الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشورى في غزوة حنين وأوطاس
وهما موضعان بين مكة والطائف وقد سميت الغزوة باسم مكانها كما يقول الإمام ابن القيم، وتسمى غزوة هوازن لأن قبيلة هوازن هم الذين أتوا لقتال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، قال ابن إسحاق: لما سمعت هوازن برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما فتح الله عليه في مكة جمعها مالك بن عوف النصري واجتمع إليه مع هوازن ثقيف كلها ومضر وجشم كلها وسعد بن بكر وناس من بني هلال وهم قليل ولم يشهدها من قيس غيلان إلا هؤلاء ولم يحضرها من هوازن كعب ولا كلاب، وفي جشم دريد بن الصمة شيخ كبير ليس فيه إلا رأيه ومعرفته بالحرب وكان شجاعاً مجرباً، وفي ثقيف سيدان لهم، وفي الأحلاف قارب بن الأسود وفي بني مالك سبيع بن الحارث وأخوه أحمر بن الحارث وجماع أمر الناس إلى مالك بن عوف النصري فلما أجمع السير إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ساق مع الناس نسائهم وأموالهم وأبنائهم، فلما نزل بأوطاس اجتمع إليه الناس وفيهم دريد بن الصمة فلما نزل قال بأي واد أنتم؟ قالوا: بأوطاس. قال: نعم مجال الخيل لا حَزْن ضرس ولا سهل دهس (1) ما لي أسمع رغاء البعير ونهاق الحمير وبكاء الصبي ويعار الشاء. قالوا: ساق مالك بن عوف مع الناس نساءهم وأموالهم وأبناءهم. قال: أين مالك؟ قيل: هذا مالك. ودعي له قال: يا مالك إنك قد أصبحت رئيس قومك وإن هذا يوم كائن له ما بعده من الأيام، ما لي أسمع رغاء البعير ونهاق الحمير وبكاء الصبي ويعار الشاء. قال: سقت مع الناس أبناءهم ونساءهم وأموالهم. قال: ولم؟ قال: أردت أن أجعل خلف كل رجل أهله وماله ليقاتل عنهم. فقال راعي ضأنٍ (2): والله وهل يرد المنهزم شيء، إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك. ثم قال: ما فعلت كعب وكلاب. قالوا: لم يشهدها أحد منهم. قال: غاب الحد (3) والجد، لو كان يوم علاء ورفعة لم تغبه كعب ولا كلاب ولوددت أنكم فعلتم ما فعلت كعب وكلاب، فمن شهدها منكم؟ قالوا: عمرو بن عامر وعوف بن عامر قال: ذلك الجذعان (4) من عامر لا ينفعان ولا يضران يا مالك إنك لم تصنع بتقديم بيضة هوازن إلى نحور الخيل شيئاً، ارفعهم إلى ممتنع بلادهم وعلياء قومهم ثم ألق الصباة (5) على متون الخيل فإن كانت لك لحق بك من وراءك، وإن كانت عليك ألفاك ذلك وقد أحرزت أهلك ومالك. قال والله لا أفعل، إنك قد كبرت وكبر عقلك لتطيعنني يا معشر هوازن أو لأتكأن على هذا السيف حتى يخرج من ظهري، وكره أن يكون لدريد فيها ذكر ورأي، فقالوا أطعناك. فقال دريد: هذا يوم لم أشهده ولم يفتني:
يا ليتني فيها جذع أخب فيها وأضع
أقود وطفاء الزمع كأنها شاة صدع
ثم قال مالك للناس: إذا رأيتموهم فاكسروا جفون سيوفكم ثم شدوا شدة رجل واحد، وبعث أعيناً من رجاله فأتوه وقد تفرق أوصالهم. قال: ويلكم ما شأنكم. قالوا: رأينا رجالاً بيضاً على خيول بلق والله ما تماسكنا أن أصابنا ما ترى، فوالله ما رده ذلك عن وجهه إن مضى على ما يريد. (6) وقد حكى أصحاب السير أنه لما سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث إليهم عبدالله بن أبي حدرد الأسلمي وأمره أن يدخل في الناس فيقيم فيهم حتى يعلم علمهم فدخل فيهم وعرف ما أجمعوا عليه من حرب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأتى بالخبر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأجمع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على السير وأمر المسلمين أن ينفروا نفرة رجل واحد إلى هوازن، فوافأهم عند وادي حنين وقد جمعوا نحواً من ثلاثين ألف مقاتل من ثقيف وجشم ونضر وقيس بن غيلان ورئيسهم مالك بن عوف وفيهم دريد بن الصمة من عباقرة الحرب
(1) - الحَزْن بفتح الحاء وسكون الزاي، ما ارتفع من الأرض، والضرس الذي فيه حجارة محددة، والدهس ما سهل ولان من الأرض ولم يبلغ أن يكون رملاً.
(2)
- يجهله بذلك كما قال الشاعر: أصبحت هزاءً لراعي الضان أعجبه ماذا يريبك مني راعي الضان.
(3)
- أراد بالحد النشاط والسرعة والمضاء في الأمور.
(4)
- يريد أنهما ضعيفان في الحرب بمنزلة الجذع في سنه.
(5)
- الصباة جمع صابئ كقضاة وقاضي وهم المسلمون عندهم كانوا يسمونهم بهذا الإسم لأنهم صبئوا عن دينهم أي خرجوا من دين الجاهلية إلى دين الإسلام.
(6)
- انظر زاد المعاد ج 3 - ص 468.
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أخذ من صفوان بن أمية أدرعاً وسلاحاً فقال صفوان: أغصباً يا محمد؟ فقال: (بل عارية مضمونة حتى نؤديها إليك)(1) ، وقد خرج الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من مكة ومعه ألفان من أهلها وعشرة آلاف من أصحابه الذين خرجوا معه، وقد كان المسلمون في بداية المعركة قبل أن يتمكنوا في الوادي انقضّت عليهم كتائب المقاتلين من هوازن ففر من فر من المسلمين وثبت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وثلة من أصحابه، وكانت المعركة كما أخبرنا الله بقوله تعالى:(لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ)(2) ، وقد كانت غنائم المؤمنين عظيمة وكبيرة، فيها سبي ومال وكان سبب ذلك أنهم أخرجوا نساءهم وأموالهم معهم حتى لا يجبنوا في القتال، وقد اختار النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يترك الغنائم بلا قسمة رجاء أن يسلم أصحابها أو يساومهم بها على عقد حسن جوار، وبقيت الغنائم مجموعة في الجعرانة إلى حين فرغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم من غزوة الطائف، (3) وقد نصر الله تبارك وتعالى في هذه الغزوة محمداً صلى الله عليه وآله وسلم على قبيلة هوازن فقسم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد ذلك الغنائم والنساء وبعد قسمة النبي الغنائم جاء وفد هوازن مسلماً يطلب المن، وجاء في قصة استشارته صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه بشأن هوازن ما يؤكد حق الشورى في أمور كهذه، فقد ذكر ابن هشام في السيرة أن وفد هوازن أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد أسلم فقالوا يا رسول الله إنا أصل وعشيرة وقد أصابنا من البلاء ما لا يخفى عليك فامنن علينا مَنَّ الله عليك. قال فقام رجل من هوازن فقال: يا رسول الله إنما من في الحضائر عماتك وخالاتك وحواضنك التي كن يكفلنك لو أنا ملحنا (4) للحارث بن أبي
(1) - هذا حديث حسن أخرجه أبو داود في سننه حديث 3562. وقد أخرجه الحاكم والبيهقي وغيرهما.
(2)
- الآيات 25، 26 من سورة التوبة.
(3)
- انظر صفوة السير- إعداد الدكتور محمد الحبش - الطبعة السادسة ص 266.
(4)
- ملحنا: أرضعنا.
شمر أو للنعمان بن المنذر ثم نزل بنا مثل الذي نزلت به رجونا عطفه وعائدته (1) علينا وأنت خير المكفولين. قال ابن إسحاق: فحدثني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبدالله بن عمرو قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (أبناؤكم ونساؤكم أحب إليكم أم أموالكم، فقالوا: خيرتنا بين أموالنا وأحسابنا بل ترد إلينا نساءنا وأبناءنا فهو أحب إلينا. فقال لهم: ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم، وإذا ما صليت الظهر بالناس فقوموا فقولوا إنا نستشفع برسول الله إلى المسلمين وبالمسلمين إلى رسول الله في أبنائنا ونسائنا فسأعطيكم عند ذلك وأسأل لكم. فلما صلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالناس الظهر قاموا فتكلموا بالذي أمرهم به فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أما ما كان لي ولبني عبدالمطلب فهو لكم، فقال المهاجرون: وما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقالت الأنصار: وما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال الأقرع بن حابس: أما أنا وبني تميم فلا، وقال عيين بن حصن: أما أنا وبني فزارة فلا، وقال عباس بن مرداس: أما أنا وبنو سليم فلا، فقال بنو سليم: بلا ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: يقول عباس بن مرداس لبني سليم: وهنتموني، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أما من تمسك بحقه في هذا السبي فله بكل إنسان ست فرائض من أول سبي أصيبه فردوا إلى الناس أبناءهم ونساءهم (2). وذكر ابن كثير الشامي: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن هؤلاء قد جاءوا مسلمين وإنا قد خيرنأهم بين الذراري والأموال فلم يعدلوا بالأحساب شيئاً، فمن كان عنده شيء فطابت نفسه أن يرده فسبيل ذلك، ومن لا فليعطنا وليكن قرضاً علينا حتى نصيب شيئاً فنعطيه مكانه. قالوا: يا نبي الله قد رضينا وسلمنا. قال: إني لا أدري لعل فيكم من لا يرضى فمروا عرفاءكم يرفعوا ذلك إلينا. فرفع إليه العرفاء أن رضوا وسلموا. (3)
(1) - عائدته: فضله.
(2)
- ابن هشام في السيرة ج4 - ص 131 - 132.
(3)
- انظر ابن كثير في السيرة ج2 - ص 243. وذكر نحوه الإمام ابن القيم في زاد المعاد ج3 - ص 476.
ويستفاد من هذه القصة أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أدار المعركة بحنكة واقتدار ويتلخص منها ما يلي:
1) أن ولي الأمر (السلطان أو الملك أو الرئيس) عليه أن يبعث العيون والمخابرات بحسب تسمية اليوم في جيش عدوه.
2) أن من حق ولي الأمر وقائد الأمة أن يستعير سلاحاً عند الحاجة يستعين به في المعركة حتى وإن كان من مشرك أو كافر كما استعار النبي من صفوان بن أمية.
3) يستفاد أيضاً من هذه القصة أن العارية يدخلها الضمان فيجب ردها بعينها.
4) أن المسلمين قد غنموا غنائم كبيرة وكثيرة وكأن الله عوضهم عن فتح مكة فلم يغنم المسلمون منها ذهباً ولا فضة ولا متاعاً ولا سبياً.
5) أن الاغترار بالكثرة وعدم الاعتماد على الله سبحانه وتعالى يكون سبباً في الهزيمة وإن كانت العدة والعدد مطلوبة مع الإيمان والعزيمة.
6) أن النصر إنما هو من عند الله فمن ينصره الله فلا غالب له ومن يخذله فلا ناصر له غيره، ومع ذلك لا بد من الأخذ بالأسباب وإعداد العدة.
7) إعطاء الغانمين حظهم من الغنيمة وجواز إعطاء المؤلفة قلوبهم من خمس الخمس، فإعطاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم لصفوان بن أمية عطاءً كبيراً يدل على استحباب استمالة أهل الوجاهة من أهل الكفر الذين ينصلح بهم أمر الإسلام؛ لأن القلوب جبلت على حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها.
8) الإرشاد إلى مشاورة أصحاب الحقوق إذا ما أراد الإمام أن يتصرف بشيء من الغنيمة بعد قسمتها ففي هذه القصة نجد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم استشار فاختلف بعض رؤساء القبائل مع مقاتليها، وهم أصحاب الحقوق فمنهم من بذلها للرسول صلى الله عليه وآله وسلم ومنهم من لم يتنازل عن حقه، لأنه لما اختلط الأمر والتبس طلب من الأمراء أن يأخذوا رأي أصحاب الحقوق فالمستشار هنا هم أصحاب الحقوق وعرفاءهم، ويستفاد من ذلك أنه ليس لولي الأمر مصادرة حقوق المقاتلين إلا إذا طابت نفس الغانمين بذلك.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: وفيها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من لم تطب نفسه فله بكل فريضة ست فرائض من أول ما يفيء الله علينا)، وفي هذا دليل على جواز بيع الرقيق بالحيوان بعضه ببعض نسيئة متفاضلاً. (1)
ومن خلال هذه النماذج الذي أتينا عليها في الشورى في الحرب من عصر النبوة يتبين لنا أن الشورى بأي صورة اتخذت وعلى أي طريقة طبقت فإن الشريعة الإسلامية تقره وترتضيه إذا كان محققاً لمقاصدها التي جاءت بها الشريعة وهو مثبتٌ لحق الأمة في المشاركة في صنع القرار بحسب ما تقتضيه مصالح الأمة ويقوم به العدل فيها بشرط ألا يعارض نصاً في كتاب الله ولا سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
(1) - زاد المعاد ج4 - ص 486.