الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشبهة الخامسة عشر: إن الوهابيين خالفوا المسلمين بمنعهم الإحتفال بالمولد النبوي الشريف
…
الشبهة الخامسة عشرة
إن الوهابيين مما خالفوا فيه المسلمين بمنعهم الاحتفال بالمولد النبوي الشريف زاعمين أنه بدعة سيئة، وقد استحسنه العلماء وعملوا به منذ قرون عديدة في أكثر القرى والأمصار الإسلامية في ليلة الثاني عشر من شهر ربيع الأول من كل عام، ويحضر في هذا الاحتفال كثير من العلماء والوجهاء والأمراء والوزراء، ويستبشرون بتلك الليلة الشريفة وتتلى فيها قصة المولد الشريف، وتنشد فيها قصائد المدائح النبوية، وقد تمد الموائد بأنواع الأطعمة الفاخرة للغني والفقير، ويحصل بذلك الاحتفال بذكرى ولادته صلى الله عليه وسلم نهاية الفرح والسرور والأنس والحبور، يدل هذا الاحتفال الشريف على حب المحتفلين للرسول صلى الله عليه وسلم القائل:"لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين". وقد استندوا في دعواهم إلى ما يلي:
أولا: قد استنبط الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله من حديث: صوم النبي صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء لما قدم المدينة ووجد اليهود يصومون فسألهم قالوا هو يوم أغرق الله فيه فرعون ونجى موسى، فنحن نصومه شكرا لله، فقال صلى الله عليه وسلم:" فأنا أحق بموسى منكم، فصامه وأمر بصيامه".
فالذين يحتفلون بمولده باعثهم المحبة والفرح شاكرين الله تعالى على ما أنعم الله به على المسلمين من ولادة هذا الرسول الكريم والسيد العظيم الذي فضله الله على الخلائق أجمعين.
ثانيا: ما أخرجه البيهقي عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن نفسه بعد النبوة خرج السيوطي في حسن المقصد لعمل المولد عليه، قال قد ظهر لي تخريجه -أي عمل المولد النبوي، على أصل آخر، وهو ما أخرجه البيهقي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن نفسه بعد النبوة مع أنه قد ورد أن جده عبد
المطلب عق عنه في سابع ولادته، والعقيقة لا تعاد مرة ثانية، فيحمل ذلك على أن الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم إظهارا للشكر على إيجاد الله إياه رحمة للعالمين وتشريعا لأمته كما كان يصلي على نفسه، لذلك فيستحب لنا أيضا إظهار الشكر بمولده.. الخ كلام السيوطي وقد نقله عنه شارح "المواهب اللدنية" الزرقاني ج 1 ص 140، وذكر مثل ما سبق.
ثالثا: ما جاء في حديث أن أبا لهب أعتق ثويبة لما بشرته بولادة الرسول صلى الله عليه وسلم ويخفف الله عنه العذاب كل يوم اثنين.
رابعا: قد ألف كثير من العلماء رسائل في استحسان المولد منهم العلامة السيوطي، وسمى رسالته "حسن المقصد في عمل المولد"، ومنهم ابن ناصر الدين الدمشقي في كتابه المسمى "مورد الصادي في مولد الهادي"، "وعرف التعريف بالمولد الشريف" لشمس الدين بن الجزري، وملا علي قاري في رسالته "المورد الروي في المولد النبوي" وغيرهم كثير ممن ألف في استحسان المولد النبوي.
خامسا: ويكفينا في الرد على الوهابية ما ورد في الحديث "ما رآه المسلمون حسنا، فهو عند الله حسن" وقد رأى أكثر المسلمين حسن قراءة المولد والاحتفال به، وكيف لا يستحسن وفي هذا الاحتفال ذكر ولادة النبي صلى الله عليه وسلم، وكثرة الصلاة والسلام عليه من الحاضرين، ويتذكرون بتلك القراءة ما كان من إرهاصات نبوته ومعجزاته وحسن أخلاقه وسيرته، وهذه الأمور تزيد المؤمن إيمانا، وتنمي محبته في قلوب الحاضرين والباعثة على الاقتداء به كما يزيد السامعين المسلمين هذا الاحتفال الشريف فرحا وسرورا بمولده صلى الله عليه وسلم، وقد قال تعالى {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} . فترى أن الله أمرنا أن نفرح بالرحمة، والنبي صلى الله عليه وسلم أعظم رحمة كما قال تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَاّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} . فماذا في هذا من المضار والسيئات حتى تمنعه الوهابية وتبدع فاعله، أفلا يدل منعهم عن الاحتفال بالمولد على عدم محبتهم أو على الأقل ضعف محبتهم للرسول صلى الله عليه وسلم.
الجواب عن الشبهة الخامسة عشرة
والجواب ومن الله أستمد الصواب من وجوه:
الأول: ليعلم القارئ أن قصة المولد باب من أبواب سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وأنه ينبغي للمسلم أن يقرأ سيرة هذا النبي الكريم، ويقف على تلك الأخلاق التي منحه الله إياها، حتى قال الله تعالى في حقه {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} .
وقد أجاد القائل:
خلقت مبرأ من كل عيب
…
فكأنك قد خلقت كما تشاء
كما ينبغي للمسلم أن يقف على صفاته الكريمة ومعجزاته العظيمة وسيرته العاطرة وغزواته المظفرة وما إلى ذلك مما ذكر في السيرة، ليزداد إيمانا، وقد ألف العلماء قديما وحديثا في سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم كتبا تفوق العد والإحصاء، ولكن هاهنا أمران: الأول: أنه ينبغي أن يعرف المسلم الصحيح من الضعيف من الموضوع مما سطر في كتب السير، والغث من السمين، وينبغي للمسلم الصحيح تمييز الذي صححه علماء الحديث المعتمد عليهم أو حسنوه، وأما قراءة ما هب ودب وما كان صحيحا وما كان ضعيفا، وما كان موضوعا ومكذوبا، فلا ينبغي أن يقرأ إلا ما كان صحيحا وهنا يتميز العالم من الجاهل والمحب للرسول صلى الله عليه وسلم من المدعى لهذا الحب، لأن كتب السيرة مشحونة بالضعيف والموضوع وفيها من الصحيح أيضا الشيء الكثير، فينبغي للقارئ الاعتناء بالصحيح والحسن، ولا يعتمد على مجرد ما يراه مكتوبا في كتاب منسوب إلى عالم من العلماء الأجلاء، لأن كثيرا من العلماء يوردون في مؤلفاتهم الصحيح والضعيف والموضوع، إما لأنه غير محقق أو لأنه يريد أن يورد كل ما في الباب اتكالا على فهم القارئ وتمييزه. أو ناقلا عن غيره جاعلا العهدة على المنقول عنه.
والأمر الثاني: أنه لا ينبغي الاقتصار على قراءة شيء من السيرة كقصة المولد في ليلة معينة في شهر معين كما يفعله الناس من عصور إلى اليوم في ليلة الثاني عشر من شهر ربيع الأول كما سيأتي بيانه، بل تقرأ سيرته الطاهرة في أي وقت أراده القارئ.
فالشيخ محمد وأتباعه وجميع السلفيين والموحدين لا ينكرون قراءة سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم بما فيها قصة المولد الشريف، وكيف وقد ألف الشيخ في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وابنه عبد الله كما سبق بيانه، وإنما ينكرون الاقتصار على ما ذكرت والاعتقاد بأن الاحتفال بالمولد في ليلة الثامن أو الثاني عشر من شهر ربيع الأول خاصة إنه مندوب أو بدعة حسنة يثاب فاعلها، وينكرون المولد لما مر بيانه، ولما يجري فيه من المنكرات كاختلاط الرجال بالنساء، ودق الطبول، واستعمال آلات الملاهي في بعض الأقطار، وكذلك ألعاب القمار والميسر إلى غير ذلك مما لا يخفى على من له عناية بهذا الشأن.
والجدير بالذكر مما ينبغي أن يفهمه المسلم أن كثيرا من الكتب التي ألفت خصوصا في المولد النبوي الشريف ملئت بالأكاذيب والموضوعات، التي تخالف العقل وتسيء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أولا، وإلى الدين الإسلامي ثانيا، ويقرأه الناس عالمهم وجاهلهم، ولم يحصل إنكار من العلماء ألا في قليل على ما جاء في تلك الكتب من الأقاويل الواهية والمدائح الغير صحيحة المزرية.
وسأنقل للقارئ فيما يأتي مقتطفات من بعض الكتب المؤلفة في قصة المولد الشريف، وبيان ما فيها مما ليس بصحيح، بل من الموضوع والمكذوب، وفي بعضها من الشرك والضلال إن شاء الله تعالى.
الوجه الثاني: إنه من المسلم به عند العلماء أنه لا حجة في فعل أحد ولا في كلام أحد، عالما ذلك أو غير عالم، وإنما الحجة في كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه.
وما كل قول بالقبول مقابل
…
ولا كل قول واجب الرد والطرد
سوى ما أتى عن ربنا ورسوله
…
فذلك قول جل ياذا عن الرد
وأما أقاويل الرجال فإنها
…
تدور على قدر الأدلة في النقد
ونحن نتحدى أولئك المستحسنين للمولد النبوي والمنكرين على الشيخ محمد بن عبد الو هاب في إنكاره المولد بأن يأتوا بدليل من القرآن أو السنة الصحيحة أو الحسنة، أو من قول أو من فعل أحد الصحابة والتابعين والأئمة المهتدين الذين اتفق أكثر المسلمين على علومهم وهدايتهم ودرايتهم واجتهادهم واتباعهم للشرع الأنور كالأئمة الأربعة والسفيانين وعبد الله بن المبارك وإسحق ابن راهويه وعلي بن المديني وابن معين والبخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والدارقطني وسائر العلماء المحققين، بأنهم استحسنوا الاحتفال بالمولد.
والوجه الثالث: الجواب عن قولهم أن الأكثرين استحسنوا الاحتفال بالمولد، وألف الكثيرون رسائل في استحسان قراءة المولد: فهذا ليس بحجة يعتمد عليها إلا عند من غاب رشده وسفه نفسه، ونحن نسأل هل هذا العمل سنة مستندة إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم أو فعله أو تقريره أو فعل الخلفاء الراشدين، فإن قالوا ورد في القرآن أو عن النبي، قلنا أثبتوا لنا ما تدعون، فإن قالوا لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة كما يعترفون هم بذلك، ولكن هذا العمل بدعة حسنة لما قدمناه من الأدلة ولما يحتوي على تلك المحاسن من قراءة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وتذكير الحاضرين بأخلاقه وشمائله وذكر ولادته، إلى غير ذلك مما سبق ذكره، فالجواب ليس في البدع بدعة حسنة بل كل بدعة ضلالة، وتقسيم البدعة إلى خمسة أقسام حسنة وسيئة ومباحة ومكروهة ومحرمة ليس له أصل، إنما هو من كلام بعض العلماء، والعالم يصيب ويخطئ وهو مأجور إن شاء الله على اجتهاده وإن أخطأ، لأن المصيب له أجران، والمخطئ له أجر، ولكن لا يجوز الاقتداء به في خطئه وسيأتي
التفصيل في قولهم أن هناك بدعة حسنة.
الوجه الرابع: أن نقول: أن الأكثرية ليست دليلا على الحق. قال الله تعالى {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} وقال تعالى {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} .
ولا ريب أنه قد مضى أكثر من ثلاثة قرون على المسلمين لم يكن هذا الاحتفال، وإنما أحدثه الفاطميون بمصر في أثناء القرن الرابع، كما أحدثوا بدعا كثيرة منها مولد علي بن أبي طالب، والسيدة فاطمة الزهراء، والحسن والحسين، ومولد الخليفة الحاضر، وقبر الحسين، وتقديس القبور.
وأحدث المولد النبوي أيضا الملك المظفر ملك إربل ناحية الموصل في أواخر القرن السادس أوائل القرن السابع.
وإلى القارئ ما ذكره السيد رشيد رضا في مقدمة رسالته ذكرى المولد النبوي نقلا عن تاريخ ابن خلكان:
قال: والمشهور أن المُحْدِثَ لها هو أبو سعيد كوكبوري بن أبي الحسن علي بن بكتكين التركماني الجنس الملقب بالملك المعظم مظفر الدين صاحب إربل، أحدثها في أوائل القرن السابع أو أواخر القرن السادس، فإن السلطان صلاح الدين ولاه على إربل في ذي الحجة سنة 586هـ وتوفي سنة 630هـ، وقد كان سخيا متلافا صاحب خيرات كثيرة، وكان ينفق على الاحتفال بالمولد ألوفا كثيرة، ففي تاريخ ابن خلكان أنه كان ينصب له مقدار عشرين قبة من الخشب، كل قبة منها أربع طبقات أو خمس طبقات له قبة منها والباقي للأمراء وأعيان دولته، وكانوا يزينون هذه القباب في أول شهر صفر بأنواع الزينة الفاخرة، وكان يكون في كل قبة جوق من الأغاني، وجوق من أرباب الخيال ومن أصحاب الملاهي، بل كانوا لا يتركون طبقة من الطبقات بغير جوق من تلك الأجواق، وكان الناس يتركون كل عمل في تلك الأيام فلا يتقى لهم شغل إلا التفرج والدوران على القباب.
قال ابن خلكان: فإذا كان قبل المولد بيومين أخرج من الإبل والبقر والغنم
شيئا كثيرا زائدا عن الوصف وزفها بجميع ما عنده من الطبول والأغاني والملاهي حتى يأتي بها إلى الميدان، ثم يشرعون في نحرها وينصبون القدور ويطبخون الألوان المختلفة، فإذا كانت ليلة المولد عمل السماعات بعد أن يصلي المغرب في القلعة ثم ينزل وبين يديه من الشموع المشتعلة شيء كثير وفي جملتها شمعتان أو أربع – أشك في ذلك- من الشموع الموكبية التي تحمل كل واحدة منها على بغل ومن ورائها رجل يسندها وهي مربوطة على ظهر البغل، فإذا كانت صبيحة يوم المولد أنزل الخلع من القلعة إلى الخانقاه على أيدي الصوفية على يد كل شخص منهم بقجة، وهم متتابعون كل منهم وراء الآخر فينزل من ذلك شيء كثير لا أتحقق عدده.
ثم ذكر عرضه الجند وتوزيعه تلك الخلع بعد ذلك على الفقهاء والوعاظ والقراء والشعراء ومد السماط، وكان قد ذكر قبل ذلك أن الناس كانوا يأتون هذا الموسم في إربل من بغداد والموصل والجزيرة وسنجار ونصيبين وبلاد العجم، وتلك النواحي فلا يزالون يتواصلون من شهر المحرم إلى أوائل شهر ربيع الأول.
لخصت هذا من تاريخ ابن خلكان الذي وصف ما رآه بعينيه، لأن ما يعمل بمصر الآن يشبه ما كان يعمل في إربل إلا أنه دونه عظمة ونفقة، فههنا تنصب قباب أو خيام النسيج الجميلة لعزيز مصر ولوزارات حكومته ولبعض الوجهاء في دائرة واسعة، ويختلف إليها الناس من أول شهر ربيع الأول يسمعون في بعضها وعظ الوعاظ وذكر أرباب الطرق المعروفة، ويرأس الاحتفال هنا شيخ مشايخ طرق الصوفية ويقيم بجانب خيمته مأدبة فاخرة في مساء اليوم الحادي عشر من الشهر يحضرها كبار العلماء وكثير من الوجهاء ويكون الاحتفال الأكبر في الليلة الثانية عشرة في خيمته فيجتمع فيها من حضر المأدبة ويؤمها الأمراء والوزراء حتى إذا ما انتظم جمعهم حضر عزيز مصر بحاشيته، وتقرأ بين يديه قصة المولد فيخلع على من يقرأها خلعة سنية، وتدار بعد قراءتها كؤوس الشراب المحلى وصواني الحلوى الجافة ثم
ينصرف العزيز إلى خيمته وهي بجانب قبة شيخ الشيوخ فيمكث فيها ساعة زمانية، يشاهد في أثنائها زينة الألعاب النارية، ثم ينصرف وينصرف الأمراء والوزراء، ويظل الناس يطوفون على تلك الخيام المزينة بالأنوار الكهربائية وغير الكهربائية عامة ليلتهم، في ضحوة ذلك اليوم يحضر نائب العزيز قبة شيخ الشيوخ فتعرض عليه مواكب الطرق الصوفية، يتقدم كل طريقة شيخها وهم يهللون ويتلون الأوراد ويقف كل منهم أمام شيخ الشيوخ قليلا فيحييه ثم ينصرف. أ. هـ1.
فهذه القرون التي قد خلت بما فيها من عصر النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم بما فيها من علماء التفسير والحديث والتوحيد والأصول وسائر العلوم الإسلامية والعربية، وما في تلك القرون من الصالحين والحكام والأمراء وسائر الناس، إلى عصر الفاطميين والملك المظفر، أكان كل أولئك لا يحبون الرسول صلى الله عليه وسلم وجاءت القرون الأخيرة وأحبوا الرسول أكثر مما أحبه أولئك السالفون؟
هل يتصور عاقل أن يكون حب هؤلاء أكثر من حب أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وسائر الصحابة رضي الله عنهم أجمعين للرسول صلى الله عليه وسلم؟ وهم الذين قدموا أرواحهم وأموالهم ودماءهم في سبيل نصرة هذا الدين وشريعة سيد المرسلين، ومحبتهم له صلى الله عليه وسلم تجل عن الوصف.
فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه، تضربه قريش حتى يغمى عليه، وعندما يفيق من إغمائه لا يسأل عن شيء يخصه وأهله، فلا يسأل عن أبيه ولا عن أبنائه، ولكن يسأل عن الرسول صلى الله عليه وسلم فيقول ماذا فعل محمد صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون له: بخير.
1 من ذكرى المولد النبوي للسيد محمد رشيد رضا.
وأحسب أنني في غنى عن بيان محبة الصحابة رضوان الله عليهم للنبي صلى الله عليه وسلم، والتابعين وسائر العلماء المهتدين، لأن محبتهم معلومة لكل من قرأ سيرة أصحابه صلى الله عليه وسلم أو سمعها.
الخامس:الجواب عن قولهم: بأن الاحتفال بالمولد إن لم يرد في الحديث فهو بدعة حسنة أن نقول: القول بالبدعة الحسنة مفسدة للدين ومضيعة له، وممكن لأعدائه من القضاء عليه إذ يمكنهم حينئذ أن يأتوا المنكرات والفواحش والضلال، ويقولون بدعة حسنة حسنتها عقولنا، وهم كاذبون منافقون، ينوون بها هدم الشريعة الغراء، فلا يقدر القضاء عليهم ودرء شرهم وكيدهم إلا بعدم الابتداع في الدين.
وكم أصاب الملحدون والدجالون الدين الإسلامي بتلك المقالة الخادعة، وما نالت الباطنية من الدين الحنيف غرضها وإفساده إلا بالبدع التي أحدثوها وزعموها دينا ومقربا لله، وما هي إلا تضليل وتمويه على الناس،
والمشرعون الحكماء يجتهدون في سد الأبواب التي منها يلج الأعداء، فكيف بأحكم الحاكمين وأحكم المشرعين، خالق السموات والأرضين ورب العالمين؟
السادس: الجواب: عن تجويز الابتداع، هو تحكيم لناقصي العلم في الشريعة، كيف يشاؤون، وكيف سولت لهم أنفسهم، وأغلب الناس لا يعرفون الحسن من القبيح، ولا يميزون النافع من الضار، فيقضون على الدين من حيث لا يعلمون.
السابع: أننا نرى جميع المحدثات في الإسلام المزعومة بأنها حسنة، قد جلبت على الدين الويلات، وأهلكت أهله وأغرتهم بارتكاب المحرمات، وأوقعتهم في كل ما ينهى عنه الدين من فسوق ومروق وشرك، فانظر إلى بدعة البناء على القبور وأسراجها والعناية بها وطرح الزينات عليها في مساجدها كيف أفسدت على المؤمنين إيمانهم، وخلطت عقائدهم
بما يكون كفرا وإشراكا، فهم يذهبون إلى هؤلاء الموتى المنسوبين إلى الصلاح، يسألونهم حاجاتهم الدنيوية والأخروية بخشوع وخضوع واستكانة وتمسكن، ويأملون فوق ما يأملون الله العظيم، ويخافونهم أكثر من خوفهم من الله رب العالمين، ويطلبون منهم ما لا يطلب إلا من رب العالمين، ويتضرعون بالضراعات التي لا تكون إلا من أتقى المتقين بين يدي مالك يوم الدين، ولا يخفى ما يقع عند مقام الشافعي والحسين بن علي والسيد أحمد البدوي والدسوقي والرفاعي والسيد عبد القادر الجيلاني والزيلعي والعيدروسي وغيرهم ممن بنوا عليهم المقامات العالية والأضرحة الفخمة، وطفق الجهلة يحجون إليهم ويضرعون لديهم ويطلبون منهم، فالمريض يسأل الشفاء والعانس تطلب الزواج، والأعمى يريد البصر، والفقير يريد الغنى، والعزب الفقير يدعوه أن يزوجه ويهديه إلى المرأة الصالحة، إلى غير ذلك من الأمور البدعية والشركية مما هو ملموس ومحسوس.
وفكر في نتائج القول بالبدعة الحسنة، إن الكثيرين من الشافعية في بلدان كثيرة ابتدعوا صلاة الظهر بعد صلاة الجمعة، بدعوى الاحتياط والبدعة الحسنة، لسد خلل إن حصل في صلاة الجمعة، كيف تجر هذه البدعة الشنعاء إلى الكفر إن اعتقد المصلون بوجوبها، لأن الله تعالى لم يفرض علينا صلاة سادسة، أو زيادة ركعة، لأن اعتقاد وجوب هذا كفر لا ريب فيه، كما لو اعتقد بنقص ركعة من ركعات الصلاة.
وهذه البدعة روجها بعض العلماء لأجل ما ذكرته سلفا، ولم يتأملوا ما ينتج منها من الاعتقادات الفاسدة، والدليل على ذلك: أن المأموم ينوي فرض صلاة الظهر، وأي احتياط لمصلين في مسجد يبلغ المأمومون أكثر من أربعين؟ بل وأحيانا مئات وألوفا؟ وأي حسنة في هذا؟ وخصوصا في بلد لا تقام فيها إلا جمعة واحدة، علما أن قولهم: إذا تعددت الجمع ولم يعرف السابقة، فيصلي الظهر احتياطا وجوبا، أو عرف السابقة، فالثانية باطلة وتصلى الظهر، كلام غير صحيح، وقد ذكرت تفصيل ذلك في كتابي الجمعة
ومكانتها في الدين، فانظر إن أردت.
وانظر أيضا إلى بدعة الموالد وما نتج منها من انتشار الفواحش واختلاط الرجال بالنساء واحتكاكهم بهن وإلى ما استتبعته من شرب الخمور والمسكرات وترك الصلوات، وإنفاق الأموال الطائلة في غير ما ينفع، وكل ذلك يفعلونه على حساب الدين.
الثامن: قولهم: جاء في الحديث " ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن".
الجواب: إن هذا الذي سموه حديثا ليس بحديث، ولكن يروى كأثر عن ابن مسعود رضي الله عنه.
وإن سلمنا بأن ما يراه المسلمون حسنا، فالمراد جميع المسلمين، إذ إن "أل" إذا أطلقت في مثل هذا الموطن لا تكون إلا إلى الاستغراق كقوله تعالى {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} وقوله تعالى {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} .
وأثر ابن مسعود يرد عليهم: لأن المسلمين بمعنى الكلمة هم القرون الأولى، الصحابة والتابعون والأئمة المرضيون، وهم يرون أن الحسن كل الحسن هو نبذ البدع والمحسنين لها.
وإذا كان المراد جميع المسلمين، فعندئذ يكون إجماعا، والإجماع حجة، ولكن لم يقع إجماع على تحسين قراءة قصة المولد والاحتفال به، بل ما زال الخلاف موجودا منذ أن أحدثه الفاطميون والملك المظفر.
والأمر الثاني: إن عقول الناس وأفهامهم تختلف، فقد يستحسن قوم أمرا بينما يستقبحه آخرون فمثلا: الاحتفال بالمولد استحسنه الكثيرون كما ذكر المعترضون، ولكن لم يستحسنه أيضا كثير من العلماء منهم شيخ الإسلام أحمد بن تيمية وابن قيم الجوزية وابن الحاج المالكي والفاكهاني والشيخ نصير الدين المبارك الشهير بابن الطباخ والحافظ أبو زرعة العراقي وأكثر الحنابلة رحمهم الله أجمعين.
واستحسن الكثيرون بناء القباب على الأنبياء والصالحين، وهو بلا شك من ذرائع الشرك ومصادم للأحاديث النبوية الواردة في تحريم البدع.
والخلاصة: إن استحسان الكثيرين ليس بحجة، ولا يحتج به إلا من أفلس في ميدان إقامة الأدلة الصحيحة.
التاسع: تشبثهم بصيام النبي صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء، واستنباط العسقلاني منه لعمل المولد، فإليك الجواب:
استنباط الحافظ العسقلاني رحمه الله لم يكن صوابا، وإنما هو مجرد فهم فهمه لأن عمل المولد بدعة لم تنقل عن أحد من السلف الصالح من القرون الثلاثة، فإن عدم عمل السلف الصالح بالنص على الوجه الذي يفهمه منه من بعدهم يمنع اعتبار ذلك الفهم أن يكون صحيحا ودليلا عليه، إذ لو كان صحيحا لم يعزب عن فهم السلف الصالح ويفهم من بعدهم، كما يمنع اعتبار ذلك النص دليلا عليه، إذ لو كان دليلا عليه لعمل به السلف الصالح، فاستنباط ابن حجر الاحتفال بالمولد النبوي ما دام الأمر كذلك من حديث صوم يوم عاشوراء، ومن أي نص آخر مخالف لما أجمع عليه السلف من ناحية فهمه ومن ناحية العمل به وما خالف إجماعهم فهو خطأ، لأنهم لا يجتمعون إلا على هدى، وقد بسط الشاطبي الكلام على تقرير هذه القاعدة في كتاب الموافقات، وأتى في كلامه بما لا شك فيه أن الحافظ ابن حجر العسقلاني لو تنبه له لما خرج عمل المولد على حديث صوم يوم عاشوراء ما دام السلف لم يفهموا تخريجه عليه منه ولم يعملوا به على ذلك الوجه الذي فهمه منه. أ. هـ1.
1 من القول الفصل للشيخ إسماعيل الأنصاري
أما احتجاج المحسنين للمولد بما رواه البيهقي عن أنس أن النبي عق عن نفسه بعد النبوة، وتخريج السيوطي رحمه الله عمل المولد النبوي عليه استنباطا منه:
فالجواب: استنباط الحافظ السيوطي باطل، لأن الحديث الذي رواه البيهقي لم يثبت عند أهل العلم، لأنه من رواية عبد الله بن محرر عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن نفسه بعد النبوة، قال الإمام أحمد هذا الحديث منكر وضعف ابن المحرر.
وقال النووي في الجزء الثامن من "المجموع شرح المهذب ص 330 في "باب العقيقة"
أما الحديث الذي ذكره الشيرازي في عق النبي صلى الله عليه وسلم عن نفسه فرواه البيهقي بإسناده، عن عبد الله بن محرر عن قتادة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن نفسه بعد النبوة، وهذا حديث باطل، قال البيهقي هو حديث منكر، وروى البيهقي بإسناده عن عبد الرزاق قال:"إنما تركوا عبد الله بن محرر بسبب هذا الحديث". قال البيهقي وقد روى هذا الحديث من وجه آخر عن قتادة، ومن وجه آخر عن أنس وليس بشيء فهو حديث باطل، وعبد الله بن محرر ضعيف متفق على ضعفه، قال الحافظ هو متروك.
وقال الحافظ أبو الحجاج المزي في ترجمة عبد الله بن محرر من "تهذيب الكمال في أسماء الرجال" بعد إيراد كلام أئمة الجرح والتعديل فيه قال: قال عبد الرزاق عن عبد الله بن محرر عن قتادة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن نفسه بعد النبوة، قال عبد الرزاق إنما تركوه –أي عبد الله بن محرر- لحال هذا الحديث.
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني في كتاب "العقيقة" من تلخيص الحبير ج4 ص147 –قوله- أي الرافعي – روى أنه صلى الله عليه وسلم عق عن نفسه بعد النبوة، البيهقي من حديث قتادة عن أنس وقال: منكر وفيه عبد الله بن محرر وهو ضعيف جدا، وقال عبد الرزاق: إنما تلكموا فيه لأجل هذا الحديث، قال
البيهقي: وروي من وجه آخر عن قتادة، ومن وجه آخر عن أنس وليس بشيء، قلت القائل ابن حجر العسقلاني، أما الوجه الآخر عن قتادة فلم أره مرفوعا، وإنما ورد أنه كان يفتي به كما حكاه ابن عبد البر، بل جزم البزار وغيره بتفرد عبد الله بن محرر به عن قتادة، وأما الوجه الآخر عن أنس فأخرجه أبو الشيخ في الأضاحي وابن أيمن في مصنفه والخلال من طريق عبد الله بن المثنى عن ثمامة بن عبد الله بن أنس عن أبيه، وقال النووي في شرح المهذب هذا باطل أ. هـ كلام الحافظ في تلخيص الحبير.
وعلى الفرض أن يكون حديث العقيقة صحيحا، فأي مناسبة لاستخراج المولد منه، فالنبي صلى الله عليه وسلم الذي عق عن نفسه كما في هذه الرواية الضعيفة لم يشرع لأصحابه الاحتفال بمولده ولا فعلته الصحابة ولا التابعون، هل كان أولئك القوم غير محبين للرسول صلى الله عليه وسلم أو كانوا بلداء وأغبياء ليس عندهم ذلك الفهم وتلك المقدرة على الاستنباط، كما قدر الحافظ السيوطي وأمثاله من الذين يستنبطون بزعمهم من الأحاديث الضعيفة – حاشا لله أن يتصفوا بمثل هذه الصفات.
وأما تشبثهم أو تمسكهم بخبر عروة في شأن أبي لهب مع جاريته ثويبة، بأنها لما بشرت أبا لهب حينما ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتقها، ولهذا ورد أن الله تعالى يخفف عنه العذاب في كل يوم اثنين حتى أنشد بعضهم:
إذا كان هذا كافرا جاء ذمه
…
وتبت يداه في الجحيم مخلدا
أتى أنه في يوم الاثنين دائما
…
يخفف عنه للسرور بأحمدا
فما الظن بالعبد الذي طول عمره
…
بأحمد مسرورا ومات موحدا
والجواب من وجوه:
أولا: أن هذا الحديث مرسل، أرسله عروة ولم يذكر من حدثه به.
ثانيا: أنه لو كان موصولا، فلا حجة فيه لأنه رؤيا منام.
ثالثا: الحديث أصله ثابت في صحيح البخاري في باب {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} ساق الإمام البخاري بعد أن ذكر الآية حديثين ومفادهما أنه يحرم من الر ضاع ما يحرم من النسب والحديث الثالث رقم -5101- حدثنا الحكم بن نافع أخبرنا شعيب عن الزهري قال أخبرني عروة بن الزبير أن زينب ابنة أبي سلمة أخبرته "أن أم حبيبة بنت أبي سفيان أخبرتها أنها قالت: يا رسول الله انكح أختي1 بنت أبي سفيان، فقال: أو تحبين ذلك؟ فقلت: نعم، لست لك2 بمخليه، وأحب من شار كني في خير أختي: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن ذلك لا يحل لي. قلت فإنا نحدث أنك تريد أن تنكح بنت أبي سلمة. قال: بنت أم سلمة؟ قلت: نعم. فقال: لو أنها لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي. إنها لابنة أخي من الرضاعة. أرضعتني وأبا سلمة ثويبة، فلا تعرضن علي بناتكن ولا أخواتكن. قال عروة: وثويبة مولاة لأبي لهب وكان أبو لهب أعتقها فأرضعت النبي صلى الله عليه وسلم فلما مات أبو لهب أريه3 بعض أهله بشر4 حيبة، قال له: ماذا لقيت؟ قال أبو لهب: لم ألق بعدكم5، غير أني سقيت في هذه بعتاقي ثويبة".
1 انكح أختي بنت أبي سفيان جاء في فتح الباري عن ابن شهاب عن مسلم والنسائي في هذا الحديث "انكح أختي عزة بنت أبي سفيان" ولابن ماجه مثله وعند الطبراني "هل لك في جمنة بنت أبي سفيان".
2 لست لك بمخليه بضم الميم وسكون الخاء وكسر اللام اسم فاعل من أخلى يخلي، أي لست بمنفردة بك ولا خالية من ضره.
3 أريه بضم الهمزة وكسر الراء وفتح الياء على البناء للمجهول "بعض أهله" بالرفع على أنه النائب عن الفاعل وذكر السهيلي أن العباس قال: لما مات أبو لهب رأيته في منامي بعد حول في شر حال فقال: ما لقيت بعد كم راحة إلا أن العذاب يخفف عني كل يوم اثنين، قال وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم ولد يوم الاثنين وكانت ثويبة بشرت أبا لهب بمولده فأعتقها.
4 "بشر حيبة" بكسر الحاء وسكون الياء وبعدها باء أي سوء حال.
5 "لم ألق بعدكم غير أني" قال في الفتح كذا في الأصول بحذف المفعول وفي رواية الإسماعيلي لم ألق بعدكم رخاء وعن معمر عن الزهري لم ألق بعدكم راحة قال ابن بطا ل سقط المفعول من رواية البخاري ولا يستقيم الكلام إلا به. أ. هـ.
ومما أوردته من صحيح البخاري وشرح بعض كلماته أن أصل الحديث صحيح وثابت عن عروة بن الزبير ولكن ما جاء في آخره قال عروة: فلما ما ت أبو لهب أريه بعض أهل بشر حيبة الخ.
ذكر في الشرح أن هذه رؤيا منامية والرائي لأبي لهب هو أخوه العباس بن عبد المطلب فرآه في سوء حال، وأخبره أبو لهب أنه يخفف عنه من العذاب في كل يوم اثنين لأنه أعتق ثويبة عندما بشرته بمولده صلى الله عليه وسلم، والقارئ على علم أن هذه رؤيا منام ورؤيا المنام لا يحتج بها في الأحكام حتى لو رؤى النبي صلى الله عليه وسلم ونقل الرائي عنه ما يخالف الكتاب والسنة لا يقبل، ومن أجل هذا قلنا في أول المقال إنها رؤيا منام، وإلا فأصل الحديث مروي في بيان الرضاع وحكمه والله أعلم بالصواب.
رابعا: أن في مرسل عروة هذا من أن إعتاق أبي لهب لثويبة، كان قبل إرضاعها النبي صلى الله عليه وسلم يخالف ما عند أهل السير، من أن إعتاق أبي لهب إياها كان بعد ذلك الإرضاع بدهر طويل، ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" وأوضحه في الجزء الرابع من "الإصابة في تمييز الصحابة" ص 250 بقوله: قال ابن سعد: أخبرنا الواقدي عن غير واحد من أهل العلم قالوا: كانت ثويبة مرضعة رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلها وهو بمكة، وكانت خديجة تكرمها وهي على ملك أبي لهب وسألته أن يبيعها لها فامتنع، فلما هاجر صلى الله عليه وسلم أعتقها أبو لهب، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث إليها بصلة وبكسوة حتى جاء الخير أنها ماتت سنة سبع مرجعه من خيبر ومات ابنها مسروح قبلها أ- هـ كلام الحافظ ابن حجر في الإصابة.
خامسا: أن مرسل عروة الذي خرج عليه ابن ناصر الدين الدمشقي وابن الجزري عمل المولد النبوي مخالف لظاهر القرآن كما أوضحه الحافظ ابن حجر العسقلاني في فتح الباري حيث قال في كلامه على ذلك المرسل: "وفيه دلالة على أن الكافر قد ينفعه العمل الصالح في الآخرة" لكنه مخالف لظاهر
القرآن، قال الله تعالى {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} .
ونقل عن حاشية ابن المنير أن ما في ذلك المرسل من اعتبار طاعة الكافر مع كفره محال لأن شرط الطاعة أن تقع بقصد صحيح، وذلك مفقود من الكافر، فإعتاق أبي لهب لثويبة مادام الأمر كذلك لم يكن قربة معتبرة، فإن قيل أن قصة إعتاق أبي لهب ثويبة مخصوصة من ذلك، كقصة أبي طالب، قلنا: إن تخفيف العذاب عن أبي طالب ثبت بنص صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأما ما وقع لأبي لهب في ذلك المرسل فمستنده مجرد كلام لأبي لهب في المنام، فشتان ما بين الأمرين، بهذا كله اتضح بطلان الاستدلال بذلك المرسل على عمل المولد النبوي. أهـ ص 87.
وأما استدلالهم بقول الله تعالى {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} على مشروعية الاحتفال بالمولد النبوي قائلين: إن الفرح بالنبي صلى الله عليه وسلم مطلوب بأمر القرآن الكريم من قوله تعالى {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ....} الآية، فالله تعالى أمرنا أن نفرح بالرحمة والنبي صلى الله عليه وسلم أعظم الرحمة، قال الله تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَاّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} .
والجواب: أن استدلالهم بهذه الآية من قبيل حمل كلام الله على ما لم يحمله عليه السلف الصالح، والدعاء إلى العمل به على غير الوجه الذي مضوا عليه والعمل به هو أمر لا يليق لما بينه الإمام الشاطبي في كتاب الأدلة الشرعية من الموافقات في أصول الشريعة ج 3 ص71: وهو أن الوجه الذي لم يثبت عن السلف الصالح العمل بالنص عليه لا يقبل ممن بعدهم دعوى النص الشرعي عليه.
قال: إذ لو كان دليلا عليه لم يعزب عن فهم الصحابة والتابعين، ثم يفهمه من بعدهم، فعمل الأولين كيف كان مصادما لمقتضى هذا المفهوم ومعارضا له ولو كان ترك العمل به.
قال: فما عمل المتأخرين من هذا القسم مخالف لإجماع الأولين، وكل من
خالف الإجماع فهو مخطئ، وأمة محمد صلى الله عليه وسلم لا تجتمع على ضلالة، فما كانوا عليه من فعل أو ترك فهو السنة والأمر المعتبر وهو الهدى وليس ثم إلا صواب أو خطأ، وكل من خالف السلف الأولين فهو على خطأ وهذا كاف.
والحديث الضعيف الذي لا يعمل العلماء بمثله جار هذا المجرى.
ومن هنا لم يسمع أهل السنة دعوى الرافضة أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على أن عليا الخليفة بعده، لأن عمل كافة الصحابة على خلافه دليل على بطلانه وعدم اعتباره، لأن الصحابة لا تجتمع على خطأ، وكثيرا ما تجد أهل البدع والضلالة يستدلون بالكتاب والسنة، يحملونهما مذاهبهم، ويعبرون بمشتبهاتهما في وجوه العامة، ويظنون أنهم على شيء.
ثم ذكر أمثلة كثيرة كاستدلالات الباطنية على سوء مذاهبهم، واستدلال التناسخية على صحة ما زعموا بقوله تعالى {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} أ. هـ.1
والتفسير الصحيح للآية على أن فضل الله ورحمته هو الإسلام والسنة، وعلى حسب حياة القلب يكون فرحه بهما، وكلما كان أرسخ فيهما كان قلبه أشد فرحا، حتى أن القلب إذا باشر روح السنة ليرقص فرحا، فإن السنة حصن الله الحصين الذي من دخله كان من الآمنين وبابه الأعظم الذي من دخله كان إليه من الواصلين، تقوم بأهلها وإن قعدت بهم أعمالهم، ويسعى نورها بين أيديهم، إذا أطفئت لأهل البدع والنفاق أنوارهم.
وإذ قدمت تلك الأجوبة السديدة عن شبهات القائلين باستحباب قراءة المولد النبوي والاحتفال به، تلك الأجوبة المؤيدة بالأدلة الساطعة والبراهين القاطعة التي إذا قرأها المنصف تبين له بطلان ما زعمه أولئك المنتقدون على الشيخ محمد وأتباعه وسائر السلفيين، وانجلى له الحق كفلق الصبح فيستحسن الآن تأكيدا وتوضيحا لما أسلفت ذكره أن أبين نماذج من كتاب البرزنجي المؤلف في المولد النبوي من نثر ونظم، وما فيه من الأقاويل الواهية والمبالغات السخيفة التي تسيء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أولا، وإلى دين الإسلام
1 من القول الفصل
ثانيا، وتشجع الخرافيين في الغلو في حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم وأن يوصف بغير وصفه الحقيقي، وأن ينسب إليه ما يخالف النقل الصحيح والعقل السليم والله ولي الهداية والتوفيق:
وإلى القارئ بيان تلك النماذج:
في أوائل هذا الكتاب ما يلى:
"1" يا نبي سلام عليك يا رسول سلام عليك.
"2" يا حبيب سلام عليك صلوات الله عليك.
فيا أيها القارئ الكريم قف وتأمل ما قال، هل يخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم بمثل هذه الصيغ الهزيلة التي تدل على الاستهزاء لا على التعظيم، ولولا ثقتنا بحب المؤلف للرسول صلى الله عليه وسلم لقلنا إنه قد تعمد الإساءة بتلك الألفاظ للرسول صلى الله عليه وسلم ولكن نقول إنه لم يحسن خطابه صلى الله عليه وسلم.
وقد أخبرني ممن أثق به من طلبة العلم، أنه كان طالب علم سلفي بمدينة من مدن الخليج العربي فأنكر على المحتفلين بقصة المولد في ليلة الثاني عشر من ربيع الأول حسبما جرت عليه عادة الاحتفال في الخليج إلا بلدان الحنابلة، ولكن دون احتفال أهل مصر، يقرأ فيها كتاب البرزنجي وبعض القصائد النبوية، وأحيانا تدق فيها الدفوف، وأحيانا تقرأ فيها قصيدة البردة ونحو ذلك، فأنكر الشيخ السلفي عليهم، فذهب بعضهم وشكاه إلى حاكم تلك المدينة بأن فلانا ينكر علينا الاحتفال بالمولد النبوي، وهو شخص لا يحب الرسول لأنه وهابي، فأرسل الحاكم في طلبه ليسمع حجته، فعندما حضر عند الباب قال: يا شيخ سلام عليك، يا حاكمنا سلام عليك، صباح الخير عليك، فقال الحاكم: مالك يا رجل أجننت، ما هذا الكلام، فقال: هذه تحيتي إليك.
فقال الحاكم: ليست هذه تحية، قال: إذا ما هذه، قال الحاكم: هذه تشبه الاستهزاء وأنت رجل عاقل، كيف تفعل ذلك، وجعلت الناس يضحكون عليك.
فأجاب: يا شيخ لم ترض بهذه التحية، ورضيت أنت أن يحيى ويخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم بقولهم يا نبي سلام عليك يا رسول سلام عليك، وأنا ما أنكرت إلا هذا، وهذا الاحتفال وقراءة هذه القصة كما يفعله الناس اليوم بدعة.
ويقال إن الشيخ الحاكم قال: الحق معك وليس عليك اعتراض.
وجاء في كتاب مولود شرف الأنام:
ولد الحبيب وخده متورد
…
والنور من وجناته يتوقد
فهل يوصف المصطفى صلى الله عليه وسلم بهذا الوصف، ويتغزل فيه كأنه يتغزل بمعشوقته، وفيه: أن أول شهر من شهور حملها أتاها في المنام آدم وأعلمها أنها حملت بأجمل العالم، وفي الشهر الثاني أتاها في المنام إدريس وأخبرها بفخر محمد وقدره النفيس، وهكذا أخذ يذكر كل شهر نبيا حتى الشهر التاسع أتاها في المنام عيسى المسيح وقال لها: إنك قد خصصت بمظهر الدين الصحيح واللسان الفصيح، وكل واحد منهم يقول لها في منامها: يا آمنة إذا وضعت الشمس الفلاح والهدي فسميه محمدا.
وجاء فيه: أنها عندما ولدت الرسول صلى الله عليه وسلم خرجت منها أنوار أضاءت لها قصور الشام، وغاضت بحيرة ساوه، وخمدت نار فارس، وسقطت شرفات قصر كسرى، ونكست الأصنام، وولد مختونا مكحولا مقطوع السرة إلى غير ذلك مما فيه من الأقاويل الضعيفة والموضوعة.
وهذا الكتاب منتشر في كثير من القرى والبلدان وهو كتاب مقدس لديهم، ويقرأه العالم والجاهل، ويحضر في قراءته في ليلة المولد كثير من العلماء حسب احتفال المولد وحجمه، ولم يقل أحد منهم أن هذا هو الصحيح وهذا هو الضعيف.
وكذلك ما نسب إلى ابن الجوزي رحمه الله كتاب "مولد العروس" وفيه من الطامات والأكاذيب الشيء الكثير، كما ذكر ذلك محمود مهدي الاستانبولي، وهاك بعض ما جاء في رسالته:
1-
ولما ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاني جبريل بالبشارة، واهتز العرش طربا، وخرجت الحور العين من القصور، ونثرن العطر نثرا، وقيل لرضوان: زين الفردوس الأعلى
…
وابعث إلى منزل آمنة أطيار جنات عدن ترمي من مناقيرها درا، فلما وضعت محمدا صلى الله عليه وسلم رأت نورا أضاءت منه قصور بصرى...... فيا له من كذب وافتراء.
نعم قد رأت نورا أضاءت منه قصور الشام ولكن ذلك في المنام.
2-
ونار فارس من نوره أخمدت، والأسرة بملوكها تزلزلت، والتيجان من رؤوس أربابها تساقطت، وبحيرة طبرية عند ظهوره وقفت، وكم من عين نبعت فارت، وانشق إيوان كسرى وشرفاته تساقطت
…
إلى آخر ذلك من الإرهاصات الكاذبة التي لا يصح منها شيء مطلقا.
3-
وحديث انتقال نوره عليه الصلاة والسلام من نبي إلى نبي لم يصح فهو ضعيف.
4-
وقالت آمنة: إنه صلى الله عليه وسلم ولد مكحولا مدهونا مطيبا، وإن جبريل حمله فطاف به برا وبحرا وكل ذلك لا أصل له، أما أنه عليه الصلاة والسلام ولد مختونا فضعيف.
5-
سمعت آمنة صوتا في العلا يناديها يا آمنة لك البشرى، فهذا أحد الحسنيين وأبو الزهراء، وكان يسبح في بطنها سرا وجهرا،
…
فيا له من كذب وافتراء تشمئز منه النفوس.
6-
سبحان من خلق هذا النبي.... جعل من فرح بمولده حجابا من النار وسترا، ومن أنفق في مولده درهما، كان المصطفى صلى الله عليه وسلم له شافعا ومشفعا.
أقول هنيئا للأشقياء والمجرمين على ذمة مؤلف هذا المولد الكاذب، فليس عليهم إلا أن يقيموا لأحمد صلى الله عليه وسلم مولدا فيكون لهم شافعا ومشفعا.
7-
تزلزل الجبل تحت قدميه صحيح، ولكن مخاطبة الضب له لا أصل لها.
8-
العنكبوت نسج عليه والحمام عشش عليه، حديث لم يصح.
9-
لما أراد الله سبحانه وتعالى خلق المخلوقات، قبض قبضة من نوره سبحانه وتعالى، وقال لها: كوني محمدا فصارت تلك القبضة عمودا
…
الخ هذا الكلام والهراء المكذوب، ومثله كل حديث ذكر أن محمدا خلق من نور الله.
10-
وقال ابن عباس: إذا كان يوم القيامة نادى مناد من قبل الله تعالى: ألا من كان اسمه محمدا فليقم يدخل الجنة إكراما لمحمد صلى الله عليه وسلم، كلام مكذوب موضوع.
11-
وفي الحديث الصحيح هكذا كذب المؤلف على الرسول صلى الله عليه وسلم كذبا مضاعفا وكذلك قوله: إن البيت الذي فيه اسم محمد وأحمد، فإن الملائكة تزوره في كل يوم وليلة سبعين مرة.
ألا لعنة الله على الكاذبين، الذين يسيئون إلى الدين اعتمادا على هذه الأقوال التي لا أصل لها.
12-
ثم إن الله سبحانه وتعالى قسم نور محمد صلى الله عليه وسلم عشرة أقسام، فخلق من القسم الأول العرش
…
الخ هذا الخلط والكذب.
13-
ولما خلق الله القلم قال له أكتب
…
محمدا رسول الله، قال القلم، وما محمد الذي قرنت اسمه مع اسمك، فقال الله تأدب يا قلم، وعزتي وجلالي لولا محمد ما خلقت أحدا من خلقي، وهذا أيضا لا أصل له.
14-
قال آدم يا رب إني أسمع في جبهتي نشيشا كنشيش الدر، فقال الله تعالى ذلك تسبيح ولدك محمد وهذا افتراء أيضا.
15-
ولما تزوج عبد الله آمنة، مات من نساء مكة مائة امرأة أسفا وشوقا إلى نور محمد صلى الله عليه وسلم وهذا غير صحيح.
16-
وقول المؤلف الكذاب: إن الملائكة والحيوانات والوحوش والجن والإنس ضجت لموت ولد محمد صلى الله عليه وسلم لا أصل له.
17-
مجيء الأنبياء وتبشيرهم لأمه بالرسول صلى الله عليه وسلم افتراء.
18-
وقول آمنة عند الولادة بانشقاق الحائط وخروج حواء وآسيا ومريم ابنة عمران ثم الحور العين وظهور الأعلام لا صحة له.
19-
قالت أمه سمعت قائلا يقول: أعطوا محمدا صلى الله عليه وسلم صفوة آدم وشجاعة نوح.. الخ كذلك لا صحة له.
20-
قالت آمنة: أخمدت ليلة مولده عليه الصلاة والسلام نار فارس، وانشق إيوان كسرى. هذا حديث ضعيف.
21-
كشف عنه جده عبد المطلب، فإذا هو يمص أصابعه، فتشخب لبنا، وهو غير صحيح.
22-
قالت حليمة: قال محمد: أرسليني مع إخوتي لأرعى الغنم، فعمدت إلى خرزة جذع علقتها عليه من العين، وهذا لا أصل له.
23-
وقول الرعاة إن مشى محمد على يابس اخضر، ولا يمر على شجر ولا حجر إلا سلم عليه، كله غير صحيح إلا بعد النبوة، فقد سلم عليه حجر في مكة.
وهذه نماذج من مولود الديبعي:
أتى في أول الكتاب بقصيدة افتتحها بقوله:
يا نبي سلام عليكم
…
يا رسول سلام عليكم
ثم مشى فيها وبالغ إلى أن قال:
من رأى وجهك يسعد
…
يا أكرم الوالدين
حوضك الصافي المبرد
…
وردنا يوم النشور
أنت غفار الخطايا
…
والذنوب الموبقات
أنت ستار المساوي
…
ومقيل العثرات
يا ولي الحسنات
…
ي رفيع الدرجات
كفر عني الذنوب
…
واغفر عني السيئات
عالم السر وأخفى
…
مستجيب الدعوات
والواضح من هذا الكلام أنه يخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم، لأن أول هذه الأبيات، من رأى وجهك يسعد
…
الخ، فالخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم واضح، فهل الرسول صلى الله عليه وسلم يغفر الخطايا وهل الرسول صلى الله عليه وسلم عالم السر وأخفى؟ وهل الرسول صلى الله عليه وسلم يستجيب الدعوات؟ إن هذا الأمور مختصة بالله. والظاهر أن المؤلف هذا جاهل جهلا مركبا، إذ إن هذه ميزة المسيحين، فهم الذين يلجأون إلى أحبارهم ورهبانهم لمحو ذنوبهم، ويعطونهم صكوك العفو والغفران، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ثم ذهب المؤلف يكتب نثرا، ويمدح الرسول صلى الله عليه وسلم مبالغا في مدحه، مدح تنكره العقول وتمجه الطباع القويمة، ثم ذكر قائلا: أول ما نستفتح بإيراد حديثين وردا عن نبي كان قدره عظيما، ونسبه كريما، وصراطه مستقيما، قال في حقه من لم يزل سميعا عليما،..... الخ الكلام إلى أن قال:
الحديث الأول عن بحر العلم الدافق ولسان القرآن الناطق، أوحد علماء الناس، سيدنا عبد الله بن سيدنا العباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن قريشا كانت نورا بين يدي الله عز وجل قبل أن يخلق آدم بألفي عام، يسبح الله تعالى ذلك النور وتسبح الملائكة بتسبيحه، فلما خلق الله آدم أودع ذلك النور في طينته، قال صلى الله عليه وسلم فأهبطني الله إلى الأرض في ظهر آدم عليه السلام، وجعلني في السفينة في صلب نوح عليه السلام، وجعلني في الخليل إبراهيم عليه السلام حين قذب به في النار، ولم يزل الله عز وجل ينقلني من الأصلاب الطاهرة إلى الأرحام الزكية الفاخرة، حتى أخرجني الله من بين أبوي وهما لم يلتقيا على سفاح قط. اللهم صل وبارك عليه.
الحديث الثاني عن عطاء بن يسار عن كعب الأحبار، قال علمني أبي التوراة إلا سفرا واحدا كان يختمه ويدخله الصندوق، فلما مات أبي فتحته فإذا فيه نبي يخرج آخر الزمان، مولده بمكة، وهجرته بالمدينة، وسلطانه بالشام، يقص شعره، ويتزر على وسطه، يكون خير الأنبياء وأمته خير الأمم، يكبرون الله تعالى على كل شرف، يصفون في الصلاة كصفوفهم في القتال، قلوبهم مصاحفهم، يحمدون الله تعالى على كل شدة ورخاء، ثلث يدخلون الجنة بغير حساب، وثلث يأتون بذنوبهم وخطاياهم فيغفر لهم، وثلث يأتون بذنوب وخطايا عظام، فيقول الله تعالى للملائكة: اذهبوا فزنوهم فيقولون يا ربنا وجدناهم أسرفوا على أنفسهم، ووجدنا أعمالهم من الذنوب كأمثال الجبال، غير أنهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم. اللهم صل وسلم وبارك عليه.
فالحديث الأول لا أصل له، والأثر الثاني عن عطاء بن يسار لا يصح، ولو سلمنا بصحته عن كعب الأحبار، فقول كعب ليس بحجة ولا يستند إليه، لأن عنده من الإسرائيليات الشيء الكثير، وقد نقلها المفسرون في بعض التفاسير.
ومن لا يصدق ما أوردناه، فليقرأ الكتاب المذكور، ليرى العجب العجاب من تلك المبالغات التي هي في الحقيقة كالسراب.
ثم استطرد في نثره وقال:
قيل من يكفل هذه الدرة اليتيمة التي لا يوجد لها قيمة، قالت الطيور نحن نكفله ونغتنم همته العظيمة، قالت الوحوش: نحن أولى بذلك لكي ننال شرفه وتعظيمه، قيل يا معشر الأمم اسكتوا فإن الله قد حكم في سابق حكمته القديمة، بأن محمدا صلى الله عليه وسلم رضيعا لحليمة الحليمة. اللهم صل وسلم وبارك عليه.
فلما أعرض عنه مراضع الإنس لما سبق في طي الغيب، من السعادة لحليمة بنت أبي ذويب، ووقع نظرها عليه، بادرت مسرعة إليه، ووضعته في حجرها، وضمته إلى صدرها، فهش لها مبتسما، فخرج من ثغره نور الحق بالسماء، فحملته إلى رحلها، وارتحلت به إلى أهلها، فلما وصلت به إلى مقامها، عاينت بركته على أغنامها، وكانت كل يوم ترى منه برهانا، وترفع له قدرا وشأنا، حتى اندرج في حلة اللطف والأمان ودخل بين إخوته مع الصبيان.
ولم يكتف هؤلاء الغلاة في الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنزاله تلك المنزلة التي لا تصلح إلا لله تعالى، حتى نسجوا قصيدة على لسان الشيخ عبد القادر الجيلاني قالوا فيها:
كل قطب يطوف بالبيت سبعا
…
وأنا البيت طائف بخيامي
كل قطب وكل فرد وشيخ
…
تحت حكمي يصغو لطيب كلامي
يا فقيري إن كنت معناك معنا
…
باتصالي ورفعتي ومقامي
إن علم العلوم والدرس شغلي
…
أنا شيخ القراء وكل إمام
إن سر الأسرار من سريري
…
كعبتي راحتي وبسطي مدامي
وفقيري إذا دعاني بشرق
…
أو بغرب ونازح بحر طامي
قالت الأولياء جميع بعزم
…
أنت قطب على جميع الأنام
قلت كفوا واسمعوا نظم قولي
…
إنما القطب خادمي وغلامي
أنا في سجدتي أرى العرش حقا
…
وجميع الأملاك فيه قيامي
سائر الدنيا كلها تحت حكمي
…
وهي في قبضتي كفرخ الحمام
أنا عبد لقادر طاب اسمي
…
جدي المصطفى شفيع الأنام
صلواتي عليه طول الدوام
…
بالعشايا وبالبكر والظلام
وجاء في إحدى القصائد التي أوردها المؤلف على لسان الشيخ أبي بكر بن سالم على زعمه:
صفت لي حميا خلى
…
وأسقيت من صافيها
ثم بعد أبيات قال:
أنا حتف لأهل العذل
…
ونار الجحيم أطفيها
أنا المجتبى بين أهلي
…
وشفعت في عاصيها
ثم بعد أبيات قال:
وعين الحقيقة عيني
…
وأشرب من ساقيها
وفخر الوجود فخري
…
أبي بكر لي يحميها
ثم قال:
إذا أفلت شموس الكل
…
أنا شمسها ضاحيها
أنا عرشها والكرسي
…
وأنا للسما بانيها
لا يخفى على القارئ أن هذه دعوى ربوبية وألوهية في قوله "وأنا للسما بانيها" وما بعد هذا الكفر كفر.
.... الخ هذا الهذيان.
وإذا أوردت للقارئ نماذج من بعض المؤلفات في المولد النبوي الشريف، تلك النماذج التي تري القارئ مبلغ عقول أولئك المؤلفين وعلمهم، وإن أقوالهم كانت في غاية المبالغة في بعضها ونهاية السخف والسماجة في البعض الآخر، وأنها لا تليق تلك الألفاظ الهزيلة بمقام سيد الأولين والآخرين، فإن الواجب على كل من يكتب في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم أو في علم من العلوم أن يتأكد من صحة ما يكتب، وأن يترك المبالغات التي تسيء إلى المقول فيه أكثر مما تحسن إليه، لأن تلك الأقاويل التي قالوها وسطروها ستنشر وتقرأ في المحافل والمساجد، ويتأثر بها القارئ والسامع،
وبالفعل وقع ما أقول، فقد أخذت هذه المؤلفات تقدس وتقرأ في محافل المولد الشريف، ويقرها العالم الحاضر في تلك المجالس، ويتأثر بها القارئون والسامعون، ويظنون أنها صحيحة مسلمة لا شيء فيها، ولا ريب أن أكثرها يخالف القرآن الكريم والأحاديث الصحيحة، وإنها تناقض العقيدة السليمة المبنية على الكتاب والسنة.
مثال ذلك:
1-
إنه ورد في الحديث الصحيح: أول ما خلق الله القلم، قال: اكتب، قال: وما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة.
وهؤلاء يقولون إن أول ما خلق الله نور محمد، وهذا كذب لا يخفى.
2-
يقولون قال القلم: ومن محمد الذي قرنته باسمك؟ في صيغة اعتراض على رب العالمين.
وأي عاقل يصدق أن الله تعالى يحيي مريم أم عيسى وآسيا بنت مزاحم ويأمر الحور العين بحضور ولادة محمد صلى الله عليه وسلم، وأن جبريل طاف به مشارق الأرض ومغاربها.... الخ ما جاء من تلك الهذيان البارد.
فإن اعتذروا بأنهم من المحبين للرسول صلى الله عليه وسلم، وإن المحب عن العذال في صمم، والرسول صلى الله عليه وسلم بمقامه العظيم أهل لكل وصف جميل.
فالجواب: إن حب رسول الله صلى الله عليه وسلم واجب على كل المسلمين، لكن في الحدود التي ورد بها الشرع، وأن لا يناقض القرآن والسنة، ولا يناقض العقيدة، والرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن إطرائه أي المبالغة في وصفه، كإعطائه مرتبة لم يعطها ربنا تبارك وتعالى كما زعمت النصارى في عيسى ابن مريم، فقال صلى الله عليه وسلم:"لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، أي لا تنزلوني فوق منزلتي، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله".
بعد هذه المقدمة في بيان ما سلف، أشرع الآن في ذكر بعض ما ورد في
بعض القصائد التي قيلت من قصائد الحضارمة المذكورة في مولود البديع، وهذه بعض قصيدة من قصائد علي بن حسن بن عبد الله العطاس، جاء فيها:
يا رسول الله يا عمدتنا
…
يا إمام الأنبياء الأمنا
أنت أصل الأصل تسبق آدما
…
وأبو الأرواح بل أس الينا
تأمل هذه المبالغة التي يقول فيها: إن محمدا خلقه الله قبل آدم، وإنه أساس الخلائق، وهذا من الكذب الذي لا يخفى إلا على من فقد عقله.
إلى أن قال:
يا رسول الله ضاقت حيلتي
…
من كروبي وجسيمي وهنا
يا رسول الله عم الخطب من
…
كل وجه ظاهر أو بطنا
فتداركني ونفث كربي
…
وافتقد حالي افتقادا حسنا
ثم في قصيدة أخرى لعبد الله بن حسين بن طه العلوي، أخذ يمدح الرسول صلى الله عليه وسلم ويحث على اللياذ والاستغاثة به:
ما أرسل الرحمن أو يرسل
…
من رحمة تصعد أو تنزل
في ملكوت الله أو ملكه
…
من كلما يختص أو يشمل
واسطة فيها واصل لها
…
يعلم هذا كل من يعقل
فلذ به في كل ما ترتجي
…
فهو شفيع دائما يقبل
وعذ به من كلما تشتكي
…
فإنه المأمن والمعقل
وحط أحمال الرجا عنده
…
فإنه المرجع والموئل
وناده إن أزمة أنشبت
…
أظفارها استحكم المعضل
يا أكرم الخلق على ربه
…
وخير من فيهم به يسأل
قد مسني الكرب وكم مرة
…
فرجت كربا بعضه يذهل
ولن ترى أعجز مني فما
…
لشدة أقوى ولا أحمل
فبالذي خصك بين الورى
…
برتبة عنها العلا ينزل
عجل بإذهاب الذي أشتكي
…
فإن توقفت فمن أسأل
فحيلتي ضاقت وصبري انقضى
…
فلست أدري ما الذي أفعل
فأنت باب الله أي امرئ
…
أتاه من غيرك لا يدخل
صلى عليك الله ما صافحت
…
زهر الروابي نسمة شمئل
تأمل هذه المبالغات والاستغاثات السخيفة التي لا تليق بالعبد إلا أن يستغيث بالله ويدعوه ويناديه في الشدائد، فهذا الشاعر نسى الله تعالى وأخذ يلوذ بالرسول صلى الله عليه وسلم، ويحث على اللياذ به بقوله: فلذ به في ما ترتجي
…
الخ، ثم العياذ به في قوله:
وعذ بهمن كلما تشتكي
…
الخ، وندائه من دون الله بقوله: وناده إن أزمة أنشبت.. الخ.
وكل هذه الألفاظ استغاثات شركية، فلم يكتف باستغاثته الشركية، حتى أمر غيره، فيا سبحان الله؟ ينسى رب العالمين الذي خلقه من ماء مهين، وأغدق عليه النعم، وينادي الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو الذي قال الله تعالى له في كتابه العزيز {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً} 1 وقال تعالى {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} 2
1 الجن 20-21-22
2 الكهف الآية110
والأبيات الآتية من قصيدة أخرى في مدح أهل البيت:
دليل حبي إليكم واضح وجلي
…
وكم بكم آل طه ينجلي وجلي
ولي شواهد صدق في محبتكم
…
روحي بها اعترفت في سابق الأزل
ونسبتي لكم بالرق قد شرفت
…
وعن هواكم فؤادي قط لم يحل
ولم أزل راويا عنكم حديث علا
…
إسناده جيد بين الأنام عل
أنتم غياثي وغوثي عمدتي ثقتي
…
أنتم ملاذي وحصني عدتي أملي
أنتم رجائي وكنزي بغيتي سندي
…
أنتم نجائي في الدارين من زلل
أنتم إمامي وأنتم قبلتي أبدا
…
أنتم رشادي إلى مستقوم السبل
أنت عياذي وذخري في الخطوب ولم
…
أزل إليكم حسيبا فاجبروا خللي
وهذه الألفاظ واضحة في الشركيات والاستغاثات المنهية عنها، ولا حاجة للتوضيح أو الشرح أو البيان.
ومما عمت به البلوى احتفالهم بميلاد الأولياء والصالحين وذبح الذبائح باسمهم وغيرها من الأمور الشركية، وقد ورد لنا من بعض فضلاء الهند عدة أسئلة وسطرنا أجوبتها في كتابنا المسمى "الأجوبة الجلية عن الأسئلة الهندية" ومنها هذا السؤال الذي وجدت علي لزاما ذكره لتعم به الفائدة في هذا الباب.
السؤال:
في ليلة ميلاد عبد القادر الجيلاني يحتفل أكثر المسلمين في البيوت ويذبحون الذبائح باسم الشيخ عبد القادر، وهذا يحصل كل سنة، كذلك يذبحون باسم خواجة غريب نواز وخواجة بنده نواز وميران دتا وغيرهم، ويوزع كل سنة في شهر رجب حلاوة باسم جعفر الصادق وهذا جار في شهر رجب كله؟
الجواب: ومن الله أستمد الصواب.
لا يختلف اثنان من أهل العلم والدين بل ذوي العقول والحجى، أن الاحتفال بمولد الشيخ عبد القادر رحمه الله وخواجة غريب نواز وخواجة بنده نواز ونحوهم ممن عرفوا عند العوام باسم الأولياء وباسم الصلاح، كمولد البدوي والرفاعي في مصر والعيدروسي في عدن والزيلعي في اليمن. ولا يستريب عاقل أنها من البدع والضلالات ولم يقل أحد من أهل العلم المحققين أن هذه البدع مستحسنة بل فيها من المحظور لما ذكرنا سالفا من اختلاط النساء بالرجال ودق الطبول ونشر الأعلام وما يحصل من الفواحش والمنكرات ما يمجه كل ذي طبع سليم.
بل هذه الاحتفالات التي تقام باسم دين الإسلام، والإسلام يتبرأ منها وهي وصمة عار في جبين المسلمين الذين يقيمون هذه الاحتفالات والذين يقرونها ولا ينكرونها، بل الواجب على العلماء أن ينكروا على هؤلاء ويبينوا لهم أن تلك الأعمال التي يمارسونها منافية لدين الإسلام، بل ولا يقرها ذوو العقول والأفهام. وإن لم يتوبوا فقد دخلوا تحت لعنة الله تعالى في قوله {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}
وأزيد القارئ بيانا وإيضاحا كي لا يستنكر ما قلته فأقول: إن العلماء المحققين حكموا بأن الاحتفال بليلة المولد النبوي الشريف، وأعني ليلة الثاني عشر من ربيع الأول من كل عام من البدع التي حذر عنها العلماء الراسخون، وأول من أحدث بدعة الموالد والمآتم هم الفاطميون في مصر، وبدعة المولد النبوي الشريف الملك المظفر صاحب إربل من ناحية الموصل في أوائل القرن السابع الهجري.
وعليه فقد مضت قرون عديدة من أيام الرسول إلى أيام الملك المظفر والفاطميين، ولم يحتف المسلمون بليلة المولد الشريف، فلا شك أنه بدعة
تخالف قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} وقوله تعالى {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .
وللأحاديث المحذرة عن البدع والضلالات كما سبق بعضها في جواب السؤال الرابع، ولا نشك أن الملك المظفر رحمه الله الذي ابتدع ذلك الاحتفال، ما فعل ذلك إلا بدافع المحبة للرسول صلى الله عليه وسلم والفرح بليلة مولده وإظهار تعظيمه، حتى إنه كما قال المؤرخون، كان في شهر صفر في كل عام يهيئ ما يلزم ويستعد لتلك الحفلة، بتهيئة المكان ونصب السرادق وتعليق القناديل، ويأتي إليه الوافدون من شتى البلدان، حتى قيل إنه كان يذبح خمسة آلاف رأس من الغنم وعشرة آلاف من الدجاج، ويأتي بثلاثين ألف صحن من الحلوى، وكان يكرم الصوفية والأعيان ويخلع عليهم الملابس الفاخرة ويبصدق كثيرا على الفقراء.
ولا يستريب عاقل أن الإحسان إلى الفقراء، والتصدق عليهم بالمال وإطعامهم الطعام وإكرام أهل العلم من القربات والطاعات التي يتقرب بها العبد إلى مولاه، لكن لا تخص هذه الأمور بليلة المولد، بل ينبغي للمسلم أن ينفق في سبيل الله ما استطاع بشتى النواحي، من إعانة الفقراء، والبذل للمجاهدين في سبيل الله، إلى بناء المساجد والمدارس، وإيواء الأيتام، وصلة الأرحام، ونحو ذلك مما جاء به القرآن والحديث، يحثان العباد على هذه الأعمال الصالحة، كمثل قوله تعالى {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} .
والملك المظفر رحمه الله، بتلك الأعمال البارة لم يعدم من العلماء من حسن له هذه البدعة، وزعم أنها من البدع المستحسنة، وليس كما قال، بل ليس في البدع حسن، كما في الحديث: كل بدعة ضلالة.
وللتوضيح أكثر نقول هذا الملك رحمه الله ابتدع الاحتفال
بليلة المولد الشريف، فإذا جاء إنسان وقال: إذا ابتدع الملك المظفر الاحتفال بليلة مولده عليه الصلاة والسلام، فأنا أبتدع الاحتفال بليلة البعثة أو يوم البعثة، اليوم الذي جاء فيه جبريل عليه الصلاة والسلام في غار حراء حين كان يتعبد الليالي، جاءه جبريل عليه السلام بالنبوة وقال له: اقرأ، فقال له الرسول: لست بقارئ، فغطه، أي ضمه إلى صدره، فعل ذلك ثلاث مرات ثم أطلقه، فقال {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} فقرأ صلى الله عليه وسلم.
ومن هذه الآية الشريفة ابتدأت نبوة محمد عليه الصلاة والسلام، وبنبوته ورسالته أزهق الله الباطل، وطهرت الجزيرة العربية من الشرك والكفر، كما طهر كثيرا من الأمم التي دخلت في دين الإسلام من الوثنية والإلحاد وتركوا عبادة الأصنام، والأحجار، والنيران، والكواكب والملائكة والأنبياء ووحدوا الله وتشرفوا بدين الإسلام، وعمت الرحمة على العالمين، وأزال الله ظلم الأكاسرة والقياصرة والأقباط، وانتشر العدل وأزال الله العنصرية المفرقة بين الشعوب والأمم، بقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} .
فليلة البعثة أو يوم البعثة أحق بالاحتفال، وإذا قال آخر أنا أحتفل بيوم الهجرة، لأن بالهجرة فرق الله بين الحق والباطل، واعتز المسلمون وصارت لهم دولة، فيستحق الاحتفال وإظهار التعظيم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا قال آخر أنا أحتفل بيوم بدر، لأنه يوم الفرقان يوم التقى الجمعان في يوم نصر الله المسلمين على المشركين، وإذا قال آخر أنا أحتفل بيوم فتح مكة، يوم دخل الناس في دين الله أفواجا، ونكست الأصنام واعتز دين الله ودخل الناس في دين الله أفواجا، وإذا قال آخر أنا أحتفل بيوم وفاته، يوم انتقل إلى الرفيق الأعلى فماذا يكون جوابنا وجواب من يحسن بدعة الموالد؟ فإن أجاز لهم فقد غدا الدين احتفالات وأعيادا، وإن منع فليس عنده حجة يستطيع أن يمنع هؤلاء. فلذا كان أهل البدع والضلالات يحتفلون بموالد أئمتهم ويوم
وفاتهم ويوم زواجهم ويوم حروبهم، وهكذا جعلوا أوقاتهم أعيادا ومآتم.
ومما لا يختلف فيه اثنان أن هذه الأمور كلها بدع ما أنزل الله بها من سلطان، وينبغي للمسلم أن لا يلتفت إلى هذه البدع ولا يمارسها ولا يحضر في مجالسهم ولا في أعياد احتفالاتهم، بل عليه أن يحذر المسلمين من هذه البدع، أما إذا أراد أن يفهم الناس سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وأخلاقه ومعجزاته الباهرة ليزدادوا إيمانا لكن لا يعني ذلك في كتاب معين وفي ليلة مخصوصة وشهر مخصوص، بل متى قرأ لهم وبين لهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم ما ذكرناه كان حسنا، بل هو أمر مندوب مرغب فيه، لأن أصول العقيدة ثلاثة "معرفة الله" و"معرفة نبيه" و"معرفة دين الإسلام".
فمعرفة النبي بنسبه وولادته وشمائله ومعجزاته وكونه مرسلا إلى جميع العالمين وخاتم النبيين والمرسلين، يلزم كل أحد أن يعرف ذلك وعلى العلماء أن يفهموا العوام، ليكونوا عارفين عن نبيهم ولو شيئا قليلا، وأما التبحر فللعلماء.
ومن يوم ابتدع الملك المظفر هذه البدعة والعلماء منقسمون بين محسن ومكره، ولكن كلهم متفقون والحمد لله على أن ما يحصل في ليلة المولد من دق الطبول ورقص الصوفية واختلاط الرجال بالنساء والمردان، ونشر الأعلام وما إلى ذلك من الأعمال التي تنافي الحياء وبالتالي تنافي دين الإسلام، أنها أعمال محرمة وضلالات منكرة لا يجوزها إلا الشيطان وحزبه ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون.
فالعلماء المحققون يستنكرون الاحتفال بليلة المولد النبوي الشريف، ويقولون إنها بدعة من البدع، وإنها مظاهر لليهود والنصارى، حيث يحتفلون بميلاد أنبيائهم، ودعوى محبة الرسول لا تتحقق بمثل هذه الاحتفالات بل بالاقتداء به عليه الصلاة والسلام وتحكيم شريعته واتباع سنته الغراء.
انظر أيها القارئ إلى هؤلاء المحتفلين بهذا الاحتفال وإلى الملوك والأمراء والرؤساء الذين يؤيدون هذه البدعة ويتظاهرون بحب الرسول، ويضللون
العوام بأنا نحن معشر الملوك والزعماء مسلمون، ونجل دين الإسلام ونحب النبي صلى الله عليه وسلم بشبهة هذا الاحتفال، والله أعلم والناس شهود أنهم أبعد الناس من الشريعة الغراء وأنهم يحكمون بغير ما أنزل الله، فيتركون القرآن الشريف ويتركون أحكام النبي الكريم، ويستوردون القوانين الغربية وينصبون المحاكم الطاغوتية، بل آل ببعضهم بالإضافة إلى تحكيم القوانين ونبذ الشريعة الغراء، أنهم يتصرفون في الشريعة فأخذ بعضهم يحرم تعدد الزوجات والطلاق ويبيحون شرب الخمور، ويبيحون البغاء والربا والقمار والخنا والفجور وسائر المنكرات، لا يأمرون بمعروف ولا ينكرون منكرا ولا يحكمون في أحكامهم القرآن والسنة، بل ولا يقرؤون القرآن ولا يلتفتون إليه وأكثرهم لا يحج بيت الله الحرام، بل ولا يصلي ولا يصوم شهر رمضان، فبعده من الله ورسوله أبعد من العرش إلى الفرش.
ومع هذه المخزيات والظلمات والضلالات والمكفرات والمبتدعات، يموهون على البسطاء ويضللون جهال المسلمين بأنهم مسلمون ويحبون الرسول، وبرهانهم على هذه المحبة الكاذبة لا شيء سوى تأييدهم لهذا الاحتفال المبتدع والحضور في تلك الحفلة أو إرسال من ينوب عن الرئيس والأمير، وكل أدلته وبراهينه على إسلامه المزيف هو هذا الاحتفال فقط، فهل هذا هو الإسلام الذي ارتضاه الله لنا فقال {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإسْلامَ دِيناً} ، بل هؤلاء ليسوا من الإسلام في شيء، وينبغي أن نبشرهم بقوله تعالى:{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} وقوله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} .
وقوله تعالى {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} وفي آية {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} وفي آية {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} .
فإذا كان العلماء والمحققون من الفقهاء والمحدثين لم يجيزوا بدعة
الاحتفال بالمولد النبوي، لأن الرسول لم يعمله ولا الصحابة ولا التابعون ولا الأئمة المهتدون، كأبي حنيفة والشافعي ومالك وأحمد بن حنبل وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة والأوزاعي والنخعي وداود بن علي الظاهري وسائر علماء الحديث والفقه، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: فيما روته عائشة أم المؤمنين "ومن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد".
وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وبقية العشرة المبشرة وسائر أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، أحب الناس إلى الرسول، وكانوا يحبون الرسول صلى الله عليه وسلم وقد فدوه بأرواحهم وأموالهم وقتل بعضهم أخاه في الجهاد من أجل الله ورسوله وإعلاء دينه، واستأذن عبد الله بن عبد الله أبي بن سلول بأن يأتي برأس أبيه إلى رسول الله لأن أباه كان منافقا، فأراد حبا لله ولرسوله أن يقتل أباه.
فهؤلاء الأصحاب الذين بلغ حبهم هذه الدرجة العالية امتثالا لقوله عليه الصلاة والسلام "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين".
فإذا كان هؤلاء لم يعملوا مولدا للنبي العظيم، فما بالك بمولد الشيخ عبد القادر الجيلاني الذي سأل عنه السائل، ومولد خاجة أجمير وخاجة غريب نواز وخاجه بنده نواز، بل كل هذه الموالد التي تفعل في الهند وباكستان وغيرهما مما يفعل في مصر باسم مولد البدوي والدسوقي والرفاعي وغيرهم من سائر الصالحين، لا يستريب عاقل أنها من البدع والضلالات ولم يقل أحد من أهل العلم المحققين أن هذه البدع مستحسنة، بل فيها من المحظور لما ذكرناه سالفا من اختلاط الرجال بالنساء، ودق الطبول ونشر الأعلام وما يحصل من الفواحش والمنكرات ما يمجه كل ذي طبع سليم.
بل هذه الاحتفلات التي تقام باسم دين الإسلام، الإسلام يتبرأ منها وهي وصمة عار في جبين المسلمين الذين يقيمون هذه الاحتفالات والذين يقرونها ولا ينكرونها، بل الواجب على العلماء أن ينكروا على هؤلاء ويبينوا لهم أن تلك الأعمال التي يمارسونها منافية لدين الإسلام، بل ولا يقرها ذوو
العقول والأفهام، وإن لم يتوبوا فقد دخلوا تحت لعنة الله في قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَاّعِنُونَ إِلَاّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} أ. هـ1
1 من الأجوبة الجلية عن الأسئلة الهندية للمؤلف.