الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولاة خراسان:
حمل القدماء إلينا ثلاث روايات عن فتح العرب لخراسان، أما الرواية الأولى فتفيد أنه كان سنة ثماني عشرة للهجرة1. وهي رواية ضعيفة مرفوضة، لأن العرب لم يقضوا على فلول الفرس، ولم يملكوا بلدهم إلا سنة إحدى وعشرين في موقعة نهاوند2، التي سموها "فتح الفتوح"، لأنه لم يكن للفرس بعدها اجتماع. وأما الرواية الثانية فتدل أنه حدث سنة اثنتين وعشرين وهي رواية صحيحة مقبولة، لأن العرب انطلقوا من فارس إلى الأقاليم المجاورة لها التي تمهد السبيل لاحتلال خراسان وفتحها، فاجتاحوا الري4، وقومس5 وطبرستان6، وجرجان7، وهمذان8، وأصبهان9، سنة اثنتين وعشرين، ثم اقتحموا خراسان من جهة الطبسين في السنة نفسها، وغلبوا
1 تاريخ الرسل والملوك للطبري 5: 2680، وسنشير إليه بالطبري، والكامل في التاريخ، لابن الأثير 3: 33، وسنشير إليه بابن الأثر.
2 الطبري: 5: 2596، وابن الأثير 3:5.
3 الطبري: 5: 2682، وابن الأثير 3:33.
4 الطبري 5: 2653، وابن الأثير 3:34.
5 الطبري 5: 2656، وابن الأثير 3:25.
6 الطبري 5: 2659، وابن الأثير 3:25.
7 الطبري 5: 2657، وابن الأثير 3:25.
8 الطبري 5: 2635، وابن الأثير 3:17.
9 الطبري 5: 2637، وابن الأثير 3:18.
على أكثر نواحيها. وأما الرواية الثالثة فتنبئ بأنه وقع سنة إحدى وثلاثين1، وهي تكملة للرواية الثانية، لأن أهل خراسان نكثوا بعد وفاة عمر بن الخطاب، وثاروا على عمالهم، شأنهم في ذلك شأن أهل فارس2، وكرمان3، وسجستان4، فندب عثمان بن عفان، عبد الله بن عامر، أمير البصرة لقمع ثورتهم، واسترداد بلادهم، فتوجه إليها واستعادها من أدناها إلى أقصاها في سنتين.
وقد ظلت السيادة العربية بخراسان قلعة مزعزعة منذ أن استكمل ابن عامر استرجاعها حتى انتهى الصراع بين علي ومعاوية على الحكم، وتولى معاوية الخلافة5، فأسند لابن عامر ولاية البصرة، وجعله مسئولا عن إدارة خراسان، فاستعمل عليها قيس بن الهيثم السلمي6، فكان بها حتى سنة ثلاث وأربعين، ثم عزله ابن عامر عنها، لتأخره في إرسال خراجها، وولاها عبد الله بن خازم السلمي، فوليها سنة7. ثم اعفى ماوية ابن عامر من إمارة البصرة، لعجزه عن ضبطها، ووكل شئون خراسان إلى عبد الله بن أبي شيخ، أو إلى طفيل بن عوف اليشكريين8، وفي سنة خمس وأربعين عين معاوية على البصرة زياد بن أبي سفيان، فجعل خراسان أرباعا، واستعمل على مرو الشاهجان أمير بن أحمر اليشكري، وعلى نيسابور خليد بن عبد الله الحنفي، وعلى مرو الروذ، والفارياب، والطالقان قيس بن الهيثم السلمي، وعلى هراة. وباغيس، وبوشنج نافع بن خالد الطاحي الأزدي9.
1 الأخبار الطوال لأبي حنيفة الدينوري ص: 139، وسنشير إليه بالدينوري، وتاريخ اليعقوبي 2:157.
وفتوح البلدان للبلاذري ص: 394، والطبري 5: 2884، وابن الأثير 3:123.
2 ابن الأثير 3: 121.
3 ابن الأثير 3: 127.
4 ابن الأثير 3: 128.
5 الطبري 5: 2906، وابن الأثير 3: 119، وتاريخ اليعقوبي 2:157.
6 الطبري 7: 17، وابن الأثير 3: 416، وفتوح البلدان ص:399.
7 7: 65، وابن الأثير 3: 417، وفتوح البلدان ص:400.
8 الطبري 7: 67، وابن الأثير 3:440.
9 الطبري 7: 79، وابن الأثير 3: 451، وفتوح البلدان ص:400.
وفي سنة خمسين ولي الحكم بن عمرو الغفاري خراسان لزياد، فغزا طخارستان، وغنم غنائم كثيرة1، ثم إنه توفي، واستخلف قبل وفاته أنس بن أبي أناس الكناني، فصرفه زياد، وكتب إلى خليد بن عبد الله الحنفي بالولاية، وبعث الربيع بن زياد الحارث2 في خمسين ألفا من البصرة والكوفة بعيالاتهم، فسكنوا خراسان. وفتح أيضا قوهستان عنوة3. وقبل أن يموت الربيع أوصى بالولاية لابنه عبد الله، فعاجله الأجل، ومات بعد أبيه بشهرين، فقام مقامه خليد بن عبد الله الحنفي، فأقره زياد4.
وفي سنة أربع وخمسين ولى معاوية على خراسان عبيد الله بن زياد، فقطع نهر جيحون إلى بخارى، وفتح راميتن، ونسف، وبيكند، وكلها من مدن بخارى، فأقام بخراسان سنتين5، حتى إذا ما توفي والده اختاره معاوية واليا للبصرة، فاستعمل على خراسان أسلم بن زرعة الكلابي، فلم يغز، ولم يفتح6. ولم يلبث معاوية أن فصل خراسان عن البصرة، وإدارة عبيد الله بن زياد، وبعث إليها سعيد بن عثمان بن عفان، فعبر النهر إلى سمرقند، فخرج إليه الصغد فصالحوه ثم سار إلى الترمذ، ففتحها صلحا7. ثم عزله معاوية منها سنة ثمان وخمسين لأنه خاف أن يخلعه ويطالب بالخلافة8. وولى عليها بعد سنة عبد الرحمن بن زياد، فأخذ أسلم بن زرعة الكلابي، وحبسه، لأنه اتهمه بالخيانة، واستصفى منه ثلاثمائة ألف درهم، وكان عبد الرحمن ضعيفا فلم يغز غزوة واحدة، وبقي بخراسان سنتين9.
1 الطبري 7: 81، وابن الأثير 3: 452، وفتوح البلدان ص:400.
2 انظر ترجمته في طبقات خليفة بن خياط ص: 479، والتاريخ الكبير 2: 1: 268، والمعارف ص: 441، والجرح والتعديل 1: 2: 461، والاستيعاب ص: 488، وأسد الغابة 2: 164، والإصابة 1: 504، وتهذيب التهذيب 3: 243، وتقريب التهذيب 1:244.
3 الطبري 7: 81، 155، وابن الأثير 3: 489، وفتوح البلدان ص:401.
4 الطبري 7: 161، وابن الأثير 3:493.
5 الطبري 7: 169، وابن الأثير 3: 499، وانظر فتوح البلدان ص: 401، وتاريخ اليعقوبي 2:225.
6 الطبري 7: 172، وابن الأثير 3:502.
7 تاريخ اليعقوبي 2: 225 والطبري 7: 177، وابن الأثير 3:512.
8 أنساب الأشراف 5: 117، وفتوح البلدان ص:403.
9 تاريخ اليعقوبي 2: 225، وفتوح البلدان ص: 403، والطبري 7: 189، وابن الأثير 3:521.
وفي سنة إحدى وستين استعمل يزيد بن معاوية على خراسان سلم بن زياد، فظل عليها خمسة سنوات، أحسن فيها السيرة، وعدل بين الناس، وغزا ما وراء النهر، وافتتح مدينة مما يلي خارزم، عجز من سبقه من العمال عن فتحها، وأغار على سمرقند، ووجه جيشا إلى خجندة فانهزم1.
وحين بلغ الناس بخراسان موت معاوية بن يزيد، اضطربوا، ونابذوا سلما وخلعوه، فتركهم، واستخلف على مرو الشهجان المهلب بن أبي صفرة، وعلى مرو والفارياب والجوزجان سليمان بن مرشد البكري، وعلى هراة أوس ابن ثعلبة البكري2.
ثم غلب عبد الله بن خازم على خراسان ما يزيد على سبع سنوات، حارب في أولاها بكر بن وائل، وقتل زعماءها، وأفنى خلقا كثيرا منها بمساعدة بني تميم. وسرعان ما تنكر لبني تميم، ومنعهم من الاستقرار بهراة، فخالفوه وقتلوا ابنه محمدا بهراة، وقارعوه بمرو الشاهجان ومرو الروذ ونيسابور3. ثم قتله بحير بن ورقاء التميمي. وكان عبد الله بن مروان قد كتب إلى بكير بن وشاح التميمي أن يبايع له، ووعده ومناه، حين رفض ابن خازم الانصياع له، فحبس بحيرا، وادعى أنه هو الذي قتل ابن خازم، وظل مسيطرا على خراسان عاما وبعض عام. فانقسم بنو تميم على أنفسهم، فخشي العرب أن يستطير الشر بينهم، ويقهرهم عدوهم، فسألوا عبد الله أن يولي عليهم عاملا قرشيا لا ينفس عليه أحد. فأرسل إليهم أمية بن عبد الله الأموي فقدم إلى خراسان ولم يعرض لبكير بن وشاح بسوء، وبينما كان أمية مشغولا بغزو بخارى سنة سبع وسبعين ثار عليه بكير بمرو الشاهجان، فخف أمية إليها، وحاصره، فاصطلحا، ولكن بكيرا مضى يؤلب الناس للثورة على أمية، ولم يزل أمية متغافلا عنه، حتى إذا أثبت له أنه يحرض الناس عليه سجنه، وأمر بقتله، فقتله بحير بن ورقاء بسيفه4.
1 الطبري 7: 399، 405، وابن الأثير 4: 96، وياقوت 2:404.
2 تاريخ اليعقوبي 2: 239، وفتوح البلدان ص: 403، والطبري 7: 489، وابن الأثير 4:155.
3 الطبري 7: 593، وابن الأثير 4:208.
4 تاريخ اليعقوبي 3: 18، وفتوح البلدان ص: 405، والطبري 8: 831، وابن الأثير 4:345.
وفي سنة ثمان وسبعين أقصى عبد الملك بن مروان عن خراسان وسجستان أمية بن عبد الله، وضمهما إلى الحجاج بن يوسف، عامل العراق، فعين على خراسان المهلب بن أبي صفرة، فسيرة المهلب ابنه حبيبا إليها، ثم قدمها، واستمر واليا عليها إلى أن وافته المنية سنة اثنتين وثمانين. وهو قافل من كس إلى مرو الشاهجان. وأغار في ولايته على كس والختل وبخارى1. واستخلف قبل مماته ابنه يزيد ففتح قلعة باذغيس، ثم نحاه الحجاج عن الإمارة سنة خمس وثمانين2. وعهد بها إلى أخيه المفضل، فكان بخراسان تسعة أشهر، غزا فيها باذغيس وشومان وآخرون، فظفر وغنم، وقتل موسى بن عبد الله بن خازم بالترمذ3. ثم أقصى الحجاج جميع المهالبة عن خراسان، وسجنهم، وأهانهم، لأنهم كانوا خصومه السياسيين، الذين ينازعونه على السلطة، والذين يتعصبون للأزد، ويضيقون على قيس4. واستعمل عليها قتيبة بن مسلم الباهلي، فبقي بها حتى سنة ست وتسعين وفي السنة التي وصل فيها قتيبة إلى خراسان سار إلى الصغانيان فصالحه ملكها، ثم مضى إلى آخرون وشومان من طخارستان فصالحه ملكها، واستخلف على الجند أخاه صالحا، ورجع إلى مرو الشاهجان، ففتح صالح كاشان وأورشت وأخشيكت، وكلها من فرغانة5. وفي السنة الثانية صالح قتيبة ملك باذغيس6 واستعد للإغارة على بيكند، وهي أدنى مدائن بخارى إلى نهر جيحون، ولم يكد يتقدم إليها حتى استغاث أهلها بالصغد، واستمدوا من حولهم، وأخذوا الطرق عليه، فأوشك أن ينهزم، غير أنه ظفر بهم في النهاية، ودخل المدينة بالقوة وقتل من بها من الجند، وأصاب من الغنائم والسلاح وآنية الذهب والفضة ما لا يحصى كثرة7. وفي السنة التالية توجه إلى تونكث من
1 تاريخ اليعقوبي 3: 22، وفتوح البلدان ص: 407، والدينوري ص: 280، والطبري 8: 1032، 1040، وابن الأثير 4: 488، 453.
2 الطبري 8: 1138، وابن الأثير 4:502.
3 الطبري 8: 1144، وابن الأثير 4: 505، وفتوح البلدان ص:407.
4 الطبري 8: 1138، وابن الأثير 4:511.
5 الطبري 8: 1180، وابن الأثير 4: 523، وتاريخ اليعقوبي 3: 31، وفتوح البلدان ص:408.
6 الطبري 8: 1184، وابن الأثير 4:527.
7 فتوح البلدان ص: 410، والطبري 8: 1185، وابن الأثير 4:258.
قرى الشاش فصالحه أهلها، كما صالحه أهل رامدين، إلى مرو الشاهجان، وخلف على الجند أخاه عبد الرحمن، فزحف إليه الصغد وأهل فرغانة، فناهضهم حتى كادوا يظهرون عليه. فرجع قتيبة إليه، وانهزم الترك شر هزيمة.
وفي سنة تسع وثمانين أمره الحجاج بغزو بخارى، فعبر النهر من زم، فلقيه الصغد، وأهل كس ونسف في طريق المفازة، فقاتلوه فانتصر عليهم، ولكنه عجز عن التغلب على ملك بخارى، فعاد إلى مرو الشاهجان1. فكتب إليه الحجاج يعنفه. فانطلق سنة تسعين إلى بخارى وحاصرها، فاستنصر ملكها، بالصغد فنصروه، فقويت شوكته بهم، فلم ييأس قتيبة، بل ظل الأمل يغمر قلبه، فصبر، واحتمل هزيمة مقدمته من الأزد، وما سببته من ضعف جانبه، ولكنه أخذ يحمس بني تميم، فاستبسلوا في القتال، ولم يزالوا يجاهدون حتى انتصروا على أهل بخارى والصغد انتصارا عزيزا. ففتحت المدينة، وأذعن ملكها، وتقهقر الصغد إلى بلادهم2. ولما رأوا ما ألحقه قتيبة بأهل بخارى، وفد ملكهم عليه فصالحه3.
وفي السنة نفسها نكث نيزك طخارستان، وفاوض ملوك بلخ، ومرو الروذ والطالقان، والفارياب، والجوزجان على التمرد، فثاروا معه، واستظهر بكابل شاه، وطلب إليه أن يلجأ إلى بلاده إذا هزم. ثم خلع النيزك جيغويه ملك طخارستان وقيده، وأخرج عامل قتيبة من طخارستان. وبلغ قتيبة ما فعل النيزك، فجمع قواته من البلدان، وسير أخاه عبد الرحمن في اثني عشر ألفا إلى البروقان، وأوصاه بالمقام فيها حتى ينتهي فصل الشتاء، ثم بالتوجه منها إلى طخارستان. وسار قتيبة بنفسه إلى الطالقان فأوقع بأهلها4، وقتل منهم مقتلة عظيمة، وأخضع في السنة التالية الفارياب والجوزجان، واجتاز شعب خلم الصعب، وطوق حاميته وشتتها، وحصر النيزك بالقلعة التي تحصن فيها، ثم احتال عليه فأخرجه منها، وقتل ابن أخيه، ونائب
1 فتوح البلدان ص: 410، والطبري 8: 1198، وابن الأثير 4:535.
2 الطبري 8: 1201، وابن الأثير 4:542.
3 الطبري 8: 1204، وابن الأثير 4:543.
4 تاريخ اليعقوبي 3: 32، والطبري 8: 1204، وابن الأثير 4:544.
ملك طخارستان، وكثيرين ممن انضموا إليهم وناصروهم1. ثم زحف إلى شومان فحاصرها وقتل ملكها، وإلى كس ونسف ففتحها، وأنفذ أخاه عبد الرحمن إلى الصغد، فقبض من ملكها المبلغ الذي صالح قتيبة من قبل عليه2. وفي سنة اثنتين وتسعين غزا سجستان، واقتحمها، فأرسل إليه زنبيل كابل يطلب الصلح فصالحه3.
وفي السنة التالية أغار على خوارزم بالتواطؤ مع ملكها، لأن أخاه الأصغر غلبه عليها، واشترط عليه أن يدفع أخاه إليه إذا دخلها، فوافقه قتيبة، ومضى إلى خوارزم، فأسر خرزاذ، وسلمه للشاه مع غيره ممن خالفوه4، ولكن أهل خوارزم لم يلبثوا أن وثبوا بعامل قتيبة عليهم، فبعث إليهم أخاه عبد الرحمن، كما وجه إليهم فرقة أخرى عليها المغيرة بن عبد الله، فهرب الشاه إلى بلاد الترك، وقدم المغيرة، فقتل وسبى، وصالحه الباقون على الجزية5.
وفي السنة ذاتها أرسل أخاه عبد الرحمن إلى سمرقند، لأن أهلها نكثوا بما عاهدوه عليه سنة إحدى وتسعين، فأحاط بهم، وشدد الطوق عليهم، فاستنجدوا بملك الشاش، وملك فرغانة، وخوفوهما أن العرب إذا قهروهم فإنهم سيثنون بهما، فدفعا إليهم جمعا من الفرسان، وأولاد الملوك، فانكسروا انكسارا منكرا، وذل الصغد، ورمى قتيبة مدينتهم بالمجانيق، حتى ثلم في سورها ثلمة احتلها جنوده بعد قتال مرير، فصالحوه على الجزية. وشرطوا عليه أن يبني بالمدينة مسجدا، ثم يخرج منها، فدخلها وأحرق الأصنام، وأبقى جالية عربية. ثم رجع إلى مرو الشاهجان6.
وفي سنة أربع وتسعين اجتاز قتيبة نهر جيحون، وفرض على أهل بخارى وكس، ونسف وخوارزم عشرين ألفا من المقاتلين، فأتوه فوجههم إلى الشاش، وسار هو إلى فرغانة، فلما وصل إلى خجندة، استجاش أهلها وناهضوه في معارك متعددة كان له
1 الطبري 8: 1218، وابن الأثير 4:549.
2 الطبري 8: 1227، وابن الأثير 4:553.
3 الطبري 8: 1235، وابن الأثير 4:569.
4 فتوح البلدان ص: 410، والطبري 8: 1237، وابن الأثير 4:570.
5 ابن الأثير 4: 575.
6 تاريخ اليعقوبي 3: 33، والطبري 8: 1241، وابن الأثير 4:571.
النصر فيها، ثم صار إلى كاشان. وعندما أنجز الجنود الذين سيرهم إلى الشاش مهمتهم انصرف إلى مرو الشاهجان1. وفي العام اللاحق بعث إليه الحجاج جيشا من العراق، فغزا بهم، فلما كان بالشاش أو كشمين بلغه خبر وفاة الحجاج، فساءه وأحزنه، فعاد إلى مرو الشاهجان2.
وفي آخر سنة من ولايته زحف نحو مدينة كاشغر، وهي أقرب المدن التابعة للصين، وحمل مع الناس عيالاتهم، ليضعهم بسمرقند، واجتاز فرغانة، وأمن الطريق إلى كاشغر وأنفذ إليها جيشا فتوغل فيها، وغنم وسبى3.
وبينما كان قتيبة بفرغانة، مات الوليد بن عبد الملك، واستخلف أخوه سليمان وكان يكره الحجاج وموظفيه، ويقدم يزيد بن المهلب ومساعديه، فقدر قتيبة حينما بلغه كيد ابن المهلب له أن سليمان لا بد أن يبعده عن الولاية، ويمثل به، على نحو ما أبعد عمال الحجاج وعذبهم، فهم بخلع سليمان، إلا أن القبائل لم تقف بجانبه، بل مكرت له، وتواطأت مع الأعاجم على الغدر به. وكان مصيره أن لقي مصرعه بسيوف الخيانة، فاختفى بسقوطه عامل من أكبر العمال وأجدرهم، وقائد من أنجب القواد وأقدرهم، جعل همه الغزو، حتى دوخ الترك، وثبت السيادة العربية بما وراء النهر4.
وتولى الإمارة بعد مقتله وكيع بن أبي سود التميمي، زعيم المؤامرة، فأقصاه سليمان عنها بعد تسعة أشهر، وأسندها إلى يزيد بن المهلب، فسبقه ابنه مخلد إلى خراسان، وقدمها هو سنة سبع وتسعين، فاستهل عهده بالإغارة على جرجان لكي يضاهي بفتحه لها فتوحات قتيبة فيما وراء النهر، التي طالما ذكره سليمان بها، وعظم أمامه أمرها. فسار إليها في جيش كثيف عداده مائة ألف، وقيل: مائة وعشرون ألفا من أهل الشام والعراق وخراسان سوى الموالي والمتطوعة. فبدأ بقوهستان فحاصرها حتى احتلها
1 الطبري 8: 1256، وابن الأثير 4:581.
2 الطبري 8: 1267، وابن الأثير 4:583.
3 الطبري 8: 1275، وابن الأثير 5:5.
4 نقائض جرير والفرزدق 1: 350، وتاريخ اليعقوبي 3: 40، وفتوح البلدان ص: 412، والطبري 8: 1282، وابن الأثير 5:3.
وصالحه أهلها، ثم مضى إلى جرجان، فاستقبله أهلها وصالحوه دون قتال، فطمع في طبرستان، فأسرع إليها، وضرب عليها حصارا من ثلاث جهات، فطلب إليه إصبهبذها الصلح فرض، والتحم معه قواد يزيد في معركة حامية انتصروا عليه فيها، فصعد بمن بقي معه من الجنود إلى قمة جبل، فتعقبوه فهزمهم. وحينئذ كاتب الإصبهبذ أهل جرجان أن يقطعوا الطريق إلى دار الإسلام عن يزيد، وأن يمنعوا عنه المؤونة والمدد، فثاروا بجرجان، وقتلوا الحامية العربية بها، ولم يتمكن يزيد من النجاة بنفسه، واستنقاذ جيشه إلا بعد أن توسط بينه وبين الإصبهبذ حيان النبطي، قادد الفرقة الخراسانية في الجيش العربي، فوادعه الإصبهبذ، وسمح له بالانسحاب من بلاده1.
وفي السنة نفسها صمم يزيد على فتح جرحان، لأن أهلها تمردوا عليه، وغدروا به، فزحف إليهم، ولم يتحول عنهم إلا بعد أن مزقهم وقتلهم، وصلبهم، ودمر مدينتهم، ثم رممها وعمرها2.
ولكن ولاية يزيد لم تطل، فقد توفي سليمان، وخلفه عمر بن عبد العزيز، فصرفه عن خراسان، وزج به في الحبس، وطالبه بما اجتمع عنده من الأموال الضخمة التي كتب بها إلى سليمان، واستعمل على خراسان الجراح بن عبد الله الحكمي3. فكان عليها عاما وبعض عام، ثم نحاه عمر عنها، لأنه كتب إليه أن يضع الجزية عمن أسلم من أهل خراسان، وأن يفرض لجنودهم عطاء، بعد أن شكا إليه أبو الصيداء صالح بن طريف من ظلم الجراح لهم، وعدوانه عليهم، فلم يسقط الجزية عن مسلميهم، ولا أجرى رزقا على مقاتليهم، ورد على عمر بأنهم لم يسارعوا إلى الإسلام إلا تخلصا من الجزية، وأنهم لم يختتنوا. فكتب إليه عمر: إن الله بعث محمدا نبيا، ولم يبعثه خاتنا. واستقدمه، وعين مكانه عبد الرحمن بن نعيم الغامدي الأزدي على حرب خراسان، وعبد الرحمن بن عبد الله القسيري على خراجها، وأوصاهما بالعدل: فلم يزل عبد
1 تاريخ اليعقوبي 3: 40، والطبري 9: 1318، وابن الأثير 5:29.
2 الطبري 9: 1330، وابن الأثير 5:34.
3 تاريخ اليعقوبي 3: 46، وفتوح البلدان ص: 415، والطبري 9: 1351، وابن الأثير 5:48.
الرحمن بن نعيم الغامدي على خراسان حتى مات عمر، وبعد ذلك حتى قتل يزيد بن المهلب، فكانت ولايته أكثر من سنة ونصف1.
وفي خلافة يزيد بن عبد الملك ارتفع شأن القيسية والمضرية بخراسان، إذ ولي يزيد أخاه مسلمة على العراق، فاستعمل على خراسان سعيد بن عبد العزيز الأموي، فأخذ عمال عمر بن عبد العزيز وحبسهم ثم أطلقهم، كما أخذ نفرا من موظفي يزيد بن المهلب اختانوا أموالا، فسجنهم وعذبهم حتى مات بعضهم، وأشفى غيرهم على الهلاك2.
وفي سنة اثنتين ومائة اضطربت سمرقند، وكانت ملتاثة قبل مجيء سعيد إليها فقد جمع خاقان الترك، واستعان بالصغد، وحاصر قصر الباهلي، فهادنه من كان به من العرب، وصالحوه، وكانوا قبل ذلك قد استمدوا عثمان بن الشخير عامل سمرقند، فجاء المدد من جميع القبائل، واشتبكوا مع الترك واستردوا قصر الباهلي3.
وفي السنة نفسها عبر سعيد النهر، وأغار على الصغد لأنهم نقضوا العهد وأعانوا الترك، فأوقع بهم، وأدبهم، ثم سار إلى الترك، فحطموا أولى كتائبه، التي تقدمت نحوهم، فحمل بنو تميم على الترك، وجاهدوهم جهادا عنيفا حتى قدم الأمير، فحققوا بعض النصر، ولكن المعركة لم تنته4.
وحدث أن انكسر خراج العراق وخراسان، في أيام مسلمة، فعزله أخوه يزيد عنهما، وعين عليهما عمر بن هبيرة الفزاري5، فأعفى سعيد بن عبد العزيز من ولاية خراسان، وكان يقاتل الترك بسمرقند، وأوفد إليها سعيد ابن عمرو الحرشي، فوافهاها والجيش بإزاء العدو بسمرقند، فاستنهض همم الجنود، وحضهم على الاستبسال في النضال6 فخاف الصغد لأنهم كانوا قد ظاهروا الترك على العرب في عهد سعيد بن
1 تاريخ اليعقوبي 3: 46، وفتوح البلدان ص: 415، والطبري 9: 1352، وابن الأثير 5:51.
2 تاريخ اليعقوبي 3: 54، والدينوري ص: 232، وفتوح البلدان ص: 416، والطبري 9: 1418، وابن الأثير 5:90.
3 الطبري 9: 1422، وابن الأثير 5: 92، والبداية والنهاية 9:222.
4 الطبري 9: 1429، وفتوح البلدان ص: 416، وابن الأثير 5:95.
5 الطبري 9: 1432، وابن الأثير 5:98.
6 الطبري 9: 1438، وفتوح البلدان ص: 416، وابن الأثير 5:103.
عبد العزيز. فخرجوا إلى خجندة وسألوا ملك فرغانة أن ينزلهم ببلاده، وأن يحميهم. وفي سنة أربع ومائة توجه الحرشي إليهم، وطوقهم بخجنده، ونصب عليهم المجانيق، وقتل أميرهم وجماعة منهم، لأنهم قتلوا الأسرى العرب الذين كانوا بأيديهم1.
وكان الحرشي يستخف بابن هبيرة، ولا يتقيد بتعاليمه، ولا ينفذ أوامره. وكانا- وهما قيسيان- يتنافسان في السلطة والعظمة. فاغتنم ابن هبيرة قتل الحرشي للصغد، ونحاه عن خراسان، وولى عليها مسلم بن سعيد ابن زرعة الكلابي2. فغزا الترك سنة خمس ومائة، فلم يفتح ولم يفلح. ثم غزا مدينة أفشينة من مدائن الصغد، فصالحه ملكها وأهلها3. ثم أخذ يتأهب للهجوم على الترك والصغد، حتى إذا ما جهز حملة إلى فرغانة، وقطع النهر: تمردت عليه ربيعة والأزد ببلخ، فرد إليهم نصر بن سيار، فقضى على فتنتهم، وأمرهم باتباع أميرهم4، فساروا إليه، وحين وصل مسلم فرغانة تطورت الأحداث تطورا سريعا إذ مات يزيد بن عبد الملك، وبويع أخوه هشام، فصرف ابن هبيرة عن العراق، واستعمل عليها خالد بن عبد الله القسري، فولى أخاه أسدا على خراسان، وكتب إلى مسلم أن يتم غزوته. فتقدم حتى تخطى خجنده، واقتحم بلاد الترك، فحاربوه وفتكوا بجنده، فضعفت قوته، وعجز عن الانسحاب عبر نهر الشاش، وأصابت المجاعة جيشه، فمات عدد منهم بالجوع والعطش، ولم يعد إلى خجنده إلا بعد جهد جهيد5.
ولم يوفق أسد القسري بخراسان لا في سياسته الداخلية، ولا في غاراته الخارجية، أي توفيق، بل أخفق أشد الإخفاق، فقد أقام الحسن بن أبي العمرطة الكندي على سمرقند بدلا من هانئ بن هانئ فهاجمه الترك، فردهم على أعقابهم، ورجع إلى أسد، وخلف على عمله ثابت قطنة الأزدي6. وحاول أسد الإغارة على الترك
1 الطبري 9: 1442، وابن الأثير 5:107.
2 تاريخ اليعقوبي 3: 56، وفتوح البلدان ص: 416، والطبري 9: 1454، وابن الأثير 5:115.
3 الطبري 9: 1462.
4 تاريخ اليعقوبي 3: 56، والطبري 9: 1473، وابن الأثير 5:127.
5 الطبري 9: 1477، وفتوح البلدان ص: 417، وابن الأثير 5:129.
6 الطبري 9: 1484، وابن الأثير 5:131.
مرتين، فرجع منهماخائبا1. فأخذ يغزو مناطق خراسان الشاقة الوعرة، فقد غزا غرجستان فصالحه ملكها، وغزا الغور، وغنم منها أموالا كثيرة2.
وفي سنة تسع ومائة أمر هشام خالدا القسري بتنحيه أخيه أسد عن خراسان، لأنه تعصب لليمانية، حتى أفسد الناس، وأهان المضرية، وضرب نصر بن سيار، ونفرا معه من مضر بالسياط، وحلقهم وسيرهم إلى أخيه مدعيا أنهم أرادوا الوثوب به3. فاستدعاه خالد، فاستخلف على خراسان الحكم بن عوانة الكلبي، فأقام بها صيفا. ثم ولاها هشام أشرس بن عبد الله السلمي. وكان رجلا فاضلا خيرا، وكان يسمى الكامل بفضله4. فافتتح عهده بمحاولته إصلاح الأوضاع المتردية بسمرقند، فدعا أهلها إلى الإسلام على أن ترفع عنهم الجزية، ووجه إليهم أبا الصيداء صالح بن طريف، وساعده في مهمته الحسن بن أبي العمرطة الكندي، عامل سمرقند، فدخلوا فيه أفواجا، وشيدوا المساجد، فكتب غوزك إخشيد سمرقند إلى أشرس أن الخراج انكسر لكثرة الداخلين في الإسلام، وقلة ما يجبى ممن بقي من أهل سمرقند على دينه. فضيق أشرس على الذين أسلموا، وسقطت عنهم الجزية، وراح يطالبهم بالاختتان، وإقامة الفرائض، وقراءة سورة من القرآن. ثم أقصى الحسن بن أبي العمرطة الكندي عن سمرقند، وعين مكانه هانئ بن هانئ، وأمره بأخذ الجزية ممن كانت تؤخذ منه. فامتنع أهل سمرقند عليه، واعتزلوا في سبعة آلاف على مقربة من سمرقند، وانضم إليهم أبو الصيداء، وعدد من تميم والأزد وبكر. فقبض هانئ على رؤساء العرب الذين ناصروا الترك، وأرسلهم إلى مرو الشاهجان. وألح في جمع الجزية، واستهان بعظماء العجم والدهاقين، وأساء معاملتهم، فثار الصغد وأهل بخارى ثورة عارمة، واستنصروا الترك، فخرج أشرس إليهم غازيا، وأقام بآمل على شط نهر جيحون الغربي أشهرا. ثم قطع قطن بن قتيبة بن مسلم النهر، فأطبق عليه الصغد والترك وأهل بخارى، وشلوا قوته، فلم يستطع التقدم ولا التأخر، فوجه إليه أشرس كتيبة فكت عليه
1 الطبري 9: 1492، وابن الأثير 5:139.
2 الطبري 9: 1489، وابن الأثير 5:139.
3 فتوح البلدان ص: 417، والطبري 9: 1497، وابن الأثير 5:142.
4 الطبري 9: 1502.
الحصار. ثما اجتاز النهر إلى بيكند، فلم يصلها إلا بعد مشقة كبيرة. وبذل كل ما في وسعه لبلوغ بخارى، فلم يبلغها إلا بعد معارك طاحنة خاضها مع الترك، وقتل فيها جملة من فرسان العرب، ومات منهم سبعمائة عطشا. ومن بخارى سير أشرس حملة إلى كمرجة بالقرب من بيكند، فلاقاها خاقان في الترك وأهل فرغانة وأفشينة ونسف وطوائف من أهل بخارى، وسدد عليها الطوق، فأبلى جنودها بلاء حسنا في الدفاع عن أنفسهم، ورفضوا الاستسلام، فاحتال خسرو بن يزدجرد على الموقف، وأعطاهم الأمان على أن لا يلتحقوا بأشرس في بخارى، بل أن يعودوا إلى الدبوسية من أعمال الصغد1.
وهكذا فشل أشرس فشلا ذريعا في تحسين أحوال سمرقند السيئة، إذ لم يشرع في تطبيق ما اقترحه من تغييرات مالية برفع الجزية عمن أسلم منهم، حتى أعلن كثيرون إسلامهم، فتضاءلت الأموال التي كان الدهاقين يجمعونها، والتي كان مفروضا عليهم أن يدفعوها دون نقص أو تأجيل، لأنه كان من شروط صلحهم حين فتحت بلادهم أن يؤدوا مبلغا محددا كل سنة للفاتحين. فأذن أشرس للدهاقين بتحصيل الجزية ممن كانت تحصل منهم قبل إسلامهم. فكان ذلك مبعث سخطهم وعصيانهم، مما اضطر أشرس إلى محاربتهم، لإرغامهم على دفع الجزية، فجلب لنفسه ولجيشه هزائم متوالية بمواقع متعددة، انتهت بضرب خاقان طوقا قويا عليه ببخارى، لم يقدر على كسره، ولم يستطع الانفلات منه. وعندئذ رأى هشام أن يعزله ويولي مكانه الجنيد بن عبد الرحمن المري، فسار إلى ما وراء النهر وشق طريقه إلى أشرس بصعوبة بالغة، لأن الترك والصغد انقضوا عليه عندما عبر النهر، فشتتهم بعد قتال ضار، وواصل تقدمه نحو أشرس، فلما كان ببيكند عاود الترك الانقضاض عليه، فكاد يهلك، ثم ظهر عليهم، فجمع خاقان الترك وهاجمه عند رزماق بالقرب من سمرقند، فدارت الدائرة على الترك، ونجح الجنيد في فك الحصار عن سمرقند، وفي انتزاع أشرس ومن كان معه من الجند، وقفل عائدا إلى مرو الشاهجان2.
1 فتوح البلدان ص: 417، والطبري 9: 1507، وابن الأثير 5:148.
2 الطبري 9: 1527، وفتوح البلدان ص: 418، وابن الأثير 5:156.
وفي سنة اثنتي عشرة ومائة عزم الجنيد على غزو طخارستان، فبعث إليها كتائب عديدة تتقدم إليها من جهات مختلفة، ولم تكد تلك الكتائب تتفرق عنه حتى هاجم الترك سورة بن الحر التميمي بسمرقند، فاستمد الجنيد، ولم تكن لديه قوة، لأن معظم جيشه كان غازيا. فقرر إغاثته، فقطع النهر، ونزل بكس، ومنها سار إلى سمرقند سالكا إليها طريقا جبليا صعبا. فلما كان بشعب جبلي وعر قريب منها فاجأه خاقان في جيش ضخم من الترك والصغد، وأهل فرغانة والشاش، فأحاطوا به، وصارعوه صراعا شديدا، وقتلوا عددا كبيرا من جيشه. ولولا ثبات نصر بن سيار وفرسانه المغاوير، وتفاني جنود الفرقة الخراسانية في القتال لأبيد الجنيد وجيشه، لأن خاقان لم يتراجع بجنوده، بل استمر يحاصر الجيش العربي، فاستنجد الجنيد بسورة بن الحر التميمي، فتوجه إليه من سمرقند، وبينما هو غير بعيد منه هاجمه الترك وقتلوه. وتمكن الجنيد في النهاية من دحر الترك، ودخول سمرقند، فأسرع خاقان إلى بخارى، فتبعه الجنيد إليها، وضربه عند الطواويس ضربة قاضية، وبذلك كللت حملة الجنيد باسترداد سمرقند وبخارى، وبإجلاء عيالات الجنود العرب من سمرقند، إلى مرو الشاهجان1.
وفي سنة ست عشرة ومائة خلع هشام الجنيد عن خراسان، لأنه تزوج الفاضلة بنت يزيد بن المهلب2. وكان هشام يكره يزيد، ويعتبره خارجا على بني أمية، لأنه ثار عليهم بالبصرة في مطلع القرن الثاني3. واستعمل عليها عاصم بن عبد الله الهلالي، فوصل إلى مرو الشاهجان، وقد مات الجنيد حتف أنفه، فحبس عمارة بن حريم، ابن عم الجنيد، وحبس موظفي الجنيد، وعذبهم4.
ولم يكد عاصم يستقر بمرو الشاهجان حتى ثار الحارث بن سريج التميمي بالنخذ، بين الفارياب وزم واليهودية وآمل، ودعا إلى العمل بكتاب الله وسنة رسوله،
1 الطبري 9: 1532، وابن الأثير 5:162.
2 الطبري 9: 1564.
3 الطبري 9: 1414.
4 الطبري 9: 1565، وفتوح البلدان ص418، وابن الأثير 5:182.
والبيعة للرضا. فكان لدعوته صدى واسع في صفوف العرب المتذمرين، وفي نفوس الأعاجم الذين طالما شكوا من الطغيان، وضجوا من الضرائب الباهظة التي لم تكن تسقط عنهم ولا تخف عليهم، حتى بعد إسلامهم، فاحتل الفارياب وبلخ والجوزجان والطالقان ومرو الروذ، وهم على مرو الشاهجان في جيش من الأعاجم ودهاقين المقاطعات التي استولى عليها، وانضم إليه بعض العرب الساخطين من الأزد وتميم. فصد عاصم هجومه الأول على المدينة فعسكر بباب مرو الروذ1.
وفكر عاصم في ضخامة المسؤولية، وصعوبة المشكلات المالية التي أثارت أهل خراسان وما وراء النهر، وقدر أن يستقيل من الولاية، فكتب إلى هشام أن يعفيه، وأن يضيف خراسان إلى صاحب العراق، "فتكون موادها ومنافعها ومعونتها في الأحداث والنوائب من قريب، لتباعد أمير المؤمنين منها، وتباطأ غياثه عنها"، فأضافها إلى خالد بن عبد الله القسري عامل العراق، وأشار عليه أن يبعث إليها أخاه أسدا، ليصلح ما اضطرب من شئونها، ويضع حدا للفتنة بها. فلما أقبل أسد حبس عاصما وحاسبه، لأنه كان اتفق مع الحارث على خلع هشام ومحاربته إذا رفض العمل بالكتاب والسنة، وأطلق سراح عمارة بن حريم، وأخلى سبيل موظفي الجنيد، وقاتل خالد بن عبد الله الهجري الذي والى الحارث بآمل، وعطف على معكسر الحارث، فلم يستطع اقتحامه، ومنع أهل الترمذ من الأعاجم المسلمين الحارث من دخول مدينتهم، فانتقل إلى طخارستان، ثم سار أسد إلى سمرقند، فصرف عنها الهيثم الشيباني، لأنه دخل في طاعة الحارث2، ورجع إلى بلخ، فسير منها جديع بن علي الكرماني الأزدي إلى قلعة التبوشكان، حيث لجأ الحارث عند أصهاره من التغلبيين فأنزل بهم جديع هزيمة ساحقة، وسبى من كان بالقلعة من العرب والموالي، والذراري، وباعهم فيمن يزيد بسوق بلخ.
وأقام أسد ببلخ، وجعلها مقره الإداري، ونقل الدواوين إليها،
1 الطبري 9: 1566، وابن الأثير 5:183.
2 الطبري 9: 1589، وابن الأثير 5:186.
وأسكن بها الجنود العرب الذين كانوا بالبروقان1. وغزا طخارستان ففتح وأصاب سبيا2. وفي سنة تسع عشرة ومائة هاجم الختل على الشاطئ الشرقي لنهر جيحون، مقابل بلخ، فاستعان أميرها بخاقان الترك، فأعانه، فأرسل الأمير إلى أسد يعلمه بقدوم خاقان، وينصحه بمغاردة بلاده لئلا يوقع الترك به، فتعاديه العرب. فعمل أسد بنصيحته، بعد تباطؤ، فقدم الأثقال، فقطعت النهر، وأدرك خاقان من تأخر من العرب، فقاتلهم، ثم عبر النهر إلى الضفة الغربية، وهاجم طليعتهم التي عسكرت بالأثقال في بطن واد، ونجا أسد هو ومن معه من المقاتلة بمشقة3.
ولم يسكت خاقان عن أسد، فقد ذهب إلى المنطقة الشرقية من طخارستان ويقال: إن الحارث بن سريج استدعاه إليها، فأجلى أسد العرب من الجوزجان وأنزلهم ببلخ، وقاد بنفسه جيشا جرارا من أهل فلسطين، وقنسرين، وحمص، ودمشق، ومن الأزد، وربيعة، وتميم، ومن الجوزجان، وألحق بخاقان هزيمة ساحقة بعد جولات عديدة، وسبى وغنم. وبقي خاقان بفلوله في طخارستان مدة، ثم رجع إلى وطنه، ورحل معه الحارث بن سريج. وبعد رجوعه اغتاله رجل من أعوانه، وهو كورصول، فاختلف الترك وتشتتوا، وعاد أسد إلى بلخ4.
ثم جدد أسد الإغارة على الختل، إذ وجه إليها مصعب بن عمرو الخزاعي، فقتل أميرها، وفرق جنوده في أوديتها، فامتلأت أيديهم بالغنائم والسبي5.
وفي سنة عشرين ومائة توفي أسد ببلخ، فناب منابه جعفر بن حنظلة البهراني، فعمل أربعة أشهر، وفي السنة نفسها أعفى هشام بن عبد الملك خالد بن عبد الله القسري من ولاية العراق، وقلدها يوسف بن عمر الثقفي، فوكل حكم خراسان لجديع بن علي الكرماني الأزدي، فلم يرض هشام عنه، فأقصاه وعين عليها نصر ابن
1 الطبري 9: 1591، وابن الأثير 5:197.
2 الطبري 9: 1591، وابن الأثير 5: 198
3 الطبري 9: 1593
4 الطبري 9: 1593
5 الطبري 9: 1629.
سيار الكناني، فجفا اليمانية وربيعة، وفصلهم من الوظائف، وأعطاها للمضرية أربع سنوات1. وعمرت خراسان في ولايته عمارة لم تعمرها من قبل، وأحسن السيرة والجباية، ووضع الخراج عمن أسلم2.
واستهل نصر ولايته بمقاتلة الترك إذ غزا ما وراء النهر من جهة باب الحديد، ثم قصد سمرقند مارا بورغسر، ومنها اتجه إلى الشاش، فحال بينه وبين قطع نهر الشاش كورصول التركي، والحارث بن سريج، ولكن جيشه الكثيف الذي كان يتألف من العرب، ومن أهل بخارى وسمرقند وأشروسنة، سرعان ما تغلب على الترك، وقتل زعيمهم كورصول، فاقتحم نصر الشاش، فتلقاه ملكها بالصلح والهدية والرهائن. وكان من نصوص الصلح أن يخرج الحارث بن سريج من بلاده فأخرجه إلى فاراب. ومضى نصر إلى فرغانة، فصالحه صاحبها بعد محاصرة قاسية3.
وكان نصر خبيرا بخراسان ومشكلاتها التي تهم العرب والأعاجم، إذ عاش بها أكثر عمره متنقلا في المناصب الرسمية الإدارية والعسكرية، فبذل جهدا كبيرا لإصلاح أوضاعها السيئة، إذ عدل عن العصبية القبيلة، لأنه أحس بعمق قيمة الوحدة، وأثرها في صيانة السيادة العربية وحمايتها من العدو الخارجي، فعامل القبائل بالإنصاف، مع أنه انحاز في صدر ولايته إلى مضر، واطرح الأزد وربيعة، كما غضب على قيس بعد أن حاول يوسف بن عمر الثقفي تنحيته عن الحكم4. وعمل على تحسين أحوال أهل خراسان الأصليين، وبين خطته الإصلاحية في خطبة ألقاها بجامع مرو الشاهاجان، قال فيها: "استعملت عليكم منصور بن عمر بن أبي الخرقاء، وأمرته بالعدل عليكم. فأيما رجل منكم من المسلمين كان يؤخذ منه جزية من رأسه. أو ثقل عليه في خراجه، وخفف مثل ذلك عن المشركين، فليرفع ذلك إليه، يحوله عن المسلم إلى المشرك". فما كانت الجمعة الثانية حتى أتاه ثلاثون ألف مسلم كانوا يؤدون الجزية عن رؤوسهم،
1 الدينوري ص: 351، وتاريخ اليعقوبي 3:75.
2 الطبري 9: 1664، وابن الأثير 5:227.
3 الطبري 9: 1694، وابن الأثير 5:236.
4 الطبري 9: 1725.
وثمانون ألف رجل من المشركين قد ألقيت عنهم جزيتهم، فحول ذلك عليهم، وألقاه عن المسلمين، ثم صنف الخراج حتى وضعه مواضعه، ثم وظف الوظيفة التي جرى عليها الصلح، فكانت مرو الشاهجان يؤخذ منها مائة ألف سوى الخراج، أيام بني أمية1.
وبذلك كان يمكن أن تستقيم الأحوال بخراسان، ويتآلف العرب والعجم تآلفا قويا، ويستأنفوا حياة لا تفرقة ولا تسلط فيها. غير أن موت هشام بن عبد الملك، وقيام الوليد بن يزيد من بعده، وفتك ابن عمه يزيد بن الوليد به، وما صاحبه من تفكك الأسرة الأموية، وتصارع أبنائها على الخلافة حتى توفي يزيد بن الوليد، واستخلف مروان بن محمد، وما تعرض له نصر من الحسد والتآمر قد أضعف موقفه، إضعافا شديدا، وكانت الطامة الكبرى في تأثير الأحداث في الوضع بخراسان. فقد استفحل النزاع بين اليمنية والمضرية، وتعقد برجوع الحارث بن سريج إلى مرو الشاهجان ومحالفته الكرماني، ومخالفتهما نصرا. وازداد الوضع ترديا بظهور أبي مسلم على المسرح، وامتناع نصر عن موافقته على الدعوة للرضا من آل محمد، وما تبع ذلك من تعاظم الخطر الذي أخذ يحدق بنصر، وإخفاق القبائل العربية في التصدي لأبي مسلم بعد أن تهادنت من أجل التفرغ لقتاله، فأدى ذلك إلى غلبة أبي مسلم على مرو الشاهجان، واندحار نصر عنها2.
1 الطبري 9: 1688، وابن الأثير 5:236.
2 الطبري 9: 1855، وما بعدها، وابن الأثير 5: 307، وما بعدها.