المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الشبهة السادسة عشرة: شبهة المنتقدين أن الشيخ أنكر على الصوفية وطرقهم مقلدا في ذلك ابن تيمية - الشيخ محمد بن عبد الوهاب المجدد المفترى عليه

[أحمد بن حجر آل بوطامي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌الشبهة الأولى: إن الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأتباعه يكرهون النبي صلى الله عليه وسلم ويحطون من شأنه وشأن الأنبياء

- ‌الشبهة الثانية: إن الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأتباعه منعوا من قراءة كتاب دلائل الخيرات

- ‌الشبهة الثالثة: أن الشيخ وأتباعه يمنعون التوسل والإستغاثة بالأولياء والصالحين

- ‌الشبهة الرابعة: في جواز الاستغاثة بغير الله

- ‌الشبهة الخامسة: من شبههم جواز الإستغاثة بغير الله

- ‌الشبهة السادسة: من شبههم على جواز الاستغاثة بغير الله مارواه ابن السني عن عبد الله ابن مسعود

- ‌الشبهة السابعة: شبهتهم على جواز الاستغاثة بقول سواد بن قارب للرسول صلى الله عليه وسلم: فكن لي شفيعا…ألخ

- ‌الشبهة الثامنة: ما روى ابن السني في كتاب عمل اليوم والليلة

- ‌الشبهة التاسعة: أن الشيخ وأتباعه يكفرون المسلمين بأدنى شبهة

- ‌الشبهة العاشرة: إن الشيخ وأتباعه يقسمون التوحيد إلى توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية

- ‌الشبهة الحادية عشر: قال المبتدعون: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذم نجد وامتنع أن يدعو لهم

- ‌الشبهة الثانية عشر: قول المعترضين: أما تخيل المانعين المحرومين أن منع التوسل والزيارة من المحافظة على التوحيد

- ‌الشبهة الثالثة عشر: إن الشيخ وأتباعه كفروا صاحب البردة ومن كانت في بيته أو قرأها

- ‌الشبهة الرابعة عشر: إن الشيخ وأتباعه منعوا من شد الرحال إلى قبور الأنبياء

- ‌الشبهة الخامسة عشر: إن الوهابيين خالفوا المسلمين بمنعهم الإحتفال بالمولد النبوي الشريف

- ‌الشبهة السادسة عشرة: شبهة المنتقدين أن الشيخ أنكر على الصوفية وطرقهم مقلدا في ذلك ابن تيمية

الفصل: ‌الشبهة السادسة عشرة: شبهة المنتقدين أن الشيخ أنكر على الصوفية وطرقهم مقلدا في ذلك ابن تيمية

‌الشبهة السادسة عشرة: شبهة المنتقدين أن الشيخ أنكر على الصوفية وطرقهم مقلدا في ذلك ابن تيمية

الشبهة السادسة عشرة

قد نسيت في الطبعة الأولى لكتابي هذا أن أذكر شبهة المنتقدين على الشيخ محمد بن عبد الوهاب –رحمه الله بأنه أنكر على الصوفية وطرقهم مقلدا في ذلك ابن تيمية –رحمه الله.

فقالوا ما معناه: من المعلوم أن الصوفية أناس غلبوا جانب الآخرة على الدنيا، وزهدوا فيها، ولازموا الأذكار والدعوات في الخلوات، وحب الصالحين والتبرك بهم، والاقتداء بهم، واعتقاد كراماتهم لأنهم بلغوا من الزهد والصلاح ما يقر به الموافق والمخالف، وواظبوا على الصلوات والصيام وسائر الإسلام، فهل يسوغ بالعقل والإنصاف أن ينكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب على هؤلاء الذين نحسبهم صفوة الخلق عند الله؟

وما هو الذنب الذي جنوه حتى ينكر ابن تيمية وابن القيم عليهم، ويقتدي بهم محمد بن عبد الوهاب؟ ولو لم يكن لهم من الفضل إلا التبشير بالزهد في الدنيا والإقبال على الآخر كما قال الله تعالى {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى} 1 وقال تعالى {وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} 2 وقال تعالى {وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} 3

وكم جاءت الآيات والأحاديث تزهد في الدنيا وترغب في الآخرة، ثم إن هؤلاء مع التزامهم بالأذكار والصلاة والصيام، جاهدوا كثيرا من الكفار، وبشروا بدين الإسلام في كثير من البلدان ولا سيما البلدان الإفريقية.

أما ما ينسب إليهم من المخالفات، فكثير منها مدسوس عليهم، وما صح منها فلها تأويلات واصطلاحات يعرفها الذين يعرفون التصوف وحقيقته.

وإذا ما رأيت الهلال فسلم

لأناس رأوه بالأبصار

1 النساء: 77

2 الأعلى: 17

3 الأعراف: 169

ص: 203

جواب الشبهة

الكلام على الصوفية طويل، وقد كتب العلماء قديما وحديثا كتبا كثيرة في حقيقة الصوفية وتاريخ نشأتها ومبادئها، ولو ذهبت أذكر هذا لطال الكلام، ولكني سأذكر بعض مبادئ الصوفية، وبه يتجلى أن المنكرين عليهم هم المصيبون، فأقول وبالله التوفيق.

إن الصوفية لم تكن معروفة في عهد الصحابة –رضي الله عنهم بل لم تكن مشهورة في القرون الثلاثة المفضلة، وإنما اشتهرت بعد القرون الثلاثة الأول، وإن كان أصل ابتدائها في القرن الثاني.

وإلى القارئ بيان بعض مبادئ الصوفية ومنكراتها:

زعمهم أن الإسلام شريعة وحقيقة، ويسمون علماء الشريعة علماء الظاهر، أو علماء الرسوم أو أهل النظر، ويسمون أنفسهم علماء الحقيقة وعلماء الباطن أو علماء الغيب أو أهل الله أو أهل الكشف أو العارفين بالله، ويعتبرون أنفسهم الخاصة وخاصة الخاصة، كما يعتبرون علماء الشريعة طبقة العوام، ويفتخرون على علماء الشرع بأنهم أخذوا علومهم من الأموات، وهم أخذوا علمهم من الحي الذي لا يموت.

يقول أبو زيد البسطامي من أئمة التصوف في القرن الثالث يخاطب علماء الشريعة:

أخذتم علمكم ميتا عن ميت، وأخذنا علمنا من الحي الذي لا يموت، يقول أمثالنا حدثني قلبي عن ربي، وأنتم تقولون حدثني فلان وأين هو؟ قالوا: مات، عن فلان وأين هو؟ قالوا: مات.

وأنت خبير أن تقسيم الإسلام إلى شريعة وحقيقة تقسيم مخترع باطل، لم يقيموا عليه دليلا واحدا من الكتاب أو من السنة أو على الأقل من كلام الأئمة المهتدين، ومما يبين بطلان هذا المبدأ.

أ- أنهم يدعون بأنهم يخاطبون الله أو يكشف لهم اللوح المحفوظ

ص: 204

ويأخذون علمهم مباشرة من الله أو من اللوح المحفوظ ولا حاجة لهم إلى الرسل، فهل هذا مبدأ إسلامي أو كفري، بل كفري وهو الصواب؟ كيف يصح هذا الزعم والله تعالى يقول:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَاّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} ، ويقول تعالى {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَاّ خَلا فِيهَا نَذِيرٌ} ، ويقول تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَاّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} ، ويقول تعالى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} .

وأجمع أهل الأديان السماوية أن الله تعالى اصطفى من عباده من جعلهم واسطة بينه وبين خلقه في تبليغ شرائعه، ووهبهم مواهب كالصدق والعصمة وقوة الحجة والبيان والفطنة الكاملة ما يؤهلهم لهذا المنصب الشريف، إذ إن طبائع البشر لا تقوى على التلقي من الملك المرسل من الله فضلا أن يكون لديها استعداد لمخاطبة الله، ولم يقل أحد من اليهود والنصارى والمجوس والصابئة بأن الرسل مرسلون لتبليغ أناس مخصوصين من أمتهم، وهناك أناس عندهم الاكتفاء والاستغناء عن الرسل، كما أنه لا خلاف بين المسلمين أن الله تعالى أرسل محمدا عليه الصلاة والسلام إلى جميع الثقلين الإنس والجن بلا استثناء أحد مطلقا كما قال تعالى {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} وقال الله تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ}

ب- بالإجماع أن الرسول محمدا صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق أجمعين، ومع هذه الدرجة العليا والنبوة العظمى، والفضائل التي خصه الله بها لم يقل يوما قط إني آخذ من اللوح المحفوظ وأن لا حاجة لي إلى جبريل ولم يفتر عن عبادة ربه طرفة عين، بل كان يقوم الليل حتى تورمت قدماه ولم يق إنه بلغ الدرجة التي سقطت عنه التكاليف كالصلاة والصيام وغيرها.

ج- هذا المبدأ الضال يهدم الإيمان بالرسل وأنه لا يجب اتباعهم،

ص: 205

كما يهدم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم العامة إذ بموجب هذا المنطق الضال أنه يسوغ عدم متابعة الرسول لمن وصل تلك الدرجة التي بها يخاطب الله أو يكشف له اللوح المحفوظ بطريق المجاهدة والتخلي عن الدنيا والزهد فيها إلى آخر ما قالوا.

د- هذا المبدأ الكفري يفتح الباب على مصراعيه لمن يدعي النبوة ككل دجال يريد أن يفسد عقائد الناس بأنه نبي مرسل أو بأنه كشف له الحجاب عن اللوح المحفوظ أو عن الله، وأن الله خاطبه وأرسله لعباده، إذا ما دام باب كشف الحجاب بين العبد وبين ربه مفتوحا كما تدعي الصوفية، فسيدخل من هذا الباب كل أفاك أثيم ودجال لئيم لإفساد دين الإسلام وعقائد المسلمين، كما زعم ميرزا غلام أحمد القادياني ومحمد علي الباب ودجال السودان محمد محمود طه.

ص: 206

عقيدة الحلول

ويعني الصوفية بالحلول1 أن الله سبحانه وتعالى حل في بعض الأجسام واصطفاها واختارها، فانقلبت هذه الأجسام البشرية إلى آلهة تسير على الأرض وتعيش بين الناس.

وهذه العقيدة مأخوذة من الديانات اليهودية والنصرانية والمجوسية والهندية والفلسفة اليونانية، وكان الحلاج من أشهر المتصوفة القائلين بالحلول، وقد شرح عقيدة الحلول بقوله: من هذب نفسه في الطاعة وصبر على الملذات والشهوات، ارتقى إلى مقام المقربين ثم لا يزال يصفو ويرتقي في درجات المصافاة حتى يصفو عن البشرية، فإذا لم يبق فيه من البشرية حظ حل فيه روح الإله الذي حل في عيسى بن مريم ولم يرد حينئذ شيئا إلا كان كما أراد2، وكان جميع فعله فعل الله تعالى.

1 الحلول: هو أن يكون الشيء حاصلا في الشيء ومختصا به، حيث تكون الإشارة إلى أحدهما إشارة إلى الآخر تحقيقا أو تقديرا "كليات أبي البقاء"، وحلول الشيء في الشيء: هو أن يكون وجوده في نفسه هو بعينه وجوده لذلك الشيء ويريد به المتصوفة أن الله تعالى يحل في العارفين.

2 هذه ربوبية كاملة وألوهية عظيمة، فإذا أراد الشخص الذي حل فيه الإله في زعمهم أن يحيي ميتا أو يميت حيا، أو يأتي بأي شيء خارق تعجز عنه البشر استطاع وكان في إمكانه، وهل بعد هذا الكفر كفر؟ اللهم لا، سبحانه هذا بهتان عظيم.

هذا والرسول صلى الله عليه وسلم يخاطب ابنته: يا فاطمة بنت محمد: لا أغني عنك من الله شيئا، قال هذا الكلام لسائر عشيرته.

ونفى الله عن الرسول صلى الله عليه وسلم حتى العلم بالغيب إلا ما وصل عن طريق الوحي، وهؤلاء لم يكتفوا بدعوى الولاية والكرامات، بل ارتقوا فوق النبوة لدرجة الألوهية والربوبية، وما رأينا ولا سمعنا ولا قرأنا من سائر الكفرة من اليهود والنصارى والمجوس والصابئين وعباد الأوثان من ادعى هذه الدعوة الباطلة، نعم قد يأتي بعضهم ببعض الخوارق الشيطانية عن طريق السحر أو الأدوية أو غيرها كما في بعض بلاد أوربا والهند.

ص: 207

عقيدة وحدة الوجود

ويعني الصوفية بها أنه ليس هناك وجود إلا الله، وينقسمون في تصويرها إلى فريقين:

"1" فريق يرى الله روحا، والعالم جسم لهذا الروح، فالله هو كل شيء.

"2" وفريق يرى جميع الموجودات لا حقيقة لوجودها غير وجود الله، فكل شيء هو الله.

ونجد هذه العقيدة واضحة في كلام الصوفية مثل قول أحدهم:

لست أنا ولسته

فمن أنا ومن هو

فيا هو قل أنت أنا

ويا أنا قل أنت هو

ما في الوجود غيرنا

أنا وهو وهو وهو

وقول الآخر:

وفي كل شيء له آية

تدل على أنه عينه

ويقول أبن عربي –كما ينسب له- في كفر صريح:

الرب عبد والعبد رب

يا ليت شعري من المكلف

إن قلت عبد فذاك رب

أو قلت رب أنى يكلف

كما يقول في كفر أشد صراحة:

وما الكلب والخنزير إلا إلهنا

وما الله إلا راهب في كنيسة

ويقول ابن عربي في كتابه فصوص الحكم ما يؤكد عقيدته:

ومن أسمائه الحسنى العلي، على من؟ وما ثم إلا هو؟ فهو العلي لذاته؟ أو عن ماذا؟ وما هو إلا هو، فعلوه لنفسه، وهو من حيث الوجود عين الموجودات أ. هـ1.

1 ملخصا من تحذير المسلمين عن الابتداع والبدع في الدين للمؤلف.

ص: 208

فإذا كانت هذه عقائد ومبادئ الصوفية، فكيف لا ينكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب عليهم؟ بل يجب على كل مسلم عالما أو غير عالم، أن ينكر هذه العقائد الباطلة وعلى من يعتقدها، لأنها مخالفة لدين الإسلام، ولأنها أداة لهدم الدين الإسلامي بل لجميع الأديان، فتقسيمهم الدين إلى قشر ولباب هو من مخترعات الصوفية، أرادوا به أن يأتوا بالمناكر والمحرمات بدعوى أن ما يعتقدونه ويعلمونه هو لب اللباب، وما يعمله الفقهاء هو من الظواهر، وكأنهم لم يعلموا أن للظاهر تأثيرا على الباطن، وأن للباطن على الظاهر تأثيرا قويا.

وقد1 تقرر عند العلماء المحققين أن هناك ارتباطا وثيقا بين الظاهر والباطن، وأن للأول تأثيرا في الآخر، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، وإن كان ذلك مما قد لا يشعر به الإنسان في نفسه، ولكن قد يراه في غيره.

قال شيخ الإسلام رحمه الله وجزاه عن الإسلام وأهله خير الجزاء:

وهذا أمر يشهد به الحس والتجربة، حتى إن الرجلين إذا كانا من بلد واحد ثم اجتمعا في دار غربة كان بينهما من المودة والموالاة والائتلاف أمر عظيم، وإن كانا في مصرهما لم يكونا متعارفين، أو كانا متهاجرين، وذلك لأن الاشتراك في البلد نوع وصف اختصا به عن بلد الغربة، بل لو اجتمع رجلان في سفر أو بلد غريب، وكانت بينهما مشابهة في العمامة أو الثياب أو الشعر أو المركوب ونحو ذلك من الائتلاف أكثر مما بين غيرهما، كذلك تجد أرباب الصناعات الدنيوية يألف بعضهم بعضا ما لا يألفون غيرهم، حتى إن ذلك يكون مع المعاداة والمحاربة، إما على الملك وإما على الدين، وتجد الملوك ونحوهم من الرؤساء –وإن تباعدت ديارهم وممالكهم- بينهم مناسبة تورث مشابهة ورعاية من بعضهم لبعض، وهذا كله بموجب الطباع ومقتضاها، إلا أن يمنع من ذلك دين أو غرض خاص، فإذا كانت المشابهة في أمور دنيوية تورث المحبة والموالاة، فكيف بالمشابهة في أمور دينية؟

1 بدء الكلام من تفسير أولي الألباب ببدعة تقسيم الدين إلى قشر ولباب للشيخ محمد بن أحمد بن إسماعيل.

ص: 209

فإن إفضاءها إلى نوع من الموالاة أكثر وأشد، والمحبة والموالاة لهم تنافي الإيمان، قال الله تعالى {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} 1.

فأخبر سبحانه وتعالى أن لا يوجد مؤمن ود كافرا، فمن واد الكفار فليس بمؤمن، فالمشابهة مظنة المودة فتكون محرمة. ا. هـ.2

فإذا كان هذا الارتباط الوثيق بين الظاهر والباطن، فكيف يسوغ لهؤلاء الصوفية أن يفرقوا بينهما، ويجعلوا الظاهر قشرا، والباطن لبابا؟ إن هذا إلا إفك افترته الصوفية، وأرادت به هدم الشريعة الإسلامية، ولهذا يوجد في هذا العصر من يخالفون الشريعة الإسلامية، ويأخذون ببعض النصوص لإثبات عكس ما وضعت له، ويسمون الأشياء بغير أسمائها، لأنهم لا يتهمون ببعض الشرائع الظاهرة التي يسمونها شكليات أو قشور، ويدندنون حول التمسك باللباب، ولم يعرف سلفنا الصالح هذا التقسيم الباطل، ويصدق على هؤلاء المتصوفة قول الله تعالى {إِنْ هِيَ إِلَاّ أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} 3.

وهذا القول يلقى رواجا عند المتساهلين بأمر الدين، وإهمالا لظاهر الأعمال احتجاجا بصلاح الباطن، حتى إنهم يسمون المعاصي بغير أسمائها، فيقولون مثلا: إن إعفاء اللحية من سنن العادة، وقص الشارب من الأمور العادية التي لا صلة لها بتبليغ الرسالة، إلى غير ذلك مما يحرفون به الكلم عن مواضعه، فيستطيع الصوفي أن يأتي بكل منكر يريده، ثم يقول لمن ينكر عليه: هذا منكر في الظاهر، والظاهر كالقشر، وعندنا علم الباطن، والباطن لا يحرم هذا، ولهذا وقع بعضهم في استعمال الحشيش والمخدرات.

كما ذكر ابن عقيل –رحمه الله أنهم فرقوا في زعمهم بين الشريعة والحقيقة، وأنهم استحلوا الحشيش المخدر، بل هم أول من اكتشفه

1 المجادلة: 22.

2 من المصدر السابق.

3 النجم: 3.

ص: 210

وروجه في أوساط المسلمين، واستحلوا الغناء والاختلاط، واستحلوا التظاهر بالكفر والزندقة زاعمين أن لهم أحوالا وشطحا، وأنه يجب عدم الإنكار عليهم لأنهم مجاذيب أو مشاهدون لحضرة الرب في زعمهم. أ. هـ1.

وأما قولهم: أن الصوفية أناس غلبوا جانب الآخرة على الدنيا، وزهدوا فيها، ولازموا الأذكار والدعوات في الخلوات، وحب الصالحين والتبرك بهم، والاقتداء بهم،.. الخ.

فالجواب: إن ملازمتهم للأذكار والدعوات ليس من الذنب ولا العيب، ولكن تلك الأذكار والدعوات أكثرها مخترعة ومبتدعة، ليس لها من السنة نصيب، كالذكر بالاسم المفرد: الله، الله، أو قولهم: يا هو، يا هو، وكل عبادة لم تكن على منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنها مردودة وغير مقبولة للحديث الصحيح: من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد. أي مردود عليه غير مقبول.

ودعوى الكرامة تسهل على كل أحد أن يدعيها، ولكن الشأن في تحقيق الشخص الذي تصدر منه تلك الكرامات، الميزان كتاب الله العظيم وسنة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم في عبادته وكل أحوال حياته، موحدا بالله العظيم، ثم بدت منه بعض الخوارق، فيمكن أن نقول بأنها كرامة.

أما من يشرك بالله، كأن يستغيث بغير الله، أو يذبح لغير الله، أو يطوف بقبر من القبور، أو لا يواظب على الصلاة والعبادات الأخرى، ثم يدعي الكرامة، فهذا دجال كذاب، لا تقبل منه هذه الدعوى وترد عليه

1 من "فضائح الصوفية بتلخيص وتصرف".

ص: 211

ولو فرضنا أن صدرت من مثل هذا الرجل بعض الخوارق، فتفسيرها:

إما أن تكون من السحرة، أو ممن يستخدم الجان، لأن الجني إذا حصل مطلوبه من الإنس قد يقضي له بعض الحوائج، كأن يطير به في الهواء، أو يأتي له بفاكهة في غير أوانها، أو يخبره ببعض المغيبات.

فهذه الدعوى التي تدعيها الصوفية لا تروج إلا على الجهلاء.

أما قولهم: بلغوا من الصلاح ما يقر به الموافق والمخالف؟

فهذا غير مسلم، المخالف لا يقر، والموافق جاهل ليس له علم وتمييز يفرق به بين الحق والباطل، ولهذا يكون تابعا لكل ناعق، ومقلدا لكل جاهل، فليس في هذا حجة.

وقولهم: إنهم يبشرون بالزهد في الدنيا، والإقبال على الآخرة؟

فالزهد ليس هذا الزهد الذي تدعيه الصوفية، فالدنيا ما خلقها الله عبثا، بل جعلها مطية للآخرة، فسليمان عليه السلام كان ملكا ونبيا، ومع ذلك كان زاهدا، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم أعظم الزهاد1، وأبو بكر وعمر وكثير من الصحابة –رضي الله عنهم حتى من أغنيائهم كانوا زهادا، ومعنى الزهد أن لا يكون كل همك في الدنيا، بل تعطي للدنيا نصيبا وللآخرة نصيبا، قال الله تعالى {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} 2.

كما ورد في الأثر: اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا.

1 فقد قال صلى الله عليه وسلم: "ولكني أصوم وأفطر وأصلي وأنام وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني".

2 القصص: 70

ص: 212

والذي يمعن النظر في رجال التصوف، ولا أقول كلهم، بل أقول أكثرهم أنهم يدعون الزهد، ويترأسون على العوام الجهال، ويجلبون منهم الحطام من الأنعام والزرع والثمار، ويقومون لهم بالأعمال الدنيوية، وكل زهده أن تكون له سبحة طويلة ولحية كبيرة، جالس على فراشه يأتي إليه أتباعه يقبلون يديه ورجليه، ويذم الدنيا بلسانه أما بالفعل فلا.

ولم ينكر شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله عليهم من أجل صلاتهم ودعائهم وأذكارهم، إنما ينكر الابتداع والتفرق والطرائق، فهذا شاذلي وهذا نقشبندي وهذا رفاعي، إلى غير ذلك من الطرق، ولكل واحد ذكر مخصوص وطريقة معينة، فمتى ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا؟

وما يزعمون من الخرافة الصوفية التي يدعون أنها صادرة من علي بن أبي طالب رضي الله عنه كذب واختلاق، فعلي بن أبي طالب أجل من ذلك.

فإن قالوا: إن علماء الظاهر قد تفرقوا إلى عدة مذاهب كمالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة وسفيان والأوزاعي والنخعي، فنحن كذلك، فلأي شيء تنكرون علينا؟

فالجواب: إن أولئك الأعلام خدموا الإسلام والمسلمين، وأسسوا مذاهبهم على الكتاب والسنة، ولم يدخلوا فيها شيئا من البدع والضلالات، ولا عبرة ببعض المتأخرين من مقلدي المذاهب إذا حسنوا بدعة أو مارسوا بدعة.

والإنكار على الصوفية لم ينفرد به شيخ الإسلام ابن تيمية ولا الحافظ ابن القيم ولا الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب –رحمهم الله بل أنكر عليهم جماعة من العلماء قبل الشيخ ابن تيمية وبعده، فقد أنكر عليهم العلامة برهان الدين البقاعي والعلامة ابن المقري والعلامة ابن حجر العسقلاني، والعلامة تقي الدين محمد بن دقيق العيد الذي عاصر شيخ الإسلام ابن تيمية وكفرا ابن عربي وابن الفارض.

ص: 213

ومن أنكر عليهم أيضا سلطان العلماء عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام وكان قبل شيخ الإسلام ابن تيمية.

قال العز بن عبد السلام في ابن عربي:

شيخ سوء كذاب، يقول بقدم العالم، ولا يحرم فرجا، وتابعه في الإنكار الشيخ الإمام قطب الدين بن القسطلاني.

ومن المنكرين قاضي القضاة، قدوة أهل التصوف إمام الشافعية بدر الدين محمد بن جماعة، فقال: وحاشا رسول الله أن يأذن في المنام فيما يخالف أو يضاد قواعد الإسلام.

وأنكر عليهم الإمام ابن حيان محمد بن يوسف الأندلسي، ذكر ذلك في تفسيره سورة المائدة عند قول الله تعالى {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} 1: فقال: ومن بعض اعتقاد النصارى استنبط من أقر بالإسلام ظاهرا وانتمى إلى الصوفية، حلول الله في الصور الجميلة، ومن ذهب من ملاحدتهم إلى القول بالاتحاد والوحدة، كالحلاج والشعوذي وابن أحلى وابن عربي المقيم بدمشق وابن الفارض، وأتباع هؤلاء كابن سبعين –وعد جماعة.

ثم قال: وإنما سردت هؤلاء نصحا لدين الله، يعلم الله ذلك، وشفقة على ضعفاء المسلمين، وليحذروا، فهم شر من الفلاسفة الذين يكذبون الله ورسوله، ويقولون بقدم العالم، وينكرون البعث، وقد أولع جهلة ممن ينتمي إلى التصوف بتعظيم هؤلاء، وادعائهم أنهم صفوة الله. ا. هـ2.

وممن أنكر عليهم البلقيني، وعلاء الدين البخاري وغيرهم كثير3.

وهؤلاء العلماء الذين ينكرون على الصوفية وغيرهم من العلماء

1 الآية 17.

2 من تنبيه الغبي للعلامة البقاعي باختصار وتصرف.

3 من أراد الزيادة فليراجع تنبيه الغبي.

ص: 214

المنكرين، إما أن يكون إنكارهم في رسالة خاصة أو كتاب خاص، وإما أن يكون إنكارهم في أثناء كتاب يكتبونه وفي مناسبة ينكرون عليهم.

فكيف يقال بعدئذ أن الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب، أو شيخ الإسلام ابن تيمية هما المنكران فقط على الصوفية؟ لا يقول هذا إلا جاهل أو متجاهل للحق والحقيقة.

الخلاصة: أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب متبع للكتاب والسنة، لم ينكر على أحد شيئا إلا وله دليله، ولم يأمر أحدا بأمر إلا معه دليله، وكان كما قال بعض العلماء في حقه:

هل قال إلا وحدوا رب السما

وذروا عبادة ما سوى المتفرد

وتمسكوا بالسنة البيضا ولا

تتنطعوا بزيادة وتردد

وبالله التوفيق.

ص: 215

سلسلة من الافتراءات التي ذكرها السيد أحمد زيني دحلان مفتي مكة المكرمة في عصره عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب والأجوبة عنها

"1" قال رجل يوما لمحمد بن عبد الوهاب: كم يعتق الله كل ليلة في رمضان؟ فقال له: يعتق كل ليلة مائة ألف، وفي آخر ليلة يعتق مثل ما أعتق في الشهر كله، فقال له: لم يبلغ من اتبعك عشر عشر ما ذكرت، فمن هؤلاء المسلمون الذين يعتقهم الله تعالى، وقد حصرت المسلمين فيك وفيمن اتبعك؟ فبهت الذي كفر. أ. هـ.

والجواب من وجوه:

الأول: عدم الاعتماد على خبر الفاسق الكاذب إلا بعد التبين.

الثاني: إن في نفس هذا الخبر والحكاية ما يقتضي كذبه، من أن محمد بن عبد الوهاب قال له: يعتق في كل ليلة مائة ألف، وفي آخر ليلة يعتق مثل ما أعتق في الشهر كله، فإن هذا العدد لم يقع في حديث صحيح ولا حسن، وإنما وقع في رواية ضعيفة شديدة الضعف أو موضوعة، ومحمد بن عبد الوهاب بحمد الله تعالى كان من نقاد أهل الحديث، فكيف يتصور أن يجيب بهذا الجواب السخيف الساقط؟

نعم جاء في حديث "ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة "، وفي حديث "إنه يغفر لأمته في آخر ليلة من رمضان". وعلى هذا فليس فيه إشكال.

الثالث: إن صدق هذا الحديث في كل زمان من أوضح الأباطيل، إذ يجيء في قرب الساعة يقبض فيه روح كل مؤمن، فكيف يصدق هذا الحديث؟ فهو إما باطل أو مؤول بأن يحمل على زمان يبلغ فيه عدد المسلمين هذا المبلغ أو يزيد، وهذا التأويل كما يمكن من جانب من ليس من أتباع الشيخ كذلك يمكن من جانب أتباعه من غير فرق.

وقوله: فبهت الذي كفر، فهذا تكفير للشيخ برأه الله، ووصف الكفر ينطبق على عباد الأنبياء والصالحين، لا على أمثال الشيخ وأتباعه الموحدين.

ص: 216

"2" إنه منع الناس من زيارة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان ينهى عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا أحرق دلائل الخيرات وغيرها من كتب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.

والجواب: قوله: منع زيارة النبي صلى الله عليه وسلم كذب واضح، فلم يمنع الشيخ محمد بن عبد الوهاب زيارة قبور سائر المسلمين، فكيف يمنع زيارة النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه منع شد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة كما في الحديث "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى".

وأما قوله: منعه للصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وإحراقه لكتاب دلائل الخيرات وغيرها من كتب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.

فالجواب: قد تقدم في أوائل الكتاب، وخلاصته: إن هذا من الافتراءات التي لا يفتريها إلا من رق دينه وقل عقله، وكذلك تقدم الجواب عن دلائل الخيرات في فصل مستقل.

ونزيد القارئ بيانا عما قاله العلامة محمد بن إسماعيل الصنعاني في خصوص الدلائل:

وحرق عمدا للدلائل دفترا

أصاب ففيها ما يجل عن العد

غلو نهى عنه الرسول وفرية

بلا مرية فاتركه إن كنت تستهدي

أحاديث لا تعزى إلى عالم ولا

تساوى فلسا إن رجعت إلى النقد

وصيرها الجهال للدرس ضرة

يرى درسها أزكى لديه من الحمد

"3" وكان يمنع أتباعه من مطالعة كتب المذاهب الفقهية والتفسير والحديث، وأحرق كثيرا منها وأذن لكل من تبعه أن يفسر القرآن بحسب فهمه حتى من كان أرسخ العوام جهلا.

والجواب: هذا من الكذب والبهتان الذي أملاه عليهم الشيطان، وكتب الشيخ وأولاده وأتباعه تنادي سرا وجهرا، بأن ما زعمه المعترضون لا أصل له، بل من الإفك الجلي.

ص: 217

فعند آل الشيخ بالخصوص مكتبة عامرة بألوف من الكتب في المذاهب الأربعة وغيرها في التفسير وعلومه، وفي الحديث وعلومه ورجاله، وفي كتب التوحيد، وفي العلوم العربية والأدب وغيرها من الفنون والعلوم الشيء الكثير، ومن أراد أن يعرف صدق ما أقول، وكذب أولئك، فليقرأ كتب الشيخ وأتباعه ليرى فيها النقول الكثيرة من كتب أئمة المذاهب الأربعة وغيرها من التفاسير والأحاديث والأصول ما يبين أوضح البيان ويقيم أسطع البرهان على كذب أولئك الذين زعموا أن الشيخ منع أتباعه من قراءة كتب المذاهب والتفسير والحديث، بل يفترون ويقولون أنه أحرق كثيرا منها.

"4" وكان الشيخ يدعي الاجتهاد، ولأجل هذه الدعوى أتى بتلك الأقوال التي لم يقلها أحد قبله إلا ابن تيمية، ومن المعلوم أن الاجتهاد قال العلماء بمنعه بعد الأئمة الأربعة وتلامذتهم، ومن ادعى الاجتهاد سفهوا رأيه وردوا عليه، فهذا السيوطي مع جلالة قدره ادعى الاجتهاد فردوا عليه وخطأووه ولا تخفى مكانة السيوطي العلمية، ومع ذلك لم يقبلوا قوله ونقدوه.

الجواب:

أولا: إن الاجتهاد نوعان، مطلق ومقيد، فالشيخ رحمه الله لم يدع الاجتهاد لا مطلقه ولا مقيده، وعلى الفرض والتقدير أنه ادعى الاجتهاد، فأي شيء فيه من المنكر، فالاجتهاد بذل الوسع لمعرفة المسائل وأدلتها من الكتاب والسنة والقياس والإجماع، والذين منعوا الاجتهاد وقالوا: إن الباب أغلق من بعد الأئمة الأربعة وتلامذتهم ليس معهم دليل عقلي ولا نقلي صحيح، إنما هو رأي ارتأووه وسوغوا قولهم بأن الهمم فاترة، ولا نجد من فيه الكفاية من بعد أولئك الأعلام، فلهذا يجب التقليد واحد منهم كما قال اللقاني:

فواجب تقليد حبر منهم

كذا حكى القول بلفظ يفهم

والتقليد: أخذ قول الغير من غير معرفة دليله، وقول الناظم: فواجب

ص: 218

تقليد حبر منهم

الخ الوجوب من الأحكام الخمسة التي هي الوجوب والندب والكراهة والتحريم والإباحة، والحكم خطاب الله المتعلق بفعل المكلف، فمن الذي أوجب تقليد إمام من الأئمة الأربعة وغيرهم، هل الله أو رسوله؟ {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} ، وقد أوردوا بعض الحجج على وجوب التقليد، وردها العلماء المحققون كالعلامة ابن القيم في إعلام الموقعين، والشوكاني في القول المفيد، وأرشاد الفحول، والفلاني في إيقاظ أولي الهمم وغيرهم، فلا نطيل بذكر تلك الحجج والرد عليها.

والخلاصة أن رأيهم هذا خطأ محض، ليس عليه شبهة الصواب، فضلا عن الحجة والدليل، ولا يجب تقليد أحد من الأئمة الأربعة إلا لمن كان عاجزا عن معرفة الدليل.

أما من أوتي طرفا من علم الفقه والتفسير والحديث والأصول واللغة العربية، فإن لم يبلغ درجة الاجتهاد المطلق، وبحث واجتهد، فلا أقل من أن يتأتى له أن يعرف المسألة التي يريدها بدليلها فإذا عرف ذلك خرج عن دائرة التقليد في تلك المسألة.

والشيخ محمد بن عبد الوهاب من تواضعه قال: ولا ندعي الاجتهاد، ومن سيرة الشيخ وكتبه جزم أن الشيخ رحمه الله بلغ درجة عالية من العلم، وأنه كان في إمكانه أن يقيم الأدلة من الكتاب والسنة على ما يذهب إليه ويدين به، ولكن المبتدعين من أعداء الشيخ يريدون أن يخلقوا له المثالب والطعون، فيأتون بما هب ودب وبما يخالف العقول الراجحة والأذواق الصحيحة، وإلا فقل لي بربك إذا منع أتباعه من قراءة كتب المذاهب والتفسير والأحاديث، فعلى أي شيء يعتمد في تأليفه وأحكامه وأقضيته ودروسه؟ وهل يستغني أحد عن كتب أئمة العلم؟ لكن التعصب الأعمى والتقليد المذموم يجعل الإنسان يهرف بما لا يعرف ويقول ما لا يعقل.

وهؤلاء متأثرون بما قاله بعض الفقهاء من شروط الاجتهاد والعديدة التي لعلها لم تتوفر حتى في أبي بكر وعمر، ولما تصوروا تلك الشروط وطبقوها على

ص: 219

أنفسهم وقرنائهم وأهل عصرهم وجدوها لم تتوفر في أحد منهم.

وكل ما في الأمر أن المجتهد من يعرف آيات الأحكام وأحاديث الأحكام، ويميز بين الخاص والعام والمطلق والمقيد، والناسخ والمنسوخ، والظاهر والمؤول، ويعرف إجماع العلماء وخلافهم، ويعرف طرفا من اللغة العربية، ويجوز له الاكتفاء بتصحيح الأحاديث التي صححها الأئمة المحدثون كالبخاري ومسلم وأبي داود وأمثالهم، ولا يجب على المجتهد أن يحيط بعلم الأولين والآخرين، ولا أن يحيط بجميع الأحاديث وجميع تفسير القرآن الكريم وسائر العلوم العربية وغيرها، مع أن معرفة تفسير القرآن كله والأحاديث إن لم يتأت لكل أحد، فقد يتأتى من كثيرين، وفضل الله واسع يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم، ولا يشك عاقل في بطلان هذا القول وفساده، وأنه قول على الله بغير علم، ورجم بالغيب، وتكهن وحكم على الله بأنه لا يمكن أن يوجد من يكون مجتهدا، وكفى بهذا القول فسادا وبطلانا.

والكلام عن الاجتهاد والتقليد طويل، وقد كفانا علماء الأصول مؤنة البحث، فليراجع من يشاء، والمراجع عديدة وقد بينت هذا الموضوع بيانا شافيا في كتابي سبيل الجنة بالتمسك بالكتاب والسنة، وكتابي تنزيه السنة والقرآن.

فإذا وقفت على ما ذكرت، وأن شروط الاجتهاد ليست عسيرة، وفي الإمكان لم جد واجتهد وساعده توفيق الله أن ينال الاجتهاد المطلق أو المقيد.

والشيخ محمد بن عبد الوهاب لا نشك ولا يشك أحد ممن قرأ كتبه أنه إن لم يكن مجتهدا مطلقا، فلا أقل من أنه كان ممن يستطيع أن يرجح بقوة الأدلة وضعفها في قضية ما من القضايا.

وأما كون العلماء ردوا على من ادعوا الاجتهاد وسفهوا رأيه، فهذا من تعصبهم المقيت، وغلوهم في التقليد، وليس لهم في ميزان العلم والعقل

ص: 220

ما يساعدهم على ذلك، فمنعهم الاجتهاد خطأ وردهم على يدعي الاجتهاد إذا كان لديه من العلم من تلك الدعوى خطأ أكبر.

ولا ريب عندنا أن جلال الدين السيوطي وقبله الحافظ ابن حجر العسقلاني والإمام النووي، والعز بن عبد السلام، وشيخ الإسلام ابن تيمية، والحافظ ابن القيم وابن قدامه المقدسي، وأمثال هؤلاء العلماء الفحول الأجلاء لم يكونوا يتقيدون بالتقليد الأعمى، ولكن بعضهم خوفا من ألسنة العامة وألسنة بعض المنتسبين إلى العلم وإثارة الغوغاء والبلبلة، ينتسب إلى المذهب لكنه يشير في العبارات بمثل أنا أختار كذا، وهذا ما يؤيده الدليل أو قلت الأصح كذا ونحو ذلك من العبارات التي لا تخفى على من مارس العلوم الدينية أن صاحب هذه الأقوال لم يكن مقيدا مطلقا بالمذهب.

وإلى القارئ الآن جملا من المفتريات الغريبة المضحكة على عقول أولئك المفترين ودحضها:

"1" زعموا أن الوهابية ملكوا الطائف في ذي القعدة سنة 1217هـ وقتلوا الكبير والصغير والمأمور والآمر، ولم ينج إلا من طال عمره، وكانوا يذبحون الصغير على صدر أمه، ونهبوا الأموال، وسبوا النساء.

والجواب: أن دعوى قتل المسلم قد سبق في أول المقال، فالشيخ رحمه الله ألف كتاب الكبائر وفيه باب تعظيم قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا يخفى على أقل مسلم أنه لا يجوز سب المسلم فضلا عن قتله، وفي الحديث الصحيح "لعن المسلم كقتله". وفي حديث آخر "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر". ولا تخفى الآية الكريمة من سورة النساء -93، قال تعالى {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} .

فكيف يقدم الشيخ أو أتباعه على قتل مسلم بغير حق، وفي الحرب قد يكون القتل، ولكن للحرب مسوغات، والشيخ لم يحارب أحدا ولا الدولة السعودية سلفا وخلفا بغير حق، وحتى في حالة الحرب ما ذنب النساء

ص: 221

والصغار لأن يقتلوهم.

"2" زعموا أن الوهابيين يحكمون على الناس بالكفر منذ ستمائة سنة وتجرؤوا على استباحة أموال الناس ودمائهم وانتهاكهم حرمة النبي صلى الله عليه وسلم بارتكابهم أنواع التحقير له ولمن أحبه، وغير ذلك من مقابحهم التي ابتدعوها وكفروا الأمة بها، وكانوا إذا أراد أحد أن يتبعهم على دينهم طوعا أو كرها يأمرونه بالإتيان بالشهادتين أولا، ثم يقولون له: اشهد على نفسك أنك كنت كافرا، واشهد على والديك أنهما ماتا كافرين، واشهد على فلان أنه كان كافرا، ويسمون له جماعة من أكابر العلماء الماضين فإن شهدوا بذلك قبلوهم وإلا أمروا بقتلهم.

والجواب: قولهم كانوا يصرحون بتكفير الأمة منذ ستمائة سنة من الكذب الواضح والافتراء الصريح الذي لا يخفى على أحد من المسلمين.

وجوابا على قولهم بانتهاك حرمة النبي صلى الله عليه وسلم، فنقول: أن النبي صلى الله عليه وسلم أجل في قلب الشيخ وأتباعه من ذلك المفتري، ويعتقدون كما يعتقد كل مسلم حق أنه أفضل الخلائق وله الشفاعة العظمى، وقد مر هذا الكلام.

وقولهم: إن من مقابحهم التي ابتدعوها وكفروا الأمة بها

الخ

فالجواب: ليس للشيخ وأتباعه مقابح، والدعوى التي أتى بها الشيخ هي من صميم القرآن والسنة ولا يقال لمن يدعو إلى التمسك بالقرآن والسنة أتى بمقابح بل الذي يردد هذا الكلام يشم منه رائحة الكفر، حيث سمى من دعا إلى كتاب الله وسنة رسوله قبيحا.

أما قولهم: إذا أراد أحد أن يتبعهم على دينهم يأمرونه بالإتيان بالشهادتين.. الخ.

تأمل أسها القارئ هذه العبارة السخيفة، هل للشيخ وأتباعه دين غير دين الإسلام، والمسلم لا يقال له: تشهد بالشهادتين إلا إذا كان كافرا وأراد الدخول في الإسلام، فكلمتهم هذه "إن أراد أن يتبعهم على دينهم"، كلمة كبيرة، وكأنهم ينسبون الشيخ وأتباعه إلى دين آخر، كبرت كلمة تخرج من

ص: 222

أفواههم إن يقولون إلا كذبا، والحمد لله رب العالمين الذي أبان بمرور الأيام والسنين وانتشار كتب الشيخ وأئمة الدعوى حقائق هذه الدعوة السنية الموافقة للكتاب والسنة المرضية، كما تبين كذب خصوم الشيخ وافترائهم الصريح.

وقصد هؤلاء المدعين بهذا الزور والبهتان والهذيان أن يصدوا الناس عن التوحيد وإفراد الله بالعبادة، لأنهم يعلمون أن الناس إذا فهموا حقيقة الدعوة التي قام بها الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأتباعه، سيعرفون إذ ذاك ما كانت تجوز لهم مشايخهم وعلماؤهم من صرف العبادات لغير الله والصالحين مسبوكا في قالب حب الأنبياء والأولياء وبناء القباب عليهم، كله خطأ وضلال وشرك ووبال، وإذ ذاك تعرف العامة والخاصة مقام أولئك المدعين بالعلم والمدعين لمحبة الرسول صلى الله عليه وسلم، وجل همهم وقصدهم كان الرئاسة على العوام وجلب الحطام، من أجل ذلك شمروا عن ساق الجد والاجتهاد وأشعلوا نار الحرب على كتب الشيخ وأتباعه بالسيف والسنان والدعايات الضالة وباللسان وتأليف الكتب والخطب، ولكن الله رد كيدهم إلى نحورهم.

ونحن نتحدى هؤلاء الكذابين المفترين الذين نسبوا إلى الشيخ تلك الافتراءات، أن يأتوا بكتاب من كتب الشيخ أو أبنائه أو أتباعه فيه شيء مما ذكره هؤلاء، والواجب على من ينسب إلى أحد قولا، عليه أن يثبت بالدليل، وإلا فكذب ومردود عليه، مهما سمت درجته وعلت مكانته، ولكن الأمر كما قيل:

لي حيلة فيمن ينم

وليس في الكذاب حيلة

من كان يخلق ما يقول

فحيلتي فيه قليلة

"3" يزعمون أن الوهابيين إذا دخل أحد في دينهم، وكان قد حج حجة الإسلام قبل ذلك، يقولون له: حج حجة ثانية، لأن الأولى فعلتها وأنت

ص: 223

مشرك، فلا يسقط عنك الحج، كما كانوا يسمون من اتبعهم من الخارج بالمهاجرين، ومن كان من أهل بلدتهم بالأنصار.

والجواب: ما ذكروه هذا كله إفك وافتراء وضلال بلا مراء، فلم يقل الشيخ وأتباعه هذا الكلام السخيف وعلى فرض أنهم قالوا لمن رأوه يستغيث بالأولياء أو يطوف بالقبور أن هذا شرك، فقد سبق وأن قدمنا أ، هم لا يبادرون بتكفير أحد قبل إقامة الحجة عليه من الكتاب والسنة، ثم إذا أصر على ضلاله وشركه بعد ذلك، فيقال له إن هذا مشرك ولا كرامة، وإذا ثبت الشرك في حقه ثم هداه الله تعالى إلى الحق.

فقد يقولون له: تشهد بالشهادتين، لأنه أصبح مرتدا بشركه، فأي غرابة في هذا الكلام حتى يسبك في قالب التنفير والصد عن سبيل الله.

"4" يقول هؤلاء المفترون: الظاهر من حال محمد بن عبد الوهاب أنه يدعي النبوة، إلا أنه ما قدر على إظهار التصريح بذلك، وكان في أول أمره مولعا بمطالعة أخبار من ادعى النبوة كاذبا كمسيلمة الكذاب وطليحة الأسدي وأضرابهم، فكأنه يضمر في نفسه دعوى النبوة.

والجواب: أي دليل وأي حجة من نقل أو عقل تؤيد كلامهم وزعمهم هذا؟ وهل يستطيعون أن يأتوا بحرف من كتب الشيخ أو أتباعه تؤيد دعواهم؟ لا وألف لا، وما هو الدليل على أن الشيخ كان يدعي النبوة؟ {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} .

ومن المعلوم بالضرورة وبإجماع المسلمين أن علم ما في القلوب انفرد به الله، كما قال تعالى {إِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} وقال:{إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} . وظاهر هذا الكلام أن المبتدعين المعترضين يعلمون ما في القلوب وهو من علم الغيب، وكفى بهذا كفرا وضلالا.

ولو كان يدعي النبوة أو عنده دين جديد كما يقولون، لما أمر الناس باتباع القرآن المجيد والسنة الغراء، وهل وقع الخلاف بينه وبين الناس، وأدى هذا

ص: 224

الخلاف إلى نشوب القتال بين الشيخ وأنصاره وبين القبوريين وأنصارهم إلا أنه طلب أن يذعنوا للكتاب وسنة النبي صلى الله عليه وسلم.

وقد أقام الدلائل العديدة من القرآن والسنة على أن بعض أعمالهم وأقوالهم شرك مخرج من الملة كالطواف بقبور الأولياء، والذبح والنذر لهم والاستغاثة بهم، وبعض أعمالهم من البدع والضلالات التي لا تصل إلى حد الشركك، كبعض الأذكار قبل الأذان.

ثم إن قولهم: إنه كان مولعا بمطالعة أخبار من ادعى النبوة الخ، فهذا الكلام من جنس ما قبله من الأكاذيب التي لا تخفى على من عرف شيئا ولو قليلا من سيرة الشيخ وأتباعه واجتهادهم في نشر علوم الكتاب والسنة، وهل يعاب المرء إذا قرأ أخبار المتنبئين الكاذبين أو أخبار الجبابرة الظالمين أو أخبار الصناديد المشركين ليطلع على أحوالهم، ويستخرج دروسا وعبرة يستطيع بها الرد على من كان مثلهم؟

فيا سبحان الله، هذا القرآن العظيم يذكر عن الجبابرة والمشركين والسحرة، فإذا كان القرآن يذكر هذه الأمور، ويقص سير الأمم السالفة، ليتعظ كل ذي لب، فلم ينكرون على الشيخ اطلاعه على سير المتنبئين الكذابين، ليرد عليهم وعلى أمثالهم بما يستحقون.

وهؤلاء المدعون كأنهم لم يقرؤوا قول الله تعالى {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} ، وقول الله تعالى {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} .

وفي الحديث المتفق عليه "إياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار وما زال العبد يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا".

وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الرجل لتكلم بالكلمة ما يتبين فيها –أي ما يفكر فيها- بأنها حرام يزل بها في النار أبعد من بين المشرق والمغرب"

ص: 225

وفي الحديث الصحيح عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت".

ومما يبين كذبهم أن الشيخ رحمه الله كان كل اجتهاده، وهكذا أتباعه من بعده أن الناس يرجعون إلى الكتاب والسنة ويذرون الشرك والبدع والضلالات ويتبعون الرسول صلى الله عليه وسلم في أقوالهم وأفعالهم وعباداتهم كما قال الله تعالى {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} ، ورحم الله ملا عمران حيث قال:

هل قال إلا وحدوا رب السماء

وذروا عبادة ما سوى المتفرد

وتمسكوا بالسنة البيضا ولا

تتنطعوا بزيادة وتردد

هذا الذي جعلوه غشا وهو قد

بعثت به الرسل الكرام لمن هدي

والشيخ لا يذكر سيرة هؤلاء المتنبئين الكذابين إلا للعبرة والعظة، ليعرفهم المسلمون، وما كان موقفهم تجاه الرسول، وما كان موقف الرسل تجاههم، وليقارن بين الإيمان والكفران، وبين المؤمن الثابت والمؤمن المتذبذب.

والعجب من أولئك المعترضين على الشيخ محمد بن عبد الوهاب الذين يذكرون سلسلة من الافتراءات التي مر كثير منها، لا يأتون بنقل من كتب الشيخ أو أبنائه أو أتباعه، وإنما مجرد كلام وكيل الاتهام، وأعجب من هؤلاء أولئك الذي يصدقون ويؤمنون بهذه المفتريات على الشيخ وأتباعه، وينشرون في الناس تضليل الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وأنه قال كذا وكذا واعتقد كذا وكذا مما مر بيايه غير مرة، والعاقل فضلا عن العالم يجب عليه إذا ألقي إليه خبر أو قرأ كتابا أن يتثبت وأن يبحث عن صحة هذا الكلام وثبوته للمنسوب إليه أو عدم صحته، وعدم ثبوت نسبة الكتاب أو القول إليه.

ومن الذي سلم من نقد الأعداء واتهامهم ابتداء من سيد المرسلين وخاتم النبيين مرورا بالخلفاء الراشدين وأئمة البيت المطهرين والأئمة المهتدين، فلو أن كل كلام يقبل لما بقي عالم سالما من الطعن، ولا حجة لنا الآن في بيان

ص: 226

وسرد تلك الاتهامات الباطلة التي اتهم بها الأعداء أجلاء الصحابة والتابعين والأئمة المهتدين.

وأزيدك بيانا وإيضاحا، بأن أنقل لك من "تاريخ نجد" لمحمود شكري الألوسي "رحمه الله" مناظرة ذكرها في تاريخه جرت بين عراقي وهو "داود بن جرجيس البغدادي" وعالم نجدي، وهو "الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن" مؤلف "منهاج التأسيس والتقديس في كشف شبهات داود بن جرجيس".

وإنما أنقل بعضها لك، لما تضمنته هذه المناظرة من الفوائد النافعة، والمسائل القيمة، والجواب عن بعض ما اشتبه على بعض الناس، وكشف ما أشكل.

وهاأنا ألخص منها ما يمس بموضوعنا:

قال العراقي:

لم تكفرون –يا أهل نجد- المسلمين وعباد الله الصالحين، وتعتقدون ضلالهم وتبيحون قتالهم، واستبحتم الحرمين الشريفين، وجعلتموهما دار حرب، واستحللتم دماء أهلهما وأموالهم، وجعلتم دار مسيلمة الكذاب، هي دار الهجرة، ودار الإيمان، مع ما ورد فيها من الحديث أنها مواضع الزلازل والفتن، لما طلب أهل نجد الدعاء لأرضهم؟ والتكفير أمر خطير حتى أن أهل العلم ذكروا أنه لو أفتى مائة عالم إلا واحدا بكلمة كفر صريحة مجمع عليها، قال عالم واحد بخلاف أولئك، يحكم بقول الواحد، ويترك قول غيره، حقنا للدماء، فلم لا تتبصرون في أمور دينكم، ولا تراقبون وقوفكم بين يدي بارئكم، وتركتم الناس سالمين من ألسنتكم وأيديكم؟

قال العالم النجدي المجيب:

أيها العراقي، ليس الأمر كما علمت أنت وأمثالك، بل أنتم في لبس مما نحن عليه، وعسى أن يزول ذلك عنكم إذا صادف ما أكتبه لكم، قلوبا

ص: 227

سالمة من داء الغباوة، فأقول:

أركان الإسلام خمسة: أولها الشهادتان: ثم الأركان الأربعة.

فالأربعة، إذا أقر بها أحد وتركها تهاونا، فنحن وإن قاتلناه على فعلها، فلا نكفره بتركها، والعلماء اختلفوا في كفر تارك للصلاة كسلا من غير جحود.

ولا نقاتل إلا على ما أجمع عليه العلماء كلهم، وهو الشهادتان.

وأيضا نكفره بعد التعريف إذا عرف وأنكر. فنقول أعداؤنا معنا على أنواع.

النوع الأول: من عرف أن التوحيد دين الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أظهره للناس وأقر أيضا أن هذه الاعتقادات في الحجر والشجر الذي هو دين غالب الناس، أنه الشرك بالله، الذي بعث الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ينهى عنه، ويقاتل أهله ليكون الدين كله لله، ومع ذلك لم يلتفت إلى التوحيد ولا تعلمه ولا دخل فيه، ولا ترك الشرك.

فهو كافر نقاتله بكفره، لأنه عرف دين الرسول، فلم يتبعه، وعرف دين الشرك فلم يتركه، مع أنه لا يتغض دين الرسول، ولا من دخل فيه، ولا يمدح الشرك، ولا يزينه للناس.

النوع الثاني: من عرف ذلك كله، ولكنه تبين في دين الرسول مع ادعائه أنه عامل به، وتبين في مدح من عبد غير الله وغالى في أوليائه، ففضلهم على من وحد الله وترك الشرك، فهذا أعظم من الأول، وفيه قوله تعالى {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} وهو ممن قال الله فيه {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ} .

النوع الثالث: من عرف التوحيد واتبعه، وعرف الشرك وتركه: ولكن يكره من دخل في التوحيد، ويجب من بقي على الشرك، فهذا أيضا كافر، وفيه قول الله {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} .

ص: 228

النوع الرابع: من سلم من هذا كله، ولكن أهل بلده مصرحون بعداوة التوحيد واتباع أهل الشرك، وساعون في قتالهم، ويتعذر عليه ترك وطنه، ويشق عليه، فيقاتل أهل التوحيد مع أهل بلده ويجاهد بماله ونفسه، فهذا أيضا كافر، فإنهم لو يأمرونه بترك صوم رمضان، ولا يمكنه ترك الصيام بمخالفتهم فعل، وموافقته على الجهاد معهم بنفسه وماله، مع أنهم يريدون بذلك قطع دين الله ورسوله، أكبر من ذلك بكثير، فهذا أيضا كافر، وهو ممن قال الله فيه {سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا} . وهؤلاء الذين نكفرهم لا غير.

وأما القول بأنا نكفر الناس عموما، ونوجب الهجرة إلينا على من قدر على إظهار دينه، وأنا نكفر من لم يكفر ولم يقاتل ومثل هذا وأضعاف أضعافه، فكل هذا من الكذب والبهتان، الذي يصدون به الناس عن دين الله ورسوله.

وإذا كنا لا نكفر من عبد القبور من العوام لأجل جهلهم، وعدم من ينبههم1 فكيف نكفر من لم يشرك بالله، إذا لم يهاجر إلينا، أو لم يكفر ويقاتل {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ}

فقد ذكرنا لك –أيها السائل- ما يكشف عنك غطاءك، لو كان لك بصر ثاقب وفكر سديد، وفطنة كافية، تأخذ بيدك من أوهام الحيرة، وظلمات الوساوس، والله ولي التوفيق.

1 يريد الشيخ رحمه الله أنهم لا يكفرون العوام الجهال الذين لم تبلغهم الحجة من كتاب الله وسنة نبيه، وأما من بلغته الحجة وعاند، وأصر على شركه من دعاء الموتى والاستغاثة بهم، وطلب النفع منهم، أو دفع الضر، فلا شك في شركه، بل وفي كفر من لم يكفره.

ص: 229

وأما ما ذكره السائل "من استباحة الحرمين الشريفين".

فاعلم أيها السائل الفاضل، أن هذا من الكذب والبهت البين قال الله تعالى:{إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} ، لم يقع فيهما قتال بحمد الله، فضلا عن الاستباحة، وإنما دخلهما المسلمون في حالة أمن، وصلح، وانقياد من شريف مكة، ورؤساء المدينة، وجلس المشايخ منا في الحرمين الشريفين، للتعليم والتدريس، وكتبت الرسائل في بيان التوحيد والتنزيه، والتقديس، حتى جاءت العساكر {فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَفْعُولاً} .

وأما الأموال التي أخذت من الحجرة الشريفة، فلم تؤخذ ولم تصرف، إلا بفتاوي أهل العلم من سكان المدينة، ووضع خطوطهم بذلك.

وحاصل ما كتب أن هذه الأموال وضعت توسعة لأهل المدينة وصدقة على جيران رسول الله، وأرصدت لحاجاتهم، وأعدت لفاقتهم، ولا حاجة لرسول الله إليها، وإلى اكتنازها، وادخارها في حال حياته، فضلا عن حال مماته.

وقد تقطعت أسباب أهل المدينة ومرتباتهم بمنع الحج في تلك السنة، وأخرجت تلك الأموال لما وصفنا من الحال، باطلاع وكيل الحرم وغيره من أعيان المدينة وغيرها.

وما وقع من خيانة وغلول، لا تجوز نسبته إلى أهل العلم والدين، أو أنهم راضون، أو غير منكرين له.

ولا يجوز أن يسمي ما وقع، استباحة للحرمين، كما ذكرت أيها السائل.

وقد وقع من تعظيم الحرمين وكسوة الكعبة الشريفة، وتأمين السبل، والحج إلى بيت الله، وزيارة الحرم الشريف النبوي، ما لا يخفى على منصف، عرف الحال، ولم يقصد البهت والضلال.

وأما الاستدلال على صلاح أهلها بشرف تلك البقعة، فهو استدلال من عزبت عنه أدلة الشرع وقواعده، وغابت عنه عهود الكتاب العزيز ومواعده،

ص: 230

وصار من جملة الغوغاء والعامة.

ولا حاجة لنا تعداد من كفر بآيات الله، وصادم رسله، ورد حججه من أهل الحرمين، ولا إلى تعداد من في بلاد الحبشة والهند، وبلاد الفراعنة كمصر، وبلاد الصابئة ك"حران"، وبلاد الفرس المجوسية من أهل العلم، والفقه والإمامة والدين.

وفضل الحرمين لا يشك فيه من له أدنى إلمام بما جاءت به الرسل الكرام.

ولكن ليس فيه حجة على تحسين حال أهلها مطلقا: وقد قال سلمان الفارسي لأبي الدرداء لما دعاه إلى الأرض المقدسة، ورغبه فيها:"إن الأرض لا تقدس أحدا" وقال الله تعالى: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} : وهي مصر والشام.

فإن كان في شرف البقاع حجة ودليل على صلاح أهلها، فليكن هنا وبنو إسرائيل في الأرض المقدسة وسكان "إيليا" والمسجد الأقصى، وقد جرى منهم من الكفر والتكذيب، وقتل الأنبياء ما لا يخفى على من أنس شيئا من أنوار النبوة والرسالة.

ثم استدلال أهل اليمن على حسن حالهم مطلقا، بحديث "الإيمان يمان والحكمة يمانية" وحديث:" أتاكم أهل اليمن أرق قلوبا وألين أفئدة" أظهر من الاستدلال بشرف البقاع على عدم ضلال أهلها، لأن حديث:"الإيمان يأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها" يصدق ولو على البعض والأول أدل1 على العموم، ولو احتج الأسود العنسي وأمثاله على حسن حالهم بما تقدم، لكان جوابه جوابا لنا، فقد قال الله {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} .

1 أي حديث "الإيمان يمان" وحديث "أتاكم أهل اليمن الخ"

ص: 231

إيضاح المراد من مواضع الزلازل والفتن:

أيها السائل، إنك لمحت إلى أن المراد من مواضع الزلازل والفتن هي أرض نجد، وبلادها، واتخذت ذلك سهما رميت به من سكن هذه الخطة، ونحن نعذرك في ذلك، حيث لم تقف على معنى الحديث، وبعد بيانه، نرجو من لطف الله تعالى أن تذعن أنت وأضرابك للحق، إن كنت من أهل الفهم والإنصاف.

أما الحديث فهو قوله صلى الله عليه وسلم في الدعاء "اللهم بارك لنا في شامنا وفي يمننا" قالوا: وفي نجدنا يا رسول الله. فكرر ثلاث مرات يدعو للشام واليمن، وهم يقولون "وفي نجدنا" فقال في الرابعة "تلك مواضع الزلازل والفتن" وقد استجيبت دعوته صلى الله عليه وسلم وحصل من البركات بسبب هذه الدعوات، في الشام واليمن، ما هو معروف ومشهور، وهل دونت الدواوين، ووضع العطاء، وجندت الجنود، وارتفعت الرايات والبنود، إلا بعد إسلام أهل اليمن وأهل الشام، وصرف أموالهما في سبيل الله.

ولكن لا يحتج به على صلاح دين أهلهما، إلا من غربت عنه الحقائق، وعدم الفهم لأصول الدين، فضلا عن الفروع والدقائق.

وقد تقدم قوله تعالى {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا} ، وجمهور أهل نجد، ك"تميم"و"أسد" و"طي" و"هوازن" و"غطفان" و"بني ذهل" و"بني شيبان" صار لهم في الجهاد في سبيل الله والمقام بالثغور والمناقب والمآثر، لا سيما في جهاد الفرس والروم، ما لا يخفى على من له أدنى إلمام بشيء من العلوم، ولا ينكر فضائلهم، إلا من لم يعرف جهادهم وبلاءهم في تلك المواطن، ولا يشك عاقل أنهم أفضل من أهل الأمصار، قبل استيطان الصحابة وأهل العلم والإيمان.

وأما بعد ذلك، فالفضل والتفضيل، باعتبار الساكن، يختلف وينتقل مع العلم والدين.

ص: 232

فأفضل البلاد والقرى في كل وقت وزمان، أكثرها علما، وأعرفها بالسنن والآثار النبوية.

وشر البلاد، أقلها علما، وأكثرها جهلا وبدعة وشركا، وأقلها تمسكا بآثار النبوة، وما كان عليه السلف الصالح.

فالفضل والتفضيل، يعتبر بهذا في الأشخاص والسكان وقد قال الله تعالى:{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} كما أن الحسنات تضاعف في البلد الحرام، فكذلك السيئات تضاعف، لعظم حرمته وفضيلته1.

وقد جاء في فضل بعض أهل نجد ك "تميم" ما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: أحب تميما لثلاث سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم: قوله لما جاءت صدقاتهم: " هذه صدقات قومي " وقوله في الجارية التميمية "أعتقيها فإنها من ولد إسماعيل" وقوله "أشد أمتي على الدجال" هذا في المناقب الخاصة.

أما العامة للعرب، فلا شك في عمومها، لأهل نجد، لأنهم من صميم العرب.

وما ورد في تفضيل القبائل والشعوب أدل وأصرح في الفضيلة مما ورد في البقاع والأماكن للدلالة على فضل الساكن والقاطن.

ومعلوم أن رؤساء عباد القبور والداعين إلى دعائها وعبادتها، لهم حظ وافر مما يأتي به الدجال.

1 ذهب بعض أهل العلم إلى أن المضاعفة في الكيفية لا في العدد لقول الله سبحانه {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَاّ مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} وهذا نص صريح من كتاب الله سبحانه لا تجوز مخالفته إلا بدليل صحيح يخص الحرم المكي من هذه الآية ولا نعلم في ذلك ما يحسن الاعتماد عليه.

عبد العزيز بن عبد الله بن باز

ص: 233

وقد تصدى رجال من تميم وأهل نجد، للرد على دجاجلة عباد القبور الدعاة إلى تعظيمها مع الله تعالى، وهذا من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم إن قلنا "أل" في الدجال للجنس لا للعهد، وإن قلنا إنها للعهد كما هو الظاهر، فالرد على جنس الدجال توطئة وتمهيد لجهاده، ورد باطله، فتأمله فإنه نفيس جدا.

وليت غيرك أيها السائل تكلم بهذا الكلام فإن بلادك –أعني العراق- معدن كل محنة وبلية، ولم يزل أهل الإسلام منها في رزية بعد رزية.

فأهل "حروراء" وما جرى منهم على أهل الإسلام، لا يخفى.

وفتنة الجهمية الذين أخرجهم كثير من السلف من الإسلام إنما خرجت ونبغت بالعراق.

والمعتزلة، وما قالوه في الحسن البصري، وتواتر النقل به، واشتهر من أصولهم الخمسة التي خالفوا بها أهل السنة.

ومبتدعة الصوفية الذين يرون الفناء في توحيد الربوبية، غاية يسقط بها الأمر والنهي، إنما نبغوا وظهروا بالبصرة1.

ثم الرافضة والشيعة وما حصل منهم من الغلو في أهل البيت، والقول الشنيع في علي والأئمة، ومسبة أكابر أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم2، كل هذا معروف مستفيض عن أهل بلادك، أفلا يستحي أهل هذه العظائم من عيب أهل الإسلام، ولمزهم بوجود مسيلمة في بلادهم.

1 وكذلك وقعة الجمل: كما وقع بالعراق حرب صفين: وقتل علي، وقتل مسلم بن عقيل، والحسين بن علي وأبنائه، ودعوى المختار بن أبي عبيد النبوة إلى غير ذلك مما لا يحصر، كذلك في عصرنا قد حصلت فتن بالعراق ومنها أخيرا، فتنة عبد الكريم قاسم وما جرى من القبل والسفك.

2 انظر لأقوالهم الفاسدة وسبهم لأبي بكر وعمر "كتاب الخطوط العريضة مؤتمر النجف" لمحب الدين الخطيب.

ص: 234

أما سمعت ما رواه الطبراني من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "دخل إبليس العراق، فقضى فيها حاجته ثم دخل الشام فطردوه، ثم دخل مصر فباض وفرخ وبسط عبقريته".

والعراق قبل الإسلام، هي محل المجوس، وعباد النيران والبقر.

فإن قيل: طهرت بالفتح والإسلام.

قلنا: فما بال اليمامة لا تطهر بما أظهر الله فيها من الإسلام، وشعائره العظام، وجهاد أعداء الله ورسوله عليه الصلاة والسلام.

هذا كله أيها السائل، لو سلمنا أن المراد بنجد في الحديث هي القطعة الشهيرة مع أن الأمر ليس كما فهمت أنت وأضرابك.

بل المراد بنجد في هذا الحديث وأمثاله، هو العراق، لأنه يحاذي المدينة من جهة الشرق.

يوضحه أن في بعض طرق هذا الحديث وأشار إلى "العراق".

قال الخطابي: نجد من جهة الشرق ومن كان بالمدينة، كان نجده بادية العراق ونواحيها، فهي مشرق أهل المدينة.

وأصل "نجد" ما ارتفع من الأرض، وهو خلاف الغور، فإنه ما انخفض منها

وقال الداوودي: إن نجدا من ناحية العراق، ذكر هذا الحافظ ابن حجر، ويشهد له ما في مسلم عن ابن غزوان: سمعت سالم بن عبد الله، سمعت ابن عمر يقول:"يا أهل العراق، ما أسألكم عن الصغيرة وأركبكم للكبيرة": سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الفتنة تجيء من ههنا": "وأومأ بيده إلى المشرق".

فظهر أن هذا الحديث خاص لأهل العراق، لأن النبي صلى الله عليه وسلم فسر المراد بالإشارة الحسية.

وقد جاء صريحا في الكبير للطبراني، النص على أنها العراق.

ص: 235

وقول ابن عمر وأهل اللغة، وشهادة الحال، كل هذا يعين المراد1.

أما قولك أيها السائل: لو أفتى مائة عالم إلا واحدا بكلمة كفر صريحة مجمع عليها، وقال عالم بخلاف أولئك يحكم بقول الواحد الخ، فمما يستوجب الأسف عليك، حيث كنت بهذه المنزلة من معرفة دينك، أما علمت أن المحتج به في العقائد والأعمال إنما هو الكتاب والسنة والإجماع والقياس. فهذا الدليل من أي واحد من الأربعة؟

ومن عرف ما في الدعوى من العموم والإجماع، على خرق الإجماع، حمد الله على السلامة من داء الجهل.

ثم هذا العدد المخصوص أهو غاية وحد، لا يجوز أن يتجاوزه أحد؟ أو هو مبالغة وتهور لا يبالى به عند التحقيق والتصور.

قوم2 هذا حاصل بحثهم ونهاية إقدامهم.

وأما قوله صلى الله عليه وسلم "ادرأوا الحدود بالشبهات ما استطعتم" فهو ليس مما نحن فيه، فإن الخلاف ليس من الشبهة ولا يلتفت إليه إذا خالف الكتاب والسنة والإجماع.

هذا باتفاق المسلمين، لا يشكل إلا على الأغبياء.

وإطلاق القول بأن الخلاف شبهة، يعود على الإسلام بالهد والهدم، والتسجيل على عامة العلماء بالعيب والذم، فقل حكم من الأحكام الاجتهادية، إلا وفيه خلاف.

1 ومن الأجوبة المسكتة أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب قد قرأ كتب شيخي الإسلام ابن تيمية وابن القيم وأمعن النظر فيها، وهضم معانيها، فنفخت فيه روح الثورة على تلك الأوضاع الفاسدة ومنحته سلاحا قويا من الحجج النقلية والبراهين العقلية ما استطاع بها أن يزهق بطل أولئك المردة والمشركين، وأن يزيف شبه علمائهم ودعاة مذاهبهم.

ولا ريب أن الشيخين كانا شاميين، فإذا دعوة الشيخ شامية، والحديث يقول "اللهم بارك لنا في شامنا وفي يمننا".

2 خبر لمبتدأ محذوف التقدير "هؤلاء قوم".

ص: 236

ومن المعلوم أنه جاء الخبر النبوي أن هذه الأمة تفترق على ثلاث وسبعين فرقة، وتختلف في دينها، والعلماء مجمعون على القول بها، وأنه لا يلتفت إلى كل خلاف، لا سيما ما خالف النصوص والإجماع، وأفتوا بهذا في مسائل لا تحصى في أصول الدين وفروعه.

فلو كان وجود الخلاف من الشبه، لحكمنا بضلالتهم في ذلك كله، وهم مجمعون على عكس ما قال السائل.

ولو أفتى ألوف بما يخالف النصوص فهم في جانب النص والحجة. ولو مع واحد من الألوف.

قال الفضيل بن عياض: لا تستوحش من الحق لقلة السالكين ولا تغتر بالباطل لكثرة الهالكين.

وأحسن منه وأدل قوله تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} ، فبطل الاحتجاج بالكثرة في الأصول والفروع وما أحسن ما قيل:

وليس كل خلاف جاء معتبرا

إلا خلافا له حظ من النظر

قال السائل:

يا أهل نجد، ألم تعلموا أن من كفر المسلمين، هو في جملة المارقين؟

فما بالكم، اقتديتم بالخوارج، وسلكتم تلك المسالك والمناهج، ووافقتم مذهبهم الباطل، واعتقادهم العاطل، حيث قال أولئك:"لا حكم إلا لله" وقلتم "لا يعبد إلا الله" وكل من الكلمتين معنى أريد بهما باطل، وتضليل الأمة المحمدية.

ص: 237

قال المجيب:

أيها السائل، لو عرفت حقيقة الحال، لما صدر منك هذا المقال، فأين أهل الإسلام والتوحيد الذين يكفرون من عبد الأنبياء والأولياء والصالحين، ودعاهم مع الله، من الخوارج الذين يكفرون أهل القبلة والإيمان.

وكأن عبدة القبور عندك أهل سنة وجماعة، ليس الأمر كما ظننت.

{لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} انتهى ما أردنا نقله.

ثم ذكر الشيخ حقيقة مذهب الخوارج ومبدأ أمرهم، وبيان ما عليه عباد القبور، وبيان حال الشيخ محمد رحمه الله ومذهبه ومعتقده إلى آخر ما ذكره. أ. هـ1

1 من: الشيخ محمد بن عبد الوهاب عقيدته السلفية للمؤلف.

ص: 238

فصل ثناء العلماء على الشيخ محمد بن عبد الوهاب من المسلمين والغربيين الكافرين

أكثر العلماء السلفيون والمؤرخون المحققون من الثناء على الشيخ والتنويه بدعوته القائمة على دعائم الكتاب والسنة.

"1"

من ذلك: قصيدة الشيخ محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني مؤلف سبل السلام، لما بلغه دعوة الشيخ وثورته على البدع والخرافات، وقيامه بالدين الصحيح، والسنة المطهرة، وإرشاد الناس إلى أن يتمسكوا بالوحيين –وإلى القارئ بعض القضية:

سلامي على نجد ومن حل في نجد

وإن كان تسليمي على البعد لا يجدي

وقد صدرت من سفح صنعا سقى الحيا

رباها وحياها بقهقهة الرعد

سرت أسير بنشد الريح إن سرت

ألا يا صبا نجد متى هجت من نجد

قفي واسألي عن عالم حل سوحها

به يهتدي من ضل عن منهج الرشد

محمد الهادي لسنة أحمد

فيا حبذا الهادي ويا حبذا المهدي

لقد أنكرت كل الطوائف قوله

بلا صدر في الحق منهم ولا ورد

وما كل قول بالقبول مقابل

وما كل قول واجب الرد والطرد

سوى ما أتى عن ربنا ورسوله

فذلك قول جل، يا ذا، عن الرد

وأما أقاويل الرجال فإنها

تدور على قدر الأدلة في النقد

وقد جاءت الأخبار عنه بأنه

يعيد لنا الشرع الشريف بما يبدي

وينشر جهرا ما طوى كل جاهل

ومبتدع منه، فوافق ما عندي

ويعمر أركان الشريعة هادما

مشاهد ضل الناس فيها عن الرشد

ص: 239

أعادوا بها معنى سواع ومثله

يغوث، وود، بئس ذلك من ود

وقد هتفوا عند الشدائد باسمها

كما يهتف المضطر بالصمد الفرد

وكم عقروا في سوحها من عقيرة

أهلت لغير الله جهرا على عمد

وكم طائف حول القبور مقبل

ومستلم الأركان منهن باليد

لقد سرني ما جاءني من طريقة

وكنت أرى هذي الطريقة لي وحدي

يصب عليه صوت ذم وغيبة

ويجفوه من قد كان يهواه عن بعد

ويعزي إليه كل ما لا يقوله

لتنقيصه عند التهامي والنجدي

فيرميه أهل الرفض بالنصب فرية

ويرميه أهل النصب بالرفض والجحد

وليس له ذنب سوى أنه أتى

بتحكيم قول الله في الحل والعقد

ويتبع أقوال النبي محمد

وهل غيره بالله في الشر ع من يهدي

لئن عده الجهال ذنبا فحبذا

به حبذا يوم انفرادي في لحدي

سلامي على أهل الحديث فإنني

نشأت على حب الأحاديث من مهدي

هم بذلوا في حفظ سنة أحمد

وتنقيحها من جهدهم غاية الجهد

أأنتم أهدى من صحابة أحمد

وأهل الكساء هيهات ما الشوك كالورد

أولئك أهدى في الطريقة منكمو

فهم قدوتي حتى أوسد في لحدي

إلى آخر ما جاء في تلك القصيدة

"2"

ومنهم الشيخ محمد بن أحمد الحفظي صاحب دوجال من قرى عسير فقد نظم أرجوزة طويلة ذكر دعوة الشيخ وأثنى عليه ثناءا حسنا افتتح الأرجوزة بقوله:

الحمد حقا مستحقا أبدا

لله رب العالمين سرمدا

ص: 240

إلى أن قال:

مصليا على الرسول الشارع

وأهله وصحبه والتابع

في البدء والختم وأما بعد

فهذه منظومة تعد

حركني لنظمها الخير الذي

قد جاءنا في آخر العصر القذي

لما دعا الداعي من المشارق

بأمر رب العالمين الخالق

وبعث الله لنا مجددا

من أرض نجد عالما مجتهدا

شيخ الهدى محمد المحمدي

الحنبلي الأثري الأحمدي

فقام والشرك الصريح قد سرى

بين الورى وقد طغى واعتكرا

لا يعرفون الدين والتهليلا

وطرق الإسلام والسبيلا

إلا أساميها وباق الرسم

والأرض لا تخلو من أهل العلم

وكل حزب فلهم وليجه

يدعونه في الضيق للتفريجة

وملة الإسلام والأحكام

في غربة وأهلها أيتام

دعا إلى الله وبالتهليلة

يصرخ بين أظهر القبيلة

مستضعفا وما له من ناصر

ولا له مساعد موازر

في ذلة وقلة وفي يده

مهفة تغنيه عن مهنده

كأنها ريح الصبا في الرعب

والحق يعلو بجنود الرب

قد أذكرتني درة لعمر

وضرب موسى بالعصا للحجر

ولم يزل يدعو إلى دين النبي

ليس إلى نفس دعا أو مذهب

يعلم الناس معاني أشهد

أن لا إله غير فرد يعبد

محمدا نبيه وعبده

رسوله إليكمو وقصده

أن تعبدوه وحده لا تشركوا

شيئا به والابتداع فاتركوا

ومن دعا دون الإله أحدا

أشرك بالله ولو محمدا

إن قلتمو نعبدهمو للقربة

أو للشفاعة فتلك الكذبة

وربنا يقول في كتابه

هذا هو الشرك بلا تشابه

هذا معاني دعوة الشيخ لمن

عاصره فاستكبروا عن السنن

ص: 241

فانقسم الناس فمنهم شارد

مخاصم محارب معاند

ما بين خفاش وبين جعل

شاهت وجوه أهل المثل

وبعد ما استجيب لله فمن

جادل في الله تردى وافتتن

ومن أجاب داعي الله ملك

ومن تولى معرضا فقد هلك

والسابقون الأولون السادة

آل سعود الكبراء القادة

هم الغيوث والليوث والشنف

ونصرة الإسلام والشم الأنف

فأقبلوا والناس عنه أدبروا

وعرفوا من حقه ما أنكروا

إلى ما آخر ما جاء في تلك الأرجوزة الرنانة.

"3"

قال علامة العراق السيد محمود شكري الألوسي رحمه الله في آخر تاريخ لنجد:

كان الشيخ محمد من بيت علم في نواحي نجد، وكان أبوه الشيخ عبد الوهاب عالما فقيها على مذهب الإمام أحمد، وكان قاضيا في بلدة العيينة، ثم في حريملاء، وذلك في أوائل القرن الثاني عشر، وله معرفة تامة بالحديث والفقه، وله أسئلة وأجوبة.

وكان والد عبد الوهاب، الشيخ سليمان، عالما فقيها، أعلم علماء نجد في عصره، له اليد الطولى في العلم، وانتهت إليه رياسة العلم في نجد صنف ودرس وأفتى.

إلا أن الشيخ محمدا لم يكن على طريقة أبيه وجده، وكان شديد التعصب للسنة، كثير الإنكار على من خالف الحق من العلماء.

والحاصل أنه كان من العلماء الآمرين بالمعروف، والناهين عن المنكر، وكان يعلم الناس الصلاة وأحكامها، وسائر أركان الدين، ويأمر بالجماعات.

ص: 242

وقد جد في تعليم الناس، وحثهم على الطاعة وأمرهم بتعلم أصول الإسلام وشرائطه وسائر أحكام الدين، وأمر جميع أهل البلاد بالمذاكرة في المساجد كل يوم بعد صلاة الصبح، وبين العشائين، بمعرفة الله، ومعرفة دين الإسلام، ومعرفة أركانه، ومعرفة النبي محمد صلى الله عليه وسلم ونسبه ومبعثه وهجرته.

وأول ما دعا إليه كلمة التوحيد، وسائر العبادات التي لا تنبغي إلا لله، كالدعاء، والذبح، والنذر، والخوف، والرجاء، والخشية، والرغبة، والتوكل، والإنابة، وغير ذلك.

فلم يبق أحد من عوام أهل نجد، جاهلا بأحكام دين الإسلام بل كلهم تعلموا ذلك، بعد أن كانوا جاهلين، إلا الخواص منهم.

وانتفع الناس به من هذه الجهة الحميدة أي سيرته المرضية وإرشاده النافع. انتهى.

"4"

كلام عبد المتعال الصعيدي: في كتابه "المجددون في الإسلام"

قال عنه: هو الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ثم ذكر ولادته ونشأته، ورحلاته لتحصيل العلوم، ثم قال:

وقد رجع إلى بلده بعد هذه الرحلة العلمية الطويلة، وقد تهيأ له بها ما لم يتهيأ لغيره من علماء نجد، فكان أوسع منهم علما، وأعرف بالعلماء السابقين الذين كانت لهم جولة في الإصلاح، ولم يقع في ذلك الجمود والركود، الذي وقع فيه علماء عصره حتى ألفوا ما فيه من البدع وأخذوها على أنها من أصول الدين وأركانه.

فلما عاد الشيخ إلى بلده، لم يرض بما رضي به علماء نجد، من السكوت على تلك البدع، وأراد أن يعيد في محاربتها عهد أسلافه من الحنابلة، ولا سيما الشيخ ابن تيمية رحمه الله.

ص: 243

وكان قد درس كتبه ورسائله الإصلاحية، فيما درسه في نشأته.

وأخذ يدعو إلى مثل ما دعا إليه ابن تيمية قبله، من التوحيد بالعبادة لله وحده، وإنكار التوجه إلى أصحاب القباب والقبور، وإنكار التوسل بالأولياء والأنبياء إلى الله في قضاء الحاجات.

وقد بدأ الشيخ محمد بن عبد الوهاب دعوته في بلده بلين ورفق ثم أخذ يرسل بها إلى أمراء الحجاز وغيره من الأقطار.

ولما رأى أهل بلده مثابرته على دعوته، قاموا باضطهاده، فتركهم إلى بلدة الدرعية بنجد، وكان أميرها محمد بن سعود، فعرض عليه دعوته فقبلها، وقام بحمايتها ونشرها في بلاد العرب.

ولم يزل الشيخ يقوم بدعوته ف حماية هذه الإمارة، إلى أن مات رحمه الله سنة 1206هـ انتهى ملخصا.

"5"

السيد محمد رشيد رضا:

قال في التعريف بكتاب "صيانة الإنسان" بعد أن ذكر فشو البدع بسبب ضعف العلم والعمل بالكتاب والسنة، ونصر الملوك والحكام لأهلها، تأييد المعممين لها، قال رحمه الله ما نصه:

الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله:

لم يخل قرن من القرون التي كثر فيها البدع من علماء ربانيين، يجددون لهذه الأمة أمر دينها بالدعوة والتعليم وحسن القدوة، وعدول ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، كما ورد في الأحاديث.

ولقد كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب النجدي، من هؤلاء العدول المجددين قام يدعو إلى تجريد التوحيد، وإخلاص العبادة لله وحده، بما شرعه في كتابه وعلى لسان رسوله خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، وترك البدع، والمعاصي

ص: 244

وإقامة شعائر الإسلام المتروكة وتعظيم حرماته المنتهكة المنهوكة.

فنهدت لمناهضته واضطهاده، القوى الثلاث، قوة الدولة والحكام، وقوة أنصارها من علماء النفاق، وقوة العوام الطغام.

وكان أقوى سلاحهم في الرد عليه، أنه خالف جمهور المسلمين.

ومن هؤلاء المسلمون الذين خالفهم الشيخ محمد بن عبد الوهاب في دعوته؟

هم أعراب في البوادي شر من أهل الجاهلية يعيشون بالسلب والنهب ويستحلون قتل المسلم وغيره، لأجل الكسب، ويتحاكمون إلى طواغيتهم في كل أمر، ويجحدون كثيرا من أمور الإسلام المجمع عليها، التي لا يسع مسلما جهلها، إلى آخر ما قال، عليه رحمة الله ذي الجلال.

"6"

الدكتور طه حسين:

قال: إن الباحث عن الحياة العقلية والأدبية في جزيرة العرب، لا يستطيع أن يهمل حركة عنيفة نشأت فيها أثناء القرن الثاني عشر، فلفتت إليها العالم الحديث في الشرق والغرب، واضطرته أن يهتم بأمرها، وأحدثت فيه آثارا خطيرة، هان شأنها بعض الشيء، ولكنها عادت فاشتدت في هذه الأيام وأخذت تؤثر لا في الجزيرة وحدها، بل في علاقاتها بالأمم الأوربية.

هذه الحركة، هي حركة الوهابيين، التي أحدثها محمد بن عبد الوهاب، شيخ من شيوخ نجد.

ثم ذكر نزرا يسيرا عن نشأة الشيخ، ورحلاته العلمية ودعوته إلى أن قال: قلت إن هذا المذهب الجديد قديم معنى، والواقع أنه جديد بالنسبة إلى المعاصرين، ولكنه قديم في حقيقة الأمر، لأنه ليس إلا الدعوة القوية إلى

ص: 245

الإسلام الخالص النقي المطهر من شوائب الشرك والوثنية.

هو الدعوة إلى الإسلام، كما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم خالصا لله، ملغيا كل واسطة بين الله وبين الناس.

هو إحياء للإسلام العربي وتطهير له، مما أصابه من نتائج الجهل، ومن نتائج الاختلاط بغير العرب.

فقد أنكر محمد بن عبد الوهاب على أهل نجد، ما كانوا قد عادوا إليه من جاهلية في العقيدة والسيرة، إلى أن قال:

ولولا أن الترك والمصريين، اجتمعوا على حرب هذا المذهب وحاربوه في داره بقوى وأسلحة لا عهد لأهل البادية بها –لكان من المرجو جدا أن يوحد هذا المذهب كلمة العرب في القرن الثاني عشر، والثالث عشر الهجري، كما وحد ظهور الإسلام كلمتهم في القرن الأول.

ولكن الذي يعنينا من هذا المذهب أثره في الحياة العقلية والأدبية عند العرب فقد كان هذا الأثر عظيما خطيرا من نواح مختلفة.

فهو قد أيقظ النفس العربية فوضع أمامها مثلا أعلى أحبته وجاهدت في سبيله، بالسيف والقلم، والسنان، وهو لفت المسلمين جميعا، وأهل العراق والشام ومصر بنوع خاص، إلى جزيرة العرب. أ. هـ1

1 انتهى، من كتاب "محمد بن عبد الوهاب" لأحمد عبد الغفور.

ص: 246

"7"

محمد بن قاسم في كتابه "تاريخ أوربا":

كان الوهبيون ف عقيدتهم ومذهبهم على طريق أهل السنة والجماعة، والأساس الأصلي لمذهبهم، هو توحيد الله.

"8"

عمر أبو النصر في كتاب "ابن سعود"

قال عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب ما يلي:

والواقع أن دعوة ابن عبد الوهاب: ليست غير دعاية صالحة موفقة لنبذ البدع والمفاسد، التي نهكت دين الإسلام، والتي عمل بعض المشايخ على الترويج لها وذيوعها وانتشارها بين الناس.

وإذا ذهبنا نبحث الدعوة في مصادرها، ونتولاها بالنقد والبحث والتحقيق وجدنا أنها لا تختلف عن مذهب الإمام أحمد بن حنبل إلا في بعض التبسيط والتطويل.

وليس للوهابيين مذهب خاص يدعى باسمهم، كما يقول بعض الحاملين عليهم، وإنما مذهبهم مذهب الإمام أحمد، وليس فيما يطلبونه ويدعون إليه ما ينافي السنة ولا يتفق مع القرآن الكريم.

وهم ينكرون هذا التضليل، الذي يحاوله بعض الشيوخ وغير الشيوخ، وهذا الإغراق في إقامة القباب حول الأضرحة والقبور والصلاة فيها، وإقامة المباخر وطلب الشفاعة من أصحابها، والإسلام ينهى عن هذا.

وليس في الإسلام وسيط، وليس هناك من يشفع عنده إلا بإذنه. أ. هـ1

1 انتهى باختصار وحذف، من كتاب أحمد عبد الغفور.

ص: 247

"9"

المستشرق "سيديو" في "تاريخ العرب العام" الذي نقله إلى العربية "عادل زعيتر":

قال في أثناء كلامه على ثورات العرب للتحرر من سيطرة الترك وسيطرة البرتغال في عمان بعد كلام:

ومن ثم نرى أن جزيرة العرب استردت استقلالها التام تقريبا، منذ أوائل القرن الثامن عشر بفضل جدها، وضعف أعدائها، ولم يبق لها إلا أن تؤيد نصرها بمركز يلتف حوله جميع النفوس.

وهذا ما حاولت صنعه، قبيلة ظهرت في نجد، حوالي سنة 1749 م.

وهذا ما حاوله الوهابيون النافذون، حتى الآن، والذي سيكون لهم تأثير دائم، في مصير جزيرة العرب لا ريب.

واسم واضع هذه السيطرة هو عبد الوهاب التميمي، الذي أكب على دراسة آداب العرب وعلومهم، منذ صباه، والفقه أكثر ما عني به.

واطلع على آراء رجال المذهب، وقصد بغداد، والبصرة، وفارس سائحا، فنمت مداركه، فأنعم النظر في حال بني قومه وميولهم وغرائزهم، وطبيعة قواهم، فرأى أنه إذا ما حمل المسلمين على مراعاة أحكام القرآن، رجعت إليهم تلك الحماسة التي تعودتها عظمة الماضين.

ولم يكن للإصلاح الذي بدا زعيما، له هدف، سوى إعادة شريعة الرسول الخالصة إلى سابق عهدها. وحارب ابن عبد الوهاب فعالات1 المسلمين في إحاطة محمد صلى الله عليه وسلم بتعظيم حرمه الله في كثير من كلامه:

1 تأمل كيف عرف هذا المؤرخ الأجنبي عن ديننا، تعاليم هذا المصلح الكبير الصحيحة: وأنه قصد إرجاع الناس إلى الدين الصحيح، وتنقيته من شوائب البدع والوثنية، وكيف أنصف هذا الأجنبي وعرف دين الرسول الصحيح، وما طرأ عليه مما لا يتفق وتعاليم الرسول، ولم يعرفه الكثيرون من المنتسبين إلى الإسلام.

ص: 248

وحارب تقديس قبور الأولياء، فحمل أنصاره على هدمها.

وحارب بن عبد الوهاب ما كان يعيبه على الترك من فساد الأخلاق.

وحارب تعاطي المسكرات.

ومما ذكر الناس به، هو أن الشريعة تأمر المسلمين بأن يؤتوا الزكاة1 وتحرم عليهم الزينة2، وتلزم القضاة بالنزاهة التامة.

ومما عني به على الخصوص إبقاء روح الجهاد في قومه لما أدى إليه الجهاد من نصر عجيب منذ قرون.

ولا يمكن أن تنعت أقواله بالإلحاد على العموم لما بدت تكرارا لسور القرآن وهو لموافقته تعاليم الإسلام الصحيحة –كان بالغ الأثر لمبادئه فصار صناديد قبائل نجد ينضمون إلى لوائه، أفرادا وأرسالا.

فيؤلفون جيشا صغيرا بقيادة محمد بن سعود من عشيرة المساليخ وكان محمد قد اعتنق المذهب الجديد في الدرعية.

فأبصر ابن عبد الوهاب فيه من المواهب الحربية، ما لم يجده في الغير، فزوجه بابنته، مفوضا إليه أمر حكومة الوهابيين السياسية.

واستمر الكاتب في كتابه حتى قال:

فخلع على دين محمد رونقا جديدا، وبدد الخرافات التي زالت3 مع الزمن فأظهر القرآن خاليا من جميع ما عزي إليه من الشوائب.4

1 أي وسائر أركان الإسلام.

2 كلبس الحرير والذهب للرجال، لا مطلق الزينة.

3 تأمل كيف يصف زمن الشيخ بالخرافات، ويصف مقاومة الشيخ وإصلاحه مما لم يعرفه كثير من المسلمين، وعموا –بتعصبهم- عن محاسنه وخدماته، فرحمه الله، وقد أحسن من أنصف وعرف الحق لأهله، ولو كان كافرا.

4 كأنه يريد من التفاسير الباطلة، والتأويلات المخالفة.

ص: 249

وما لبثت النفوس التي أرهقتها شروح أئمة المسلمين المطولة الغامضة أن رجعت إلى بضعة مبادئ عامة بسيطة واضحة، فتقبلت خطط ابن عبد الوهاب الإصلاحية بقبول حسن.

ودعا الوهابيون إلى الفضيلة خلافا للقرامطة الذين تذرعوا بسيئ المناحي، فلم يبالوا بغير قضاء المآرب. أ. هـ.

"10"

دائرة المعارف البريطانية

جاء في دائرة المعارف البريطانية. وهي تتكلم عن الوهابية ما يلي:

الوهابية: اسم لحركة التطهير في الإسلام. والوهابيون يتبعون تعاليم الرسول وحده، ويهملون كل ما سواها، وأعداء الوهابية هم أعداء الإسلام الصحيح. أ. هـ1.

1 من "محمد بن عبد الوهاب عقيدته السلفية للمؤلف".

ص: 250

هذا وأرجع حامدا لله العظيم على نعمة الإكمال لهذا الكتاب الموسوم بالشيخ محمد بن عبد الوهاب المفترى عليه ودحض تلك المفتريات، وأسأل الله العظيم أن ينفعني بما كتبته، في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، وأن ينفع به كل قارئ وسامع، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الدوحة في غرة رمضان المعظم من

عام سبعة وأربعمائة وألف من الهجرة النبوية الشريفة

أحمد بن حجر آل بوطامي البنعلي

رئيس قضاة المحكمة الشرعية

بدولة قطر

ص: 251