسيين والزبيريين، وحد من خطر الخوارج بمساندة القبائل اليمنية له، حاول بسط سلطانه على خراسان، فعين عليها أمية بن عبد الله الأموي، لأن القبائل هناك أهابت به أن يولي قيادتها رجلا قرشيا لا يحسد، ولا يتعصب عليه، لما قاست من سياسة عبد الله بن خازم الغاشمة. ولما نشأ عن قتل بحير بن ورقاء التميمي له من تفكك ومصادمات وسخائم وثارات بين عشائر بني تميم1. ولكنه لم يلبث أن عزله عنها، ووكل إدارتها للحجاج بن يوسف، أمير العراق، فبعث إليها كارها المهلب بن أبي صفرة، فعلت مكانة الأزد وحلفائها علوا بعيدا، وانحطت مكانة قيس وتميم انحطاطا شديدا، مما آذى الحجاج. ومع ذلك فإنه ظل عاجزا عن صرف المهلب عن خراسان2، لأنه كان يعلم مبلغ تقدير عبد الملك له، لما أسدى إليه من فضل لا ينكر بصده الخوارج عن العراق، وتحطيمه لهم بفارس. فلما توفي عبد الملك، وخلفه ابنه الوليد، وكان هواه مع قيس، أطلق يد الحجاج المغلولة، فكان أول ما فعله أن نحى يزيد بن المهلب عن خراسان، وولى عليها قتيبة بن مسلم الباهلي، فقبض على المهالبة، وأشخصهم للحجاج فحبسهم وعذبهم3.

وفي عهد سليمان بن عبد الملك ارتفعت منزلة الأزد وحلفائها، وانخفضت منزلة تميم وقيس، لأنه نقم من الحجاج موافقته الوليد بن عبد الملك على إبعاده عن ولاية العهد، واختياره ابنه عبد العزيز لها. فقرب يزيد بن المهلب، ودفع إليه أصحاب الحجاج وأمره أن ينكل بهم، ففكر قتيبة بن مسلم في خلع سليمان، فلقي مصرعه، وعين سليمان على

1 الطبري 8: 860.

2 الطبري 8: 1032، 1040، وابن الأثير 4: 448، 454.

3 تاريخ اليعقوبي 3: 32، والطبري 8: 1138، وابن الأثير 4:511.

ص: 59

خراسان يزيد بن المهلب1. وفي ولاية يزيد بن عبد الملك تعاظم نفوذ قيس لأنه كان منحازا لها، فأسند ولاية العراق إلى عمر بن هبيرة الفزاري، فاستعمل على خراسان غير قيسي2، فضيقوا على الأزد وأعوانهم.

وفي زمن هشام بن عبد الملك انكسرت شوكة قيس بالعراق وخراسان، إذ عزل هشام عن العراق ابن هبيرة، وولاها خالد بن عبد الله القسري، فبعث إلى خراسان أخاه أسدا، ولم يلبث هشام أن أقصاه عنها، ثم أعاده إليها، فتعصب للأزد، وتشدد على قيس وتميم3. وفي أيام الوليد بن يزيد استردت قيس سلطانها، فقد ولي العراق يوسف بن عمر بن هبيرة، فثبت نصر بن سيار على خراسان4. وما هي إلا أن يطيح يزيد بن الوليد بابن عمه الوليد بن يزيد حتى استرجعت القبائل اليمنية نفوذها، وحتى دبر يزيد لإقصاء نصر بن سيار عن خراسان، فامتنع عليه5. وفي عهد مروان بن محمد استأثرت قيس بالسلطة، إذ كان يزيد بن عمر بن هبيرة على العراق، ونصر بن سيار على خراسان6. فحابى المضرية في مطلع ولايته، وعادى اليمنية.

ويصح أن نضيف إلى السببين السابقين سببا ثالثا، وهو طبيعة العلاقة التي كانت تربط في البصرة بين القبائل المضرية والقيسية، وبين القبائل اليمنية والربعية، ولما كانت العلاقة بينها سيئة متوترة، بسبب تباين أهوائها ومواقفها ومنافعها القبلية والسياسية والاقتصادية، فقد كان من شأنها أن تؤثر تأثيرا قويا في عشائرها وفروعها التي رحلت إلى خراسان. ومعروف أن الشقاق في البصرة بدأ بين بكر وتميم، ثم انضمت عبد القيس إلى بكر. ومع ذلك ظلت القبائل المضرية تكثر القبائل الربعية. وعندما هاجر أزد عمان

1 نقائض جرير والفرزدق 1: 350، وفتوح البلدان ص: 412، وتاريخ اليعقوبي 3: 40، 73، والطبري 8: 1283، وابن الأثير 5:3.

2 الطبري: 1442، 1454، وتاريخ اليعقوبي 3: 56، وفتوح البلدان ص: 416، وابن الأثير 5: 107، 115.

3 الطبري 9: 1477، وفتوح البلدان ص: 417، وابن الأثير 5:129.

4 التنبيه والإشراف ص: 280، والطبري 9: 1766، وابن الأثير 5:269.

5 الطبري 9: 1845، وابن الأثير 5:297.

6 الطبري 9: 1917، وابن الأثير 5:342.

ص: 60

في آخر خلافة معاوية، وأول خلافة يزيد إلى البصرة، لم تبادر تميم إليهم، لأن سيدها الأحنف بين قيس رفض أن يسارع إليهم، ويتحالف معهم، لأنه كان يعتقد أنه إذا أتاهم أصبح قومه أذنابا لهم. فاستقبلهم مالك بن مسمع رئيس بكر، فتعاقدت الأزد وبكر، وأحيت القبيلتان ما كان بينهما من حلف في الجاهلية1. فآذن ذلك بتبدل الموقف بين القوتين المتنافستين في البصرة، فقد قويت بكر بانضمام الأزد إليها، وظلت قوة تميم على حالها.

وحدث أن مات يزيد بن معاوية سنة خمس وستين، وكان على العراق عبيد الله بن زياد، فدعا أهل البصرة إلى مبايعته، حتى ينجلي الأمر، ويختار الناس خليفة لهم، فبايعوه، ثم إنهم تمردوا عليه وخلعوه، فاستجار بمسعود بن عمرو زعيم الأزد، فأجاره ومنعه إلى حين، ثم خرج ابن زياد إلى الشام، واستخلف على البصرة مسعود بن عمرو الأزدي، فرفضته تميم وقيس، وأصرت القبيلتان على أن يتولى أمرهم رجل ترضاه الجماعة، ودخل مسعود دار الإمارة فثارت ثائرة بني تميم، فلما دخل المسجد هاجوا فقتلوه. فاجتمعت الأزد وعليها زياد بن عمرو العتكي وخرج إليها مالك بن مسمع في بكر، واجتمعت تميم إلى الأحنف بن قيس، ومالت قيس إليها، واقتتل الفريقان، وقتل منهم خلق كثير، فرأى الأحنف بن قيس أن يجعلوا بينهم كتاب الله، وأن يحكموا بينهم من يرتضونه جميعا، وأن تدفع تميم دية مسعود إن كان للأزد عليه بينة. فاصطلحوا وودت تميم مسعودا بعشر ديات2.

وهكذا اتسعت شقة الخلاف بين هاتين المجموعتين المتزاحمتين من القبائل بالبصرة، وأصبحت الأزد وبكر وعبد القيس في جانب، وتميم وقيس في جانب آخر، وكان لما شجر بينهما من صدام أثره فيمن انتقل منهم إلى خراسان، إذ اتحدت هنالك قبائل كل مجموعة وتنافست، على نحو ما تكتلت في البصرة وتنابذت. حتى إذا توفي يزيد بن معاوية، واضطربت الأمصار، وبلغت وفاته العرب بخراسان، ثاروا، فاضطر سلم بن زياد إلى إعلانها وتوثيقها، ثم ناشدهم أن يطيعوه حتى يجتمع الناس على خليفة،

1 الطبري 7: 450.

2 أنساب الأشراف 4: 97، ونقائض جرير والفرزدق 1: 111، 2: 740، والطبري 7:461.

ص: 61

ويستقيم له الأمر. فأطاعوه شهرين، ثم نكثوا به، فخرج عن خراسان، وخلف عليها المهلب بن أبي صفرة. فلما كان بسرخس لقيه سليمان بن مرثد البكري، فسأله عمن استخلف؟ فقال له: المهلب بن أبي صفرة، فقال سليمان: ضاقت عليك نزار حتى وليت رجلا من أهل اليمن. فولاه مرو الروذ والفارياب والطالقان والجوزجان، وولى أوس بن ثعلبة البكري هراة. ومضى فلما صار بنيسابور لقيه عبد الله بن خازم السلمي، فقال له من وليت على خراسان؟ فأخبره، فقال له ابن خازم: أما وجدت في مضر رجلا تستعمله، حتى فرقت خراسان بين بكر بن وائل، ومزون عمان. وسأله أن يكتب له عهدا عليها. فأبى سلم. فألح ابن خازم عليه، فأجابه إلى ما سأل. وأقبل ابن خازم على مرو الشاهجان، وعلم المهلب بن أبي صفرة بقدومه إليها. فتركها وأناب عليها رجلا من بني جشم من تميم، فلما وصل ابن خازم إليها، منعه الجشمي من دخولها، فجرت بينهما مناوشة جرح الجشمي فيها، ثم غلب ابن خازم على مرو الشاهجان. وسار إلي سليمان بن مرثد البكري، وهو بمرو الروذ فاحتلها وقتله، ثم اتجه إلى عمرو بن مرثد، البكري، وهو بالطالقان، فاقتحمها وصرعه، ثم رجع إلى مرو الشاهجان. وفر أصحاب عمرو بن مرثد البكري من الطالقان، والتحقوا بأوس بن ثعلبة البكري بهراة، وأسرع إليه البكريون الذين كانوا بمدن خراسان الأخرى، والتفوا حوله، وحرضوه على أن يسير إلى ابن خازم ويطرد مضر من خراسان. فاتهمهم بالتعصب والتقلب، وطلب إليهم أن يكتفوا بهراة إن أبقاهم ابن خازم بها. ولكن بني صهيب لم يقتنعوا بنصيحته. فقد هتفوا أنهم يستحيل عليهم أن يكونوا مع المضريين في بلد واحد، بعد أن قتلوا بني مرثد، وهددوه بالعزل وانتخاب رئيس غيره لهم، إذا هو لم ينفذ رغباتهم، فأذعن لهم. فزحف ابن خازم نحوهم، فخندقوا خندقا دون هراة استعدادا لملاقاته، وقبل أن يهجم عليهم سفر السفراء بينه وبينهم، لأن التميميين أجبروه على مفاوضتهم، فتشدد البكريون، وأصروا على إخراج جميع مضر من خراسان كلها، فهاجمهم، فانهزم البكريون، وقتلوا قتلا ذريعا، ولاذ أوس بن ثعلبة بسجستان، وبه جراحات فمات بها، وعين ابن خازم محمدا على هراة1.

وإنما سقنا هذه الحادثة على طولها لكي نوضح أن النزاع بين بكر بن وائل وبين

1 الطبري 7: 488، وابن الأثير 4:155.

ص: 62

قيس وتميم كان عصبيا سياسيا. فقد كان البكريون يريدون الانفراد بالسلطان، والسيطرة على خراسان، في حين كان ابن خازم والتميميون يبتغون الاستئثار بالحكم من دونهم.

وسقناها لكي نبين أن الخلاف كان إلى هذا التاريخ بين ربيعة ممثلة في بكر، وبين قيس وتميم، الأولى ممثلة في سليم، والثانية في تميم. أما الأزد فلم ينحازوا إلى بكر، ولم يشتركوا في القتال، لأنه لم يكن لهم قوة كبيرة مؤثرة، ولذلك فضل زعيمهم المهلب بن أبي صفرة السلامة، فنزل عن خراسان وعاد إلى البصرة.

وتستقر الأوضاع بخراسان، ولا تشتبك القبائل العربية في معارك عنيفة إلا بعد أربعين عاما. ولكن ميزان القوى اختلف هذه المرة اختلافا كبيرا، فقد تكاثر الأزد بخراسان، بعد ولاية المهلب بن أبي صفرة، وولاية ولديه يزيد والمهلب من بعده، ومالوا بثقلهم إلى بكر، لما كان يجمع بينهم وبينها من تحالف في البصرة، فأصبح الصراع بين الأزد وبكر من جهة، وبين قيس وتميم من جهة ثانية.

ففي سنة ست ومائة كانت وقعة البروقان بين اليمنية والربعية، وبين المضرية، وذلك أن الأزد وبكر ثاروا ببللخ، وتأخروا عن اللحاق بمسلم بن سعيد بن زرعة الكلابي أمير خراسان، وقد قطع النهر على رأس حملة إلى فرغانة، متذرعين في الظاهر بأنه لم يدفع لهم أعطياتهم، ومضمرين في الحقيقة التمرد والعصيان. فوجه إليهم نصر بن سيار، فأجرى عليهم رواتبهم. وأمرهم بالسير إلى أميرهم. فرفضوا، حينئذ دارت معركة حامية بينه وبينهم، انتهت بهزيمتهم هزيمة نكراء1.

وتهدأ الأحوال بخراسان ثانية، ولا تجدد الحرب فيها إلا بعد عشرين عاما، ولم تنحصر أطراف الأزمة في عناصرها التقليدية من اليمن وربيعة ومضر، بل انضاف إليها، واندس بينها طرف ثالث جديد، وهو أبو مسلم الخراساني، الذي استغل تناحر العرب وضعفهم، وعمل في توسيع الخلاف بينهم، واستطاع في النهاية أن يطيح بآخر ولاة بني أمية على خراسان.

ففي سنة ست وعشرين ومائة ثارت الفتنة بمرو بين الأزد وبكر، وبين مضر، وكان

1 الطبري 9: 1472، وابن الأثير 5:127.

ص: 63

من أسبابها أن نصر بن سيار تباطأ في دفع العطاء إلى مقاتلة الأزد وبكر، فهاجوا وتذمروا، فدفع لهم جزءا من أعطياتهم، ونهاهم عن الفوضى، ودعاهم إلى نبذ خلافاتهم، وذكرهم بأنهم أشبه بكتيبة متقدمة تقف على خط المواجهة الأمامي مع العدو، وأن أي شرخ في صفوفهم يفقدهم قوتهم وهيبتهم، ويطمع أعداءهم فيهم، فلم يستبن جديع بن علي الكرماني الرشد، بل أعمته الأحقاد الشخصية، وضللته العصبية القبلية1، فمضى يزاحم نصرا ومضر على الرئاسة. ثم إنه حالف الحارث بن سريج بعد أن عاد من بلاد الترك إلى مرو الشاهجان، وقاتلا نصرا، وسيطرا على المدينة. ففر نصر إلى نيسابور. وعلى الرغم من غاراته العديدة، واستغاثته المتكررة بابن هبيرة، ومروان بن محمد، ومناوراته الإعلامية الكثيرة، فإنه لم يستطع حصر الأزمة، وحل المعضلة. فقد تدهور الموقف تدهورا شديدا، وبعد قتل الكرماني للحارث، واغتيال ابن الحارث له، وانتهاز أبي مسلم للوضع، وسعيه للاستيلاء على المدينة. ومع أن العرب التفتوا إلى خطره الداهم، ووادع بعضهم بعضا، من أجل التصدي له والقضاء عليه، فإنه أوقع في روع ابن الكرماني أن نصرا تآمر على أبيه وقتله، فرجع إلى معاداة نصر ومحاربته. وبذلك تمكن أبو مسلم من احتلال المدينة، وباحتلاله لها انهارت الدولة الأموية، وقامت الدولة العباسية2.

وبجانب الوقائع الحربية التي دارت بين قبائل الجانبين الساعيين إلى الزعامة، والمتسابقين إلى السلطة بخراسان، مظاهر أخرى للعصبية القبلية السياسية، لم يشهر فيها السيف، وهي تتضح في أن كلا منهما كان حينما تسند إليه الولاية يملأ المراكز الكبيرة بالموظفين من إخوانه وأبنائه، وأقربائه، وحلفائه، ويحرم الطرف الثاني المعارض منها، ويظلمه ظلما شديدا، ويعنف به عنفا زائدا.

فعندما ولي المهلب بن أبي صفرة خراسان، ووليها أبناؤه من بعده كانت الوظائف الهامة بأيديهم3. وليس أدل على استبداد المهالبة والأزد بالمناصب والمنافع من قول يزيد بن المهلب للأزد، وقد عين على خراسان بعد مقتل قتيبة بن مسلم، وانتخاب

1 الاشتقاق ص: 503، وجمهرة أنساب العرب ص:381.

2 الطبري 9: 1855، وما بعدها وابن الأثير 5: 307، وما بعدها.

3 الطبري 8: 1047، وابن الأثير 4:511.

ص: 64

الأزد وغيرهم وكيع بن أبى سود التميمى أميرا: يا معشر الأزد،كنتم أذل خمس بخرسان، حتى إن الرجل من الحي الآخر ليشتري الشئ فيتسخركم فتحملونه له، حتى قدم المهلب، وقدمت، فلم ندع موضعا يستخرج منه درهم إلا استعملناكم عليه، وحملناكم على رقاب الناس، حتى صرتم وجوها 1 ولما تقلد أسد بن عبد الله القسرى خراسان صنع صنيع المهالبة، إذ تعصب للأزد تعصبا كبيرا 2.

وفي مقابل ذلك كان القيسيون والتميميون حين يلون الحكم يجردون الأزد وربيعة من الوظائف، ومن أبرزها يروى في هذا الصدد أن سعيد بن عبد العزيز الأموي، عندما استعمل على خراسان، في خلافة يزيد بن عبد الملك، ضيق على الأزد إذ سعى إليه عبيد بن الله بن عبد الحميد الأموي بجهم بن زحر بن قيس الجعفي، وبعده من اليمانية، وقال: إنهم ولوا ليزيد بن المهلب، وعندهم أموال احتجنوها واختانوها، وسماهم له. فأرسل إليهم، فحبسهم في قهندز مرو الشاهجان. فقيل له: إنهم لا يؤدون بالحبس دون البسط عليهم. فأمر بإحضار جهم، ثم دفعه وجماعة من اليمانية إلى الزبير بن نشيط، مولى باهلة ليستأديهم، فعذبهم، فمات جهم في الحبس 3 ويقال إن الجنيد بن عبد الرحمن المري لم يستعمل إلا مضريا على الكور بخراسان 4. ويبالغ الدينورى 5، واليعقوبي 6، في اتهام نصر بن سيار بالعصبية

إذ يقولان: إنه كان متعصبا على اليمانية، مبغضا لهم فكان لا يستعين بأحد منهم، وعادى ربيعة بميلها إلى اليمانية. والصحيح أنه تحامل عليهم في السنوات الأولى من ولايته، ثم عدل عن ذلك 7.

على أن التحالف بين القبائل في كل مجموعة من المجموعتين المتنافستين كان عرضة

1 نقائض جرير والفرزدق 1: 367.

2 الطبري 9: 1500.

3 أنساب الأشراف 5: 162.

4 الطبري 9: 1529.

5 الدينوري ص: 351.

6 تاريخ اليعقوبي 3: 75.

7 الطبري 9: 1664.

ص: 65

للتفسخ في أحيان كثيرة، كما كان التمزق يصيب عشائر القبيلة الواحدة، وكان التسابق إلى السيادة، والتحاسد على المنافع الشخصية. والطمع في الفوائد المادية وراء كل تصدع في صفوفهم، سواء في قبائل الحلف الواحد، أو في عشائر القبيلة الواحدة.

فقد خالفت تميم عبد الله بن خازم السلمي في السنة التي ناصرته فيها على بكر بن وائل، لأنه جفاها، وعين ابنه محمدا على هراة، ووظف بكير بن وشاح التميمي على شرطته، وأمره بصدها إذا هي حاولت اقتحام المدينة، فلما عزمت على دخولها أغراها ابن وضاح بذلك، ودفع لها أموالا طائلة فزادها تصرفه تزمتا وتعنتا، فاحتلت هراة، وقتلت محمد بن عبد الله بن خازم بها1. وخرجت إلى مرو الروذ، فقاتلها ابن خازم لسنتين، فتفرقت جماعات وبقيت جماعة منها بقصر فرتنا بالقرب من المدينة، فحاصرها حصارا شديدا حتى استسلمت له، فقتل كل من وقع بيديه منها2. فناصبته تميم العداء، وانتفضت عليه بنيسابور، وكان يقودها بحير بن ورقاء الصريمي. فاستخلف ابن خازم على مرو الروذ ابن وشاح وسار إلى نيسابور، وبينما كان يقارع بحير بن ورقاء، أرسل إليه عبد الملك بن مروان أن يبايع له، على أن يطعمه خراسان سبع سنين، فاستشاط غضبا، ووبخ حامل الرسالة. فكتب عبد الملك إلى ابن وشاح بولاية خراسان، فقبلها، فضعف موقف ابن خازم ووقر في نفسه أنه عاجز عن مصارعة ابن وشاح، وابن ورقاء معا، فقرر اللحاق بابنه موسى في الترمذ، وكان يحثه إليها قبل مسيره إلى نيسابور. وعندما كان يحاول الفرار أدركه ابن ورقاء فقتله3، فانتحل ابن وشاح قتله، وقيد ابن ورقاء، فكان ذلك سببا في افتراق تميم، إذ تعصبت مقاعس والبطون لابن ورقاء، وانحاز بنو عوف والأبناء لابن وشاح، واصطدم الفريقان، ولم تزل الأحوال مضطربة بخراسان حتى عين عبد الملك عليها أمية بن عبد الله الأموي، فتلطف إلى ابن وشاح، وعرض عليه أن يوليه قائدا لشرطته، فرفض، فأعطى المنصب لابن ورقاء، فاستاء ابن وشاح، وتمرد على أمية، وهو بالغزو، فرجع إلى مرو

1 الطبري 7: 593.

2 الطبري 8: 696.

3 الطبري 8: 834، وتاريخ اليعقوبي 3:18.

ص: 66

الشاهجان، وعفا عنه، ثم صح له أن يحرض الناس للثورة عليه، فحبسه وأعدمه1.

وفي سنة ست وتسعين خالفت أغلبية القبائل قتيبة بن مسلم، وشاركت في قتله، ذلك أنه كان عامل الحجاج على خراسان، فلما توفي الوليد بن عبد الملك، وكان قيسيا لحما ودما، وبويع سليمان بن عبد الملك، وكان يمني الهوى، انتقم سليمان لنفسه من خصومه الذين وافقوا الوليد على إقصائه عن ولاية العهد، فقبض على عمال الحجاج، وساقهم إلى يزيد بن المهلب، وألبه يزيد على قتيبة. وعلم قتيبة بما جرى، وكان غازيا بفرغانة، فخشي أن يعزل ويعذب ويقتل، فشهر بسليمان بن عبد الملك، وبيزيد بن المهلب، وذكر العرب بما حققه لهم، وما أصابوه في عهده من الخير والغنى، ودعا الجيش إلى تأييده ومساعدته، فنفروا جميعا منه، وخافوا مغبة سياسته، فاغتاظ، وخطبهم خطبة طويلة، لام فيها كل القبائل، وأهانها، ونال من شرفها، فانفضت من حوله، وأخذت تدبر لخلعه، ووجد الأزد أن الوقت مناسب للتخلص منه، لأنه كان شديد الوطأة عليهم، ولأنه صفى مكاسبهم التي فازوا بها أيام المهالبة، فاتفقوا مع حلفائهم من ربيعة على خلعه، ثم فاوضوا تميما. لأنها كانت حاقدة بدورها عليه، لأنه قتل نفرا من بني الأهتم، ولأنه صرف وكيع بن أبي سود عن رئاستها، وولاها رجلا من ضبة. وهكذا التقت كافة القبائل على عزله، وتزعمها وكيع بن أبي سود التميمي، وقتل قتيبة2. وقام وكيع بولاية خراسان، ولم يزل عليها حتى أبعده سليمان بن عبد الملك عنها وأسندها إلى يزيد بن المهلب. وبذلك أسهمت تميم أكبر الإسهام في قتل قتيبة، وهو الذي رفعها بعد أن ذلت في ولاية المهالبة. أما قيس فلم يكن لها ضلع في التآمر عليه، بل إنها وقفت عاجزة عن الأنصار له والدفاع عنه.

وواضح أن القبائل القيسية والتميمية التي كانت مجتمعة في حلف واحد كانت كلمتها تتفرق، وصفوفها تتمزق، كما كانت تلتحم في معارك طاحنة على السلطة،

1 الطبري 8: 1022، وابن الأثير 4:443.

2 نقائض جرير والفرزدق 1: 350، وتاريخ اليعقوبي 3: 40، والطبري 9: 1283، والأغاني "طبعة دار الكتب" 14:293.

ص: 67

وكانت القبيلة الواحدة منها تتصدع وتتوزع شعبا يعادي بعضها بعضا. أما الحلف الذي كان مؤلفا من الأزد وبكر وعبد القيس فلم ينقل المؤرخون أنها اختلفت هذا الاختلاف، ولا أنها اصطدمت هذا الاصطدام. وأكبر الظن أنهم أغفلوا بعض منافراتها وحروبها. وآية ذلك أن أبا الفرج الأصفهاني ذكر أن الأزد وعبد القيس تنابذوا في ولاية المهلب، واقتتلوا قتالا عنيفا، وأن شعراءهم تهاجوا هجاء فاحشا، حتى توسط المهلب بينهم، فتوقف فرسانهم عن الحرب، وكف شعراؤهم عن التهاجي1. ولكن المحقق أن تلك القبائل كان بعضها يحسد بعضا ويسيء إليه. وأن كل قبيلة منها كانت تود أن تكون مستقلة بشئونها الداخلية، محفوظة الحقوق، مرعية الجانب من حلفائها. والأدلة على تباغضها وتصارعها كثيرة، ومنها أن يزيد بن المهلب ولى رجلا من اليحمد الزم بشط جيحون، فلقيه كعب الأشقري الأزدي، فقال له: أنت شيخ الأزد يوليك الزم، ويلي ربيعة الأعمال السنية، وهجاه2. ومنها أن نهار بن توسعة البكري ندد بيزيد بن المهلب حين رآه يصد عن قبيلته ويهملها ويقرعها3. ومنها أن أبا البريد البكري انتقد الأزد وأسدا القسري اليمني عندما أبصرهم يتنكرون لبكر، ويحتازون المراكز والمنافع من دونها4.

وكأنما كانت خراسان بركانا يغلي بالقبائل العربية، فيثور ثم يهدأ، ولا يلبث أن يثور وهكذا. وكان التناحر على النفوذ، والتنافس في الرئاسة، والتزاحم على المنفعة حمم ذلك البركان التي كانت تزيد وتلتهب في بعض الأحيان، فيضيق بها فتتفجر تارة منازعات دامية، وتارة اضطهادات سياسية. ولكن الظاهرة اللافتة للنظر بقوة، هي أن الأزد وبكرا كانوا ضائقين بوضعهم في خراسان أكثر من القبائل الأخرى، لأن الولاة لم يكونوا منهم في الأغلب، بل من قيس. وكان الأزد خاصة قلقين متبرمين، لأنهم كانوا يكونوا منهم في الأغلب، بل من قيس. وكان الأزد خاصة قلقين متبرمين، لأنهم كانوا يشعرون بأنهم غبنوا دورهم وحقهم السياسي، فأثر ذلك في نفوسهم تأثيرا سيئا. وكان البكريون يحسدون المضريين، لأن الخلافة كانت فيهم، فعكر هذا الحسد أمزجتهم،

1 الأغاني "طبعة دار الكتب" 14: 287.

2 الأغاني 14: 294.

3 نقائض جرير والفرزدق 1: 368، والطبري 9: 1313، وابن الأثير 5:25.

4 الطبري 9: 1497.

ص: 68

وجعلهم يحالفون الأزد في البصرة وخراسان، ويشكلون معهم جبهة معارضة للمضريين، لم تكتف بمنافستهم منافسة عملية نزيهة، وإنما دأبت على مناهضتهم مناهضة شديدة حاقدة. والملاحظ أيضا أن بعض ولاة خراسان من أهل اليمن، ولا سيما المهالبة، كانوا دهاة بارعين. فنجحوا في إخفاء أحاسيسهم وغاياتهم السياسية، ونهوا المتطرفين من أبناء قبيلتهم عن إعلان همومهم وأهدافهم، وحاولوا كبح جماح المتهورين منهم، لأنهم كانوا يؤثرون العمل سرا لتحقيق مطالبهم ومآربهم. ولكن بعض الشعراء الأزد كانوا متسرعين متعجلين1، فكانوا لذلك لا يكتمون عواطفهم القبلية ولا يتسترون على مطامعهم السياسية2.

وعلى الرغم من انقسام العرب بخراسان، وتصارعهم بها على السلطان، فإنهم كانوا يتحدون اتحادا مؤقتا، يدعوهم إليه المصير الواحد، والضرورة العامة، والمنفعة العاجلة، مثلما كانوا يختلفون ويقتتلون بسبب تصادم مصالحهم القبلية والسياسية تصادما حادا. ولكنهم على كل حال لم يكونوا يحسون فكرة المواطنة وأنهم غرباء في أرض نائية عن وطنهم الأصلي، يحيط بها الأعداء إلا إحساسا ضعيفا متقطعا، كما أنه كان لبعض قبائلهم أهداف سياسية من مواقفها التي كانت تزعم أن شعورها بمصلحة الأمة، وطاعة الخليفة هو الذي حفزها على اتخاذها.

ومن أشهر المواقف التي تنم عن اعتقادهم بالوحدة وأهميتها مبادرة كافة زعماء القبائل إلى مطالبة عبد الملك بن مروان أن يتدارك الوضع المتفجر بخراسان، ويرسل إليهم واليا قرشيا محايدا، حين اشتد النزاع بين فرعي تميم على الزعامة، بعد مقتل عبد الله بن خازم، لأنهم قدروا خطورة استمرارهم في التنازع، وما قد ينجم عنه من انهيار نفوذهم كله بخراسان. فاستجاب عبد الملك لهم، وبعث إليهم أمية بن عبد الله الأموي3.

ولقبيلة بكر موقفان آخران مماثلان بادأت بهما حين تدهور الأمر بخراسان في فترتين

1 الأغاني 13: 91، 14: 288، 290، 15:384.

2 البيان والتبيين 3: 252، والأغاني "طبعة دار الكتب" 14:294.

3 الطبري 8: 860.

ص: 69

متباعدتين، وادعت أن إيمانها بوحدة العرب، ومستقبل وجودهم هو الذي أداها إلى اتخاذها، وهما موقفان يستحقان الذكر والنظر، لأننا نعتقد بأنها تصرفت فيها تصرفا قبليا سياسيا، موهته بما أذاعته في كل منهما من أن حرصها على مصلحة الجماعة ومصيرها، وموالاتها للخلافة، وتأييدها لها، وحفاظها عليها هي التي دفعتها إليها دفعا قويا.

أما الموقف الأول فعمدت إليه عندما صالح عاصم بن عبد الله الهلالي الحارث بن سريج التميمي بمرو الروذ، على أن يسألا هشام بن عبد الملك العمل بالكتاب والسنة، فإن أبى اجتمعا عليه، ووافقهما أكثر رؤساء القبائل، وختموا الكتاب الذي بعثاه إلى هشام. فقد رفض يحيى بن الحضين، سيد بكر التوقيع على الكتاب، وأشاع أن الصلح الذي تم بين عاصم والحارث لا يصون عزة الأمة وكرامتها، ولا يحفظ للخلافة حقها وحرمتها1. ومع أن موقفه نقل إلى الخليفة، فحظي به عنده، وزاد في عطائه، وفرض لأهل بيته، وبلغ الدرجة الرفيعة2. وأصبح بعده أثيرا عند بني أمية3، فإننا نظن أنه اتخذه كيدا للمضرية من قيس وتميم، وإيقاعه بهم عند هشام.

وأما الموقف الثاني فسارعت إلى إعلانه بعد اغتيال جديع الكرماني، وتمادى ابنه علي في معاداة نصر بن سيار، واحتدم الخلاف بين القبائل العربية، واستفادة أبي مسلم الخراساني من تفككها. فقد انسحب يحيى بن نعيم البكري، أضخم خلفاء الأزد من صفوفهم، وعطل تحالفه معهم4، ونادى بالموادعة بين القبائل المتنابذة المتقاتلة، حتى تتمكن من ملاقاة أبي مسلم، الذي أخذ يهدد كيانها، ولك أبسط ما نسجله عليه أنه تأخر كثيرا في الانفصال عن الأزد، والاتصال بنصر ومضر، بحيث لم يغن قراره النهائي شيئا.

ومن مظاهر إحساسهم القصير بأنهم أمة واحدة، وأن مصيرهم مشترك أن القبيلة

1 الطبري 9: 1577.

2 الطبري 9: 1662.

3 جمهرة أنساب العرب ص: 317.

4 الطبري 9: 1966.

ص: 70

المنافرة لقبيلة أخرى كانت تساهم في الدفاع عنها إذا حاصرها الأعداء، وأحكموا الطوق عليها، يشهد لذلك أنه عندما أغار الترك على قصر الباهلي من أعمال سمرقند، وضيقوا الخناق على العرب المقيمين فيه، وكان أكثرهم من تميم، اشترك بعض الأزد، وفيهم ثابت قطنة، مع المسيب بن بشر الرياحي التميمي في تحرير تميم، ورد الترك عنهم1.

ومع أن غاراتهم على ما وراء النهر تدل على اتحادهم وتضامنهم، لأن كل قبيلة منهم كانت تنضم إلى القبائل الأخرى الغازية في أكثر الحملات، وكانت تجهد جهدها لتقوم بدورها خير قيام، كما كانت تفوز بنصيب من الأسلاب والغنائم، فإن النصر كان يحسب لقبيلة الوالي القائد، ومن أجل ذلك كان شعراء الأزد وبكر خاصة ينقسمون على الولاة القيسيين انتصاراتهم في غزواتهم. وما اكتسبوا بها من مآثر، كما كانوا إذا مجدوا فتوحات الولاة القيسيين في أثناء حكمهم لا يلبثون أن يتخلوا عن تمجيدهم لها بعد عزلهم أو موتهم.

وأما سكان خراسان الأصليون فكانوا في جملتهم من الجنس الآري، فهم يتصفون بتمام الخلقة، وقوة البنية، وطول القامة، وعرض الصدر، وكثاقة الشعر، وحسن الوجوه2.

وقد أخذ عليهم بخلهم، وربما كان الجاحظ هو الوحيد الذي رماهم به، معتمدا على رواية حملها عن ثمامة بن أشرس، أحد المعتزلة البصريين، وهي أن ديكة مرو الشاهجان تطرد الدجاج عن الحب، وتنزعه من أفواها3 وهذه الرواية إن كانت صحيحة غير موضوعة، فإنها تختص بديكة مرو الشاهجان، لا بأهلها، كما أنه لا يجوز تعميم هذا المأخذ على جميع أهل خراسان. ومن أجل ذلك انبرى بعض القدماء للرد عليه، ذاهبين إلى أن ما رواه كذب ظاهر، لأن ديكة مرو الشاهجان كالديكة في

1 الطبري 9: 1426، وابن الأثير 5:94.

2 ابن الفقيه ص: 316، والمقدسي ص: 294، والسيادة العربية لفان فلوتن ص:44.

3 الحيوان 2: 149، وياقوت 4:508.

ص: 71

جميع الأرض، ولأن أهل خراسان كان فيهم الأجواد المبرزون، والأنجاد المشهورون الذين لا يجارون، ولا يبلغ شأوهم1.

ومعلوم أن خراسان كانت تابعة للدولة الساسانية قبل فتح العرب لها، وأنه كان بكل ولاية من ولاياتها حاكم فارسي يعرف بالمرزبان. أما الشؤون المحلية والمالية فكانت توكل في الأعم إلى الدهاقين من أهل خراسان، وهم أصحاب الضياع والمزارع الكبيرة2، وكان الفرس يكلفون الزراع بدفع ضريبة التاج، وبدفع ضريبة أخرى ترمز إلى عبوديتهم وخضوعهم للغالب3.

ويحاول فان فلوتن جاهدا أن يثبت أن العرب أساءوا إلى أهل خراسان بعد فتحهم لبلادهم، وأنهم ظلموهم ظلما فادحا، سواء بإرهاقهم بالضرائب الباهظة، أو بمعاملتهم شر المعاملة4، وهو يبرهن على ذلك بقليل من المخالفات التي ارتكبها بعض العمال، الذين تشددوا في استخراج الجزية، ومضوا يجمعونها ممن أسلم منهم وذلك بين في شكاية أبي الصيداء إلى عمر بن عبد العزيز حين قدم إليه من خراسان، وتظلم من أن عشرين ألفا من الموالي يغزون مع العرب بلا عطاء ولا رزق، وأن مثلهم قد أسلموا من أهل الذمة تؤخذ منهم الجزية، كما استغاث به من جفاء الأمير وعصبيته5 ويبرهن عليه بثورة الحارث بن سريج التميمي، وباتباع جماعة من الموالي له، ومناصرتهم إياه6. ويحتج له أيضا بما أصاب أهل سمرقند من إجحاف، لأن العرب فرضوا عليهم خراجا عاليا، واستمروا يجبون الجزية من مسلميهم7.

وأهم ما يؤخذ على فان فلوتن في كل ما ذهب إليه، ودلل عليه أنه يفرط في التعميم، ويتوسع في استنتاج الأحكام، بحيث يتخذ من المخالفة اليسيرة وسيلة إلى

1 ابن الفقيه ص: 317، وياقوت 4:508.

2 السيادة العربي ص: 45، 47، والطبري 9: 1036، 1206، 1219، وابن خرداذبة ص:39.

3 مقدمة في تاريخ صدر الإسلام، للدكتور عبد العزيز الدوري ص:71.

4 السيادة العربية ص: 48.

5 الطبري 9: 1352.

6 السيادة العربية ص: 60.

7 المرجع نفسه ص: 49، 52.

ص: 72

التهويل والتضخيم، ويحكم بها لا على فترة بعينها، ولا على عامل بمفرده، بل على كل العهود، وعلى جميع الولاة.

ومما يؤخذ عليه أنه يقيس أحوال خراسان بأحوال سمرقند وبخارى قياسا فاسدا مردودا، لأن سمرقند1 وبخارى تختلفان كل الاختلاف عن خراسان، إذ كانتا مصدر شغب لا ينقطع، وموطن ثورة دائمة. بحيث اضطر معظم عمال خراسان إلى تسيير الحملات المتكررة إليها، لإعادة فتحها، والتمكين للوجود العربي فيهما تمكينا شديدا، وكان من نتائج ذلك أن تجبر العرب على أهلها، وتعسفوا بعض التعسف في جمع الجزية والخراج من سكانها، كما أن من أسلموا من هذين المصرين من أهل الذمة لم يسلموا حبا في الإسلام، بل رغبة في أن تسقط الجزية عنهم. أما الحال بخراسان فكانت مباينة لذلك أوضح المباينة إذ لم يتمرد أهلها، ولم يتظلموا إلا قليلا، بل نادرا، مما كان يستدعي بالضرورة أن يترفق العرب بهم، ويتسامحوا معهم.

وثمة ملاحظتان أخريان جديرتان بالتنويه، الأولى أن العرب لم يفرضوا على أهل خراسان ضرائب جديدة، وإنما اتبعوا النظام الذي كان مطبقا في أثناء حكم الفرس لهم، فضريبة التاج التي كان ملاك الأرض يدفعونها للفرس تساوي الخراج الذي كانوا يدفعوه للعرب، وضريبة الرأس التي كانوا يؤدونها للفرس تقابل الجزية التي كانوا يؤدونها للعرب، فكأن العرب لم يستحدثوا شيئا، ولم يكلفوا أهل خراسان أكثر مما كلفهم به الفرس2. يضاف إلى ذلك أنهم كانوا إذا فتحوا مقاطعة أو مدينة يستبقون ملكها أو دهقانها عليها، ويعهدون إليه بتصريف أمورها، مع تعيين عامل عربي لها3. ويشبه أن يكون هذا التدبير إجراء إداريا مؤقتا، قصد منه إلى تيسير حكم العرب لخراسان، عند فتحهم لها، ولا يرتفع إلى أن يكون حلا سليما تاما دائما لمشكلات أهل خراسان الموروثة. وكان على العرب، بعد استقرارهم بخراسان، وطال عهدهم بها، وعرفوا مشكلات أهلها، أن يصلحوا قوانينها الاقتصادية، وأن يغيروا تقاليدها الاجتماعية، وفقا لمبادئ الإسلام السديدة، وتعاليمه الرشيدة.

1 الطبري 9: 1512.

2 مقدمة في تاريخ صدر الإسلام ص: 71.

3 الطبري 8: 1209، وابن الأثير 4:544.

ص: 73

وأما الملاحظة الثانية فهي أن بعض الولاة إذا كانوا قد تسلطوا على أهل خراسان، فقد كان بعض الخلفاء يستجيبون لشكواهم، ويعملون جادين لرفع الظلم عنهم، وأصدق مثال على ذلك أن عمر بن عبد العزيز حينما تشكى إليه أبو الصيداء، أمر بإعفاء الموالي الذين كانوا يحاربون مع العرب من الجزية، كما خصص لهم أعطيات وأرزاقا، وأمر كذلك بوضع الجزية عمن أسلم، وكتب إلى عامله يعده بإرسال الأموال إليه إن كان خراج خراسان لا يفي بنفقاتها ومصروفاتها1. وقد تكررت هذه المحاولة الإصلاحية في ولاية نصر بن سيار2.

ثم إن الحيف الذي كان نفر من العمال يوقعونه على أهل خراسان، لم يكن مقصورا عليهم، وإنما كان يمتد إلى العرب أنفسهم3. إلى ما كان يلحق الأزد وبكرا من ضيم العمال القيسيين، وما كان يصيب قيسا وتميما من أذى العمال الأزديين.

ومن عجيب الأمر إن فان فلوتن وحده هو الذي بالغ في اتهام العرب بالتعدي على أهل خراسان، مع أن أغلب الباحثين من القدماء والمحدثين4 يجمعون على أنهم تساهلوا لا مع أهل خراسان فحسب، بل أيضا مع جميع أهالي البلدان التي فتحوها، وأن أهل خراسان كانوا بصفة خاصة هادئين مسالمين. وفي ذلك يقول ابن قتيبة:"خراسان أهل الدعوة، وأنصار الله، لما أتى الله بالإسلام كانوا فيه أحسن الأمم رغبة، وأشدهم إليه مسارعة، منا من الله عليهم، أسلموا طوعا، ودخلوا فيه أفواجا، وصالحوا عن بلادهم صلحا، فخف خراجهم، وقلت نوائبهم، ولم يجر عليهم سبي، ولم يسفك فيما بينهم دم، مع قدرتهم على القتال، وكثرة العدد، وشدة البأس"5.

ولقول ابن قتيبة أهمية كبيرة، لا لأنه يدعم ما نرجحه، بل لأنه لم يصدر فيه عن ميل وهوى، ولم يحاول الدفاع به عن الإسلام، ولأنه يتفق مع الوقائع التاريخية، فكل

1 الطبري 9: 1354، 1365.

2 الطبري 9: 1688، وابن الأثير 5:236.

3 الطبري 8: 1029.

4 الحضارة العربية، ص: 53، وتاريخ الحضارة الإسلامية، لبارثولد ص:17.

5 المقدسي ص: 293، وياقوت 2:411.

ص: 74

من يستقرئ تاريخ الحكم العربي لخراسان في العصر الأموي يستخلص ما قرره ابن قتيبة، فقد كان أهل خراسان، وادعين طائعين لولاتهم، فلم يثوروا عليهم، ولم يثبوا بهم، كما أن الولاة كانوا بدورهم يجنحون إلى سياسة هينة لينة، لا استبداد فيها ولا استعباد ولا اضطهاد.

ولعل أحدا من الدارسين لم يحكم حكما عادلا على العلاقة بين العرب وسكان خراسان مثل فلهاوزن. وهو حكم لم يتعجل فيه، ولم يطلقه مستندا إلى بضعة من الأخبار اختطفها اختطافا، مثل فان فلوتن، وإنما أصدره بعد أن توفر على دراسة تاريخ العرب في العصر الأموي زمنا، وعكف على المصادر والأصول حينا، فجاء حكمه لذلك دقيقا منصفا. وهو يقول:

"لم يكن العرب والأعاجم منفصلين في الحياة الظاهرة. وقد بقي في مدن الجيوش العربية مثل نيسابور، وأبيورد، وسرخس، ونسا، ومرو الروذ، وهراة سكانها الأصليون، أما القلاع والحصون فاحتلها الفاتحون. وأيضا لم يظل العرب متجمعين في نقط قليلة خاصة لهم، وهم لم يكونوا يعيشون فقط في المدن التي كانوا قد اختاروها لتكون بمثابة مستعمرات حربية، بل كانت لهم أملاك وضياع، وأهل في القرى، ومنهم من كانوا يقطنون هناك خصوصا في واحة مرو الشاهجان. وكان للعرب بطانة وموال من الأعاجم، كما أنهم تزوجوا نساء أعجميات. وقد تأقلم العرب في وطنهم الجديد، وكانوا يشعرون أنه لا فرق بيهم وبين أبناء البلاد في الوطن المشترك بينهم، فكانوا يحسون أنهم خراسانيون، وكانوا يلبسون السراويل، كما يلبسها أهل خراسان، وكانوا يشربون النبيذ، ويحتفلون بعيد النيروز والمهرجان، وأخذ أشراف العرب يظهرون بمظهر المرازبة وأسلوبهم في الحياة، وكان الاشتراك في الحياة العلمية مما دعا إلى التفاهم بين العرب والأعاجم، حتى كانت الفارسية في الكوفة والبصرة لغة يتكلمها الناس في السوق، كما يتكلمون العربية على الأقل.

كذلك لم يقف الأعاجم من جانبهم إزاء العرب في خراسان كتلة واحدة، ولا هم وقفوا من العرب موقف العداء أو النفور، ولم يكن تأثر الأعاجم بعملية المزج بين العنصرين أقل من تأثر العرب بها، وخصوصا أن الفتح لم يغير أحوال المغلوبين، وهو لم

ص: 75

يزدها سوءا. وقد أفلح العرب في حماية البلاد من الخارج من غزو الترك، أحسن مما أفلح في ذلك ملوك الساسانيين. ولم يتدخل العرب كثيرا في الأمور الداخلية، بل تركوا إدارة البلاد في أيدي المرازبة والدهاقنة، وأيضا ظلت السلطات المحلية السابقة في المدن العسكرية العربية، وفي حواضر الدولة باقية إلى جانب السلطات العربية. وكان للسلطات المحلية جباية الخراج بنوع خاص، وكانت هي المسؤولة أمام الفاتحين عن دخوله بيت المال على المقدار الصحيح، المتفق عليه، أما سواد الشعب البائس الذي كان عليه أن يدفع فلاشك أنه لم يكن يدفع من الخراج في عهد الساسانيين أقل مما كان يدفع في عهد العرب. هذا إلى أن العرب لم يتدخلوا في المسائل الدينية للأعاجم، فقد كان الأساس في المعاهدات التي يفرض فيها دفع إتاوات أن يبقى أهل البلاد على دينهم، بل كان للأعاجم أن يبقوا على دينهم حتى في المدن التي كان يسكنها العرب"1.

ولكننا لا ننكر أن العرب فرقوا بين أنفسهم وبين أهل خراسان، إذ كانت السلطة بأيديهم، وكانت المناصب الأساسية لهم. وهذه السياسة على ما فيها من مجافاة لتعاليم الإسلام، ومنافاة لمبدأ العدل والمساواة بين الناس، الذي نادى به الإسلام، فإنها تبدو طبيعية، لأن الفاتح الغالب له السيادة والنفوذ، وله أرفع الوظائف، وهو دائما لا يستعين إلا بأبناء جلدته، وإلا بمن يثق فيهم، ويطمئن إليهم من أهل البلاد المفتوحة. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإن تلك السياسة العربية تبدو طبيعية مع ظروف العرب السياسية والفكرية في الفترة الأموية2. على أن أهل خراسان كانت لهم فرقة خاصة في الجيش العربي، كان لها في قادتها، وكانت تشترك مع العرب في غزوها وراء النهر، ومجاهدة الترك. ومن أشهر قادتها حريث بن قتبة3 وأخوه ثابت4، وحيان النبطي5، وابنه مقاتل6.

1 تاريخ الدولة العربية ص: 468- 469.

2 الجذور التاريخية للشعوبية، للدكتور عبد العزيز الدوري ص:160.

3 الطبري 8: 1027، 1082، 1150.

4 الطبري 8: 1023، 1081، 1150.

5 الطبري 8: 1204، 1203، 9: 1300، 1582.

6 الطبري 7: 65، 189، 9: 1286، 1330، 1998.

ص: 76

وأخطر ما يسجل على العرب أنهم لم يعملوا على تحسين نظام الضرائب، ولم يهدموا الفوارق الطبقية بين الدهاقين وجماهير الفلاحين والحرفيين. ويجب أن لا يحتج لهم بأنهم لم يبتدعوا ضرائب أخرى، وبأنهم لم يزيدوا قيمة الضرائب التي فرضوها على امتداد وجودهم بخراسان، ولا بأنهم لم يتدخلوا في الأحوال الاجتماعية لأهل خراسان، لأن الخطأ لا يسوغ بمثله، بل يصحح بإلغائه، وبإيجاد نظام سليم بديل منه. ولو أصلح العرب النظم المالية، وخففوا الضرائب على الزراع والصناع، وساووا بين الطبقات، لما أسرع بعض الخراسانيين إلى الانضمام إلى دعاة العباسيين، ولما تكتموا على أخبارهم وتجمعاتهم وتحركاتهم، ولما قاتلوا بني أمية معهم، ولما أدالوا منهم لبني العباس.

وعسى أن يعطي ما قدما صورة واضحة بعض الوضوح عن خراسان وأقاليمها ومدنها، وعن فتح العرب لها، وولاتهم عليها، وسياستهم الداخلية، وغزواتهم الخارجية، وعن عدد العرب بها، ومنازلهم فيها، ووسائل رزقهم وتنظيمهم السياسي والعسكري، وما نشب بينهم من خلافات وتكتلات ومصادمات، وعن صلتهم بالأعاجم، ومعاملتهم لهم.

ص: 77