المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الشبهة الرابعة عشر: إن الشيخ وأتباعه منعوا من شد الرحال إلى قبور الأنبياء - الشيخ محمد بن عبد الوهاب المجدد المفترى عليه

[أحمد بن حجر آل بوطامي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌الشبهة الأولى: إن الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأتباعه يكرهون النبي صلى الله عليه وسلم ويحطون من شأنه وشأن الأنبياء

- ‌الشبهة الثانية: إن الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأتباعه منعوا من قراءة كتاب دلائل الخيرات

- ‌الشبهة الثالثة: أن الشيخ وأتباعه يمنعون التوسل والإستغاثة بالأولياء والصالحين

- ‌الشبهة الرابعة: في جواز الاستغاثة بغير الله

- ‌الشبهة الخامسة: من شبههم جواز الإستغاثة بغير الله

- ‌الشبهة السادسة: من شبههم على جواز الاستغاثة بغير الله مارواه ابن السني عن عبد الله ابن مسعود

- ‌الشبهة السابعة: شبهتهم على جواز الاستغاثة بقول سواد بن قارب للرسول صلى الله عليه وسلم: فكن لي شفيعا…ألخ

- ‌الشبهة الثامنة: ما روى ابن السني في كتاب عمل اليوم والليلة

- ‌الشبهة التاسعة: أن الشيخ وأتباعه يكفرون المسلمين بأدنى شبهة

- ‌الشبهة العاشرة: إن الشيخ وأتباعه يقسمون التوحيد إلى توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية

- ‌الشبهة الحادية عشر: قال المبتدعون: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذم نجد وامتنع أن يدعو لهم

- ‌الشبهة الثانية عشر: قول المعترضين: أما تخيل المانعين المحرومين أن منع التوسل والزيارة من المحافظة على التوحيد

- ‌الشبهة الثالثة عشر: إن الشيخ وأتباعه كفروا صاحب البردة ومن كانت في بيته أو قرأها

- ‌الشبهة الرابعة عشر: إن الشيخ وأتباعه منعوا من شد الرحال إلى قبور الأنبياء

- ‌الشبهة الخامسة عشر: إن الوهابيين خالفوا المسلمين بمنعهم الإحتفال بالمولد النبوي الشريف

- ‌الشبهة السادسة عشرة: شبهة المنتقدين أن الشيخ أنكر على الصوفية وطرقهم مقلدا في ذلك ابن تيمية

الفصل: ‌الشبهة الرابعة عشر: إن الشيخ وأتباعه منعوا من شد الرحال إلى قبور الأنبياء

‌الشبهة الرابعة عشر: إن الشيخ وأتباعه منعوا من شد الرحال إلى قبور الأنبياء

الشبهة الرابعة عشرة

يقول المبتدعون خصوم الشيخ محمد بن عبد الوهاب الذين أخذوا على عاتقهم محاربة دعوته السلفية ومنهجه الإصلاحي، إن الشيخ محمدا بالإضافة إلى تلك العقائد التي خرج بها على الناس وحكم بشرك من يستغيث بالأنبياء والأولياء ويتوسل بهم، منع شد الرحال إلى قبور الأنبياء، ولم يرع حرمة للأنبياء ولا للأولياء الصالحين، وأتى بعقيدة التجسيم والتمثيل مقلدا في تلك العقيدة الضالة ابن تيمية الذي خرج على الناس بآراء جديدة في العقائد وفي الفروع، ورد عليه علماء عصره وسجنته الملوك وتوفي في السجن من جراء مقالاته المخالفة لأهل السنة والجماعة.

والتمثيل والتجسيم في قول ابن عبد الوهاب وابن تيمية: إن الله مستو على عرشه، وأن له يدين ووجها، وينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا، ولم يعيرا اهتماما لتأويل هذه الصفات بحسب اللغة العربية فرارا من التمثيل

الخ ما سجلوه من هذا الكلام البارد السخيف الذي لا يصدر عن ذي حجى فضلا عمن ينتمي إلى العلم.

الجواب عن الشبهة الرابعة عشرة

والجواب: هذه الشبهة تتكون من أربعة عناصر:

الأول: إن ابن عبد الوهاب مشبه ومجسم، وهذا عين الضلال، زيادة آرائه السابقة.

الثاني: كذلك الشيخ ابن تيمية من أهل التمثيل والتجسيم، ولذلك رد عليه علماء عصره.. الخ.

ص: 131

الثالث: إن أهل السنة والجماعة في زعم المعترضين هم الخلف الذي ينتمون إلى الإمام أبي الحسن الأشعري، وأبي منصور الماتريدي رحمهما الله، وما سوى هذين المذهبين، فليسوا من أهل السنة.

الرابع: أن إثبات هذه الصفات تمثيل وتجسيم، وهما عين الضلال، بل الكفر والوبال.

أما جواب العنصر الأول: قولهم أن الشيخ محمدا كان مشبها ومجسما لكونه معتقدا باستواء الله على عرشه وبنزوله كل ليلة

الخ....

فنقول: سبق في أول الكتاب عقيدة الشيخ في صفات الله وفي القدر وفي الشفاعات، وفي مقام الرسول صلى الله عليه وسلم، وخلاصة عقيدته: إن سلفي على ما كان عليه الصحابة والتابعون الأئمة المهتدون في صفات الله كالإمام مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد وابن المبارك وإسحق بن راهويه والأوزاعي وأهل الحديث، أنه يثبت ما جاء في صفات الله في القرآن الكريم وفي السنة الصحيحة، فلا يمثل صفات الله بصفات خلقه ولا يجسم معتصما بقول الله تعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ، ولكن لبعد ما ذكرنا سابقا لا بأس أن نعيد بعض الفقرات من شرح عقيدته فيما يمس هذا الموضوع، وإليك أيها القارئ من رسالته لأهل القصيم ما نصه:

قال رحمه الله بعد البسملة: أشهد الله ومن حضرني من الملائكة، وأشهدكم أني أعتقد ما اعتقده أهل السنة والجماعة من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، والبعث بعد الموت والإيمان بالقدر خيره وشره.

ومن الإيمان بالله، الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل، بل أعتقد أن الله {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ، فلا أنفي عنه ما وصف به نفسه، ولا أحرف الكلم عن مواضعه، ولا ألحد في أسمائه وآياته، ولا أكيف ولا أمثل صفاته بصفات خلقه، لأنه تعالى لا سمي له ولا كفء، ولا ند له، ولا يقاس بخلقه، فإنه سبحانه وتعالى أعلم بنفسه وبغيره وأصدق قيلا، وأحسن حديثا.

ص: 132

فنزه نفسه عما وصفه به المخالفون من أهل التكييف والتمثيل، وعما نفاه عنه النافون، من أهل التحريف والتعطيل، فقال تعالى {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . أ. هـ.

وها نحن أريناكم عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وأنها كعقيدة السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم من الأئمة المهتدين رضوان الله عليهم، وأما أنتم أيها المعترضون والناسبون للشيخ التمثيل والتجسيم في صفات الله، فعليكم الإثبات من كتب الشيخ أو أبنائه أو أتباعه، وإلا فاعلموا أنكم مفترون وعن الحق ناكبون، ولصفات الله معطلون.

وأما بقية الكلام من التوسل والاستغاثة ونحوهما، فقد سبقت الأجوبة بما أغنى عن الإعادة.

وأما الجواب عن العنصر الثاني قولهم: إن الشيخ ابن تيمية كان من أهل التمثيل والتجسيم.... الخ.

فنقول: لا تقبل الدعوى بغير بينة، قال الشاعر:

والدعاوى إذا لم يقيموا لها

بينات أبناؤها أدعياء

وقال آخر:

وكل ادعا قرين افترا

سوى من إذا ما ادعى أشهدا

وكتب شيخ الإسلام ابن تيمية بلغت مئات وانتشرت في مشارق الأرض ومغاربها، فأثبتوا لنا حرفا واحدا في كتبه يدل على التشبيه والتجسيم، وخصوصا في بحث الاستواء والنزول، فقد أطنب وألف رسائل خاصة كالحموية في الاستواء وشرح النزول.

قال في الحموية: رفع إلى الشيخ ابن تيمية سؤال:

ما قول السادة الفقهاء أئمة الدين في آيات الصفات كقوله تعالى {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} وقوله {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} وقوله {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} ، إلى غير ذلك من الآيات، وأحاديث الصفات كقوله صلى الله عليه وسلم:"إن قلوب بني آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن" وقوله

ص: 133

"يضع الجبار قدمه في النار.". إلى غير ذلك، وما قالت العلماء فيه وأبسطوا القول في ذلك مأجورين إن شاء الله تعالى فأجاب:

الحمد لله رب العالمين، قولنا فيها ما قال الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، وما قاله أئمة الهدى بعد هؤلاء الذين أجمع المسلمون على هدايتهم ودراياتهم، وهذا هو الواجب على جميع الخلق في هذا الباب وغيره، فإن الله سبحانه وتعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق ليخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد، وشهد له بأنه بعثه داعيا إليه بإذنه وسراجا منيرا وأمره أن يقول {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} .

إلى أن قال: فهذا كتاب الله من أوله إلى آخره، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من أولها إلى آخرها ثم عامة كلام الصحابة والتابعين، ثم كلام سائر الأئمة مملوء بما هو إما نص وإما ظاهر في أن الله سبحانه وتعالى هو العلي الأعلى، وهو فوق كل شيء وهو عال على كل شيء، وأنه فوق العرش، وأنه فوق السماء مثل قوله تعالى {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ} {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ} {أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً} {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} في سبع مواضع {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً} {تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} {مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ} . إلى أمثال ذلك مما لا يكاد يحصى إلا بالكلفة، وفي الأحاديث الصحاح والحسان ما لا يحصى إلا بالكلفة مثل قصة معراج الرسول إلى ربه، ونزول الملائكة من عند الله وصعودها إليه، وقوله في الملائكة الذين يتعاقبون فيكم بالليل والنهار "فيعرج الذين باتوا فيكم إلى ربهم فيسألهم وهو أعلم بهم" ، في الصحيح في حديث الخوارج "ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء يأتيني خبر

ص: 134

السماء صباحا ومساء". وفي حديث الرقية الذي رواه أبو داود وغيره "ربنا الله الذي في السماء، تقدس اسمك، أمرك في السماء والأرض، كما رحمتك في السماء اجعل رحمتك في الأرض اغفر لنا حوبنا وخطايانا أنت رب الطيبين أنزل رحمة من رحمتك وشفاء من شفائك على هذا الوجع". قال صلى الله عليه وسلم:"إذا اشتكى أحد منكم أو اشتكى أخ له فليقل ربنا الله الذي في السماء ". وذكره وقوله في الحديث الصحيح للجارية: "أين الله، قالت في السماء قال: من أنا، قالت أنت رسول الله، قال: أعتقها فإنها مؤمنة "، وقوله في الحديث الصحيح:"إن الله لما خلق الخلق كتب في كتاب موضوع عنده فوق العرش، أن رحمتي سبقت غضبي". وقوله في حديث قبض الروح: "حتى يعرج بها إلى السماء التي فيها الله". وقول عبد الله بن رواحة الذي أنشده للنبي صلى الله عليه وسلم وأقره عليه:

شهدت بأن الله حق

وأن النار مثوى الكافرينا

وأن العرش فوق الماء طاف

وفوق العرش رب العالمينا

وقول أمية بن أبي الصلت الثقفي الذي أنشد للنبي صلى الله عليه وسلم هو وغيره من شعره، فاستحسنه وقال:"آمن شعره وكفر قلبه".

مجدوا الله فهو للمجد أهل

ربنا في السماء أمسى كبيرا

بالبناء الأعلى سبق الناس

وسوى فوق السماء سريرا

شرجعا ما يناله بصر العين

ترى دونه الملائك صورا

وقوله في الحديث الذي في المسند: " إن الله حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرا". وقوله في الحديث: "يمد يديه إلى السماء يقول يا رب يا رب". إلى أمثال ذلك مما لا يحصيه إلا الله مما هو من أبلغ المتواترات اللفظية والمعنوية التي تورث علما يقينا من أبلغ العلوم الضرورية،

ص: 135

إن الرسول المبلغ عن الله ألقى إلى أمته المدعوين أن الله سبحانه على العرش وأنه فوق السماء كما فطر الله على ذلك جميع الأمم عربهم وعجمهم في الجاهلية والإسلام إلا من اجتالته الشياطين عن فطرته، ثم عن السلف في ذلك من الأقوال ما لو جمع لبلغ مئين أو ألوفا، ثم ليس في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من سلف الأمة لا من الصحابة ولا من التابعين لهم بإحسان ولا عن الأئمة الذين أدركوا زمن الأهواء والاختلاف حرف واحد يخالف ذلك لا نصا ولا ظاهرا، ولم يقل أحد منهم قط أن الله ليس في السماء ولا أنه ليس على العرش، ولا أنه بذاته في كل مكان، ولا أن جميع الأمكنة بالنسبة إليه سواء، ولا أنه لا داخل العالم ولا خارجه، و"لا أنه" متصل ولا منفصل، ولا أنه لا تجوز الإشارة الحسية إليه بالأصابع ونحوها، بل قد ثبت في الصحيح عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خطب خطبته العظيمة يوم عرفات في أعظم مجمع حضره الرسول صلى الله عليه وسلم جعل يقول: ألا هل بلغت؟ فيقولون نعم، فيرفع إصبعه إلى السماء وينكبها إليهم ويقول: اللهم اشهد، غير مرة وأمثال ذلك كثيرة.

فإن كان الحق فيما يقول هؤلاء السالبون النافون للصفات الثابتة في الكتاب والسنة من هذه العبارات ونحوها دون ما يفهم من الكتاب والسنة إما نصا وإما ظاهرا، فكيف يجوز على الله، ثم على رسوله، ثم على خير الأمة، أنهم يتكلمون دائما بما هو نص أو ظاهر في خلاف الحق، ثم الحق الذي يجب اعتقاده لا يبوحون به قط، ولا يدلون عليه لا نصا ولا ظاهرا، حتى يجيء أنباط الفرس والروم، وأحبار اليهود والنصارى والفلاسفة يبينون للأمة العقيدة الصحيحة التي يجب على كل مكلف أو كل عاقل أن يعتقدها، لئن كان ما يقوله هؤلاء المتكلمون المتكلفون هو الاعتقاد الواجب وهم مع ذلك أحيلوا في معرفته على مجرد عقولهم، وأن يدفعوا بما اقتضى قياس عقولهم ما دل عليه الكتاب والسنة نصا أو ظاهرا، لقد كان ترك الناس بلا كتاب ولا سنة أهدى لهم وأنفع على هذا التقدير، بل كان وجود الكتاب

ص: 136

والسنة ضررا محضا في أصل الدين.

فإن حقيقة الأمر على ما يقوله هؤلاء: إنكم يا معشر العباد لا تطلبوا معرفة الله عز وجل وما يستحقه من الصفات نفيا وإثباتا لا من الكتاب ولا من السنة ولا من طريق سلف الأمة، ولكن انظروا أنتم فما وجدتموه مستحقا له من الصفات فصفوه به سواء كان موجودا في الكتاب والسنة أو لم يكن وما لم تجدوه مستحقا له في عقولكم فلا تصفوه به.

ولشيخ الإسلام ابن تيمية عقيدة وجيزة، وهي منظومة لامية من بحر الرجز وها هي ذا فاقرأها:

يا سائلي عن مذهبي وعقيدتي

رزق الهدى من للهداية يسأل

اسمع كلام محقق في قوله

لا ينثني عنه ولا يتبدل

حب الصحابة كلهم لي مذهب

ومودة القربى بها أتوسل

ولكلهم قدر وفضل ساطع

لكنما الصديق منهم أفضل

وأقول في القرآن ما جاءت به

آياته فهو الكريم المنزل

وجميع آيات الصفات أمرها

حقا كما نقل الطراز الأول

وأرد عهدتها إلى نقالها

وأصونها عن كل ما يتخيل

قبحا لمن نبذ القرآن وراءه

وإذا استدل يقول قال الأخطل

والمؤمنون يرون حقا ربهم

وإلى السماء بغير كيف ينزل

وأقر بالميزان والحوض الذي

أرجو بأني منه ريا أنهل

وكذا الصراط يمد فوق جهنم

فموحد ناج وآخر يهمل

والنار يصلاها الشقي بحكمة

وكذا التقي إلى الجنان سيدخل

ولكل حي عاقل في قبره

عمل يقارنه هناك ويسأل

هذا اعتقاد الشافعي ومالك

وأبي حنيفة ثم أحمد ينقل

فإن اتبعت سبيلهم فموفق

وإن ابتدعت فما عليك معول

ص: 137

تأمل أيها القارئ كيف يقول الشيخ: وأمر آيات الصفات كما أتت، فلم يؤول ولم يمثل، بل صرح في النزول بغير كيف، كما قال مالك في الاستواء.

ولا ينسب إلى الشيخ التمثيل والتكييف إلا من رق إيمانه وقل عقله وغلب عليه التعصب والتقليد الأعمى، يقول ما يشاء ولا يحسب حسابا لوقوفه يوم القيامة أمام رب العباد يقول تعالى {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .

ودعوى الخصوم أن الشيخ ابن تيمية رحمه الله يمثل ويجسم، فإنها أولا صادرة من خصومه وثانيا من كذبة ابن بطوطة في رحلته إلى دمشق، ولا يخفى على كل ذي حجى أن رحلة ابن بطوطة مملوءة بالأكاذيب والغرائب التي لا يصدقها عاقل، وتأييدا لذلك، أذكر ماقاله العلامة بهجة البيطار عن فرية "حديث النزول" التي افتراها ابن بطوطة إن صح ما قال، وأن رحلته هذه مملوءة بالمختلقات والحكايات الغريبة بما يخالف المعتقد الصحيح، فهاك البيان:

"1" أن ابن بطوطة رحمه الله لم يسمع من ابن تيمية ولم يجتمع به، إذ كان وصوله إلى دمشق يوم الخميس التاسع عشر من شهر رمضان المبارك عام ستة وعشرين وسبعمائة هجرية، وكان سجن شيخ الإسلام في قلعة دمشق أوائل شهر شعبان من ذلك العام، ولبث فيه إلى أن توفاه الله تعالى ليلة الاثنين لعشرين من ذي القعدة عام ثمانية وعشرين وسبعمائة هجرية، فكيف رآه ابن بطوطة يعظ على منبر الجامع وسمعه يقول:

ينزل.... الخ.

"2" أن رحلة ابن بطوطة مملوءة بالروايات والحكايات الغريبة، ومنها ما لا يصح عقلا ولا نقلا وهو يلقي ما ينقله على عواهنه، ولا يتعقبه بشيء

ص: 138

فمن ذلك قوله: "1: 54" وفي وسط المسجد "أي المسجد الأموي بدمشق" قبر زكريا عليه السلام، والمعروف أنه قبر يحيى عليه السلام، وقوله أيضا: وقرأت في فضائل دمشق عن سفيان الثوري أن الصلاة في مسجد دمشق بثلاثين ألف صلاة، وهذا لا يقال من قبل الرأي، وسفيان أجل من أن يفضله على مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المسجد الأقصى ثالث الحرمين الشر يفين وهما لم يبلع الثواب فيهما هذه الدرجة، كما هو معلوم للمحدثين وغيرهم، ومن نقوله التي أقرها ولم ينكرها "1، 199، 133، 136" النذور للقبور المعظمة، والوقوف على أبواب الملوك، ومن ذلك النذر لأبي اسحق إذا هاجت الرياح في البحار ، واشتدت الأخطار ، وهو ما لم يبلغه أهل الجاهلية الذين قال الله تعلى عنهم {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} .

"3" لم يكن ابن تيمية يعظ الناس على منبر الجامع كما زعم ابن بطوطة "1:75""فحضرته يوم الجمعة وهو يعظ على منبر الجامع" بل لم يكن يخطب أو يعظ على منبر الجمعة كما يوهمه قوله: "ونزل درجة من درج المنبر وقال: ينزل الرب كنزولي هذا". وإنما كان يجلس على كرسي يعظ الناس، ويكون المجلس غاصا بأهله، قال الحافظ الذهبي: وقد اشتهر أمره، وبعد صيته في العالم، وأخذ في تفسير الكتاب العزيز أيام الجمع على كرسي من حفظه، فكان يورد المجلس ولا يتلعثم.

"4" يظهر من كلام الحافظ ابن حجر، أن الشيخ نصرا المنبجي الذي كان مقدما في الدولة هو الذي أشاع مسألة النزول عن الدرج، بسبب كتاب ورده من الإمام ابن تيمية ينكر عليه فيه أقوالا في وحدة الوجود، ويعدها عليه، قال الحافظ ابن حجر في الدرر الكامنة "154:1" "" وكتب إليه كتابا طويلا ونسبه وأصحابه إلى الاتحاد الذي هو حقيقة الإلحاد، فعظم ذلك عليهم، وأعانه عليه قوم آخرون ضبطوا عليه كلمات في العقائد مغيرة، وقعت منه في مواعيده "مواعظه" وفتاويه،

ص: 139

فذكروا أنه ذكر حديث النزول، فنزل عن المنبر درجتين "كذا" فقال: كنزولي هذا، فنسب إلى التجسيم". أ. هـ.

كما أود أن أذكر، أن الحكاية التي ذكرها ابن بطوطة عن الشيخ تقي الدين ابن تيمية، أنها حكاية غير صحيحة للآتي:

"1" لما سبق من حديث النزول، وأنه جاء دمشق بعد أن سجن الشيخ، ولم يخرج الشيخ من السجن حتى توفي رحمه الله تعالى.

"2" ومن كلامه أنه سجن أعواما بأمر الملك الناصر، وصنف في السجن كتابا في تفسير القرآن سماه البحر المحيط، ثم إن أمه تعرضت للملك الناصر، وشكت إليه فأمر بإطلاقه إلى أن وقع منه مثل ذلك ثانية، وكنت إذ ذاك بدمشق، فحضرته يوم الجمعة وهو يعظ الناس على منبر الجامع، وذكر حديث النزول، كما ذكر قصة الفقيه المالكي الذي زعم أنه ضربوه بالأيدي والنعال حتى سقطت عمامته وظهرت على رأسه شاشية حرير.... الخ.

وأقول إن الملك الناصر هو الذي أخرج الشيخ من السجن بالإسكندرية، وهو الذي استقبل الشيخ بحفاوة أمام جمع حافل من العلماء والقضاة، ومنهم ابن مخلوف المالكي عدو الشيخ، وهو الذي استفتى الشيخ في قتل بعض القضاة فلم يوافقه الشيخ، ولقد توفيت أم الشيخ "الشيخة صالحة ست النعم بنت عبد الرحمن بن علي بن عبدوس الحرانية" يوم الأربعاء العشرين من شوال عام 716هـ، بعد أن رجع الشيخ إلى دمشق ولم يتعرض لأحد الملوك لا للناصر ولا لغيره.

نعم السجن الأخير الذي توفي فيه الشيخ كان بأمر الملك الناصر، لأن الفقهاء الذين كانوا أعداء للشيخ أكثروا على الملك الناصر، وقالوا: إن الشيخ حرم زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم كذبا وافتراء عليه، فأمر

ص: 140

بحبسه، وذلك في يوم الاثنين السادس من شعبان عام 726هـ.

"3" حكاية الفقيه المالكي وضربه وسقوط العمامة من على رأسه وظهور شاشية من الحرير، هي من نسيج ابن بطوطة، لم يذكرها ابن الأثير كما لم يذكرها ابن كثير. ولا ابن حجر العسقلاني ولا غيرهم.

أما توجيه التهم الباطلة ونسبة الأمور المخالفة لعالم من العلماء بغير إثبات، فليس لها قيمة في ميزان العلم، لأن سلاح الخصوم الجهلاء الافتراء على خصمهم، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يسلم من التهم الباطلة كتهمة السحر والشعر، ولم يخف على أحد ما فعله أعداء الصحابة وما خلقوا لهم من المثالب والطعون التي هم أبرياء منها، وكذلك الأئمة رحمهم الله.

وكون علماء عصره ردوا عليه، فأي قيمة لتلك الردود الباطلة التي لم تؤيد لا بنقل صحيح ولا بعقل رجيح، وقد رد المنتصرون للشيخ ابن تيمية رحمه الله على أولئك الطاعنين والرادين عليه، كالصارم المنكي في الرد على السبكي، وجلاء العينين في محاكمة الأحمدين، والرد الوافر، إلى غير ذلك من المؤلفات التي تنتصر للشيخ، وتزهق باطل خصومه، والبحث في هذا طويل، وكتبت فيه المؤلفات.

والخلاصة: أنه لم يقل قولا يخالف القرآن أو السنة، لا في العقائد ولا في الفروع ولا في الأخلاق، نعم قد يخالف أحد المذاهب أو كلها في بعض المسائل القليلة لقوة الدليل، لأنه بلغ الاجتهاد المطلق، وكان الخصوم يعترفون، ويكفينا ثناء الأئمة الأعلام عليه سلفا وخلفا.

وأما أن الشيخ ابن تيمية قد سجن، فقد سجن قبله الإمام أبو حنيفة، كما سجن الإمام أحمد وجلد، كما جلد الإمام مالك، فهل نقص ذلك من قيمتهم شيئا، بل ازدادوا رفعة ومقاما.

وإذ قد سمعت وقرأت ما أوردته عليك، فيتبين لك أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بريء مما نسب إليه من التجسيم والتمثيل، وأن هذه التهمة من اختلاق أعدائه، لأن أعداءه رحمه الله كانوا كثيرين من الفقهاء والصوفية

ص: 141

وسائر الفرق الباطلة، لأنه نازل الجميع، وبين زيفهم وبطلان ما يعتقدون، وقد جاهد في الله حق جهاده لسانا وسنانا، بما لا يخفى إلا على جاهل أو متعصب أعماه الحقد والضغينة، فمن يشك فيما أقول، فليقرأ كتب الشيخ، فهذه رسالة الواسطية هي من أصغر الرسائل، طلب منه أهل واسط فكتب هذه الرسالة الكريمة المدعمة بالآيات والأحاديث في العقيدة الصحيحة، ووقعت على هذه الرسالة المناظرة بينه وبين علماء عصره في مجلسين أو ثلاث، ولم يستطع أحد منهم أن ينتقد كلمة واحدة، بل سلموا له الأمر، واعترفوا بعلمه الواسع وعقيدته الصحيحة، فليقرأ من يريد تراجم الشيخ في الكتب التي اعتنت بترجمته حتى يعرف تلك المناظرة.

وأما الرسالة فهي مطبوعة ومنتشرة في سائر الأرجاء، ثم الحموية التي ذكرتها، ثم شرح النزول، وله من المؤلفات الشيء الكثير، وكثيرا ما يتطرق إلى العقائد كمنهاج السنة النبوية، ودرء التعارض بين المعقول والمنقول.

وهكذا شأن الخصوم إذا عجزوا في ميدان الحجج اختلقوا الأكاذيب والترهات، ولما جاء دور الشيخ محمد بن عبد الوهاب، لم يستطيعوا أن يثبتوا عليه حرفا واحدا بأنه خالف الكتاب والسنة، ولهذا اختلقوا هذه الافتراءات والترهات التي هي أشبه بأساطير الأولين.

والشيخ ابن تيمية وأتباعه، والشيخ محمد بن عبد الوهاب وأتباعه، ومن يدين بعقيدة السلف، إذا قالوا شيئا أثبتوه بالدلائل المسلمة.

وأما الخصوم، فليس عندهم إلا الكلام الباطل، فإذا اجتهدوا كل الاجتهاد، وبذلوا كل الوسع، أتوا بحديث إما أن يكون موضوعا أو ضعيفا لا يحتج بهما، وبعد اللتيا والتي يأتون بآية لا تدل على مرامهم مثل استدلالهم على التوسل بقول الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} وفي مقام الأولياء قول الله تعالى {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} فالآية الأولى سبق الكلام عنها، والآية الثانية لأن تكون حجة عليهم أولى من أن تكون لهم حجة، إذ ليس فيها إلا بيان

ص: 142

صفات الأولياء، بأنهم من المؤمنين والمتقين، فأين الكرامات المختلقة لهم، وأين التوسلات والاستغاثات الشركية، لكن الأمر كما قيل:

إذا أخذ ما وهب

سقط ما وجب

الجواب عن العنصر الثالث:

الخلف لم ينتهجوا منهج السلف، فأثبتوا صفات المعاني والمعنوية، وأولوا الصفات الخبرية كالاستواء والنزول واليدين، فهذا التأويل لا يستطيعون أن يثبتوا عليه دليلا من القرآن ولا من السنة ولا من أقاويل الصحابة ولا من التابعين ولا من الأئمة، وإنما أخذوه متأثرين من آراء المعتزلة والجهمية الذين فكروا بعقولهم إننا لو أنكرنا النصوص القرآنية في الصفات الإلهية كفرنا، ولو أثبتنا ونحن عندنا من علم الفلسفة والمنطق ما يقودنا إلى عدم إثبات هذه الصفات، فالأولى أن تؤول ونلتمس من اللغة العربية، ما يكون لنا مسوغا فأخذوا من قول الشاعر:

قد استوى بشر على العراق

من غير سيف ودم مهراق

بأن معناه قد استولى

وأخذوا من قول العرب لفلان على فلان يد بمعنى نعمة وفلان له يد طولى في العلم أو القوة أو الحكم.

فأولوا تلك الصفات مستندين إلى ذلك والحال أنه قد رد العلماء تأويلاتهم بما لا يدع شكا إنها مبنية على شفا جرف هار، وقد بسط الحافظ ابن القيم في الصواعق المرسلة بما لا مزيد بعده ولا نطيل به الكلام. ثانيا: أنهم زعموا أنهم اتبعوا أبا الحسن الأشعري وقد كان إماما عظيما وهو بريء من هذه التأويلات، وكتابه الإبانة، وكتابه مقالات الإسلاميين، يبرهنان أوضح برهان أن الإمام أبا الحسن رجع عن هذه الآراء لأنه كان أولا معتزليا صرفا ثم رجع وتوسط بين المذهبين، أثبت بعض الصفات وأول بعض الصفات، ثم رجع أخيرا إلى مذهب السلف كما ترجم له الشيخ تاج

ص: 143

الدين السبكي وابن عساكر وشارح الإحياء وبين هؤلاء كلهم أنه رجع سلفيا.

أما جواب العنصر الرابع:

فالجواب من وجوه:

أحدها: نقول للمعطل، هل تقر بوجود الله تعالى أم لا؟ فإن قال لا فهو كافر بالربوبية، فيجب علينا حينئذ إقامة الأدلة على ربو بيته تعالى.

وأن أقر بوجود الله، فيقال له هل وجوده كوجودنا؟ فمن اليقين أن يقول لا كوجودنا، بل له وجود يخصه، فنقول له فكذلك صفاته ليست كصفاتنا، لأن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات.

فكما أن ذاته ليست كذوات غيره، فكذلك صفاته ليست كصفات غيره، وليعلم المعطل أن اشتراك شيئين في مطلق اسم لا يوجب اتحادهما في الحقيقة.

فإذا قيل أن العرش موجود، والذباب موجود، فهل يفهم عاقل أن وجود العرش كوجود الذباب؟

وكذلك إذا قيل بأن الله موجود، والمخلوق موجود، لا يفهم من هذا أن وجوده تعالى كوجود المخلوق.

وإذا قلنا لله علم، ولبعض المخلوق علم، لم يكن علمه تعالى كعلم المخلوق، وهكذا القول في سائر الصفات.

وإن أقر بالوجود، وزعم أن وجوده لا يستلزم التشبيه لأنه واجب عقلا ونقلا، وأنكر بقية الصفات أو أولها لاستلزامها ما ذكر بحجة أن العقل يحيلها، لاستلزامها الحدوث.

فيجاب: ليس الأمر كما زعمت، لأننا نقول: الموجود إما أن يكون جسما أو عرضا، والله موجود فيلزم أن يكون أحدهما، فإن اعترفت بأحدهما فذلك المحذور بعينه، وإن استطعت أن تقول أنه تعالى ليس جسما ولا عرضا ولا

ص: 144

مماثلا لغيره، فقل كذلك صفاته الثابتة في القرآن والسنة ليست كصفات غيره، ومجرد قولك يلزم هذا ولا يلزم هذا، لا يقبل إلا بدليل مسلم به.

والمقصود أن فتح باب التأويل يوجب هدم الشريعة، إذ مادمت تسوغ التأويل في باب أسماء الله وصفاته، لا يمكنك أن تنكر على مبطل، لأنك إن أنكرت على قرمطي في تأويله لنصوص التكاليف ونصوص المعاد يجبك إني أولتها كما أولت في الصفات، ولا يعقل نفي تأويلي وقبول تأويلك، وإذا أنكرت على المرجئة، وبينت لهم نصوم الوعيد، أجابوك بتأويل النصوص، وأن المقصود منها التخويف فقط، وأنت قائل بالأقاويل التي أعظم من هذه.

وإن أنكرت على من سب الصحابة رضي الله عنهم، وكفروهم وأوردت لهم النصوص الدالة على فضلهم قالوا لك: إنها مؤولة.

فإذا قلت تأويلكم غير مقبول، قالوا لك: كيف يقبل منك التأويل الذي يرجع إلى الخالق، ولا يقبل منا ما يرجع إلى المخلوق.

والحاصل: إنه لا يمكن للمؤول أن ينكر على مبطل أو يناظره، إلا ويناضله بسلاح ذلك المناضل حتى ينتصر عليه، وهل فتح هذا الباب إلا هدم لأساس الدين.

إن القرآن قد أنزله الله لهداية البشر وإخراجهم من ظلمات الوثنية والإلحاد والشرك إلى نور الإيمان والتوحيد والإسلام، وتقديس الله وتنزيهه عما لا يليق بجلاله.

وأمر الله نبيه بالتبليغ فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} ، ووصف القرآن بأن فيه البيان لكل شيء، فقال {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} . بين الرسول صلى لله عليه وسلم هذه التأويلات التي زعموها؟ وقد اهتدى بالقرآن والنبي صلى لله عليه وسلم ملايين البشر، وصاروا بعد تلك الوثنية والكفريات من المؤمنين المنزهين لله تعالى، فلو كان ظاهر تلك الآيات، دالة

ص: 145

على التمثيل والتجسيم، لما كانوا منقولين من الوثنية والكفر، إذ هذا هو الوثنية بعينها، ولا كان هناك معنى لهداية البشر، ولا فائدة في القرآن والرسول صلى الله عليه وسلم.

ولا يخفى أن في هذا طعنا في القرآن والرسول، إذ قد أتيا بما يدل على التجسيم والتشبيه كما يلزم الطعن في المسلمين السابقين والعلماء الراسخين والعوام الموحدين، لأنهم اعتقدوا ما دلت عليه الآيات والأحاديث.

فإن قالوا: لا نقول بموجب ذلك، بل نبرأ إلى الله مما هنالك، بل قصدنا تنزيه الله وبعده عن النقائص.

قلنا لا بأس، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أحق منكم بالتنزيه، والمسلم لا يكون مسلما إلا بإقراره بالله وتوحيده، وتنزيهه عن الكفء والمثيل، ولكن لا ينزه الله عما وصف به نفسه، وأنتم قد نزهتموه عن الصفات التي وصف بها نفسه، فلو كان ما تقولون حقا لنزهه الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم أصحابه رضوان الله تعالى عليهم بمثل ما نزهتموه به، ولكن لم يثبت شيء من ذلك.

ولو كان ما تقولون حقا لبينه النبي صلى لله عليه وسلم للأمة وهو مأمور بالبيان والتبليغ، فيلزم من قولكم أنه لم يبين ما هو واجب البيان، وهذا طعن في الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر الله تعالى في الآية آنفة الذكر، إنه تبيان لكل شيء، فأين بيان الله عز وجل لهذه التأويلات، وأين بيان الرسول صلى لله عليه وسلم؟

وكيف يبين الرسول صلى الله عليه وسلم للأمة كل ما يحتاجون إليه، حتى آداب قضاء الحاجة، ولا يبين لهم ما يعتقدونه في ربهم ومعبودهم.

وإذا كان ظاهر النصوص يدل على التشبيه والتجسيم، ومن العلوم أن التجسيم والتشبيه ضلال، والضلال نقيض الهدى، فأين قول الله تعالى في وصف كتابه {هُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} ؟ وقال:{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} ، وكيف يقول {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} وهل يأمر الله تعالى باتباع الضلال.

ص: 146

فنسبة التجسيم إلى القائل وهو الله والرسول أولى منا لأننا راوون لما قال الله وقاله رسوله، ومعتقدون ما أخبر الله به ورسوله، ولم يقل الله ورسوله لا تعتقدوا بظواهر هذه الآيات لأنها تدل على التجسيم والتمثيل، واستدلالكم ب {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} جوابنا: إن هذه الآية حجة عليكم لأن صدرها ينفي المثلية ويرد على الممثلة والمشبهة، وعجزها يثبت كونه سميعا بصيرا، وفيه رد على المعطلة.

ولم يقل أحد من السلف بأن صفاته كصفات غيره، حتى تلزموهم بالتمثيل والتجسيم، بل ينزهون الله أعظم من تنزيهكم، ويثبتون له أوصافه السنية كما جاء في القرآن والسنة النبوية، ويقرنون بعدم التكييف والتمثيل أ. هـ.1

1 من العقائد السلفية للمؤلف

ص: 147

فصل في ثناء بعض العلماء على شيخ الإسلام ابن تيمية

1-

ابن سيد الناس

فمنهم الشيخ الإمام الحافظ الفقيه العالم الأديب البارع فتح الدين أبو الفتح محمد ابن الحافظ العلامة الخطيب أبي بكر محمد بن أحمد بن عبد الله ابن محمد بن يحيى بن أبي القاسم بن سيد الناس اليعمري الأندلسي الإشبيلي، ثم المصري الشافعي1.

قال الحافظ أبو عبد الله بن أحمد بن عبد الهادي2، قال الحافظ فتح الدين أبو الفتح ابن سيد الناس اليعمري المصري، بعد أن ذكر ترجمة شيخنا الحافظ المزي:

وهو الذي حداني على رؤية الشيخ الإمام شيخ الإسلام تقي الدين أبي العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية، فألفيته ممن أدرك من العلوم حظا، وكاد أن يستوعب السنن والآثار حفظا.

إن تكلم في التفسير فهو حامل رايته، أو أفتى في الفقه فهو مدرك غايته، أو ذاكر في الحديث فهو حامل رايته، أو حاضر بالملل والنحل لم ير أوسع من نحلته في ذلك ولا أرفع من درايته، برز في كل فن على أبناء جنسه، ولم تر عين من رآه مثله، ولا رأت عينه مثل نفسه، كان يتكلم في التفسير، فيحضر مجلسه الجم الغفير، ويردون من بحره العذب النمير، ويرتعون من ربيع فضله في روضة وغدير، إلى أن دب إليه من أهل بلده داء

1 ولد بالقاهرة في العشر الأول من ذي الحجة سنة إحدى وسبعين وستمائة، وتوفي يوم السبت حادي عشر شعبان سنة أربع وثلاثين وسبعمائة بالقاهرة، وصلي عليه من الغد ودفن عند ابن أبي حمزة، وكانت جنازته مشهودة، وله مصنفات مفيدة، ومؤلفات حميدة، منها كتاب "النفح الشذي في شرح كتاب الترمذي".

2 انظر "العقود الدرية" ص9.

ص: 148

الحسد، وأكب أهل النظر منهم على ما ينتقد عليه من أمور المعتقد، فحفظوا عنه في ذلك كلاما أوسعوه بسببه ملاما، وفوقوا لتبديعه سهاما، وزعموا أنه خالف طريقهم، وفرق فريقهم، فنازعهم ونازعوه، وقاطع بعضهم وقاطعوه، ثم نازع طائفة أخرى ينسبون من الفقر إلى طريقه، ويزعمون أنهم على أدق باطن منها وأجلى حقيقة، فكشف تلك الطرائق، وذكر لها على ما زعم بوائق، فآضت إلى الطائفة الأولى من منازعيه، واستعانت بذوي الضغن عليه من مقاطعيه، فوصلوا بالأمراء أمره، وأعمل كل منهم في كفره فكره، فرتبوا محاضر، وألبوا الرويبضة للسعي بها بين الأكابر، وسعوا في نقله إلى حاضرة المملكة بالديار المصرية فنقل، وأودع السجن ساعة حضوره واعتقل، وعقدوا لإراقة دمه مجالس، وحشدوا لذلك قوما من عمار الزوايا وسكان المدارس، من مجامل في المنازعة، مخاتل بالمخادعة، ومن مجاهر بالتكفير مبارز بالمقاطعة، يسومونه ريب المنون، {وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} ، وليس المجاهر بكفره بأسوأ حالا من المخاتل، وقد دبت إليه عقارب مكره، فرد الله كيد كل في نحره، ونجاه على يد من اصطفاه {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} . ثم لم يخل بعد ذلك من فتنة بعد فتنة، ولم ينتقل طول عمره من محنة إلا إلى محنة، إلى أن فوض أمره إلى بعض القضاة فتقلد ما تقلد من اعتقاله، ولم يزل بمحبسه ذلك إلى حين ذهابه إلى رحمة الله تعالى وانتقاله {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} ، وهو المطلع على خائنة الأعين وما تخفي الصدور.

ص: 149

2-

ابن عبد الهادي

ومنهم الشيخ الإمام العلامة الحافظ الناقد ذو الفنون عمدة المحدثين متقن المحررين شمس الدين أبو عبد الله محمد ابن الشيخ عماد الدين أبي العباس حمد بن عبد الهادي بي عبد الحميد بي عبد الهادي بن يوسف بن محمد بن قدامة بن مقدام بن نصر المقدسي الصالحي الحنبلي1

قال ابن عبد الهادي في ترجمة الشيخ تقي الدين ابن تيمية: هو الشيخ الإمام الرباني إمام الأئمة، ومفتي الأمة، وبحر العلوم، سيد الحفاظ وفارس المعاني والألفاظ فريد العصر، وحيد الدهر، شيخ الإسلام، بركة الأنام، علامة الزمان، وترجمان القرآن، علم الزهاد، وأوحد العباد، قامع المبتدعين وآخر المجتهدين، تقي الدين، أبو العباس أحمد ابن الشيخ الإمام العلامة شهاب الدين أبي المحاسن عبد الحليم ابن الشيخ الأمام العلامة شيخ الإسلام مجد الدين أبي البركات عبد السلام بن أبي محمد عبد الله بن أبي القمم الخضر محمد بن الخضر بن علي بن عبد الله ابن تيمية الحراني، نزيل دمشق، وصاحب التصانيف التي لم يسبق إلى مثلها ولا يلحق في شكلها توحيدا أو تفسيرا وإخلاصا وفقها وحديثا ولغة ونحوا وبجميع العلوم كتبه طافحة بذلك.

ولقد ترجمه ابن عبد الهادي بشيخ الإسلام مرارا كثيرة، وذكر من مناقبه في ترجمته أشياء خطيرة، وعد كثيرا من مصنفاته، ونص على نفائس من مؤلفاته، وذكره في كتابه "طبقات الحفاظ" بترجمة مختصرة ونعوت جامعة محررة، من وصف الأئمة الشيخ تقي الدين.

1 ولد في شهر رجب سنة أربع وقيل سنة خمس وقيل سنة ست وسبعمائة، وتوفي رحمه الله في عاشر جمادى الأولى سنة أربع وأربعين وسبعمائة، ودفن بسفح قاسيون

ص: 150

3-

الذهبي

ومنهم الشيخ الإمام الحافظ الهمام مفيد الشام ومؤرخ الإسلام، ناقد المحدثين وإمام المعدلين والمجرحين، شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز بن عبد الله التركماني الفارقي الأصل الدمشقي ابن الذهبي الشافعي1

ومشيخته بالسماع والإجازة نحو ألف شيخ وثلاثمائة شيخ يجمعهم "معجمه الكبير" وكان آية في نقد الرجال. عمدة في الجرح والتعجيل، عالما بالتفريع والتأصيل، إماما في القراءات فقيها في النظريات له دربة بمذاهب الأئمة وأرباب المقالات، قائما بين الخلف بنشر السنة ومذهب السلف

وقال الحافظ علم الدين أبو محمد القاسم ابن البرزالي: رأيت في إجازة لابن الشهرزوري الموصلي خط الشيخ تقي الدين ابن تيمية، قد كتب تحته الشيخ شمس الدين الذهبي: هذا خط شيخنا الإمام شيخ الإسلام فرد الزمان، بحر العلوم تقي الدين، مولده عاشر ربيع الأول سنة إحدى وستين وستمائة، وقرأ القرآن والفقه وناظر واستدل وهو دون البلوغ، برع في العلم والتفسير، وأفتى ودرس، وله نحو العشرين وصنف التصانيف، وصار من أكابر العلماء في حياة شيوخه، وله المصنفات الكبار، التي سارت بها الركبان، ولعل تصانيفه في هذا الوقت تكون أربعة آلاف كراس وأكثر، وفسر كتاب الله تعالى مدة سنين من صدره في أيام الجمع، وكان يتوقد ذكاء، وسماعاته من الحديث كثيرة، وشيوخه أكثر من مائتي شيخ، ومعرفته بالتفسير إليها المنتهى، وحفظه للحديث ورجاله وصحته وسقمه، فما يلحق فيه، وأما نقله للفقه، ومذاهب الصحابة والتابعين، فضلا عن المذاهب الأربعة، فليس

1مولده فيما وجد بخطه في سنة ثلاث وسبعين وستمائة، وتوفي ليلة الاثنين ثالث ذي القعدة سنة ثمان وأربعين وسبعمائة، ودفن من الغد بمقبرة الباب الصغير من دمشق رحمه الله تعالى.

ص: 151

له فيه نظير، وأما معرفته بالملل والنحل، والأصول والكلام، فلا أعلم له فيه نظيرا ويدري جملة صالحة من اللغة، وعربيته قوية جدا، ومعرفته بالتاريخ والسير فعجب عجيب، وأما شجاعته وجهاده وإقدامه، فأمر يتجاوز الوصف، ويفوق النعت، وهو أحد الأجواد الأسخياء الذين يضرب بهم المثل، وفيه زهد وقناعة باليسير في المأكل والملبس. انتهى.

وقال الحافظ أبو عبد الله الذهبي مرة أخرى في ترجمة الشيخ تقي الدين ابن تيمية: وله باع طويل في معرفة مذاهب الصحابة والتابعين، وقل أن يتكلم في مسألة إلا ويذكر فيها مذاهب الأربعة، وقد خالف الأربعة في مسائل معروفة، وصنف فيها، واحتج لها بالكتاب والسنة، ولما كان معتقلا بالإسكندرية التمس منه صاحب سبتة أن يجيز له مروياته، وينص على أسماء جملة منها، فكتب في عشر ورقات جملة من ذلك بأسانيدها من حفظه، بحيث يعجز أن يعمل بعضه أكبر محدث يكون، وله الآن عدة سنين لا يفتي بمذهب معين، بل بما قام الدليل عليه عنده، ولقد نصر السنة المحضة، والطريقة السلفية، واحتج لها ببراهين ومقدمات، وأمور لم يسبق إليها، وأطلق عبارات أحجم عنها الأولون والآخرون وهابوا، وجسر هو عليها حتى قام عليه خلق من علماء مصر والشام قياما لا مزيد عليه، وبدعوه وناظروه وكاتبوه وهو ثابت، لا يداهن ولا يحابي، بل يقول الحق المر الذي أداه إليه اجتهاده وحدة ذهنه، وسعة دائرته في السنن والأقوال مع ما اشتهر منه من الورع وكمال الفكر وسعة الإدراك، والخوف من الله العظيم، والتعظيم لحرمات الله فجرى بينه وبينهم حملات حربية، ووقعات شامية ومصرية، وكم من نوبة قد رموه عن قوس واحدة فينجيه الله تعالى، فإنه دائم الابتهال كثير الاستغاثة، قوي التوكل ثابت الجأش، له أوراد وأذكار يدبجها بكيفية وجمعية، وله من الطرف الآخر محبون من العلماء والصلحاء، ومن الجند والأمراء، ومن التجار والكبراء وسائر العامة تحبه، لأنه منتصب لنفعهم ليلا

ص: 152

ونهارا بلسانه وقلمه.

وأما شجاعته فبها تضرب الأمثال، وببعضها يتشبه أكابر الأبطال، فلقد أقامه الله في نوبة غازان والتقى أعباء الأمر بنفسه، وقام وقعد وطلع وخرج، واجتمع بالملك مرتين وبخطلوشاه، وببولاي، وكان قبجق يتعجب من إقدامه وجراءته على المغول، وله حدة قوية تعتريه في البحث حتى كأنه ليث حرب، وهو أكبر من أن ينبه على نعوته، فلو حلفت بين الركن والمقام لحلفت: أني ما رأيت بعيني مثله، ولا والله ما رأى هو مثل نفسه في العلم.

4-

ابن دقيق العيد

ومنهم الشيخ العلامة الإمام أحد شيوخ الإسلام، قاضي قضاة المسلمين، تقي الدين عمدة الفقهاء والمحدثين، أبو الفتح محمد بن علي بن وهب بن مطيع بن أبي الطاعة القشيري المنفلوطي المالكي الشافعي ابن دقيق العيد1

كان إماما حافظا فقيها ذا تحرير، مالكيا شافعيا ليس له نظير، وكان يفتي بالمذهبين ويدرس فيهما بمدرسة الفاضل على الشرطين، وله اليد الطولى في معرفة الأصلين، ومن مؤلفاته كتاب "الإلمام في الأحكام" وكتاب "الأربعين في الرواية عن رب العالمين".

لما قدم التتار – خذلهم الله تعالى – سنة سبعمائة إلى أطراف البلاد الشامية، وكانت العساكر المصرية قد خرجت لقتالهم، ثم قوي عليهم المطر وشدة البرد فرجعوا متوجهين إلى مصر، فبلغ ذلك الشيخ تقي الدين ابن تيمية فركب على البريد من دمشق، وساق ليلحق السلطان قبل دخوله إلى مصر

1 توفي سنة اثنتين وسبعمائة، روى عن ابن المقير وابن الجميزي وابن رواج وآخرين، وعنه المزي والقطب الحلبي، وغيرهما من المحدثين.

ص: 153

فسبقه الجيش ودخل إلى القاهرة، فدخلها الشيخ تقي الدين ابن تيمية في اليوم الثامن من خروجه من دمشق، وكان دخوله مع دخول بعض العساكر إلى القاهرة يوم الاثنين حادي عشر جمادى الأولى سنة سبعمائة فاجتمع بالشيخ أعيان البلد ومنهم تقي الدين ابن دقيق العيد فسمع كلام الشيخ تقي الدين ابن تيمية، وقال له بعد سماع كلامه: ما كنت أظن أن الله تعالى خلق مثلك، وسئل الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد بعد انقضاء ذلك المجلس عن الشيخ تقي الدين ابن تيمية فقال: هو رجل حفظة، فقيل له: فهلا تكلمت معه؟ فقال: هذا رجل يحب الكلام وأنا أحب السكوت وقال الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد أيضا: لما اجتمعت بابن تيمية رأيت رجلا العلوم كلها بين عينيه يأخذ منها ما يريد ويدع ما يريد. أ. هـ.1

وما ذكرناه من ثناء العلماء قطرة من بحر، ولو أردنا أن نذكر ثناء الكثيرين لتطلب منا كتابا، ولكن من أراد المزيد، فليرجع إلى الرد الوافر والعقود الدرية في مناقب الشيخ ابن تيمية.

1 من "ابن تيمية" د. محمد يوسف موسى.

ص: 154

فصل في بيان أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب لم ينفرد لا هو ولا شيخ الإسلام ابن تيمية بكفر من أشرك بعبادة غير الله

وهاك النقول من كلام العلماء المحققين سلفا وخلفا:

قال الشيخ أحمد بن علي المقريزي سنة 854 هجرية بعد كلام سبق:

وشرك الأمم نوعان: شرك في الإلهية وشرك في الربوبية، فالشرك في الإلهية والعبادة هو الغالب على أهل الإشراك، وهو شرك عباد الأصنام وعباد الملائكة وعباد الجن وعباد المشايخ والصالحين الأحياء والأموات الذين قالوا {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} ويشفعوا لنا عنده، وينالنا بسبب قربهم من الله وكرامته لهم قرب وكرامة، كما هو المعهود في الدنيا من حصول الكرامة والزلفى لمن يخدم أعوان الملك وأقاربه وخاصته.

والكتب الإلهية كلها من أولها إلى آخر ها تبطل هذا المذهب وترده وتقبح أهله، وتنص على أنهم أعداء الله تعالى، وجميع الرسل صلوات الله عليهم متفقون على ذلك من أولهم إلى آخر هم، وما أهلك الله تعالى من أهلك من الأمم إلا بسبب هذا الشرك ومن أجله، وأصله الشرك في محبة الله، قال تعالى {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} فأخبر سبحانه وتعالى أنه من أحب مع الله شيئا غيره كما يحبه، فقد اتخذ ندا من دونه، وهذا على أصح القولين في الآية، أنهم يحبونهم كما يحبون الله وهذا هو العدل المذكور فيقوله تعالى {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} ، والمعنى على أصح القولين أنهم يعدلون به غيره في العبادة، فيسوون بينه وبين غيره في الحب والعبادة، وكذلك قول المشركين في النار لأصنامهم {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} ، ومعلوم قطعا أن هذه التسوية لم تكن بينهم وبين الله في كونه ربهم وخالقهم، فإنهم كانوا كما أخير الله عنهم مقرين بأن الله

ص: 155

تعالى وحده هو ربهم وخالقهم، وأن الأرض ومن فيها لله وحده، وأنه رب السموات السبع ورب العرش العظيم وأنه سبحانه وتعالى هو الذي بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه، وإنما كانت التسوية بينهم وبين الله تعالى في المحبة والعبادة، فمن أحب غير الله تعالى وخافه ورجاه وذل له كما يحب الله تعالى ويخافه ويرجوه، فهذا هو الشرك الذي لا يغفره الله، فكيف بمن كان غير الله آثر عنده وأحب إليه وأخوف عنده وهو في مرضاته أشد سعيا منه في مرضاة الله، فإذا كان المسوي بين الله وبين غيره في ذلك مشركا، فما الظن بهذا، فعياذا بالله من أن ينسلخ القلب من التوحيد والإسلام، كانسلاخ الحية من قشرها، وهو يظن أنه مسلم موحد، فهذا أحد أنواع الشرك.

ثم ذكر النوع الثاني من الشرك وهو الشرك به تعالى في الربوبية، كمن جعل معه خالقا آخر كالمجوس وغيرهم، الذين يقولون أن للعالم ربين أحدهم خالق الخير والآخر خالق الشر.... إلى أن قال: وكثيرا ما يجتمع الشركان في العبد وينفرد أحدهما عن الآخر، والقرآن الكريم بل الكتب المنزلة من عند الله تعالى كلها مصرحة بالرد على أهل هذا الإشراك كقوله تعالى {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} ، فإنه ينفي شرك المحبة والإلهية، وقوله {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، فإنه ينفي شرك الخلق والربوبية، فتضمنت هذه الآية تجريد التوحيد لرب العالمين في العبادة، وأنه لا يجوز إشراك غيره معه، لا في الأفعال ولا في الألفاظ ولا في الإرادات، فالشرك به في الأفعال كالسجود لغيره سبحانه وتعالى، والطواف بغير بيته المحرم، وحلق الرأس عبودية وخضوعا لغيره تعالى، وتقبيل الأحجار غير الحجر الأسود، وتقبيل القبور واستلامها والسجود لها، وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم من اتخذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد، فكيف من اتخذ القبور أوثانا تعبد من دون الله تعالى، قال تعالى {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:" لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"، يحذر ما صنعوا، وفيه أيضا: "إن من شرار الناس من

ص: 156

تدركهم الساعة وهم أحياء الذين يتخذون القبور مساجد". وفيه أيضا عنه صلى الله عليه وسلم: "إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك".

ثم عدد بعض أنواع الشرك، كالسجود لغير الله، والحلف بغير الله وقول القائل: أنا متوكل على الله وعليك، ومالي إلا الله وأنت، وهذا من الله ومنك، وهذه الكلمات من شرك الألفاظ.

وأخذ المقريزي يحدثنا إلى أن قال: وأما الشرك في الإرادات والنيات، فذلك البحر الذي لا ساحل له وقل من ينجو منه.

فمن نوى بعمله غير وجه الله، لم يقم بحقيقة قوله تعالى {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} فاستمسك بهذا الأصل ورد ما أخرجه المبتدعة والمشركون إليه تتحقق معنى الكلمة الإلهية.

وهنا أورد سؤالا ملخصه: أن هؤلاء لم يقصدوا الاستهانة بجناب الربوبية عندما جعلوا وسائط بينهم وبين الله كالأولياء والصلحين، وإنما قصدوا تعظيمه، لأنهم جعلوا الوسائط لتقربهم إليه تعالى، فلم كان هذا القدر موجبا لغضب الله ومخلدا في النار، وموجبا لسفك دماء أصحابه، واستباحة حريمهم وأموالهم، وأطنب في الكلام وأجاب بجواب مسهب وملخصه كالآتي:

أن هؤلاء الذين جعلوا وسائط بينهم وبين الله شبهوا الخالق بالمخلوق، وشبهوا المخلوق بالخالق.

أما تشبيه الخالق بالمخلوق، فإنهم شبهوه بملوك البشر بحيث إنهم يقبلون شفاعة الوسطاء من الوزراء والأغنياء وذوي الجاه في العفو عمن يستحق القتل أو كالسجن أو نحو ذلك، حيث إن القبوريين يقولون إننا نتوسل بالأنبياء والصالحين نستغيث بهم لأن لهم جاها ومقاما كبيرا عند الله، وهم الواسطة بيننا وبين الله لقبول دعائنا، وقد قال الله تعالى مخبرا عن المشركين {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ

ص: 157

شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} .

أما تشبيه المخلوق بالخالق فتوضيحه أن يقال: أن من اعتقد في مخلوق حي أو ميت، نبيا كان أو وليا أو ملكا أو جنيا أو جمادا كالشمس والقمر والبحر، أنه يضر وينفع ويجيب السائلين، ويقضي حوائج الداعين أو يعتقد في الأنبياء والأولياء التصرف في الكون، كاعتقادهم في الغوث الأعظم والأبدال والنجباء، فإنه قد شبه المخلوق بالخالق، إذ هذه الصفات وهي النفع والضر وقضاء حاجة المحتاج فيما لا يقدر عليه إلا الله سبحانه وتعالى وإجابة المستغيث ونحو ذلك من خصائص الألوهية وليس للمخلوق ذرة في ذلك، قال الله تعالى مخاطبا لنبيه صلى الله عليه وسلم {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً} ، وقال تعالى {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .

فتأمل الآية أدنى تأمل لتعرف أن الأنبياء والرسل فضلا عن الأولياء وغيرهم مملوكون ومخلوقون ومدبرون لله سبحانه وتعالى.

وهل يقبل عقل أن يمنح المخلوق صفات الخلق أو بعض صفاته، تعالى الله عما يقول المشركون علوا كبيرا، ولهذا تبرأ المسيح عيسى ابن مر يم ممن يعبده، فقال تعالى {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ، مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} أ. هـ.

قال الرازي في مفاتيح الغيب: الأكثرون من المفسرين قالوا ليس المراد من الأرباب إنهم اعتقدوا أمهم آلهة العلم، بل المراد أنهم أطاعوهم في

ص: 158

أوامرهم ونواهيهم، قال الربيع: قلت لأبي العالية كيف كان تلك الربوبية في بني إسرائيل: فقال: إنهم ربما وجدوا من كتاب الله ما يخالف أقوال الأحبار والرهبان، فكانوا يأخذون بأقوالهم وما كانوا يقبلون حكم كتاب الله تعالى.

قال ابن بلدجي في شرح المختار:

ويكره أن يدعو الله تعالى إلا به، فلا يقول أسألك بفلان أو بملائكتك أو أنبيائك أو نحو ذلك، لأنه لا حق للمخلوق على خالقه، أو يقول في دعائه أسألك بمعقد العز من عرشك، وعن أبي يوسف جوازه لما يروى أنه عليه الصلاة والسلام دعا بذلك، ولأن معقد العز من العرش إنما يراد به القدرة التي خلق الله تعالى بها العرش مع عظمته، فكأنه سئل بأوصافه.

وما قال فيه أبو حنيفة وأصحابه: أكره كذا، فهو عند محمد حرام، وعند أبي حنيفة وأبي يوسف هو إلى الحرام أقرب، وجانب التحريم عليه أغلب.

فإذا قرر الشيطان عنده أن الإقسام على الله تعالى به والدعاء به أبلغ في تعظيمه واحترامه، وأنحج في قضاء حاجته نقله درجة أخرى إلى دعائه نفسه من دون الله تعالى والنذر له، ثم ينقله بعد ذلك درجة أخرى أن يتخذ قبره وثنا يعكف عليه ويوقد عليه القنديل والشمع، ويعلق عليه الستور، ويبني عليه المسجد ويعبده بالسجود له والطواف به وتقبيله واستلامه والحج إليه والذبح عنده، ثم ينقله درجة أخرى وإلى عبادته واتخاذه عيدا أو منسكا وأن ذلك أنفع لهم في دنياهم وآخرتهم،

وقال في النهر الرائق: اعلم أن الشيخ قاسما، وهو من أكابر العلماء الحنفية رحمهم الله تعالى قال في شرح درر البحار: إن النذر الذي يقع من أكثر العوام، بأن يأتي إلى قبر بعض الصلحاء قائلا: يا سيدي فلان إن رد غائبي أو عوفي مريضي فلك كذا، باطل إجماعا لوجوه.... الخ

إلى أن قال: ومنها الظن أن الميت يتصرف في الأمور، واعتقاد هذا كفر، والمسلم لا يطلب حاجته من غير الله، فإن من طلب حاجته من ميت أو

ص: 159

غائب فقد فارق الإسلام.

وممن صرح بهذه المسألة من علمائننا الحنفية صاحب الفتاوى البزازية، والعلامة صنع الله الحلبي المكي، وصاحب البحر الرائق، وصاحب الدر المختار، والعلامة قاسم بن قطلوبغا، والعلامة بير علي البركوي صاحب الطريقة المحمدية، وأبو سعيد الخادمي، ومولوي عبد الحي اللكنوي، وغيرهم رحمهم الله أجمعين. أ. هـ1

قال العلامة محيي الدين محمد البركوي الحنفي:

فإن قيل فما الذي أوقع عباد القبور في الافتتان بها مع العلم بأن ساكنيها لا يملكون لهم ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا.

قيل أوقعهم في ذلك أمور، منها الجهل بحقيقة ما بعث الله به رسوله، بل جميع الرسل، من تحقيق التوحيد وقطع أسباب الشرك، فالذين قل نصيبهم من ذلك إذا دعاهم الشيطان إلى الفتنة بها، ولم يكن لهم من العلم ما يبطل دعوته، استجابوا له بحسب ما عندهم من الجهل، وعصموا بقدر ما معهم من العلم.

ومنها أحاديث مكذوبة مختلفة، وضعها أشباه عباد الأصنام من المقابرية على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي تناقض دينه وما جاء به كحديث "إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور" وحديث "لو أحسن أحدكم ظنه بحجر نفعه" وأمثال هذه الأحاديث التي هي مناقضة لدين الإسلام، وضعها عباد القبور، وراجت على أشباههم من الجهال والضلال، والله تعالى تعث رسوله صلى الله عليه وسلم لقتل من حسن ظنه بالأحجار وجنب أمته الفتنة بالقبور بكل طريق.

وذهب يتحدث إلى أن قال:

وكثير من الناس يدعو دعاء يعتدي فيه أو يشرك أو يكون فيه ما لا يجوز

1 من "حكم الله الواحد الأحد" للمعصومي.

ص: 160

أو يسأل، فيحصل له ذلك كله أو بعضه، فيظن أن عمله صالح مرضي عند الله تعالى، ويكون كمن أملى له، وأمده بالمال والبنين، وهو يظن أن الله تعالى يسارع له في الخيرات، وقد قال الله تعالى {َلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} ، فالدعاء قد يكون عبادة فيثاب عليه الداعي، وقد يكون مسألة تقضي حاجته، ويكون مضرة عليه إما أن يعاقب بما يحصل له أو ينقص به درجته، فإنه تعالى يقضي حاجته ويعاقبه على ما جرأ عليه من إضاعة حقوقه وارتكاب حدوده.

ثم قال بعد كلام:

وقد أنكر أئمة الإسلام ذلك فقال أبو الحسن القدوري في شرح كتاب الكرخي قال بشر بن الوليد سمعت أبا يوسف يقول: قال أبو حنيفة: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله تعالى إلا به، قال وأكره أن يقول أسألك بمعقد العز من عرشك، وأكره أن يقول بحق فلان وبحق أنبيائك ورسلك وبحق البيت الحرام.

قال أبو الحسن: أما المسألة بغير الله فمنكرة في قولهم لأنه لا حق لغير الله عليه، وإنما الحق لله تعالى على خلقه.

قال أبو عبد الله الحليمي رحمه الله من الشافعية:

الغياث هو المغيث وغياث المستغيثين هو الله تعالى فالاستغاثة من المخلوق فيما لا يقدر عليه لا يجوز. بل يكون كفرا إذا قامت عليه الحجة.

وأما الاستعانة فهو طلب العون، ولا خلاف أنه يجوز أن يستعان بالمخلوق فيما يقدر عليه من أمور الدنيا، كأن يستعين به أن يحمل معه متاعه أو يعلف دابته أو يبلغ رسالته، كما في قوله تعالى {َتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} ، وأما ما لا يقدر عليه إلا الله جل جلاله فلا يستعان فيه إلا به، ومنه {ِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}

قال العلامة محمد بن إسماعيل الصنعاني في تطهير الاعتقاد عن درن الإلحاد:

ص: 161

الرسل مبعوثون للدعوة إلى إفراد الله بالعبادة، فاعلم أن الله تعالى بعث الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، من أولهم إلى آخرهم يدعون العباد إلى إفراد الله تعالى بالعبادة، لا إلى إثبات أنه خلقهم ونحوه، إذ هم مقرون بذلك كما قررناه، ولذا قالوا:{قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} . أي لنفرده بالعبادة، ويخصه بها من دون آلهتنا؟ فلم ينكروا إلا طلب الرسل منهم إفراد العبادة لله، ولم ينكروا الله تعالى، ولا قالوا: إنه لا يعبد، بل أقروا بأنه يعبد، وأنكروا كونه يفرد بالعبادة، فعبدوا مع الله غيره، وأشركوا معه سواه، واتخذوا معه أندادا، كما قال الله تعالى {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ، أي وأنتم تعلمون أنه لا ند له، وكانوا يقولون في تلبيتهم للحج، لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك.

ثم قال بعد كلام مضى: ومن هذا تعرف أن التوحيد الذي دعتهم إليه الرسل من أولهم هو نوح عليه السلام إلى آخرهم وهو محمد صلى الله عليه وسلم وهو توحيد العبادة، ولذا تقول لهم الرسل: أن لا تعبدوا إلا الله {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} .

وقد كان المشركون منهم: من يعبد الملائكة ويناديهم عند الشدائد، ومنهم من يعبد أحجارا ويهتف بها عند الشدائد، فبعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى عبادة الله وحده، بأن يفردوه بالعبادة كما أفردوه بالربوبية، أي بربوبية السموات والأرض، وأن يفردوه بمعنى ومؤدى كلمة "لا إله إلا الله" معتقدين لمعناها، عاملين بمقتضاها، وأن لا يدعوا مع الله أحدا.

وأخذ الشيخ في الكلام على توحيد الألوهية إلى أن قال:

فإفراد الله بتوحيد العبادة لا يتم إلا بأن يكون الدعاء كله، والنداء في الشدائد والرخاء لا يكون إلا لله وحده، والاستعانة بالله وحده، واللجوء إلى الله والنذر والنحر له تعالى، وجميع أنواع العبادات من الخضوع والقيام تذللا لله تعالى، والركوع والسجود والطواف والتجرد عن الثياب والحلق والتقصير كله لا يكون إلا لله عز وجل، ومن فعل شيئا من ذلك لمخلوق حي أو ميت

ص: 162

أو جماد أو غيره، فقد أشرك في العبادة، وصار من تفعل له هذه الأمور إلها لعابديه سواء كان ملكا أو نبيا أو شجرا أو قبرا أو جنيا أو حيا أو ميتا، وصار العابد بهذه العبادة أي نوع منها عابدا لذلك المخلوق مشركا بالله وإن أقر بالله وعبده، فإن إقرار المشركين بالله وتقربهم إليه لم يخرجهم عن الشرك، وعن وجوب سفك دمائهم، وسبي ذراريهم، وأخذ أموالهم غنيمة، وجاء في الحديث القدسي "أنا أغنى الشركاء عن الشرك"، وفي الحديث القدسي أيضا:"لا يقبل الله عملا شورك فيه غيره، ولا يؤمن به من عبد معه غيره".

قال العلامة الشوكاني بعد كلام سبق:

وإذا تقرر هذا فلا شك أن من اعتقد في ميت من الأموات أو حي من الأحياء أنه يضره أو ينفعه، إما استقلالا أو مع الله تعالى أو ناداه أو توجه إليه أو استغاث به في أمر من الأمور التي لا يقدر عليها المخلوق، فلم يخلص التوحيد لله لا أفرده بالعبادة، ولا فرق بين أن يكون هذا المدعو من دون الله أو معه حجرا أو شجرا أو ملكا أو شيطانا كما كان يفعل ذلك الجاهلية وبين أن يكون إنسانا من الأحياء أو الأموات كما يفعله كثير من المسلمين، وكل عالم يعلم هذا ويقر به، فإن العلة واحدة وعبادة غير الله تعالى وتشريك غيره معه يكون للحيوان كما يكون للجماد وللحي كما يكون للميت، فمن زعم أن ثم فرقا بين من اعتقد في وثن من الأوثان، أنه يضر أو ينفع أو يقدر على أمر لا يقدر عليه إلا الله تعالى وبين من اعتقد في نبي أو ولي مثل ذلك، فقد غلط وأقر على نفسه بجهل كثير، فإن الشرك هو دعاء غير الله فيما يختص به تعالى أو اعتقاد القدرة لغيره فيما لا يقدر عليه سواه، أو التقرب إلى غيره بشيء مما لا يتقرب به إلا إليه.

قال في الإقناع وشرحه: من بينه وبين الله وسائط يتوكل عليهم ويدعوهم كفر إجماعا، لأن ذلك كفعل عابدي الأصنام، قال الإمام أبو

ص: 163

الوفاء علي بن عقيل الحنبلي رحمه الله تعالى: إن من يعظم القبور ويخاطب الموتى بقضاء الحوائج ويقول يا مولاي ويا سيدي عبد القادر، افعل لي كذا، فهو كافر بهذه الأوضاع، ومن دعا ميتا وطلب قضاء الحوائج منه فهو كافر.

وقال العلامة ابن حجر في شرح الأربعين له: من دعا غير الله فهو كافر. قال الشيخ محمد عبده وتلميذه محمد رشيد رضا في تفسير هذه الآية {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ

} الآية، قال: الأحبار جمع حبر وهو العالم، والرهبان جمع راهب ومعناه في اللغة الخائف، والمعنى: اتخذ كل من اليهود والنصارى رؤساء الدين فيهم أربابا، فاليهود اتخذوا أحبارهم وهم علماء الدين فيهم أربابا بما أعطوهم من حق التشريع فيهم وأطاعوهم فيه، والنصارى اتخذوا رهبانهم أي عبادهم الذين يخضع العوام لهم أربابا كذلك، والأظهر أن يكون المراد من الأحبار والرهبان جملة رجال الدين في الفريقين أي من العلماء والعباد، وروى الترمذي وحسنه وأحمد وابن جرير عن عدي بن حاتم رضي الله عنه أنه لما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم سمع {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} ، قال: فقلت إنهم لم يعبدوهم، فقال بلى إنهم حرموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام فاتبعوهم فذاك عبادتهم إياهم.

ص: 164