المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌خاتمة: كان من الطبيعي أن أبدأ الكتاب بالحديث عن بيئة خراسان - الشعر في خراسان من الفتح إلى نهاية العصر الأموي

[حسين عطوان]

الفصل: ‌ ‌خاتمة: كان من الطبيعي أن أبدأ الكتاب بالحديث عن بيئة خراسان

‌خاتمة:

كان من الطبيعي أن أبدأ الكتاب بالحديث عن بيئة خراسان الجغرافية، لقلة معرفتنا بها، وغموض صورتها عندنا، وحاجتنا إلى دليل يكشف لنا عن مواقع الأحداث وأماكنها. وكان من الطبيعي أن أعرض لوجود العرب بخراسان منذ الفتح إلى نهاية العصر الأموي عرضا تاريخيا، أقف فيه عند فتحهم لها، وولاتهم عليها، وسياستهم الداخلية والحربية بها، وانتقالهم من البصرة والكوفة إليها، واستيطانهم لها، حتى أتبين تاريخ هجراتهم وقبائلهم وأحجامها وتحزبها، وما ثار من خلافات ومصادمات بينها، كان مبعثها غلبة الثقافة الجاهلية على نفوسها، وتسابقها إلى السلطان والحكم، وحتى أتبين طبيعة حياتها المعاشية، وحقيقة تنظيمها السياسي والعسكري، وعلاقاتها بأهل البلاد الأصليين، فجردت الفصل الأول لها.

وقد وصفت بيئة خراسان ومدنها وقراها وأنهارها وطبيعة الحياة فيها. ووقفت عند ولاة خراسان منذ الفتح العربي إلى نهاية العصر الأموي، وأبنت عن عهد كل وال منهم، وعن سياسته الداخلية والخارجية. وذكرت كل ما عثرت عليه من الروايات التي تتعلق بهجرة القبائل العربية إلى خراسان، وقدرت أن مجموع العرب من المقاتلة والعيالات يمكن أن يكون قد بلغ في بداية القرن الثاني نصف مليون نفس. وتحدثت عن أماكن إقامة المهاجرين، وأسباب رزقهم، واستخلصت أن قلة قليلة منهم سكنت بداخل المدن المفتوحة، وأن الكثرة الكاثرة أقامت بمعسكرات على مشارف المدن وفي الثغور. واستنتجت أن العطاء الذي فرضه الولاة للجنود وأزواجهم وبعض

ص: 310

أولادهم كان عماد معاشهم، إلا جماعات من المستوطنين امتلكت الضياع، واحترفت الزراعة. وعرضت لتنظيم العرب الاجتماعي والعسكري بخراسان، واستقام لي أنهم كانوا منظمين على أساس الأخماس، كما كان الشأن بالبصرة، فإن أكثر النازحين كانوا منها. وتكلمت على انقسام العرب بخراسان إلى مجموعتين هما: مجموعة الأزد وبكر وعبد القيس، ومجموعة تميم وقيس. ورجح عندي أن التحزب في جوهره يرجع إلى طغيان العصبية القبلية، واحتدام المنافسة السياسية، وأن الغاية منه كانت التسابق إلى المناصب الإدارية، والطمع في النفوذ والسلطان، والتصارع على المنافع المادية. وألممت بعلاقة العرب بالسكان المحليين، وصح عندي أنها كانت علاقة مودة وامتزاج، وإن استأثر العرب الفاتحون بمقاليد الحكم، وعجزوا عن إحداث إصلاحات في نظام الضرائب الذي كان مطبقا في العهد الفارسي، وقصروا عن إعادة بناء التركيب الاجتماعي الطبقي الموروث.

فلما فرغت من الإلمام بهذه المسائل الهامة التي كان لابد من بسطها، لكي أستظهر حياة العرب بخراسان من الناحية التاريخية والسياسية التي تتصل اتصالا وثيقا بحياة الشعر، بل التي تشرح الظروف والأجواء القبلية والحزبية والسياسية التي قيل فيها وعبر عنها، انتقلت إلى استقصاء موضوعات الشعر وخصائصه، فأفردت الفصل الثاني لها، ووجدت أن الشعراء استنفذوا أكثر ما نظموه في تصوير الأوضاع الداخلية، تصويرا يكشف عن العلاقات القبلية المتناقضة، والاتجاهات الحزبية المتعارضة، وما قامت عليه من التنافس الشديد في المراكز السياسية، والفوائد الاقتصادية. واستفرغوا شطرا كبيرا منه في تسجيل الغزوات الخارجية، تسجيلا اتضحت فيه النزعات القبلية والحزبية اتضاحا بينا، إذ ضخم شعراء الأزد وبكر وعبد القيس أعمال الولاة اليمنيين تضخيما ظاهرا، ليضاهوا بها أعمال الولاة القيسيين. ولم يتطرقوا للموضوعات التقليدية من مديح وهجاء وفخر ورثاء إلا قليلا، فإن ما نظموه فيها لا يساوي نصف ما نظموه في الموضوعين السابقين. وأهم ما يستخلص من أشعارهم فيها أن شعراء الأزد وبكر وعبد القيس تعصبوا في مدائحهم ومراثيهم للولاة اليمنيين، أحياء وأمواتا، وأنهم هاجموا في أهاجيهم الولاة القيسيين. ويستشف منها كذلك أن شعراء تميم وقيس نهضوا بالفخر نهضة رائعة فصلته عن

ص: 311

جذوره القبلية الجاهلية، ووصلته بحاضرهم ووجودهم بخراسان، إذ تمدحوا فيه بمواقف قبائلهم العملية من مصير العرب عامة، وبدفاعهم المر عن كيانهم ومستقبلهم. ولما كانت أشعارهم في جملتها وليدة الأحداث الطارئة، والغزوات المفاجئة، فقد غلبت المقطوعات عليها، وقلت المطولات فيها، ونشأ عن ذلك أن أهدروا أكثر التقاليد الفنية المرعية عند الشعراء الرسميين، كالمقدمة، ووصف الناقة والصحراء، وتصوير مناظر الصيد، سوى قصائد قليلة احتفظوا فيها بالمقدمة الغزلية والمقدمة الطللية، ولكنهم تحولوا بالمقدمة الأولى إلى ما يشبه مقدمة الفروسية والبطولة، وبالمقدمة الثانية إلى ما يشبه مقدمة الحنين إلى الوطن والأهل بالبصرة.

وخصصت الفصل الثالث لشعراء القبائل العربية بخراسان فترجمت فيه لستة من مشاهيرهم وأعلامهم وهم ثابت قطنة، وكعب الأشقري وهما أزديان كانا متحزبين للأزد تحزبا حادا، ونهار بن توسعة البكري، وكان بدوره متعصبا لبكر تعصبا جامحا، والمغيرة بن حبناء وحاجب بن ذبيان، وهما تميميان، كان أولهما أكثر شعراء القبائل اعتدالا واتزانا وتجردا من العصبية، وكان ثانيهما مترددا متحزبا، وزياد الأعجم، وهو وإن بدا أنه كان متشبثا بولائه للعبديين، حريصا على الذب عنهم، فإنه جعل غايته من شعره الاتجار به، كما كان قلقا هجاء خبيثا، وربما كان هدفه من لجاجته في هجاء الأمراء والشعراء العرب السخرية منهم، والإذلال لهم.

وكان التخطيط النظري الأولي يقتضي أن أترجم لشاعر من قيس، غير أنني لم أظفر بشاعر قيسي كبير، له شعر كثير، ومصدر ذلك أن قيسا لم تكن تقارب في ضخامتها سائر القبائل، ومما يقطع بذلك أنها لم تقو على منع عبد الله بن خازم السلمي من اغتيال بني تميم له، وأنها لم تتمكن من المحافظة على حياة قتيبة بن مسلم الباهلي، حين تآمرت بقية القبائل عليه، كما أن شعراءها الكبار لم يهاجروا إلى خراسان، ولذلك كان أكثر شعرائها هناك مقلين، ليس لكل منهم سوى مقطوعة أو مقطوعتين، أو قصيدة طويلة.

وقد حرصت على أن أجمع في تراجم أولئك الشعراء كل أخبارهم، وأن أتتبع جميع أشعارهم، حتى أتبين شخصياتهم تبينا صحيحا، وحتى أستظهر استظهارا

ص: 312

واضحا، وقد رأيت أن شعراء الأزد وبكر وعبد القيس كانوا متعصبين لقبائلهم تعصبا شديدا، وإن تحزب شعراء الأزد لقبيلتهم تحزبا جامحا، استشعروا فيه دورها الإسلامي المهضوم، ومكانها الضائع العظيم، وصرحوا فيه برغبتها في السلطان تصريحا قويا. وبالمثل تحيز حاجب بن ذبيان لتميم، واعتد بها، ولكن المغيرة بن حبناء كان أضعف منه تحيزا لها، وأكثر تحررا من العصبية القبلية، بل ربما كان أشد شعراء القبائل وعيا ونضوجا، وأعمقهم إيمانا بفكرة الأمة والمصلحة العامة.

ص: 313