الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول
الشورى في الأسرة والمجتمع ومنهجيتها
إذا كانت الشورى تعني عدم الانفراد بالتصرف قبل معرفة ما يقدم الإنسان عليه في أي أمر من الأمور وهي بطبيعتها تستلزم حصول المناقشة في الأمر والحوار فيه وتبادل وجهات النظر حوله والعناية به حتى تظهر المصلحة من خلال الحوار الذي يكون من نتائجه الاستفادة من مزايا القرائح لأن لكل عقل مزية إذ أن من طبيعة الشورى أن تتعدد الآراء وتجول فيه الخواطر والأفكار فيتذكر كل واحد من المستشارين نتاج خاطرته وفكره ثم يعرض على المستشير ما لديه من علم وتجربة وخبرة؛ فإن من خصوصية الشورى أنها نظام يشمل جميع مناحي الحياة وأن المستشير يستفيد من ثمرات العقول حسن التصرف وحسن التدبير وحسن التخطيط، فالشورى حوار ومناقشة، والشورى بحث عن الصواب؛ والشورى أمان من الضلال، والشورى بحث عن المصلحة، والشورى محاسبة وشكوى واستيضاح واقتراح والشورى تدعو إلى التأني في الأمور وإلى الحزم وإلى الدراسة وإلى العلم وإلى رد الأمور إلى نصابها، وتبعث الإنسان وتحثه على أداء الأمانات إلى أهلها، فأضعف الرأي كما قيل ما سمح للبديهة ابتداءً وأقربه إلى الصواب ما تكررت فيه الفكرة وأحكمت فيه الروية فالشورى مجالها فسيح وميدانها واسع، ولهذا جاء في الحديث (ما تشاور قوم إلا هدوا لأرشد أمورهم)(1) ، أي أن الشورى طريق هداية تعصم من الضلال وليست مقصورة ومحصورة على الأمور العامة والهامة فقط، إذ أننا نجد في الأمور الخاصة في كثير من الحاجات ضرباً من رد الأمور إلى أهل الاختصاص، فالذي يريد أن يتداوى لا بد أن يذهب إلى استشاري متخصص من الأطباء، والذي يريد أن يبني داراً أو نحو ذلك لا بد أن يذهب إلى استشاري من المهندسين والبنائين، والذي يريد أن يزرع حقلاً لا بد أن يستشير متخصصين في علوم الزراعة.
وهكذا نجد أن للشورى خصوصية ولست تجد ذلك في أي منهج غير المنهج الرباني الذي جعلها صفة لازمة للمؤمنين حيث يقول جل شأنه (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) فالشورى هي منهج حياة.
أما الشورى العامة في التشريع والوظائف والأمور السياسية فقد أتينا على بيان الشورى من ذلك بما لا مزيد عليه كونه قد كشف الحقيقة وأبانها لمن يبصر ويسمع ويدرك ويتدبر، وإذا كانت الديمقراطية الحديثة تخضع الحاكم لرأي الأغلبية وتمنع السلطة التشريعية من التدخل في شؤون السلطة التنفيذية أو القضائية المحضة عملاً بمبدء فصل السلطات فصلاً نسبياً لا مطلقاً وتعتمد على كون الأمة أو الشعب هو مصدر السلطات فكذلك الشأن في نظام الحكم الشوروي الإسلامي من الوجهة السياسية العلمية فإن الأمة مصدر السلطات بمعنى أن لها حق الاشتراك في نصب الحاكم الذي تريده حاكماً عليها. (2) ولها حق تعيين شكل الحكم الذي يقوم فيها ولها حق تعيين القائمين على الحكم، وحقوق الأمة في الحقيقة ليست إلا حقوق أفرادها وأن كل ما يصدر عن الحاكم من سلطات أو ولايات فمرجعه الأول إرادة الأمة (3). ويتقيد الجميع بنظام الشريعة ولا يصح للسلطة التشريعية مصادمة أحكام الشريعة، وعلى كل حال فإنه إذا صح لنا أن نسمي الشورى الإسلامية بالديمقراطية الإسلامية والديمقراطية الوضعية بالديمقراطية الغربية فإن هناك كما يقول الدكتور الزحيلي فوراق ثلاثة بين الديمقراطية الغربية والديمقراطية الإسلامية ..
الأول: الديمقراطية الغربية مقترنة بفكرة القومية أو العنصرية وتسايرها نغمة التعصب أو العصبية أما في الإسلام فنظرته إنسانية وأفقه عالمي.
(1) - سبق تخريجه.
(2)
- انظر وهبه الزحيلي - في حق الحرية ص 172.
(3)
- النظريات السياسية للدكتور - محمد ضياء الدين الريس.
الثاني: أهداف الديمقراطية الغربية الحديثة هي أغراض دنيوية أو مادية فقط أما في الإسلام فأغراضها دنيوية وأخروية والغاية هي الآخرة ورضوان الله والدين والأخلاق مقياس أعمال الدولة.
الثالث: سلطة الدولة في الديمقراطية الغربية مطلقة فالأمة هي صاحبة السيادة وأما في الإسلام فليست سلطة الأمة مطلقة وإنما هي مقيدة بالشريعة -أي بدين الله-. (1)
قلت وللشورى خصوصية لا توجد في أي فكر أو مذهب وضعي، ولهذا فإن منهاجها شامل على مستوى الأسرة وعلى مستوى الأمة، وهي تشمل الذكر والأنثى، فالمرأة يصلح أن تستشير وتستشار، وقد سبق أن أشرنا إلى شيء من خصوصية الشورى وهو وجوب الاعتماد على أصحاب الإختصاص والخبرة، ففي شؤون الدين يستشار علماء الدين وفي شؤون العمران والهندسة يستشار المهندسون وفي شؤون التجارة يستشار خبراء التجارة وعلمائها، وهكذا تصل الاستشارة إلى الأسرة والمتجر والبيت وتمتد حتى إلى الطفل الرضيع، وفي ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى (فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ)(2) أي فإن اتفق والدا الطفل على فطامه قبل الحولين ورأيا في ذلك مصلحة له وتشاورا في ذلك وأجمعا عليه فلا جناح عليهما في ذلك، ويؤخذ من هذا أن انفراد أحدهما بذلك دون الآخر لا يكفي ولا يجوز لواحد منهما أن يستبد برأيه دون الآخر، وفي هذا احتياط للطفل وإلزام للنظر في أمره، وهو من رحمة الله بعباده حيث حجر على الوالدين في تربية طفلهما وأرشدهما لما يصلحه ويصلحهما. (3)
والمتتبع سيجد جمهور المفسرين يتفقون على إيجاب الشورى على الوالدين فيما لو أرادا اختصار مدة إرضاعه عن حولين كاملين، أما الإمام الفخر الرازي فإنه يرى إيجاب
(1) - وهبه الزحيلي - مصدر سابق ص 43.
(2)
- الآية 233 من سورة البقرة.
(3)
- انظر القرطبي في الجامع لأحكام القرآن ج3 - ص 171.
الشورى عليهما فيما بينهما ومع غيرهما أيضاً من أهل التجربة والخبرة أيضاً وهو كلام حسن. (1)
والشورى مع ذلك تعم كل الأمور الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية في كل ما لم يرد فيه نص، فهي تُقوّي أواصر الأخوة والمودة والتعاون بين الأفراد والجماعات، وتجعل المسلم يتميز بالحس البليغ المرهف على مصالح أمته ودينه ووطنه، وتغلق أبواب النقد والطعن والتشهير وتوحد صفوف الأفراد والجماعات، وتقي الدول ومؤسساتها من التمرد والانقسام والاقتتال، وتكون وقاية وحماية من مخاطر التشرذم والذل والفشل وتعصم في كثير من الحالات الإنسان من الظلم والوقوع في الخطأ، وتعود الناس على الحلم وتلقي الرأي المخالف بسعة الصدر وحسن التفهم، وتمنع أيضاً من إثارة الفتن والحروب، وهي وسيلة واقية من التخلف والاستبداد، وهي مع ذلك طاعة وعبادة لله سبحانه وتعالى، وهي أهم عماد يرتكز عليه الحكم الإسلامي وأهم أسسه وقواعده ولهذا أمر الله بها، فالترك لها ترك لجزء من العقيدة والشريعة فهي ضرورة إنسانية وشريعة إسلامية لا بد من تعليمها وتفهيمها وتدريب النشء عليها وإدخالها في المناهج والبرامج والنشرات، ولما كانت الشورى بهذه المكانة وكان تعليمها ضرورة لا بد منها فإننا نخصص لبيان ضرورة تعليمها وبيانها المبحث التالي.
(1) - انظر تفصيلاً أوسع في التفسير الكبير المعروف بمفاتيح الغيب ج 16 - ص 225.