المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الشبهة الرابعة: في جواز الاستغاثة بغير الله - الشيخ محمد بن عبد الوهاب المجدد المفترى عليه

[أحمد بن حجر آل بوطامي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌الشبهة الأولى: إن الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأتباعه يكرهون النبي صلى الله عليه وسلم ويحطون من شأنه وشأن الأنبياء

- ‌الشبهة الثانية: إن الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأتباعه منعوا من قراءة كتاب دلائل الخيرات

- ‌الشبهة الثالثة: أن الشيخ وأتباعه يمنعون التوسل والإستغاثة بالأولياء والصالحين

- ‌الشبهة الرابعة: في جواز الاستغاثة بغير الله

- ‌الشبهة الخامسة: من شبههم جواز الإستغاثة بغير الله

- ‌الشبهة السادسة: من شبههم على جواز الاستغاثة بغير الله مارواه ابن السني عن عبد الله ابن مسعود

- ‌الشبهة السابعة: شبهتهم على جواز الاستغاثة بقول سواد بن قارب للرسول صلى الله عليه وسلم: فكن لي شفيعا…ألخ

- ‌الشبهة الثامنة: ما روى ابن السني في كتاب عمل اليوم والليلة

- ‌الشبهة التاسعة: أن الشيخ وأتباعه يكفرون المسلمين بأدنى شبهة

- ‌الشبهة العاشرة: إن الشيخ وأتباعه يقسمون التوحيد إلى توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية

- ‌الشبهة الحادية عشر: قال المبتدعون: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذم نجد وامتنع أن يدعو لهم

- ‌الشبهة الثانية عشر: قول المعترضين: أما تخيل المانعين المحرومين أن منع التوسل والزيارة من المحافظة على التوحيد

- ‌الشبهة الثالثة عشر: إن الشيخ وأتباعه كفروا صاحب البردة ومن كانت في بيته أو قرأها

- ‌الشبهة الرابعة عشر: إن الشيخ وأتباعه منعوا من شد الرحال إلى قبور الأنبياء

- ‌الشبهة الخامسة عشر: إن الوهابيين خالفوا المسلمين بمنعهم الإحتفال بالمولد النبوي الشريف

- ‌الشبهة السادسة عشرة: شبهة المنتقدين أن الشيخ أنكر على الصوفية وطرقهم مقلدا في ذلك ابن تيمية

الفصل: ‌الشبهة الرابعة: في جواز الاستغاثة بغير الله

‌الشبهة الرابعة: في جواز الاستغاثة بغير الله

قال المعترضون على الشيخ محمد بن عبد الوهاب: وأما الاستغاثة فقد جوزها العلماء والصالحون والأولياء، واستندوا إلى بعض أمور رأوها أدلة لهم:

1-

قول الله تعالى {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ}

2-

لازال المسلمون سلفا وخلفا يدعون الأولياء والصالحين ويستغيثونهم في الشدائد لقضاء حوائجهم ودفع الضر عنهم، فيقضي الله لهم ما طلبوه، لأن المستغاث به، إما أن يكون نبيا فمنزلته عند ربه لا تخفى، وإما أن يكون من الصالحين، فالصالحون لهم من الجاه العظيم والمكانة الرفيعة ما لا يجهله أحد، وهم لا يعتقدون أن أولئك الصالحين يخلقون أو يرزقون، وكل ما في الأمر أن المستغيث يجعل المستغاث به واسطة بينه وبين الله، فالمستغاث به في الحقيقة هو الله.

الجواب عن الشبهة الرابعة

والجواب:

1-

قولهم: قد جوزها العلماء والصالحون، قد يفهم من هذا الكلام أن جميع العلماء والصالحين قد جوزوا، لأن أن للاستغراق هنا حسب سياق الكلام، وهذا غير صحيح، لأن كثيرا من العلماء والصالحين الأتقياء منعوا الاستغاثة، وحكموا بشرك المستغيث بغير الله تعالى، بعد إقامة الحجة عليه، كما سيأتي بيانه.

2-

تمسكهم بقوله تعالى {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ}

فأولا: هذا مما يضحك المجانين فضلا عن العقلاء، إذ كان هذا بين

ص: 71

موسى والقبطي، وموسى لم يكن إذ ذاك نبيا، ولو فرضنا أنه كان نبيا، فشريعته غير شريعتنا، وعلى القول: أن شرع من كان قبلنا شرع لنا ما لم يأت ناسخ له، فهنا جاءت النواسخ العديدة في القرآن والسنة في نسخ الاستغاثة بغيره تعالى

وثانيا: إن هذا استغاثة حي بحي فيما يقدر عليه المستغاث به، وهذا جائز لا ريب فيه، إذ من رأى غريقا يستنجد به أو حريقا، وجب عليه إنقاذه حتى ولو لم يستنجد به، بل يجب أن يفطر الصائم لإنقاذ من وقع في مهلكة ويبطل الصلاة إن كان في صلاة

فاستغاثة الحي بحي ليس فيه الكلام، وإنما الكلام في الاستغاثة بميت أو بمن كان بعيدا، كالاستغاثة بسكان القبور.

3-

قولهم: إن المستغاث به، إما أن يكون نبيا فمنزلته لا تخفى....

فجوابه: نعم لهم المنزلة العالية والدرجة الرفيعة، وهم أفضل خلق الله، والرسل أفضل من الأنبياء، وأولوا العزم أفضل من بقية الرسل، وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أفضل من الجميع، ولكن كون الأنبياء لهم تلك المنزلة الرفيعة، لا يجوز لنا الاستغاثة بهم نوع من العبادة، والعبادة لا تصلح إلا لله رب العالمين، فإذا كانت الاستغاثة بالأنبياء شركا، فبغيرهم من الصالحين من باب أولى.

وكونهم لا يعتقدون بالأنبياء والصالحين، بأنهم لا يخلقون ولا يرزقون، بل جعلوهم واسطة فقط.

فالجواب: هكذا كان اعتقاد مشركي قريش وسائر العرب، قال الله تعالى {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} .

أما الجواب التفصيلي فنقول: هل يستطيع هذا المدعي الجريء أن يورد حجة واحدة على أن أبا بكر أو عمر أو عثمان أو عليا أو الحسن أو الحسين أو

ص: 72

فاطمة أو غيرهم من الصحابة وقرابة النبوة، أو أن الإمام أبا حنيفة أو مالكا أو الشافعي أو أحمد بن حنبل أو غيرهم من الأئمة الصادقين المعروفين، أولي الذكرى الطيبة والإمامة الشائعة المتبعة في المسلمين استغاث بميت من الأموات، أودعاه لكشف ملمة من الملمات، أو هتف به لحاجة من الحاجات وأمل من الآمال؟ فإن لم يستطع أن يورد لنا نقلا صحيحا عن أحد هؤلاء فليكفه هذا العجز إبطالا وإدحاضا لمزعمه هذا.

وغير خاف على القارئ الذكي أن القرآن العظيم قد عني في كثير من السور والآيات بالبعث والحساب والجنة والنار والصراط، كما عني ببيان توحيد الألوهية وأن العبادة التي هي أقصى المحبة وأقصى الخضوع لا يستحقها غير الله مهما علت درجته وسمت رتبته من الأنبياء والمرسلين والملائكة المقر بين فضلا عن الأصنام والأحجار والشمس والقمر والكواكب والبحر والنار وما إلى ذلك من المخلوقات االتي عبدت من دون الله سبحانه وتعالى، وهاأنذا أورد بعض الآيات في النهي الصريح عن صرف العبادة لغير الله سبحانه وتعالى وضرب الأمثال القرآنية لتقريب الحقيقة للأذهان وبيان بطلان الشرك القبيح المفضي إلى الشقاء الأبدي بصاحبه:

قال الله تعالى في سورة المؤمنين {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} . وقال الله تعالى في سورة الأعراف {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ، إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ، وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} 1

1 الآيات 198:194

ص: 73

هذه الآيات من أبلغ الرد على المشركين الذين يدعون من لا ينفعونهم ولا يضر ونهم وينسون ربهم رب العالمين الذي يرجع إليه الأمر كله، وهى أيضا من أبلغ الرد على هؤلاء الطائفين بالقبور السائلين الأموات، وقد نوع الرد فيها وبولغ فيه، فقوله:{إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} صريح في أنهم كانوا يدعون أناسا مثلهم بشرا، أما إنهم أنبياء أو ملائكة أو صالحون فهذا من أبلع الرد على الذين يحتجون على جواز الاستغاثة بغير الله ودعاء الموتى، ويقولون إن المشركين السابقين كانوا يدعون أصناما أو أشجارا، أما نحن فندعو الأنبياء أو الأولياء الصالحين أو الملائكة المقربين وهؤلاء لهم مكانتهم عند الله.

فتأمل أيها القارئ هذه الآية الشريفة كيف قطعت عليهم شبههم وأبانت قلة عقلهم وسقيم رأيهم، فالآية تقول عباد أمثالكم ليسوا جمادا ولا أصناما ولا أحجارا ولا أشجارا ولا يخفى ما في الآية من التهكم والرد على القوم والزراية بهم وبعقولهم، فإن العاقل لا يمكن أن يدعو من هو مثله في القدرة وفي الحول والطول ليهبه ما يرجو ولينيله ما يعجز عنه هو، وإنما يدعو العاقل من هو أقدر منه ومن هو أعظم حولا وطولا وسلطة وسلطانا، وذلك لأن الداعي والمدعو لا يصح أن يستويا وأن يكونا مثلين لأنهما إذا كانا كذلك فليس دعاء أحدهما للثاني أولى من العكس.

وقوله: {فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} غاية في التحدي والتعجيز لدعاة غير الله من البشر وغير البشر، غاية الإنصاف في الجدل والخصام، وبيان هذا أن الله أولا قال لدعاة غيره: إنكم غالطون ضالون إن دعوتم سواي عبادا مثلكم من كل وجه، عاجزين من نفعكم كما عجزتم أنتم عن نفعهم، محتاجين إلى غيرهم كما احتجتم أنتم إلى غير كم، لأنكم أنتم وهم سواء، وانظروا إلى حقيقتكم وحقيقتهم تجدوا الأمر واضحا، فإن لم يقنعكم هذا البرهان الملموس المحسوس، وأصررتم على أنهم قادرون على إجابة دعائكم فدعوتموهم، فتعالوا إلى أمر أجزم وأقطع وأبين: تعالوا إلى

ص: 74

تجربة مشاهدة صادقة لا تخون، هذه التجربة هي أن تدعوا هؤلاء الذين زعمتم أنهم يسمعون دعاءكم ويجيبونكم، وأن تنظروا بعد هذا هل يستجيبون لكم أم لا يستجيبون، فإن كانت الأولى فقد صدقتم وهديتم، وإن كانت الأخرى فقد كذبتم وضللتم، وعليكم أن تتوبوا بعد، وأن ترجعوا إلى عقولكم وفطركم التي عز بتم عنها وعز بت عنكم منذ أحقاب وأزمان {فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} .

وقوله {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} تعليل للنهي عن دعائهم وسؤالهم، وقطع الرجاء فيهم ومنهم، وذلك لأنهم قد فقدوا آلات العمل والحياة، فهم لا يستطيعون أن ينيلوا سائليهم شيئا لعجزهم وقصورهم فهم لا يستطيعون أن يمشوا ولا يعملوا بأيديهم ولا أن يبصروا ولا أن يسمعوا لأنهم أموات، والأموات أشباح لا أرواح فيها، فهي جماد من حيث الظاهر، ومن حيث الدنيا، والحياة التي فيهم ولهم هي حياة روحية غيبية أخروية راجعة إلى أرواحهم التي مستقرها عالم الآخرة عند الله، فلا صلات بينها وبين الدنيا وأهل الدنيا. أما أجسامهم وهي ما بقي عند أهل الدنيا منهم -فلا فرق بينها وبين الجماد الصامت من حيث العجز عن النفع والضر والعمل والحركة، فلا فرق بين من دعاها وبين من دعا الجمادات الصامتة، أما الأرواح فما أبعد منالها ومكانها عن داعي أشباحها، وما مثل من دعا هذه الجثث الميتة الموضوعة تحت التراب والرغام إلا كمثل من دعا ثوبا أو بيتا، لأن نبيا من الأنبياء، أو وليا من الأولياء كان قد لبسه أو سكنه يوما من الزمان. أ. هـ1.

وقد رتبت الآية وصف هؤلاء المدعوين بالعجز والضعف ترتيبا هو في غاية الدقة والنظام والبراعة، فقد سلبتهم أولا المشي والنقلة، وقد بقي لهم أن يعملوا بأيديهم فسلبتهم ثانيا ذلك فبقي لهم من آلات الحس أن يبصروا

1 "من الصراع بين الإسلام والوثنية- الجزء الثاني- ص 388"

ص: 75

بأعينهم فينفعوا دعاتهم بالنظرات بعد أن عجزوا عن نفعهم بعملهم بأرجلهم وبطشهم بأيديهم فسلبتهم ثالثا آلة النظر، فهم لا يستطيعون أن يمنحوا من دعاهم ورجاهم نظرة من نظرات العطف والحنو والحنان، فبقي لهم بعد سلب ذلك كله أن يسمعوا دعاءهم وهتافهم، ولعلهم إذا سمعوا هذا شفعوا لهم أو توجهوا بنفوسهم وإراداتهم إلى نفعهم ومجازاتهم على تعلقهم بهم وانقطاعهم إليهم، فسلبتهم رابعا آلة السماع، فأصبحوا لا يمشون ولا يعملون ولا يبصرون ولا يسمعون، فكيف ينفعون أو يضرون؟ وكيف يرجون ويؤملون؟

فانقطع منهم كل أمل ورجاء وهذا الترتيب في تعجيزهم وتسجيل ضعفهم في مكان من الدقة والبراعة لا يسع أجحد العقول وأكفرها وأعنفها كبرياء وجبروتا إلا التواضع إزاءها والتسليم بالإعجاز وبصحة الانتساب إلى الحق جلت قدرته وعظمته وإلا الإعطاء لها باليد، يد الصغار والتضاؤل والتخاذل.

تأمل أيها القارئ في هذه الآيات السالفة كيف قطعت جذور الشرك وألسنة عباد غير الله وشبهاتهم التي هي أوهن من بيوت العنكبوت.

فإن قال قائل منهم إن هذه الآيات نزلت في عباد الأصنام ونحن لا نعبد الأصنام ولكن ندعو الأولياء والصالحين لما لهم من وجاهة وعظيم مكانة عند الله. فالجواب: قد تقدم مثل هذا السؤال والجواب، وأن كلمة غير الله تشمل كل معبود سواء كان ملكا أو نبيا أو رسولا أو وليا أو شجرا أو حجرا فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.

والأمر الثاني: إن الله وبخ عباد المسيح من الأنبياء المر سلين، قال الله تعالى {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ، مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ

ص: 76

عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} .

انظروا كيف يتبرأ المسيح من عباده المسيحيين، ويقول:{مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} .

والله يعلم أن المسيح لم يأمر بعبادته، ولا يرضى بذلك ولكن يريد الله من هذه الآيات أن يبين للناس أن عبادة المسيح الذي هو من الأنبياء المرسلين لا تجوز، بل يكون شركا، فكيف بعبادة من الأولياء، ومن الأشجار ومن الغيران والكهوف.

ألم يسمع هؤلاء الضالون قول الله مخاطبا لسيد العالمين: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ} . فإذا كان الضر النازل بالرسول لا يستطيع أن يدفعه، فكيف يستطيع الرسول أو من هو أقل منه أن يدفع ضرا نزل بغيره؟

ألم يسمع هؤلاء قول الله العظيم {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} .

ألم ينع على اليهود والنصارى باتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، كما قال تعالى:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} .

ومما يجدر التنبيه عليه أن الله الذي أنكر على اليهود والنصارى اتخاذ أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله لم يكونوا يعتقدون أن الأحبار والرهبان آلهة تخلق أو ترزق أو تنفع أو تضر، وإنما جاء التوبيخ لهم والانكار عليهم أنهم كانوا يطيعونهم في تحريم ما أحل الله وتحليل ما حرم الله.

روى الإمام أحمد والترمذي وحسنه، عن عدي بن حاتم، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية، فقلت له: إنا لسنا نعبدهم: قال: " أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه ويحلون ما حرم الله فتحلونه" فقلت: بلى، قال:"فتلك عبادتهم".

ص: 77

فترى أن الحديث يصرح أن عبادة الأحبار والرهبان هي طاعتهم في تحريم الحلال وتحليل الحرام، وهو طاعتهم في خلاف حكم الله ورسوله.

قال شيخ الإسلام ما معناه مختصرا: إن هؤلاء المقلدين الذين اتخذوا الأحبار أربابا في تحليل ما حرم الله وعكسه، يكونون على وجهين أحدهما: يعلمون أن الأحبار والرهبان قد بدلوا دين الله فيتبعونهم على التبديل فيعتقدون تحليل ما حرم الله وعكسه، اتباعا لرؤسائهم فهذا كفر، وقد جعله الله ورسوله شركا، وإن لم يكونوا يصلون لهم ويسجدون. الثاني: يعتقدون تحريم الحرام وعكسه، لكن أطاعوهم في معصية الله كما يفعل المسلم ما يفعله من المعاصي التي يعتقد أنها معاص، فهؤلاء لهم حكم أمثالهم من أهل الذنوب.

إنكارهم نسبة الخلق والرزق والنفع والضر إلى من يستغيثون بهم ويدعونهم من دون الله

وأحب أن أنور ذهن القارئ والواقف زيادة على ما سلف في إقامة الحجة على أولئك المبتدعين الذين يعبدون غير الله من الأنبياء والصالحين، وينكرون أن تكون هذه العبادة شركا، قائلين نحن لا نعتقد أن الأنبياء والصالحين ينفعون أو يضرون، بل النافع والضار هو الله وإنما نجعلهم وسطاء بيننا وبين الله لمنزلتهم الرفيعة، وبهذا لا يجوز أن ينسب إلينا الكفر أو الشرك أو الضلال، وإنما دفعتنا إلى دعائهم والالتجاء إليهم محبتنا لهم، واعتقادنا بأنهم قد بلغوا درجة عالية وخصهم الله بخصائص لم يمنحها غيرهم.

فالجواب: أن يقال لهم، هذا الاعتقاد هو نفس اعتقاد مشركي العرب وسائر المشركين، فكانوا لا يعتقدون الضر والنفع في الأصنام التي كانوا

ص: 78

يعبدونها، جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليم وسلم قال لحصين ابن المنذر كم إلها تعبد؟ قال: سبعة، ستة في الأرض وواحدا في السماء قال: من تعد لرغبتك ورهبتك؟ قال: الذي في السماء. فانظر كيف صرح حصين أن الله الذي في السماء هو الذي يخافه ويرجوه ويرهب منه ويرغب إليه لا الآلهة التي في الأرض.

وقال الله تعالى {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} .

إما أن تزعموا أن هؤلاء المشايخ الذين تدعونهم من دون الله ينفعون ويضرون، وأن دعاءكم إياهم لم يكن إلا رغبة في نفعهم وضرهم، وإما أن تقولوا أنهم لا ينفعون ولا يضرون، ولا مفر من الافتراضين، فإن ذهبتم إلى الافتراض الأول فقد ذهبتم إلى ما زعمتم أنه كفر بالله وضلال كبير، وإن ذهبتم إلى الافتراض الثاني وجب أن تعترفوا بأن دعاء الأموات ممنوع باطل، وذلكم لأن هذه الآية وغيرها من الآيات قد نهت بشدة وصراحة عن دعاء من لا ينفع ولا يضر، وأنبأت بأن من دعا من لا ينفعه ولا يضره فهو من الظالمين، وأيا اخترتم فقد حججتم.

والافتراض الأول أي افتراض أن المشايخ ينفعون ويضرون لا يمكن لمسلم الذهاب إليه، وقد أبطله الله تعالى بقوله {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ} وقد أبطله الله تعالى أيضا في آيات أخرى صريحة معلومة مثل قوله تعالى {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} وقوله تعالى {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} وقوله تعالى {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} وقوله تعالى {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً} ، وقوله تعالى {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَاّ مَا شَاءَ اللَّهُ} ، إلى غير ذلك من الآيات الصريحة الظاهرة، فهذا الافتراض لا يتحمل مسلم الذهاب إليه ولا القول به.

ص: 79

وأما الافتراض الثاني فهو ما يذهب إليه هؤلاء فيما يزعمون، وهذه الآية وغيرها من الآيات رادة عليهم حينئذ ردا لا حيلة لهم في دفعه ولا رفعه.

وما أجمل قوله تعالى {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ} بعد قوله تعالى {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} وذلك أن قوله تعالى {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ} ، ينصرف إليه هذا السؤال ما الذي لا ينفع ولا يضر فلا يدعى؟ وما الذي ينفع ويدعى وحده؟ فأجاب:

الذي ينفع ويضر هو الله وحده لا شريك له فقال تعالى {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ} ، فالله وحده المدعو المسؤول المرجو، لأنه وحده النافع الضار، فالدعاء له وحده لأن كل ما يطلبه الداعي ويرجوه، وكل ما يحذره ويخشاه عنده وحده، فكما كان هو المعطي المانع الضار النافع، فيجب أن يكون وحده المدعو المعبود المسؤول.

ص: 80