الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع
الشورى في الحرب
إن من أهم القواعد الأساسية التي يقوم عليها النظام السياسي الإسلامي هو احترام مبدء الشورى في الشؤون العامة ومن ذلك الشورى في الحرب فهي ضرورة لاستجماع الرأي، فإشراك الأمة في أمور الحرب أدعى إلى اجتماعها ووحدة الكلمة، ففي غزوة بدر الكبرى بعد أن علم النبي صلى الله عليه وآله وسلم خبر قريش ومسيرهم إليه ليمنعوا عيرهم استشار الناس وأخبرهم عن قريش فقام أبو بكر الصديق رضي الله عنه فقال: وأحسن، ثم قام عمر بن الخطاب فقال: وأحسن، ثم قام المقداد بن عمر فقال: يا رسول الله امضِ إلى ما أمرك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى (فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) ولكن نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خيراً ودعا له، ثم قال:(أشيروا علي أيها الناس) -وإنما يريد الأنصار- فقال له سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله فقال: أجل. قال: فقد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة فامضِ يا رسول الله لما أردت فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً، إنا لصبرٌ في الحرب صدق في اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك فسر بنا على بركة الله. فسُر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقول سعد ونشطه بذلك، ثم قال:(سيروا وأبشروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين).
وحكى ابن هشام في السيرة ما رواه ابن إسحاق في مشاورة الحباب بن المنذر في بدر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأخذ الرسول بذلك. قال إن الحباب بن المنذر بن الجموح قال: يا رسول الله أرأيت هذا المنزل أمنزلاً أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا
نتأخر عنه أم هو الرأي والحرب والمكيدة. قال: (بل هو الرأي والحرب والمكيدة). فقال: يا رسول الله إن هذا ليس بمنزل فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء بالقوم فننزله ثم نغور ما وراءه من القلب ثم نبني عليه حوضاً فنملؤه ماءً ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(لقد أشرت بالرأي). فنهض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن معه من الناس فسار حتى أدنى ماء من القوم نزل عليه، ثم أمر بالقُلُب فغُورت وبنى حوضاً على القليب الذي نزل فملأه ماءً ثم قذفوا فيه الآنية.
ومن ذلك ما رواه ابن هشام عن ابن إسحاق في إشارة سعد بن معاذ قال يا نبي الله ألا نبني لك عريشاً تكون فيه ونعد عنك ركائبك ثم نلقى عدونا فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا كان ذلك ما أحببنا، وإن كانت الأخرى جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا من قومنا فقد تخلف عنك أقوام يا نبي الله ما نحن بأشد لك حباً منهم، ولو ظنوا أنك تلقى حرباً ما تخلفوا عنك يمنعك الله بهم يناصحونك ويجاهدون معك، فأثنى عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خيراً ودعا لهم بخير ثم بني لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عريشُ فكان فيه. (1) ثم لما انتهت غزوة بدر الكبرى بانتصار المسلمين على المشركين وقتلوا منهم سبعين وأسروا سبعين آخرين، ولم يكن الحكم الشرعي في الأسرى قد نزل استشار النبي صلى الله عليه وآله وسلم أهل بدر في الأسرى فظهرت ثلاثة آراء:
الرأي الأول أن تؤخذ الفدية من الأسرى وبه قال معظم أهل بدر وفي مقدمتهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فقد ذكر أصحاب السير أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شاور أبا بكر وعمر رضي الله عنهما في شأن أسرى بدر فقال أبو بكر: يا نبي الله هؤلاء بنو العم والعشيرة أرى أن نأخذ منهم الفدية فيكون ما أخذنا منهم قوة وعسى الله أن يهديهم إلى الإسلام فيكونوا لنا عضداً، وفي لفظ أرى أن تأخذ منهم الفدية فتكون لنا
(1) - انظر في ذلك السيرة النبوية لابن هشام - حققها وضبطها ووضع فهارسها مصطفى السقا وإبراهيم الأبياري وعبد الحفيظ شلبي - الناشر دار إحياء التراث العربي - بيروت، وهذا النص هو الذي ساقه ابن هشام في السيرة ج2ص272و273، وأصل القصة في صحيح البخاري في كتاب المغازي في باب قول الله تعالى:(إذ تستغيثون ربكم) وفي صحيح مسلم في كتاب الجهاد والسير باب غزوة بدر حديث 1779.
قوة على الكفار فعسى الله أن يهديهم إلى الإسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعمر بن الخطاب: (ما ترى يا ابن الخطاب؟) فقال عمر: لا والله يا رسول الله ما أرى الذي رأى أبو بكر ولكن أرى أن تمكننا فنضرب أعناقهم فتمكن علياً من عقيل فيضرب عنقه وتمكنّي من فلان نسيباً له فأضرب عنقه فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها. (1) ، أما الرأي الثاني فهو رأي عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي ورد في الحديث السالف ذكره وهو عدم قبول الفدية وضرب أعناق الأسرى، ولم يوافقه أحد من أهل بدر على هذا الرأي، أما الرأي الثالث فهو رأي عبدالله بن رواحة الذي رأى أن يقتلوا الأسارى حرقاً وهذا الرأي لم يشاركه أحد من أهل بدر فيه، وقد قال رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنت في واد كثير الحطب فأضرم الوادي عليهم ناراً ثم ألقهم فيه. (2) وبعد أن استمع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى ما قال أبو بكر وعمر وعبدالله بن رواحة ورأى أن أكثرية الناس مالت إلى رأي أبي بكر رضي الله عنه قال:(إن الله ليلينن قلوب الرجال حتى تكون ألين من اللبن وإن الله ليشد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة)، ولما رأى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الأغلبية أخذ الفداء مع أبي بكر الصديق رضي الله عنه مال إليه وقال:(أنتم عالة ولم يبقين أحد إلا بفداء أو بضربة عنق). (3)
وقد نزل القرآن في هذه الآية موافقاً لرأي عمر رضي الله عنه وهو قوله تعالى: (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ)(4)، والذي يستفاد من الشورى في غزوة بدر هو الأمور التالية:
1)
(1) - انظر مسلم في الصحيح كتاب الجهاد والسير - باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر وإتاحة الغنائم - حديث رقم 1763، وشرح الإمام النووي لصحيح مسلم 12 - ص 86 الطبعة الأولى.
(2)
- انظر عارضة الأحوذي شرح صحيح الترمذي ج 11 - ص 217. والسيرة النبوية لابن كثير ج 2 - ص 459. وتفسير القرآن الكريم للإمام ابن كثير ج 3 - ص 346.
(3)
- انظر السيرة النبوية لابن كثير ج2، ص 462.
(4)
- الآية 67 من سورة الأنفال.
أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم شاور الحضور جميعاً خاصة الأنصار لأنهم خرجوا مع الرسول من ديارهم في تلك الغزوة ولم يكن بين النبي وبين الأنصار عهداً على الخروج للقتال معه، وقد جاء في بعض الروايات أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يخشى أن تكون الأنصار لا ترى وجوب نصرته عليها إلا مما داهمه من العدو بالمدينة فقط، ويضاف إلى ذلك أن استطلاع رأي الجمهور ووحدة كلمتهم ومعرفة آرائهم والأخذ برأي الأكثرية ضرورة لا بد منها.
2) استجابة المهاجرين والأنصار ومشاركتهم في القتال يداً واحدة وقوة وكتلة واحدة مما يدل على عمق الإيمان، وهذا ما يرشد إلى وجوب التوحد في الرأي عند حصول أمر يكون القتال فيه ضرورة.
3) أن الشورى وإن كانت في ميدان المعركة والقتال إلا أنها ضرورة لا بد منها، والمسائل التي دار فيها التشاور أفراداً وجماعات هي أمور ليس فيها نص شرعي لا سبيل للاجتهاد وإعمال الرأي فيه وستبقى كل هذه الأمور اجتهادية عدا الحكم في الأسرى فإن الحكم الشرعي فيه استقر على أن يخير (الإمام) رئيس الدولة أو ملكها بين القتل أو المن أو الاسترقاق ويكون بحسب الأحوال والظروف بعد الاستشارة كما فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
4) أن رأي الأغلبية هو الذي ينبغي أن يؤخذ به اقتداءً بالهدي النبوي.
5) أن رأي الجند أو رأي المتخصصين في العلوم العسكرية يجب أن يؤخذ به، ولا غضاضة في ذلك أخذاً من هديه صلى الله عليه وآله وسلم فقد أخذ برأي الحباب بن المنذر في الموقع الذي اختاره في بدر وأشار بالرحيل منه وفي هذا إشارة لقواد الجند في أن يسمعوا ويصغوا لكل الآراء حتى يستفيدوا منها.
6) أن رأي الأغلبية يؤخذ به في الحرب والأمور العامة تجنباً للخلاف والتنازع الذي يعرض الجند والدول للفشل، فها هو رأي الأغلبية في فداء أسرى بدر لا يوافقه القرآن ووافق رأي عمر رضي الله عنه، ولكنه مع ذلك بقي رأي الأغلبية هو الرأي الملزم، والحكمة في الأخذ برأي الأغلبية هو منع التنازع والاختلاف وفيه أيضاً سد ذريعة
الاستبداد وحرمان الأمة من الشورى، ولهذا فإن القرآن أجاز للمقاتلين في هذه الغزوة الانتفاع بما أخذوه من فداء حتى وإن كان اجتهاداً غير مستساغ أو غير راجح أو غير موافق للرأي السديد فأنت ترى في هذه الغزوة أن القرآن رغم معاتبتهم إلا أنه أتاح لهم الأكل والانتفاع بما أخذوه من فداء الأسرى إذا يقول الله تعالى:(فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(1).
7) أن التصويت مع الاختلاف في الرأي في أمر الشورى جائز، فللإنسان أن يبدي رأيه وإن خالف رأي الأكثرية، غير أن الأكثرية إذا اتخذت موقفاً سواءً في القتال أو غيرها وصوتوا عليه وجب على الجميع أن يأخذوا به وأن لا يجعلوا من ذلك ذريعة للتنازع بل يجب عليهم أن يعتصموا بحبل الله جميعاً. غير أنه يجوز في موضوع الشورى أنه إذا قام بها البعض سقطت عن البعض الآخر إذا كانوا في حكم الموافقين عليها، أي أنه يجوز النيابة في ذلك. والذي يستفاد من القصة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجه الخطاب العام للذين خرجوا ليعترضوا طريق القافلة يستشيرهم جميعاً، وأن الذين أشاروا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم هم زعماء المهاجرين والأنصار، وأن أغلبية القوم الذين خرجوا للقتال قد سكتوا، وأن البعض لربما كان كارهاً للقتال. وكتب السيرة النبوية لم تنقل لنا غير أقوال رؤوس المهاجرين والأنصار ونفر من المجادلين ذكرهم القرآن وقد دخلوا المعركة مع رسول الله وانضموا إليه وقاتلوا معه فرضي الله عنهم أجمعين. وإن كان ليس بالضرورة أن يتكلم الثلاثمائة والثلاثة عشر مقاتلاً وهم الذين كانوا برفقته صلى الله عليه وآله وسلم؛ إلا أنه وبلا شك أن هناك من كان يكره القتال ولكنه آثر حب الله ورسوله فكانت يده مع يد الجماعة يقاتل راضياً مختاراً بمعنوية مرتفعة، وقد دل على ما أشرنا إليه قول الحق (وإن فريقاً من المؤمنين لكارهون)، ودخل النفر القليل فيما دخل فيه الأغلبية، قال تعالى:(يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إلى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ * وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ * لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ)(2)
(1) - الآية 69 من سورة الأنفال.
(2)
- الآيات 6 - 8 من سورة الأنفال.