المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الشبهة الثالثة: أن الشيخ وأتباعه يمنعون التوسل والإستغاثة بالأولياء والصالحين - الشيخ محمد بن عبد الوهاب المجدد المفترى عليه

[أحمد بن حجر آل بوطامي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌الشبهة الأولى: إن الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأتباعه يكرهون النبي صلى الله عليه وسلم ويحطون من شأنه وشأن الأنبياء

- ‌الشبهة الثانية: إن الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأتباعه منعوا من قراءة كتاب دلائل الخيرات

- ‌الشبهة الثالثة: أن الشيخ وأتباعه يمنعون التوسل والإستغاثة بالأولياء والصالحين

- ‌الشبهة الرابعة: في جواز الاستغاثة بغير الله

- ‌الشبهة الخامسة: من شبههم جواز الإستغاثة بغير الله

- ‌الشبهة السادسة: من شبههم على جواز الاستغاثة بغير الله مارواه ابن السني عن عبد الله ابن مسعود

- ‌الشبهة السابعة: شبهتهم على جواز الاستغاثة بقول سواد بن قارب للرسول صلى الله عليه وسلم: فكن لي شفيعا…ألخ

- ‌الشبهة الثامنة: ما روى ابن السني في كتاب عمل اليوم والليلة

- ‌الشبهة التاسعة: أن الشيخ وأتباعه يكفرون المسلمين بأدنى شبهة

- ‌الشبهة العاشرة: إن الشيخ وأتباعه يقسمون التوحيد إلى توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية

- ‌الشبهة الحادية عشر: قال المبتدعون: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذم نجد وامتنع أن يدعو لهم

- ‌الشبهة الثانية عشر: قول المعترضين: أما تخيل المانعين المحرومين أن منع التوسل والزيارة من المحافظة على التوحيد

- ‌الشبهة الثالثة عشر: إن الشيخ وأتباعه كفروا صاحب البردة ومن كانت في بيته أو قرأها

- ‌الشبهة الرابعة عشر: إن الشيخ وأتباعه منعوا من شد الرحال إلى قبور الأنبياء

- ‌الشبهة الخامسة عشر: إن الوهابيين خالفوا المسلمين بمنعهم الإحتفال بالمولد النبوي الشريف

- ‌الشبهة السادسة عشرة: شبهة المنتقدين أن الشيخ أنكر على الصوفية وطرقهم مقلدا في ذلك ابن تيمية

الفصل: ‌الشبهة الثالثة: أن الشيخ وأتباعه يمنعون التوسل والإستغاثة بالأولياء والصالحين

‌الشبهة الثالثة: أن الشيخ وأتباعه يمنعون التوسل والإستغاثة بالأولياء والصالحين

الشبهة الثالثة

إن الشيخ محمدا وأتباعه يمنعون التوسل والاستغاثة بالألياء والصالحين، بل حتى بالأنبياء والمرسلين، ويكفرون المتوسل والمستغيث بالرسول وبالألياء، وقد ثبت بالدلائل الكثيرة ندب التوسل وجواز الاستغاثة، أما في التوسل فقول الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} .

كما وردت الأحاديث الكثير، ومن تلك الأحاديث: عن سهل بن حنيف أن رجلا ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ادعو الله أن يعافيني، فقال "إن شئت أخرت وهو خير لك، وإن شئت دعوت، فقال ادعه، فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه، ويصلي ركعتين، ويدعو بهذا الدعاء: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بمحمد نبي الرحمة، يا محمد إني قد توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى، اللهم فشفعه في" رواه ابن ماجه والترمذي والنسائي وغيرهم، وصححه الترمذي وأبو إسحاق وابن تيمية وآخرون.

وحديث توسل عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالعباس بن عبد المطلب رضي الله عنه، وحديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لما ماتت فاطمة بنت أسد أم علي بن أبي طالب، وكانت قد ربت النبي دخل عليها رسول الله في القبر وجلس عند رأسها ثم قال:"رحمك الله يا أمي بعد أمي إلى أن قال: "الله الذي يحيي ويميت وهو حي لا يموت، اغفر لأمي فاطمة بنت أسد، ووسع لها مدخلها بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلي، فإنك أرحم الراحمين".

وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما اقترف آدم الخطيئة قال: يا رب أسألك بحق محمد لما غفرت لي، فقال الله: يا آدم وكيف عرفت محمدا ولم أخلقه؟ قال: يا رب لأنك لما خلقتني بيدك

ص: 49

ونفخت في من روحك رفعت رأسي، فرأيت على قوائم العرش مكتوبا: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعلمت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك، فقال الله صدقت يا آدم إنه لأحب الخلق إلي –أدعني بحقه- فقد غفرت لك، ولولا محمد ما خلقتك" رواه الحاكم في المستدرك وقال: صحيح الإسناد، وهناك أحاديث كثيرة تثبت التوسل به صلى الله عليه وسلم وبالصالحين.

الجواب عن الشبهة الثالثة

قبل الدخول في موضوع الجواب أحب أن أنبه القراء الفضلاء إلى أن هؤلاء الداعين إلى التوسل والاستغاثة بغير الله يعترفون على أنفسهم بأنهم مقلدون للأئمة، ومعنى التقليد الأخذ بقول الغير من غير معرفة دليله، ليس من شأنهم الاستدلال بالكتاب والسنة، لأنهم إذا طولبوا بإقامة الدليل على مسألة من المسائل أجابوك لعلك تدعي الاجتهاد، وإقامة الدليل من شأن المجتهد لا من شأننا وشأنك، وقد أغلق باب الاجتهاد منذ قرون عديدة، فلا يوجد اليوم مجتهد مطلق أو مجتهد المذهب، ولكن عندما يريدون أن يثبتوا للعوام وأنصاف المتعلمين ما يدعون إليه من مثل هذه المطالب، استدلوا ببعض الآيات والأحاديث ونقول تأييدا لشبهاتهم السقيمة، فهل هذا إلا تناقض يربأ عنه كل عاقل فهيم، فإذا كنتم مقلدين فما لكم وإقامة الدليل؟

وإذ قدمت هذه المقدمة الوجيزة فأشرع الآن في الجواب.

والجواب وبالله أستعين، والكلام هنا يدور حول موضوعين: الأول: التوسل، والثاني: الاستغاثة.

ص: 50

معنى التوسل والوسيلة

أما التوسل: فقال في لسان العرب: الوسيلة المنزلة عند الملك والدرجة والقربة ووسل فلان إلى الله وسيلة، إذا عمل عملا تقرب به إليه، والواسل كالراغب إلى الله قال لبيد:

أرى الناس لا يدرون ما قدر أمرهم

بلى، كل ذي رأي إلى الله واسل

وتوسل إليه بوسيلة، إذا تقرب إليه بعمل، وتوسل إليه بكذا، تقرب إليه بحرمة آصرة تعطفه عليه والوسيلة الوصلة والقربى، وجمعه الوسائل، قال الله {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} قال الجوهري: الوسيلة ما يتقرب به إلى الغير، والجمع الوسل والوسائل والتوسيل والتوسل واحد. أ. هـ. وكل هذه المعاني تدور حول التقرب إلى الله بالعمل الصالح.

التوسل المشروع والتوسل الممنوع

ثم اعلم أيها القارئ أن التوسل قسمان:

1-

مشروع 2- ممنوع

والمشروع أنواع: الأول: التوسل إليه بأسمائه وصفاته، قال الله تعالى {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا}

الثاني: التوسل بالصلاة لكي تقبل الدعوة، كصلاة الاستسقاء، وصلاة الاستخارة، ومنه حديث الأعمى، ففيه أنه قال النبي للأعمى:"اذهب وتوضأ وصل ركعتين ثم ادع" إن صح حديثه وسيأتي بيانه، ولعل من ذلك قول الله تعالى {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ}

الثالث: التوسل بالتوحيد والإيمان قال الله {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً

ص: 51

فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}

الرابع: التوسل بذكر الأعمال الصالحة السالفة عند نزول الضر لكشفه كما في قصة أصحاب الغار لما أووا إلى غار فانطبق عليهم صخرة، فتوسل أحدهم بعفته من الزنا، فانفرجت من الصخرة ثلثها، وتوسل الثاني ببره لوالديه فانفرج الثلث الثاني، وتوسل الثالث بتنمية أجر الأجير الذي كان أجيرا عنده فذهب وترك أجرته، ثم جاء وأخذ الأجرة ونماها، فانفرجت الصخرة جميعها فخرجوا يمشون، وهذه القصة وردت في البخاري ومسلم.

الخامس: التوسل بدعاء الصالحين الأحياء كما جاء في الحديث الذي رواه البخاري وغيره أن الصحابة كانوا إذا أجدبوا توسلوا العباس بن عبد المطلب، وقال عمر في عام الرمادة: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا.

ومن المعلوم الثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو على المنبر طالبا من الله أن يسقيهم، واستسقاء النبي لما جاءه الأعرابي يشكو الجدب مشهور في الأحاديث، وهو من الأحاديث المتفق عليها، والصحابة حينما أجدبوا طلبوا من العباس بن عبد المطلب أن يدعو لهم، وباب الاستسقاء في كتب الأحاديث والفقهاء وكيفية الصلاة وإلقاء الخطبة التي هي عبارة عن دعاء من المسلمين الحاضرين لرب العالمين، أن يسقيهم ويرفع عنهم الجدب والقحط، يعرف هذا أدنى طالب علم مبتدئ، وصلاة الاستسقاء هي توسل بها وبالأدعية التي يدعون بها لكي يغيثهم الله، وكذلك صلاة الجنازة توسل بها وبالأدعية التي بها لكي يغفر الله للميت.

وهناك أنواع أخرى من التوسلات المندوبة وكلها تدور حول التوسل بالإيمان والعمل الصالح، وهذه التوسلات لم يختلف فيها اثنان ولم يقل الشيخ محمد وأتباعه بمنعها، بل يأمرون بها ويرونها من القرب التي تقرب العبد إلى مولاه وينال بها رضاه.

ص: 52

ومن خلط بين التوسل المندوب والممنوع فقد أخطأ خطأ كبيرا وأبان عن جهل عظيم.

أما التوسل الممنوع، فهو التوسل بذوات المخلوقين أو بجاههم أو بمنزلتهم عند الله كأن يقول:"اللهم إني أسألك بالنبي أو بجاه النبي أو بالشيخ الفلاني والولي الفلاني أو بجاههم أو منزلتهم".

وكأن يقول: اللهم إني أسألك بحق فلان، فهذا هو التوسل الممنوع الذي يقول الشيخ وأتباعه وسائر السلفيين أنه من البدع، إذ لم يرد في الكتاب ولا في السنة الصحيحة أو الحسنة ما يدل على ندب هذا التوسل أو جوازه.

وحقيقة التوسل دعاء، والدعاء هو العبادة والعبادة مبنية على التوقيف، وأعني ورودها في القرآن أو في الأحاديث الصحيحة أو الحسنة.

ولم يرد لا في القرآن ولا في الحديث الصحيح أو الحسن كما سلف بنانه، وكل ما يحتجون به على ندب التوسل فهو إما ضعيف أو موضوع ولا يحتج بهما في العمليات فضلا عن الاعتقاديات إلا من كانت بضاعته مزجاة من الأدلة والبراهين.

الجواب عن قولهم إن الشيخ وأتباعه يكفرون المتوسلين والمسلمين

وقول المعترضين أن الشيخ وأتباعه يكفرون المتوسل بالنبي أو بالولي كذب لا يخفى إلا على أعمى البصيرة، وهذه كتبهم تنادي ببطلان هذا القول الزائف، لكن بلاء هؤلاء المبتدعين أنهم يخلطون بين التوسل والاستغاثة، وكثير منهم يرى أنهما مترادفان، وهذا جهل وغباء فاضح، بل بينهما أبعد مما بين الغبراء والخضراء، إذ المتوسل يقدم الله في دعائه قائلا: اللهم إني أسألك بجاه الرسول أو بحرمة الرسول، بينما المستغيث يدعو الميت

ص: 53

مباشرة داعيا يا رسول الله أغثني، أشف مرضي، يا حسين بن على أنقذني، يا عبد القادر الجيلاني المدد وهكذا، فهذا ولا شك ولا ريب أنه شرك وضلال وكفر بالله ذي الجلال.

وإذ قدمت بيان معنى التوسل، وبيان التوسل المشروع والممنوع فإليك الآن الجواب عما تمسكوا به من الأدلة حسب رأيهم.

كلام المفسرين عن معنى التوسل والوسيلة

أما استدلالهم بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} قال المفسرون كافة: معنى الوسيلة، التوسل إلى الله بالأعمال الصالحة والقرب الرابحة، وفي مقدمة المفسرين الحافظ ابن جرير: قال رحمه الله: في تفسير {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} يقول: اطلبوا إليه القربة بالعمل بما يرضيه. والوسيلة هي الفعيلة من قول القائل: توسلت إلى فلان بكذا بمعنى تقربت إليه، ومعنى قول عنترة:

إن الرجال لهم إليك وسيلة

أن يأخذوك تكحلي وتخضبي

وقال الحافظ ابن كثير بحت قوله تعالى {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} قال سفيان الثوري عن طلحة عن عطاء عن ابن عباس أي القربة، وكذا قال مجاهد وأبو وائل والحسن وقتادة وغير واحد وقال قتادة أي تقربوا إليه بطاعته والعمل بما يرضيه أ. هـ.

قال في روح المعاني: {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} أي اطلبوا لأنفسكم ثوابه والزلفى منه "الوسيلة" هي فعيلة بمعنى ما يتوسل به ويتقرب إلى الله من فعل الطاعات وترك المعاصي من وسل إلى كذا "أي تقرب إليه بشيء" الظرف ويقصد الجار والمجرور متعلق بها "أي بالوسيلة" قدم عليها للاهتمام.

وقال العلامة القاسمي في محاسن التأويل في تفسير قوله تعالى {يَا أَيُّهَا

ص: 54

الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} أي القربة كذا فسره ابن عباس، وذكر ما ذكره ابن كثير، وذكر عن القاموس وشرحه معنى الوسيلة والواسلة: المنزلة عند الملك والدرجة والقربة والوصلة. وهكذا سائر المفسرين على هذا المنوال.

الجواب عن تمسكهم بالتوسل بحديث الأعمى

وأما الجواب عن حديث الأعمى فهاك بيانه:

هذا الحديث تكلم به علماء الحديث والجرح والتعديل كلاما طويلا من حيث إسناده، فمنهم من ضعفه ومنهم من حسنه كالترمذي وقال بعض الفضلاء في رواة الحديث أبو جعفر المدني عمير بن يزيد بن عمير بن حبيب الأنصاري، إن كان هو الخطمي، فالحديث في درجة متوسطة من الصحة والجودة، ولا يبلغ مكانة أحاديث البخاري ومسلم، ولا ينزل أن يكون حديثا باطلا مردودا، وإنما هو كالأحاديث التي يصححها أمثال الترمذي وابن خزيمة والحاكم وابن حبان وغيرهم، ممن عندهم نوع التساهل وإغماض التصحيح ونقد الأخبار، وإن كان غير الخطمي فهو أبو جعفر عيسى بن ماهان الرازي التميمي الذي ضعفه قوم ووثقه قوم آخرون.

على أنه لو كان حسنا فلا يدل على ما ادعاه المحسنون للتوسل والاستغاثة، وكل ما فيه أنه توسل بدعاء النبي، لأن الضرير أتى النبي فقال: ادعو الله أن يعافيني، قال إن شئت دعوت، وإن شئت صبرت فهو خير لك، قال الأعمى يخاطب الرسول فادع، ثم علمه الرسول كيف يدعو وفي نهاية الدعاء علمه أن يقول اللهم شفعه في، فطلب الدعاء من الأحياء والتوسل بدعائهم لا شبهة في جوازه، ليس مما نحن فيه ولم يقل الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأتباعه بمنع هذا.

ومما يؤيد حجة المانعين من التوسل بالأموات والاستغاثة بغير الله، أن

ص: 55

سؤال الله بالخلق والعباد، وبحقهم وجاههم ونحوه، لم يرد مثله ولا دليل في آية، ولا في حديث صحيح ولا في كلام صاحب من أصحاب النبي، ولا عن إمام من أئمة الدين المقتدى بهم فما جاء في البخاري ولا في مسلم أصح كتب الإسلام بعد الكتاب شيء من هذا النوع، خلا حديث أنس بن مالك في الاستسقاء بالعباس وهو ليس من هذا القبيل، ولا جاء في خبر صحيح سليم من القدح والطعن والضعف والاختلاف.

وأبواب الدين: أصوله وفروعه كلها جاءت فيها الآيات والأحاديث الصحيحة أو الحسنة وفيها من الأحاديث المتواترة، التي لا يختلف المسلمون في صحتها وصحة نسبتها إلى النبي عليه السلام إلا هذا الباب، باب سؤال الله بالمخلوق وبجاهه وذاته وحرمته، فما جاء فيه حديث أجمع على صحته وثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو سلم من النقد والضعف، ودين الله لا يثبت إلا بالنقل الصحيح، والنقل الصحيح لا يكون سوى الكتاب والسنة الصحيحة السليمة من الضعف وأعراضه، وخلاف هذا لا تثبت به قاعدة من قواعد اللغة ولا قواعد النحو، ولا مسألة من مسائل الحيض والطهارات، فضلا عن أن يثبت به حكم من هذه الأحكام وشريعة من هذه الشرائع.

والتوسل والاستغاثة من العقائد، والعقائد عند هؤلاء القوم لا تؤخذ من أحاديث الآحاد ولو كانت صحيحة ولا يعتمد عليها، فكيف الآن يحتجون بأحاديث ليست بصحيحة على مطالبهم.

لكن الهوى والتعصب الأعمى يفعل بأهله العجائب، فعندما تورد عليهم حديثا من الصحيحين في عقيدة من العقائد، قالوا: هذا الحديث من أحاديث الآحاد، لا نعتمد على أحاديث الآحاد في عقائدنا لأنه لا يفيد إلا الظن، والظن لا يغني من الحق شيئا، وإذا أرادوا أن يحتجوا لمبدئهم وعقائدهم احتجوا بما هب ودب من الأحاديث الضعيفة والموضوعة، والحكايات والمنامات وما أشبه ذلك مما هو أوهى من بيت العنكبوت، فيا سبحان الله ما يفعل الهوى بأهله والتقليد بذويه.

ص: 56

وأما احتجاجهم بحديث توسل عمر بالعباس بن عبد المطلب فهاك نص الحديث: عن أنس أن عمر بن الخطاب كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبيك، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا "فيسقون". رواه البخاري في صحيحه فتعلقوا بقوله: إنا كنا نتوسل بنبينا، هذا الأمر الأول، والثاني قوله: إنا نتوسل إليك بعم نبينا، ففهم أنصار البدع والمبشرون بدعاء الأموات والتوسل والاستغاثة بهم على جواز الأمرين بل على الندب.

والجواب: إن قولهم توسلوا بالنبي لا يصح، بل كانوا يتوسلون بدعائه صلى الله عليه وسلم في حال حياته، والدليل عليه أمور:

الأول: ما ثبت في الأحاديث حين كان حيا أنهم كانوا يأتون إليه في الجدب فيذكرون له ذلك ويسألونه، فيدعو الله لهم ويقول:"اللهم أغثنا" في أحاديث كثيرة، وما ورد قط أنهم توسلوا واستسقوا بذاته حيا، والتوسل بدعائه صلى الله عليه وسلم مذكور في صلاة الاستسقاء من كتب السنة، فعن أنس رضي الله عنه "أن رجلا دخل المسجد يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم قائم يخطب، فقال يا رسول الله هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادع الله عز وجل يغيثنا فرفع يديه" زاد البخاري في رواية "ورفع الناس أيديهم" ثم قال "اللهم أغثنا" وفي البخاري أسقنا "اللهم أعثنا" فهذا الحديث صريح أنهم كانوا يطلبون من الرسول صلى الله عليه وسلم دعاءه، ولا شك أن دعاءه مستجاب.

فقد تبين مما أوردته أن توسلهم بالرسول صلى الله عليه وسلم كان بدعائه لا بذاته، لأنه لو كان التوسل بذاته لما كانت هناك حاجة لأن يأتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويطلبوا منه أن يستسقي لهم، ولتوسلوا وهم في أماكنهم فطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم حينما أجدبوا، كما قال الأعرابي: والرسول يخطب هلكت الأموال وانقطعت السبل فادعوا الله يغيثنا، فذلك الأعرابي كان أعرف بالتوحيد من أولئك الذين يدعون العلم، ويموهون على الناس بأنهم من الناصرين لدين الله،

ص: 57

ويدعونهم إلى صراط معوج غير مستقيم، لأنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ادع الله يغيثنا، ثم ماذا قال رسول الله عندما سأله الأعرابي: قال: اللهم أغثنا اللهم أغثنا اللهم أغثنا الخ الحديث.

وفي الجمعة الثانية لما استمر المطر دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة الماضية ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب فقال يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل، فادع الله أن يمسكها عنا، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه ثم قال: اللهم حوالينا ولا علينا. .الخ الحديث.

فمن هنا نعلم أن توسل المسلمين بالنبي صلى الله عليه وسلم هو طلب المسلمين منه صلى الله عليه وسلم أن يدعو لهم، ولم يقولوا نتوسل إلى الله بذاتك أو بجاهك أو بمقامك يا رسول الله.

ثم إن عدول عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم من أن نتوسل به بعد موته إلى عمه العباس، لدليل واضح أنه لا يجوز طلب الدعاء من الميت ولو كان رسولا كسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.

وهنا قد يقول قائل: عدلوا عن الرسول صلى الله عليه وسلم إلى العباس بن عبد المطلب لبيان جواز التوسل بغير النبي صلى الله عليه وسلم.

ونجيبهم بأمرين: الأول: إن كان قصدهم بغير النبي بدعائه كأن يطلبوا من رجل صالح في علم وتقى أن يدعو لهم للاستسقاء أو لغيره، فنحن قائلون به ولا خلاف بيننا إذن.

الثاني: وإن كان يريدون لبيان جواز التوسل بذات المخلوق الصالح غير رسول الله صلى الله عليه وسلم بذوات الأنبياء والرسل والملائكة.

فالجواب: أن التوسل بهم ممنوع فضلا عن غيرهم، وإن كانوا يريدون بالدعاء فقد سبق البيان.

وقد دل على ما قلناه من طلب الدعاء أن عمر بن الخطاب قال للعباس بعد ما قال ما سلف في الحديث: ادع يا عباس، فرفع العباس يديه وقال: اللهم إنه لم ينزل بلاء إلا بذهب، ولم يكشف إلا بتوبة، وقد توجه القوم بي

ص: 58

إليك لمكاني من نبيك، وهذه أيدينا إليك بالذنوب، ونواصينا إليك بالتوبة، فاسقنا الغيث "فأرخت كالجبال"

وتعلم علما لا يرقى إليه شك أنه كان قصدهم التوسل بدعاء العباس لا بذاته، إذ لو كان قصدهم ذات العباس، لكان ذات النبي صلى الله عليه وسلم أفضل وأعظم وأقرب إلى الله من ذات العباس بلا شك ولا ريب.

فنستفيد من الأحاديث المارة في الاستسقاء أن عملية الاستسقاء مؤلفة من عنصرين:

طلب الدعاء من النبي صلى الله عليه وسلم أو من غيره ممن يتوسم معه الصلاح.

الدعاء: ولعلك تقول لم وقع اختيار عمر والصحابة على العباس مع أن في الصحابة من يفوق العباس سابقة وفضلا وصلاحا؟

فالجواب: كان اختيارهم له لكونه أقرب الصحابة نسبا إلى رسول الله، ولهذا قال العباس في دعائه: وقد توجه القوم بي إليك لمكاني من نبيك.

قف على حديث الجارية التي كانت تصرع

في صحيح البخاري أن امرأة كانت صرع فتتكشف فأتت النبي تسأله يدعو الله لشفائها، فنصحها بالبقاء على حالها فقالت إذا: ادع الله أن لا اتكشف فدعا لها، ولو كان التوسل به جائزا لأرشدها إلى أن تتوسل به، كأن تدعو "اللهم إني أسألك بجاه محمد أو بجاه الرسول أن تعافيني من الصرع" وحيث لم يرشدها إلى ذلك دل على عدم جواز التوسل، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز.

وما عهد من الرسول ولا من الرسل أن يقولوا للناس اسألونا نسأل الله لكم كشف عاهاتكم، بل كان عليه السلام لا يرضى من كثرة السؤال ويرغب في الصبر من جاء من أهل الاعتلال يسأله كشف دائه، وينصح له أن يحتسب

ص: 59

مرضه كحديث الجارية السالف، ويزيد هذا توضيحا أن الذين كانوا يعذبون بأيدي المشركين في مكة المكرمة كبلال وعمار بن ياسر وأمثالهم لم يرشدهم النبي إلى التوسل أو الاستغاثة به بل كان بلال يقول: أحد، أحد.

ولا زال السلفيون يقولون يندب طلب الدعاء من المسلم، ولا سيما إن كان رجلا صالحا، أو امرأة صالحة، وإنما الكلام في التوسل بالأموات وطلب الدعاء منهم.

والثاني: لو كان توسلا بالذات لكان في الحياة والممات سواء، وما كانوا يعدلون عن ذاته إلى غيرها.

الثالث: لو كان ذلك بالذات لورد ذلك عنه صلى الله عليه وسلم بنبي من الأنبياء، أو بالكعبة مثلا أو بالعرش أو بالسماء أو بالجنة، ولجاز ذلك لنا وهذا معروف بطلانه بالاضطرار من الدين.

الرابع: أن يقال: ما معنى سؤال الله بالمخلوق، وما فائدته، وما وجه اقتضائه لأن يجاب الدعاء؟ وهل معناه أنه إذا قال: أسألك بفلان، أي بخلقك له وإيجاده وتصويره التصوير البديع؟ فإن كان ذلك فهو توسل بغير الخلق، وأما أن يكون معناه أسألك به، أي بسببه يعني أنه هو الذي حملني على أن أسألك، وشرع لي ذلك، والمراد أن تسأل له وهذه المعاني كلها ليست صحيحة.

الخامس: لو كان التوسل بذات النبي صلى الله عليه وسلم جائزا، لما كانت حاجة أن يأتوا إليه ويطلبون منه، بل يتوسلون به في أماكنهم وبيوتهم، ولم يأتوا يطلبون منه إلا قصدهم الدعاء، وهذا واضح لم ترك العناد واتبع سبيل الرشاد، وقد سبق بيان ذلك.

ص: 60

الجواب عن تمسكهم بحديث فاطمة بنت أسد

وأما احتجاجهم بحديث فاطمة بنت أسد، والذي جاء في آخره: اغفر لأمي فاطمة بنت أسد، ووسع لها مدخلها بحق نبيك والأنبياء من قبلي.

فالجواب: هذا الحديث غير صحيح، فإن فيه روح بن صالح المصري وهو ضعيف ولا حجة في ضعيف ولا موضوع.

الجواب عن تمسكهم بحديث توسل آدم بالنبي

وأما احتجاجهم بحديث توسل آدم بالنبي صلى الله عليه وسلم لما اقترف آدم الخطيئة، فقال يا رب أسألك بحق محمد لما غفرت لي....الخ.

فالجواب: أن الحديث ليس ثابتا بل وكذب، قال الإمام الذهبي في تعليقه على المستدرك الجزء الثاني إنه حديث موضوع، وقد نعى على الحاكم كثير من تصحيحه الموضوعات والضعيف والمنكر حتى أتهم بسوء العقيدة، وقد وقع وقعات وزل زلات لا يطال غبارها، حتى أنه صحح أحاديث يعلم كل إنسان ببديهة العقل وإن لم يطلع على شيء من الحديث ولا العلم أنها لم تخرج من في نبي ولا عاقل، مثل قوله في آخر الحديث: ولولا محمد ما خلقتك. وهذا من الكذب المباين للقرآن كلفظ آخر: لولاك لولاك ما خلقت الأفلاك، فالقرآن المجيد بين الحكمة من خلق الله الخلق حيث قال:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلَاّ لِيَعْبُدُونِ} وقال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} 1.

وقال في سورة النجم {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} 2

1 تبارك- 1، 2

2 النجم- 31

ص: 61

وما أدري كيف يحتج هؤلاء المبتدعون بأحاديث ضعيفة وأحيانا بموضوعة على أمور اعتقادية وهنا لا بد من أمرين لا محيص لهم عنهما:

الأول: إما أن يكونوا عارفين بأن أكثر هذه الأحاديث التي يحتجون بها على مطالبهم ضعيفة وبعضها موضوعة، فإن كان الأمر كذلك فهل هذا إلا غش لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وتضليل للمسلمين وإيقاعهم في شرك البدع والشرك المبين، وإن كانوا غير عارفين بصحة تلك الأحاديث أو ضعفها أو كونها موضوعة، فكان من الجدير بهم أن يبحثوا عنها ويتأكدوا من صحتها أو حسنها فإذا ثبت لديهم أحد الأمرين استندوا إلى الحديث أو إلى الأحاديث، وأما إيرادهم وهم غير عارفين بأحوال تلك الأحاديث، أو عارفون وتجاهلوا، فإن كانوا غير عارفين فيدل احتجاجهم على أنهم ليسوا من العلماء بل من الجهلاء، وإن كانوا عارفين فيدل تمسكهم بتلك الأحاديث، أنهم من المدلسين والغشاشين للمسلمين، وليسوا من الناصحين لدين الله ولا لعباد الله، ومخالفين للحديث الصحيح الدين النصيحة.... الخ.

نهى الشيخ عن الاستغاثة بغير الله

وأما نهي الشيخ وأتباعه عن الاستغاثة بغير الله وأنه من الشرك الجلي، فهذا صحيح والشيخ لم يبتدع في هذا القول بل اتبع القرآن والسنة.

فالقرآن بجملته نهى عن دعاء غير الله من الجن والإنس وسائر الخلائق، ودعاء عام شامل إلى دعاء الله والرغبة فيه، والانقطاع إليه وحده لا شريك له، وأن لا يدعوا إلا الله ولا يسألوا سواه لا في السراء ولا في الضراء.

ص: 62

عناية القرآن بالمعاد والحساب والنهي عن الدعاء لغير الله

لقد عني القرآن بإثبات المعاد والحساب والعقاب، وبإثبات النبوات والوحي واتصال الملأ الأعلى بالبشر، وعني بغير ذلك من أصول الأديان والإيمان، كما قد عني بالنهي عن دعاء غير الله، وبالأمر بدعائه وحده أكثر، كما سوف نعرض على القارئ لأجوبتنا، ففي كل سورة تجد الله تعالى ينهى عن دعاء غيره ويأمر بدعائه وحده، ويندد عن دعاء سواه من خلقه، وفي كل آية تنهى عن ذلك تجد النهي فيها شديدا والتأثيم عظيما، والأمر أوضح وأظهر.

قال الله تعالى في سورة الحج {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} . وهذه الآية لو لم ينزل الله غيرها على البشر كافة لكانت حجة قائمة عليهم جميعا في بطلان الشرك وبطلان دعاء غير الله وهدم أركانه، وتنديد بمن دعوا مخلوقا يقصر القول عن نعته وصفته وقد وجه الله هذا المثل إلى الناس أجمعين في كل زمان ومكان، وآذنتهم أن الذين يدعون من دونه من العقلاء وغير العقلاء من الجن والإنس، من الصالحين والطالحين، عاجزون عن نفعهم وعن ضرهم وعن كل ما يرجى منهم من خير وشر، فهم لا يستطيعون أن يخلقوا أحقر مخلوق في هذا الوجود، ولا أن يستردوا ما أخذه منهم هذا الأحقر.

وهذه الآية كما ترى قطعت جذور الشك والوثنية، ومما لا شك فيه أن الاستغاثة دعاء غير الله ونداؤه طالبا منه جلب نفع أو دفع ضر، والقرآن صريح بأن دعاء غير الله كفر وضلال، وأنه غير مجد ونافع، قال الله {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} وقال الله {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} وقال الله تعالى

ص: 63

{إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} ، والقرآن مملوء من الآيات المصرحة بأن دعاء غير الله شرك وكفر لا ريب فيه، ولما كانت الاستغاثة دعاء غير الله كانت شركا أكبر، ولهذا حكم الشيخ بشرك المستغيث وكفره إذا دعا غير الله، وطلب منه ما لا يقدر عليه إلا الله، كشفاء المرضى وإتيان المطر وإعطائه الولد، ونحو ذلك، وقد سبق الشيخ علماء أجلاء قبله وبعده بأن هذه الأمور من الشرك، وأن صاحبه مخلد في النار إن لم يتب، ومن أولئك العلماء السالفين ابن عقيل الحنبلي وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم والمقريزي ومن المتأخرين الصنعاني والشوكاني وأكثر أهل الحديث.

عدم مبادرة الشيخ وأتباعه بتكفير من يعبد غير الله قبل إقامة الحجة عليه

ومما ينبغي ذكره أن يعلم أن الشيخ وأتباعه السلفيين لا يبادرون بتكفير من يرونه مستغيثا بغير الله أو طائفا بالقبر أو ناذرا له حتى يقيموا عليه الحجة من كتاب الله وسنة نبيه، فإن أصر بعد ذلك على هذه الأمور الشركية، ولم يستجب للحجة التي أقيمت عليه عند ذلك يكفروه.

فإطلاق القول بأن الشيخ وأتباعه يكفرون المتوسلين والمستغيثين بغير الله ويلزم منه تكفير المسلمين الذين يأتون بهذه الأعمال، إطلاق غير صحيح:

أولا: إنهم لا يكفرون المتوسلين مطلقا كما سبق بيانه.

ثانيا: إنهم لا يكفرون الجاهل قبل إقامة الحجة عليه.

ص: 64

اشتباه بعض الحقائق على الكثيرين حتى على بعض المنتسبين إلى العلم وبيانها

ثالثا: لا يلزم منه تكفير جمهور المسلمين، لأن الأكثرية من المسلمين جاهلون، بل وكثير من المنتسبين إلى العلم يجهلون هذه الحقائق وتشتبه عليهم، فمنهم من لا يفرق بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، ومنهم من لا يفرق بين الكفر الاعتقادي والكفر العملي، فيجعل دعاء الأموات والاستغاثة بهم والنذور لهم والطواف حول قبورهم والاستنجاد بهم والحلف بهم وطلب قضاء الحوائج منهم، يجعلون هذه الأمور من الكفر العملي بمنزلة تارك الصلاة عند من لا يقول بكفره بل يقول فاسق وبمنزلة كفر تارك الحج، ومن أتى امرأة حائضا أو امرأة في دبرها أو أتى كاهنا أو عرافا أو قال لأخيه كافر، فهذه الأنواع من الكفر العملي قد أطلقها الشارع على فعل هذه الكبائر بأنه من الكفر، لكنه كفر عملي لا يخرج به العبد عن الإيمان، ومنهم من لا يميز ويفرق بين التوسل والاستغاثة، ومنهم من يقول إن الآيات الواردة في عبادة غير الله وأنها من الشرك الأكبر يقصد بها عبادة الأوثان والأصنام والأشجار التي كانت تعبدها الجاهلية، ولا يقولون لا إله إلا الله، ومن أجل هذه الأمور اشتبهت هذه الحقائق على مدعي العلم، وقد يكون مدرسا أو مؤلفا فضلا عن العوام، فلهذه الأسباب لم يقولوا بشرك من يستغيث بغير الله أو ينذر لغير الله أو يطوف بقبور الصالحين لظنهم أنه من الكفر العملي لا من الشرك الأكبر.

وحيث ذكرت هذه الحقائق فمن الجدير أن أذكر التفرقة بين تلك الأمور السابقة المشتبهة على الكثيرين:

أما الفرق بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية فقد سبق بيانه، وأن المشركين كانوا مقرين بتوحيد الربوبية ولم يدخلهم في دين الإسلام، وتوحيد

ص: 65

الربوبية: هو اعتقاد أن الله هو الخالق والرازق والمحيي والمميت، وأما توحيد الألوهية: فهو إفراد الله بالعبادة بدون أن يشرك معه غيره لا ملك مقرب ولا نبي مرسل، قال الله مخبرا عن نوح {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} . وهكذا سائر الأنبياء.

وقال الله مخاطبا نبيه محمدا عليه الصلاة والسلام {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} .

وبلاء القوم أنهم فسروا الإله بمعنى القادر على الاختراع والخالق أو المالك، ولم يفسروا الإله بالمعبود بحق، ولم يتأملوا في الآيات الآمرة، بإفراد الله بالعبادة فجاءهم الاشتباه من هذه الناحية، وأما شبهتهم بأن المشركين كانوا لا ينطقون بلا إله إلا الله ولا يقرون بالنبوة للنبي صلى الله عليه وسلم فكيف يساوي المسلمون الذين يفعلون ما تنكره الوهابية من أجل محبتهم للرسول وللصالحين لأن لهم جاها ومقاما عظيما عند الله رب العالمين ولم يقولوا بأن الأنبياء والأولياء خلقوا شيئا من الكائنات وأنهم يضرون وينفعون. فالجواب:

أولا: إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وعموم اللفظ يدخل فيه غير الله كائنا من كان وما كان.

اعتقاد المشركين الأولين بتوحيد الربوبية

ثانيا: إن الجاهلية كانت تعتقد أن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت، الضار، النافع، وأن الخير والشر بيده سبحانه وتعالى، وإنما عبدوا أصنامهم لتقربهم إلى الله زلفى كما قال الله عنهم {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} ، وقال الله {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ

ص: 66

هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} ، ولو كان هذا الاعتقاد الذي ذكره المبتدعون نافعا لما أباح الله دماء المشركين وأموالهم، وأمر نبيه بجهادهم، كل ذلك لتحقيق معنى كلمة لا إله إلا الله، وأما كون المشركين كانوا لا يقولون لا إله إلا الله، فلأنهم كانوا يعتقدون أن الآلهة كثيرة، تلك الآلهة الباطلة التي يعبدونها من دون الله، ولهذا لما قال النبي صلى الله عليه وسلم:" قولوا لا إله إلا الله"، قالوا:"أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب" وأما كون القبوريين يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله فصحيح، ولكن لم يعملوا بمقتضى كلمة لا إله إلا الله، وذلك أن لا إله إلا الله معناها إفراد الله بالعبادة، وأن العبودية محصورة في الله، وأن الآلهة غير الله باطلة، فلم يحققوا معنى لا إله إلا الله، ولم يعملوا بمقتضاها لأنهم لم يقصروا العبادة على الله، وكذلك لم يعملوا بمقتضى محمد رسول الله، لأن من شهد أن محمدا رسول الله وجب عليه أن يتبعه فيما أمر وينتهي عما نهى عنه وزجر، ومن أوامره صلى الله عليه وسلم، إذا سألت فاسأل الله ولم يقل اسأل نبيا أو وليا، وإذا استعنت فاستعن بالله، ولم يقل استعن بغير الله. لأن الله قال {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} أي نخصك بالعبادة والاستعانة، ومن نواهيه لعن الله من ذبح لغير الله، والقبوريون يذبحون للأولياء وينذرون لهم، ولا شك أن النذر من العبادة والعبادة لا تصلح إلا لله، ومن إرشاداته صلى الله عليه وسلم أنه لما قال بعض الصحابة قوموا بنا نستغيث برسول الله من منافق كان يؤذيهم فقال النبي لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله، ومن نواهيه صلى الله عليه وسلم لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله، ولما قال بعضهم ما شاء الله وشاء محمد، قال أجعلتني لله ندا، قل ما شاء الله وحده.

وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما نُزِلَ برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصه على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها فقال وهو كذلك:" لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" ، يحذر ما صنعوا، ولولا ذلك لأبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا.

ص: 67

ولمسلم عن جندب بن عبد الله قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا، ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك.

وعن ابن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك". رواه الترمذي وحسنه وصححه الحاكم.

شبهته في عبادة المشركين للأصنام

وأما قولهم: إن المشركين كانوا يعبدون أصناما وأحجارا يعتقدون فيهما النفع والضر أو التأثير ونحن لا نقول بذلك، وكان المشركون يكذبون الرسول صلى الله عليه وسلم منكرين جميع شرائعه ونحن نؤمن بجميع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.

الجواب: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما مر غير مرة ومن هنا نعلم أنه لا فرق بين من يدعو صنما أو يدعو نبيا أو وليا، لأن كلمة غير الله شاملة لكل مخلوق لأن الله يخبر عن رسله عندما جاؤوا يدعون أقوامهم {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} ، وقال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} وقال الله تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ.....} الآية.

وإذا كان المشركون السالفون يعتقدون في أصنامهم ومعبوداتهم من الجن والإنس والملائكة، إنهم يضرون أو ينفعون، وأنها تشفع عند الله ولا يرد شفاعتها وتعددت آلهتهم حتى قالوا {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} فإن الإله في الوضع اللغوي يطلق على كل معبود بحق أو بباطل،

ص: 68

وغلب على الإله الحق، والمسلم إذا قال: لا إله إلا الله، معناها، أن لا معبود بحق في الوجود إلا الله، وإن الآلهة غير الله التي عبدوها باطلة.

ومن هنا تعلم أيها المسلم أن المشركين تعددت آلهتهم مثل اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، وعبد بعضهم الشعرى، بعضهم عبد النار، ومنهم من عبد الجن، فإن القبوريين بصرفهم العبادات أو كثيرا منها لغير الله من الأنبياء والأولياء الذين يعتقدون فيهم ذلك الاعتقاد الذي بموجبه أخذوا يشدون إليهم الرحال، وينادونهم في الشدائد بدعاء لا ينادى به إلا الله ذو الجلال، فقد تعددت الآلهة بذلك ولا تنفعهم كلمة الشهادتين، ولا الصلاة ولا الصيام، لأنه بمثابة من توضأ ثم أحدث، فنطقهم بالشهادتين، وإتيانههم بالعبادات كالصلاة والصيام والحج تطهير، ولكن إتيانهم بتلك الشركيات التي سبق بيانها مرارا قد أبطلت معنى الشهادتين، لأن تلك الشركيات بمنزلة النواقض، فافهم وتنبه لما يلقى إليك من الشبه، وسيأتي إن شاء الله ذلك مفصلا في شروط لا إله إلا الله ونواقضها.

وثانيا: إن عباد الأنبياء والصالحين لم يرغبوا إليهم ويقدموا النذور والقرابين إلى أوليائهم ويستغيثوا بهم إلا أنهم يعتقدون في قرار أنفسهم أنهم ينفعونهم أو يضرونهم أو يشفعون لهم عند الله، وإلا لما وجدتهم عاكفين عليهم باسطين أكفهم إليهم تغشى وجوهم الذلة والمسكنة وتضطرم في قلوبهم الرغبة وحب النفعة، ولما تحملوا المشاق وقطعوا الفيافي والقفار إليهم، أو قطعوا المسافات الطويلة في البحار إلا لما رسخ في قلوبهم ذلك الاعتقاد أنهم قادرون على كل ما يريدون من إعطاء ولد أو تيسير رزق أو شفاء مرض أو رفع ظلم ونحو ذلك، والأدلة على ذلك كثير منها:

أنهم يسمون سكان تلك القبور من الأولياء الكبار في زعمهم أهل التصرف، أي تصرف العالم ويسمونهم الأقطاب أي أقطاب الكون، ويدعون الواحد منهم بالمتولي أي متولي أمر الوجود، فهناك أقطاب وهناك قطب واحد وهناك غوث العالم إلى غير ذلك من المسميات، على أن هؤلاء

ص: 69

يصرفون الكون وأن الله فوض إليهم أمر العالم، وقد ألفوا كتبا في مناقب الأولياء وشحنوها بالأكاذيب، إن الأولياء قادرون على أشياء لا يقدر عليها إلا الله، فيحكون أن البدوي صنع كذا وأن الدسوقي صنع كذا وأن الجيلاني فعل كذا من غرائب الأفعال والحكايات، وقد يتشبثون بأفعالهم المنكرة واعتقاداتهم الباطلة في الأنبياء بأمثال قول الله تعالى {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ} ، وقوله تعالى {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} ، واحتجاجهم بهذه الآيات صريح في أنهم يرون من يدعونهم من دون الله من الأشياخ الموتى يفعلون كل ما يشاؤون وينالون ما يشاؤون، لأن لهم عند ربهم ما يشاؤون، وخفي عليهم أن لهم ما يشاؤون في الجنة مما وصفها الله من النعيم والسرور

غلو القبوريين في النبي صلى الله عليه وسلم

حتى قال بعض غلاتهم وهو الشيخ إبراهيم بن يحيى العاملي في النبي صلى الله عيه وسلم - برأه الله تعالى مما قالوا- والعاملي هذا وإن كان شيعيا، فإن الشيعة والقبوريين من أهل السنة متفقون على صرف كثير من العبادات للأنبياء والأولياء كالنذر إليهم والطواف والاستغاثة بهم والاعتقاد بتصريفهم للكون وأن الله فوض إليهم تصريف العلم وتدبيره.

وإليك نص ما قاله إبراهيم بن يحيى:

ساد الورى بفضائل وفواضل

وأقلها إيجاد هذا العالم

أنا عبدك الراجي الذي لا يبتغي

إلا رضاك وأنت أرحم راحم

وقال بعض شعراء السنة في النبي صلى الله عليه وسلم:

وإن من جودك الدنيا وضرتها

ومن علومك علم اللوح والقلم

ص: 70