الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الثالث: الكلام على صفتي العلو والاستواء
الفصل الأول: الأقوال في صفة العلو
المبحث الأول: أقوال المخالفين
…
القول الأول:
قول المعطلة من الفلاسفة1، والجهمية2، والمعتزلة3، ومتأخري الأشاعرة4، والقرامطة الباطنية5.
وهؤلاء جميعا ينفون علو الله وارتفاعه فوق خلقه، وكل ذلك تحت دعوى التوحيد، والتنزيه، ونفي التشبيه، فهم يزعمون أن إثبات العلو لله - تعالى- فيه إثبات للجهة، والمحايثة، والحد، والحركة، والانتقال، وهذه الأمور- على زعمهم- تستلزم الجسمية، والأجسام حادثة والله منزه عن الحوادث، فمن أجل ذلك نفوا العلو، وأولوا النصوص الثابتة
1 "النجاة" لابن سينا: ص 37.
2 "مجموع الفتاوى": (1/ 297- 298) ، (5/ 122) .
3 "مجموع الفتاوى": (1/ 297- 298) ، (5/ 122) .
4 "تأويل مشكل الحديث" لابن فورك: ص 63، "الاقتصاد في الاعتقاد" للغزالي: ص 29، 34.
5 "درء تعارض العقل والنقل": (5/ 178)، والقرامطة: من الباطنية، وهم ينتسبون إلى حمدان بن الأشعث الذي كان يلقب بقرمط، لقرمطة في خطه أو خطوه، انظر:"الفرق بين الفرق": ص 281، 293، "المنتظم" لابن الجوزي:(5/ 110، 119) .
فيه بان المراد بها علو القهر والغلبة.
وقد انقسم الجهمية المعطلة النافون لعلو الله إلى فريقين في هذه المسألة:
الفريق الأول: وهم الذين يقولون: إن الله لا داخل العالم ولا خارجه، ولا فوقه ولا تحته، ولا هو كل مباين له ولا محايث له.
وهذا القول هو ما يذهب إليها النظار والمتكلمون من هؤلاء المعطلة1، وهم بقولهم هذا قد نفوا الوصفين المتقابلين اللذين لا يخلو موجود منهما، وبالغوا في نفي التشبيه، حتى أدى بهم ذلك إلى نفي وجوده بالكلية، وذلك خشية منهم أن يشبهوا، فهم قالوا بهذه المقالة هربا منهم- على حد زعمهم - من إثبات الجهة، والمكان، والحيز، لأن فيها كما يدعون تجسيما، وهو تشبيه، فقالوا: يلزمنا في الوجود ما يلزم مثبتي الصفات، فنحن نسد الباب بالكلية.
وقد استند أصحاب هذا القول في قولهم هذا على حجج، زعموا أنها عقلية، أسسوها وابتدعوها وجعلوها مقدمة على كل نص، وليس لهؤلاء أي دليل من القرآن أو السنة على صحة قولهم هذا، وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله: "وجميع أهل البدع قد
1 "الرسالة الأضحوية"، نقلا عن "مختصر الصواعق":(1/ 237)، "الاقتصاد في الاعتقاد": ص 34، "تأويل مشكل الحديث": ص 63، 64، "مجموع الفتاوى":(2/ 297، 298) ، (5/ 122- 124)، "نقض التأسيس":(1/6،7) .
يتمسكون بنصوص، كالخوارج، والشيعة، والقدرية، والمرجئة، وغيرهم، إلا الجهمية، فإنهم ليس معهم عن الأنبياء كلمة واحدة توافق ما يقولونه في النفي"1. وسنأتي بعد ذكر القول الثاني إلى ذكر بعض تلك الحجج التي زعمها هؤلاء.
الفريق الثاني: وهم الذين يقولون بان الله بذاته في كل مكان.
وهذا القول هو ما يذهب إليه النجارية2، وكثير من الجهمية وبخاصة عبادهم، وصوفيتهم، وعوامهم، وأهل المعرفة والتحقيق منهم3.
ويحتج هؤلاء ببعض الحجج العقلية المزعومة بالإضافة إلى بعض الآيات القرآنية الدالة على المعية والقرب.
وقد يجمع كثير من هؤلاء المعطلة بين القولين، فهو في حالة نظره وبحثه يقول بسلب الوصفين المتقابلين كليهما، فيقول: لا هو داخل العالم ولا خارجه.
1 "مجموع الفتاوى": (5/ 122) .
2 هم أتباع حسين بن محمد بن عبد الله بن النجار، وقد كان أكثر معتزلة الري ومن حولها على مذهبه، وقد نقل الشهرستاني في "الملل والنحل":(1/131، 114) عن الكعبي قوله: "إن النجار كان يقول: إن البارئ بكل مكان وجودا، لا على معنى العلم والقدرة".
وانظر: "مقالات الإسلاميين": (1/ 135- 137، 283- 285)، و"الفرق بين الفرق": ص 126، 127، و"أصول الدين" للبغدادي: ص 334، و"التبصير في الدين": ص 101، 102، 103.
3 انظر: "نقض التأسيس": (1/ 7) .
وفي حالة تعبده وتألهه يقول: بأنه في كل مكان، ولا يخلو منه شيء1.
أولا: شبه المعطلة العقلية:
إن جل ما اعتمد عليه هؤلاء المعطلة من أدلة على نفي صفة العلو وغيرها من الصفات إنما هو عبارة عن حجج عقلية مزعومة ومبتدعة، بناها هؤلاء المعطلة على أصول فلسفية كانوا قد تاثروا بها، وليس لهؤلاء المعطلة في نفيهم هذا أساس من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقد جعل هؤلاء المعطلة لتلك الحجج حكم الأمر المحكم، الذي يجب اتباعه واعتقاد موجبه والتسليم به، وقد بلغ من تقديسهم لها أنهم جعلوها مقدمة على الكتاب والسنة، فإذا ورد النص من الكتاب أو السنة عرضوه على تلك الأسس العقلية، فإن وافقها احتجوا به اعتضادا لا اعتمادا، وإن خالفها فهم يحرفون العلم عن مواضعه، فيؤولون نصوص القرآن، ويطعنون في نصوص السنة، وكل ذلك تحت دعوى التنزيه، والتوحيد، ونفي التشبيه.
وقد أفرط هؤلاء المعطلة في هذا الجانب- أي جانب نفي التشبيه- فجعلوا من قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء} 2 جنة يتترسون بها لنفي علو الله- سبحانه- فوق عرشه، وتكليمه لرسله، وإثبات صفات كماله، وغير ذلك مما أخبر الله به عن نفسه، أو أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم عنه،
1 "نقض التأسيس": (1/ 7) .
2 سورة الشورى، الآية:11.
حتى أنه قد آل ببعضه هؤلاء المعطلة إلى نفي ذاته خشية التشبيه، فقالوا: هو وجود محض لا ماهية له، ونفى آخرون وجوده بالكلية، خشية التشبيه- على حد زعمهم- حيث قالوا: يلزمنا في الوجود ما يلزم مثبتي الصفات والكلام والعلو، فنحن نسد الباب بالكلية1.
وسوف نتعرض في هذا المبحث لبعض أسس تلك الشبه العقلية المزعومة، التي جعلها هؤلاء المعطلة مستندا لهم في نفي صفة العلو وغيرها من الصفات، ونبين ما فيها من مخالفة لكتاب الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، مع بيان ما في تلك الأسس من تناقض، وبخاصة من الناحية العقلية.
ونظرا لتعدد مذاهب المعطلة واختلاف بعضها عن بعض في القول والرأي، فسوف نعرض شبهة كل فرقة من الفرق السابقة الذكر على حدة فنبدأ:
أولا: شبهة الفلاسفة2:
الفلاسفة ينفون صفة العلو، وباقي صفات البارئ- عز وجل كما سبق وأن ذكرنا، تحت دعوى التوحيد، والتنزيه عن مشابهة المخلوقين، فابن سينا يقول: "إن واجب الوجود بذاته واحد بسيط لا تكثر فيه بوجه من الوجوه، فهو ليس بجسم، ولا صورة جسم، ولا مادة معقولة لصورة معقولة، ولا صورة معقولة في مادة معقولة، ولا له قسمة في
1 "مختصر الصواعق": (1/ 285) .
2 أقصد بهم فلاسفة المسلمين كابن سينا، والفارابي.
الكلام، ولا في المبادئ المقومة له، ولا في قول الشارح، ولا غير ذلك مما ينافي وحدة واجب الوجود وبساطته المطلقة"1.
والمتامل لهذه العبارات التي أوردها ابن سينا يعرف أنها إنما هي مجرد اصطلاحات اصطلحها هو وأمثاله من الفلاسفة، الذين تأثروا بفلسفة اليونان، فجعلوا من تلك العبارات المبتدعة ما أسموه بالتوحيد، وادعوا أن ما تضمنته هو التنزيه، مع أننا في الحقيقة متضمنة لنفي جميع الصفات، بما فيها العلو والاستواء لقوله:"إن واجب الوجود بذاته واحد بسيط لا تكثر فيه بوجه من الوجوه" يعني به: أنه ليس لله تعالى صفة ولا قدر، لأن ذلك على رأيه يستلزم التجسيم، والتجزئة، والتركيب، فيلزم نفيه. لأنه يلزم من ذلك الحدوث، والافتقار، وذلك ينافي واجب الوجود.
فابن سينا وأمثاله من الفلاسفة يعودون في نفي الصفات على حجة التركيب، والتي هي:"أنه لو كان له صفة لكان مركبا، والمركب يفتقر إلى جزئيه، وجزءاه غيره، والمفتقر إلى غيره لا يكون واجبا بنفسه" وهم بهذا الكلام تجدهم قد نفوا صفات البارئ جميعها.
ولو توقفنا عند العبارة السابقة وهي قوله: "إن واجب الوجود بذاته واحد بسيط
…
" من أجل بيان أن ما فيها من مخالفة لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بل وحتى مخالفتها للعقل الذي يقدمه هؤلاء على كل شيء
1 "النجاة" لابن سينا: ص 37.
لوجدنا أن هذه العبارة هي تفسير للواحد بما لا أصل له في الكتاب أو السنة، بل هو تفسير باطل شرعا، وعقلا، ولغة.
أما في اللغة: فإن أهل اللغة مطبقون على أن هذا القول ليس هو معنى الواحد في اللغة، إذ القرآن ونحوه من الكلام العربي متطابق على ما هو معلوم بالاضطرار في لغة العرب وسائر اللغات، أنهم يصفون كثيرا من المخلوقات بأنه واحد ويكون ذلك جسما، إذ المخلوقات إما أجسام وإما أعراض- عند من يجعله غيرها أو زائدة عليها.
وإذا كان أهل اللغة متفقين على تسمية الجسم الواحد واحدا، امتنع أن يكون في اللغة معنى الواحد الذي لا ينقسم، إذا أريد بذلك أنه ليس بجسم، وأنه لا يشار إلى شيء منه دون شيء، ولا يوجد في اللغة اسم الواحد إلا على ذي صفة ومقدار، لقوله تعالى:{الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} 1، ومعلوم أن النفس الواحدة المراد بها هنا آدم عليه السلام، وحواء خلقت من ضلع آدم، فمن جسده خلقت، ولم تخلق من روحه، حتى لا يقول القائل: الواحدة هي باعتبار النفس الناطقة التي لا تركيب فيها، وإذا كانت حواء خلقت من جسد آدم، وجسد آدم جسم من الأجسام التي سماها الله نفسا واحدة، علم أن الجسم قد يوصف بالوحدة، وأبلغ من ذلك ما ذكره الإمام أحمد وغيره من قوله تعالى:{ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} 2، فإن الوحيد مبالغة في الواحد، فإذا وصف
1 سورة النساء، الآية:1.
2 سورة المدثر، الآية:11.
البشر الواحد بأنه وحيد في صفة فإنه واحد من باب أولى، ومع هذا فهو جسم من الأجسام.
وأما في العقل: فإن الواحد الذي وصفوه يقول لهم فيه أكثر العقلاء وأهل الفطر السليمة أنه أمر لا ينقل، ولا له وجود في الخارج، وإنما هو أمر مقدر في الذهن، فليس في الخارج شيء موجود لا يكون له صفات، ولا قدر، ولا يتميز منه شيء عن شيء، بحيث يمكن أن يرى ولا يدرك ولا يحاط به، وإن سماه المسمى جسما.
وأما في الشرع: فنقول: إن مقصود المسلمين أن الأسماء المذكورة في القرآن والسنة وكلام المؤمنين المتفق عليه بمدح أو ذم، تعرف مسميات تلك الأسماء حتى يعطوها حقها، ومن المعلوم بالاضطرار أن اسم الواحد لما في كلام الله لم يقصد به سلب الصفات، وسلب إدراكه بالحواس، ولا نفي الحد والقدر، ونحو ذلك من المعاني التي ابتدعها هؤلاء1.
وأما حجة التركيب التي اعتمد عليها هؤلاء الفلاسفة في نفي الصفات وهي قولهم: "إنه لو كان صفة لكان مركبا، والمركب يفتقر إلى جزئيه، وجزءاه غيره، والمفتقر إلى غيره لا يكون واجبا بنفسه"، فهي تتكون من ألفاظ مجملة، بمعنى أن كل لفظة منها تحتمل عدة معان، فلابد من توضيح المراد من كل لفظ- أولا- حتى يتكلم فيه.
1 انظر: "نقض التأسيس": (1/ 482، 484، 488) .
فلفظ المركب- مثلا-: قد يراد به ما ركبه غيره، أو ما كان متفرقا فاجتمع، أو ما يقبل التفريق، والله منزه عن هذه المعاني باتفاق.
وأما الذات الموصوفة بصفاتها اللازمة لها فإذا سميتم هذا تركيبا كان ذلك اصطلاحا لكم، وليس هو المفهوم من لفظ المركب، ولن تستطيعوا- أيها الفلاسفة- إقامة الدليل على نفيه.
وأما قولهم "لكان مركبا": فإن أرادوا لكان غيره ركبه، أو لكان مجتمعا بعد افتراقه، أو لكان قابلا للتفريق، فاللازم باطل. فإن الكلام إنما هو في الصفات اللازمة للموصوف الذي يمتنع وجوده بدونها.
وإن أرادوا بالمركب الموصوف، أو ما يشبه ذلك، قيما قالوا إن ذلك يمتنع، وأما قولهم:"والمركب مفتقر إلى غيره"، فالجواب عنه: أما المركب بالتفسير الأول فهو مفتقر إلى ما يباينه، وهذا ممتنع على الله - تعالى-.
وأما الموصوف بصفات الكمال اللازمة لذاته، الذي سميتموه أنتم مركبا، فليس في اتصافه هذا ما يوجب كونه مفتقرا إلى مباين له. وإن قالوا: هو غيره، وهو لا يوجد إلا بها، وهذا افتقار إليها، قيل لهم: إن أرادوا بقولهم هي غيره أنها مباينة له فذلك باطل.
وإن أرادوا أنها ليست إياه، قيل لهم: إذا لم تكن الصفة هي الموصوف فأي محذور في هذا.
واذا قالوا هو مفتقر إليها، قيل: أتريدون بالافتقار أنه مفتقر إلى فاعل يفعله، أو محل يقبله، أم تريدون أنه مستلزم لها فلا يكون موجودا ألا وهو متصف بها.
أما الثاني فأي محذور فيه، وأما الأول فباطل إذ الصفة اللازمة للموصوف لا يكون فاعلا لها1.
وأما قولهم: "إنه لو كان صفة لاإ ن مركبا، والمركب مفتقر إلى جزأيه"، فهذا القول لا يتم إلا عند من يثبت الجوهر الفرد، وأما نفاته فعندهم أن الجسم في نفسه واحد بسيط ليس مركبا من الجواهر المنفردة، وهذه المسألة خلافية، قد "توقف فيها أذكى المتأخرين من الأشعرية، وإمامهم أبو المعالي الجويني2، وكذلك أذكى متأخري المعتزلة أبو الحسين البصري3، وكذلك الرازي4، فهي مقدمة
1 انظر: "منهاج السنة": (1/ 188- 191) بتصرف.
2 هو إمام الحرمين عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني، ولد بنيسابور سنة 419هـ، وتوفي بها سنة 478 هـ، من أعظم أئمة الأشاعرة، تتلمذ عليه الغزالي.
انظر ترجمته في: "تبيين كذب المفتري": ص 278، "طبقات الشافعية":(4/249 - 282) .
3 هو أبو الحسين محمد بن علي الطيب البصري، من متأخري المعتزلة، ومن أئمتهم، توفي سنة 436 هـ.
انظر: "الملل والنحل": (1/ 130- 131)، لسان الميزان:(5/ 598) .
4 هو أبو عبد الله فخر الدين محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري الرازي، ويعرف بابن الخطيب، وبابن خطيب الري، ولد سنة 544 هـ، وتوفي سنة 606 هـ، من أئمة الأشاعرة الذين مزجوا المذهب الأشعري بالفلسفة والاعتزال.
انظر ترجمته في "وفيات الأعيان": (1/ 381- 385)، "شذرات الذهب":(5/ 21)، "طبقات الشافعية":(5/ 33- 41)
ممنوعة، لا تصلح دليلا لوجود، والنزاع فيها حتى بين الفلاسفة أنفسهم1.
ثانيا: شبهة المعتزلة:
وأما شبهة المعتزلة التي اعتمدوا عليها في نفي صفات البارئ- عز وجل بما فيها صفة العلو، فهي ما تسمى بطريقة الأعراض، ذلك أنهم يزعمون أن الصفات إنما هي أعراض، والأعراض لا تقوم إلا بجسم، والأجسام حادثة، والله منزه عن الحوادث، ومن أجل ذلك كان قول المعتزلة في الله: أنه قديم، واحد، ليس معه في القدم غيره، فلو قامت به الصفات لكان معه غيره2، ولكان جسما، إذ إن ثبوت الصفات
1 "نقض التأسيس": (1/ 495، 496) .
2 بالإضافة إلى زعم المعتزلة أن الصفات لا تقوم إلا بأجسام، فهم- أيضا- يزعمون أن في إثبات الصفات قول بكثرة وتعدد ذات الله، لأنهم يقولون:"إن من أثبت لله صفة أزلية قديمة، فقد أثبت الإلهين"، كما اعتقدوا أن الصفات لو شاركته في القدم لشاركته في الألوهية.
انظر: "الملل للشهرستاني": (1/ 44- 46)، "مقالات الإسلاميين":(1/245) ، "منهاج السنة،:(2/169) .
تقتضي كثرة، وتعددا في ذاته، وتقتضي أنه جسم، وذلك خلاف التوحيد.
فهم يزعمون أن توحيد الله وتنزيهه متوقف على أنه ليس بجسم، وكونه ليس بجسم موقوف على عدم قيام الأعراض والحوادث التي هي الصفات والأفعال-، ونفي ذلك عندهم موقوف على ما يلي عليه حدوث الأجسام، والذي دلهم على- حدوث الأجسام أنها لا تخلو من الحوادث، وما لا يخلو عن الحوادث لا يسبقها، وما لا يسبق الحوادث فهو حادث.
ويزعمون- أيضا- أن الأجسام لا تخلو من الأعراض، والأعراض لا تبقى زمانين، فهي حادثة، فإذا لم تخل الأجسام منها لزم حدوثها.
ويزعمون- أيضا- أن الأجسام مركبة من الجواهر المفردة، والمركب مفتقر إلى جزئيه، وجزءاه غيره، وما افتقر إلى غيره لم يكن إلا حادثا مخلوقا، فالأجسام متماثلة، فكل ما صح على بعضها صح على جميعها، وقد صح على بعضها التحليل، والتركيب، والاجتماع، والافتراق، فيجب أن يصح على جميعها1.
والمعتزلة يقولون: إننا بهذا الطريق أثبتنا حدوث العالم، ونفي كون الصانع جسما وإمكان المعاد.
الرد عليهم:
مما تقدم نعلم أن المعتزلة إنما بنوا دليلهم في نفي الصفات على أن
1 انظر: "مختصر الصواعق": (1/ 254) .
القديم لا يكون محلا للصفات والحركات، فلا يكون جسما، ولا متحيزا، لأن الصفات أعراض وهم يستدلون على حدوث الجسم بحدوث الأعراض والحركات، وأن الجسم لا يخلو منها، وما لا يخلو من الحوادث فهو حادث.
فهم بهذا القول نفوا صفات البارئ، وجعلوا نفيها يتوقف عليه ثبوت الصانع، وحدوث العالم، فإذا جاء في القرآن والسنة ما يدل على إثبات الصفات لم يمكن القول بموجبه.
والمتدبر لحجج المعتزلة يرى فيها الأمور التالية:
أولا: أنهم يستدلون لأقوالهم بعبارات مبتدعة، وفيها الكثير من الاشتباه والإجمال، وذلك كلفظ العرض، والجسم، والحيز، والمركب، وغير ذلك، فهم يتكلمون بالمتشابه من الكلام ليخدعوا به جهال الناس بما يشبهون عليهم، وهذه الألفاظ المجملة تتضمن معاني باطلة، ومعاني أخرى صحيحة، فهم بهذا ينفون كلا المعنيين الحق والباطل.
وقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله ما في هذه الألفاظ من معاني، وما تدل عليه من عبارات1، وكيف استعملها هؤلاء المعطلة في نفي صفات البارئ- عز وجل، حيث ادعوا أن هذه الأمور من مستلزمات الجسمية، والله منزه عن ذلك، وقد بين شيخ الإسلام أن
1 انظر: شرح ابن تيمية لهذه العبارات في "نقض تأسيس الجهمية": (1/ 504، 511)، وفي "مجموع الفتاوى":(1/ 418 -430) .
استعمال هذه الألفاظ نفيا وإثباتا لم يرد عن السلف، ولا جاء به أثر صحيح، ولم يستعملها الأقدمون بالمعنى الاصطلاحي الذي اتفق عليه هؤلاء، بل جميعهم معترفون بأن العلو صفة كمال، كما أن السفل صفة نقص، وما ثبت لله من العلو فهو العلو المناسب لكمال ذاته، المنزهة عن اعتبارات المحدثين ومماثلتهم.
ومعلوم أن القول بأن العلو يستلزم هذه المعاني المبهمة إنما هو مأخوذ من قياس الغائب على الشاهد، ومحاولة تطبيق الاعتبارات الإنسانية على الصفات الإلهية، وهذا قياس خاطئ إذ ليس معنى كونه في السماء أن السماء تحويه، وتحيط به، وتحصره، أو هي محل وظرف له، بل هو- سبحانه- محيط بكل شيء، وسع كرسيه السموات والأرض، وهو فوق كل شيء، وعلا كل شيء1.
ثانيا: إن ما استدل به المعتزلة لا أصل له من الكتاب أو السنة بل هو مأخوذ من كلام الفلاسفة الذين يزعمون أن للعالم صانعا ليس بعالم ولا قادر ولا حي2.
كما أن مذهب المعتزلة في الذات قريب من مذهب اليونان القائلين بأن ذات الله واحدة، لا كثرة فيها بوجه من الوجوه3.
1 انظر كتاب: "موقف ابن تيمية من قضية التأويل": ص ا 38- 385.
2 "مقالات الإسلاميين": (177/1)، و"موقف المعتزلة من السنة النبوية": ص 53
3.
"موقف المعتزلة من السنة النبوية": ص 53.
ثالثا: أن أصل هذه القاعدة التي اعتمد عليها المعتزلة في نفي الصفات إنما هي مأخوذة من قولهم في دليل حدوث العالم1، الذي أثبتوا فيه حدوث العالم بحدوث الأجسام، وهذا الدليل قد بين الأشعري في رسالة إلى أهل الثغر: أنه دليل محرم في شرائع الأنبياء، ولم يستدل به أحد من الرسل ولا أتباعهم2، فهي بهذا طريق يحرم سلوكها لما فيها من الخطر والتطويل، وما يلزم عليها من لوازم باطلة، لأنها مستلزمة لنفي الصانع بالكلية، وهي مستلزمة لنفي صفاته، ونفي أفعاله، ونفي المبدأ والمعاد، فهذه الطريق لا تتم إلا بنفي سمع الرب، وبصره، وقدرته، وحياته، وإرادته، وكلامه، فضلا عن نفي علوه على خلقه، ونفي الصفات الخبرية من أولها إلى آخرها، فلو صحت هذه الطريقة لنفت الصانع، وأفعاله، وصفاته، وكلامه، وخلقه للعالم، وتدبيره له، وما يثبته أصحاب هذه الطريقة من ذلك لا حقيقة له، بل هو لفظ لا معنى له، وبهذه الطريقة قالت الجهمية بفناء الجنة والنار، وأن الله بذاته في كل مكان، وقال إخوانهم: إنه ليس داخل العالم، ولا خارج العالم، وقالوا بخلق القرآن، إلى غير ذلك من اللوازم الباطلة3.
1 انظر الكلام على دليل حدوث العالم في: "مجموع الفتاوى": (13/ 151) .
2 انظر كتاب: "رسالة إلى أهل الثغر": ص 164- 172، تحقيق عبد الله شاكر الجنيدي، رسالة ماجستير من قسم الدراسات العليا بالجامعة الإسلامية.
3 "مختصر الصواعق": (1/256، 257)، و"درء تعارض العقل والنقل ":(1/ 38- 40) .
ثالثا: شبهة متأخري الأشاعرة:
وهم- أيضا- ينفون صفة العلو، لأنها من الصفات الخبرية1.
ومعلوم أن مذهب متأخري الأشاعرة في الصفات أنهم يثبتون سبع صفات فقط، وهي ما يسمونها بصفات المعاني، وهي: العلم، والقدرة، والإرادة، والحياة، والسمع، والبصر، والكلام، وهم يثبتون لهذه الصفات أربعة أحكام هي:
ا- أن هذه الصفات ليست هي الذات، بل زائدة عليها، فصانع العالم عندهم عالم بعلم، وحي بحياة، وقادر بقدرة، وهكذا.
2-
أن هذه الصفات كلها قائمة بذات الله- تعالى-، ولا يجوز أن يقوم شيء منها بغير ذاته، لأن الدليل دل على أنه متصف بها، ولا معنى لاتصافه بها إلا قيامها بذاته، حتى لو قلنا: إنه عالم، كان هو بعينه مفهوم قولنا: قام بذاته علم، فلا تكون الصفة صفة لشيء إلا إذا قامت به لا بغيره.
3-
أن هذه الصفات كلها قديمة، لأنها إن كانت حادثة كان القديم محلا للحوادث، وهذا محال، أو متصف بصفة لا تقوم به، وذلك أظهر استحالة.
1 الصفات الخبرية وتسمى الصفات السمعية وهى: ما كان الدليل عليها مجرد خبر الرسول صلى الله عليه وسلم، دون استناد إلى نظر عقلي، كالاستواء، والنزول، والمجيء، وغير ذلك. كتاب "ابن تيمية السلفي": ص 137، محمد خليل هراس.
4-
أن الأسماء المشتقة لله- تعالى- من هذه الصفات السبعة صادقة عليه أزلا وأبدا، فهو في القدم كان حيا، قادرا، عليما، سميعا، بصيرا، متكلما1.
فهم على قولهم هذا لا يثبتون سوى هذه الصفات السبع- فقط-، لأنها قديمة.
أما باقي الصفات التي يسمونها الصفات الخبرية فهم ينفونها جميعا، بدعوى تنزيه ذات الله عن الحوادث.
ومتأخرو الأشاعرة هؤلاء وإن كان يخالفون المعتزلة في جعلهم الصفة غير الذات كما في الحكم الأول، فيثبتون الصفات القديمة من هذا الباب، إلا أنهم قد وافقوا المعتزلة في دليلهم المسمى بدليل نفي الحوادث، فنفوا باقي الصفات الأخرى، ذلك لأن قولهم في الحكم الثالث من الأحكام الأربعة التي أوردناها: إنها لو كانت حادثة لكان القديم محلا للحوادث، هو بعينه ما استدل به المعتزلة على نفي الصفات2. ويقول متأخرو الأشاعرة في دليلهم العقلي على نفي العلو: إن إثبات العلو يقتضي إثبات الجهة، وإثبات الجهة يقتضي كونه جسما، وكونه جسما يقتضي كونه مركبا، والمركب مفتقر إلى جزئيه والمفتقر إلى جزئيه لا يكون إلا حادثا، والله- سبحانه- منزه عن الحوادث3.
1 انظر: "الاقتصاد في الاعتقاد" للغزالي: ص 84- 101، بتصرف.
2 "مختصر الصواعق": (1/ 255) .
3 "نقض التأسيس": (1/ 503) .
فعلى قولهم هذا يكونون هم والمعتزلة على دليل واحد، وقد سبق وأن ذكرنا الرد على المعتزلة، فيكون الرد على هؤلاء من جنس الرد على أولئك، ويضاف إلى ذلك أن القول في الصفات التي نفاها هؤلاء هو كالقول في الصفات التي أثبتوها، فإن كان هذا تجسيما وقولا باطلا فهذا كذلك.
وإن قالوا: إنا نثبتها على الوجه الذي يليق بالرب.
قيل لهم: وكذلك هذا.
فإن قالوا: نحن نثبت تلك الصفات وننفي التجسيم.
قيل لهم: وهذا كذلك، فليس لكم أن تفرقوا بين المتماثلين1.
رابعا: شبه النفاة السمعية في نفي صفة العلو:
لقد سبق وأن ذكرنا أن المعطلة قد انقسموا في هذه المسألة إلى فريقين:
فأما الفريق الأول: وهم القائلون بأن الله لا داخل العالم، ولا خارجه، ولا فوقه، ولا تحته، وهؤلاء- كما سبق وأن ذكرنا- ليس لهم دليل واحد من الكتاب أو السنة.
وأما الفريق الثاني: وهم القائلون بأن الله بذاته في كل مكان، فقد احتجوا لقولهم هذا بنصوص "المعية" و"القرب" الواردة في القرآن الكريم مثل قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إلَاّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إلَاّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إلَاّ هُوَ
1 "مجموع الفتاوى": (13/ 165) .
مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 1، وقوله تعالى:{يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُم} 2، وقوله تعالى:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} 3، وقوله تعالى:{إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} 4، وقوله تعالى:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} 5، وقوله تعا لى:{وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} 6 وقوله: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} 7
وقد زعم حلولية الجهمية أن المراد بهذه النصوص: معية الذات، وقرب الذات، فلذلك قالوا: إن الله بذاته في كل مكان.
الرد عليهم:
قد أبطل علماء السلف زعم هؤلاء الجهمية واستدلالهم بهذه الآيات، وبينوا أن كل نص يحتجون به هو في الحقيقة حجة عليهم، فنصوص المعية التي استدلوا بها لا تدل بأي حال من الأحوال على ما زعمه هؤلاء،
1 سورة المجا دلة، الآية:7.
2 سورة النساء، الآية:108.
3 سورة الحديد، الآية:4.
4 سورة التوبة، الآية، 40.
5 سورة ق، الآية:16.
6 سورة الزخرف، الآية:84.
7 سورة الأنعام، الآية:3.
وذلك لأن كلمة "مع" في لغة العرب لا تقتضي أن يكون أحد الشيئين مختلطا بالآخر، وهي إذا أطلقت فليس ظاهرها في اللغة إلا المقارنة المطلقة، من غير وجوب مماسة، أو محاذاة عن يمين أو شمال، فإذا قيدت بمعنى من المعاني دلت على المقارنة في ذلك المعنى.
ولفظ المعية قد استعمل في الكتاب والسنة في مواضع، واقتضت في كل موضع أمورا لم تقتضها في الموضع الآخر، وذلك بحسب اختلاف دلالتها في كل موضع، وهي قد وردت في القرآن بمعنيين هما:
المعنى الأول: المعية العامة
والمراد بها أن الله معنا بعلمه، فهو مطلع على خلقه، شهيد عليهم، ومهيمن، وعالم بهم، وهذه المعية هي المرادة بقوله تعالى:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} .
فالله- سبحانه وتعالى قد افتتح الآية بالعلم، وختمها بالعلم، ولذلك أجمع علماء الصحابة والتابعين الذين حمل عنهم تفسير القرآن على أن تفسير الآية هو أنه معهم بعلمه، وقد نقل هذا الإجماع ابن عبد البر1، وأبو عمرو الطلمنكي، وابن تيمية2، وابن القيم3.
1 "التمهيد": (7/ 138) .
2 "مجموع الفتاوى": (5/ 193) ، و (5/ 519) ، و (11/ 249، 250) .
3 "اجتماع الجيوش الإسلامية: ص 44.
وعلى هذا فلا حجة للمخالفين في ظاهر هذه الآية.
وكذلك- أيضا- ما جاء في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} .
فظاهر الآية دال على أن المراد بهذه المعية هو علم الله- تبارك وتعالى، واطلاعه على خلقه، فقد أخبر الله- تعالى- في هذه الآية بأنه فوق العرش، يعلم كل شيء، وهو معنا أينما كنا، فجمع- تعالى- في هذه الآية بين العلو والمعية، فليس بين الاثنين تناقض ألبتة، وهو كقوله عليهم في حديث الأوعال:"والله فوق العرش، يعلم ما أنتم عليه".
المعنى الثاني: المعية الخاصة
وهي معية الاطلاع، والنصرة، والتأييد، وسميت "خاصة" لأنها تخص أنبياء الله وأولياءه مثل قوله تعالى:{إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} ، وقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} 1.
فهذه المعية على ظاهرها، وحكمها في هذه المواطن النصر والتأييد.
ولفظ المعية على كلا الاستعمالين ليس مقتضاه أن تكون ذات الرب عز وجل مختلطة بالخلق، ولو كان معنى المعية أنه بذاته في كل
1 سورة النحل، الآية:128.
مكان لتناقض الخبر العام والخبر الخاص، ولكن المعمى. أنه مع هؤلاء بنصره وتأييده دون أولئك1.
وأما استدلالهم بقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} ، فقد أجاب عنه شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله: "إن هذه الآية لا تخلو إما أن يراد بها قربه- سبحانه-، أو قرب ملائكته، كما قد اختلف الناس في ذلك.
فإن أريد بها قرب الملائكة: فدليل ذلك من الآية قوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} ، ففسر ذلك القرب الذي هو حين يتلقى المتلقيان، فيكون الله- سبحانه- قد أخبر بعلمه هو- سبحانه- بما في نفس الإنسان، {وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} ، وأخبر بقرب الملائكة الكرام الكاتبين منه، {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} ، وعلى هذا التفسير تكون هذه الآية مثل قوله تعالى:{أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} 2.
أما إذا كان المراد بالقرب في الآية قربه- سبحانه-، فإن ظاهر السياق في الآية دل على أن المراد بقربه هنا: قربه بعلمه، وذلك لورود لفظ العلم في سياق الآية:{وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} "3.
وأما استدلالهم بقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَه} ،
1 "مجموع الفتاوى": (11/ 251) ، و (4/ 104) .
2 سورة الزخرف، الآية:80.
3 "الفتاوى": (1/ 19- 21) .
فمعنى الآية: أي هو إله من في السموات، وإله من في الأرض، قال ابن عبد البر:"فوجب حمل هذه الآيات على المعنى الصحيح المجتمع عليه، وذلك أنه في السماء إله معبود من أهل السماء، وفي الأرض إله معبود من أهل الأرض، وكذلك قال أهل العلم بالتفسير"1.
وقال الآجري: "وقوله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَه} : فمعناه أنه جل ذكره إله من في السموات وإله من في الأرض، وهو الإله يعبد في السموات، وهو الإله، يعبد في الأرض، هكذا فسره العلماء"2.
وروى الآجري بسنده في تفسيره هذه الآية عن قتادة قوله: "هو إله يعبد في السماء، وإله يعبد في الأرض"3.
وأما استدلالهم بقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَه} فقد فسرها أئمة العلم، كالإمام أحمد، وغيره، أنه: المعبود في السموات والأرض4.
وقال الآجري: "وعند أهل العلم أن أهل الحق: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَه يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} هو كما قال أهل
1 "التمهيد": (7/ 134) .
2 "الشريعة": ص 297.
3 "الشريعة": ص 298.
4 "الرد على الزنادقة والجهمية" للإمام أحمد: ص 92- 93، و"مجموع الفتاوى":(11/ 250) .
الحق: يعلم سركم. فمما جاءت به السنن أن الله- عز وجل على عرشه، وعلمه محيط بجميع خلقه، يعلم ما تسرون وما تعلنون، ويعلم الجهر من القول، ويعلم ما تكتمون"1.
القول الثاني من أقوال المخالفين
وهو قول من يقول: إن الله بذاته فوق العرش، وهو بذاته في كل مكان.
وهذا هو قول طائفة من أهل الكلام والتصوف، كأبي معاذ التومني2، وزهير الأثري3، وأصحابهما4، وهو موجود في كلام السالمية5
1 "الشريعة ": ص 297.
2 أبو معاذ التومني من أئمة المرجئة، ورأس فرقة التومنية منها.
انظر ترجمته ومذهبه في قي مقالات الأشعري": (1/ 204، 326) ، و (2/ 232) ، "الملل والنحل": (1/ 128) .
3 زهير الأثري، ولم أقف على ترجمته، وقد تكلم الأشعري عن آرائه بالتفصيل في "المقالات":(1/ 326) .
4 انظر: "نقض تأسيس الجهمية": (1/ 6)، و"الفتاوى":(2/ 292)، "مقالات الإسلاميين":(1/ 326) .
5 هم أتباع أبي عبد الله محمد بن أحمد بن سالم، المتوفى سنة 297 هـ، وابنه الحسن أحمد بن محمد بن سالم، المتوفى سنة 350 هـ، وقد تتلمذ أحمد بن محمد بن سالم على سهل بن عبد الله التستري، ويجمع السالمية بين كلام أهل السنة وكلام المعتزلة، مع ميل إلى التشبيه ونزعة صوفية اتحادية، انظر:"شذرات الذهب": (3/ 36)، و"طبقات الصوفية": ص 414-416، و"الفرق بين الفرق ": ص 157- 202.
كأبي طالب المكي1 وأتباعه كأبي الحكم بن برجان2 وأمثاله، ما يشير إلى نحو من هذا، كما يوجد في كلامهم ما يناقض هذا3، فهم يقولون بأن الله في كل مكان، وأنه مع ذلك مستو على عرشه، وأنه يرى بالأبصار بلا كيف، وأنه موجود الذات بكل مكان، وأنه ليس بجسم، ولا محدود، ولا يجوز عليه الحلول، ولا المماسة، ويزعمون أنه يجيء يوم القيامة كما قال تعالى:{وَجَاءَ رَبُّكَ} 4، وقولهم هذا يشبه قول بعض مثبتة الجسم، الذين يقولون بأنه لا نهاية له5.
والفرق بين هذا القول وقول الجهمية: بأن الله في كل مكان هو أن هؤلاء يثبتون العلو، ونوعا من الحلول، أما الجهمية فلا يثبتون العلو على مقصود هؤلاء من الاستواء على العرش والمباينة.
1 هو أبو طالب محمد بن علي بن عطية الحارثي المكي، صوفي، نشأ واشتهر بمكة، وهو صاحب كتاب:"قوت القلوب" في التصوف وهو من كبر رجال السالمية، قال عنه الخطيب البغدادي:"ذكر فيه أشياء مستشنعة في الصفات"، توفي سنة 386 هـ.
انظر ترجمته في: "تاريخ بغداد": (3/ 89)، "ميزان الاعتدال":(3/ 655)، "لسان الميزان":(5/ 300) .
2 هو أبو الحكم عبد السلام بن عبد الرحمن بن محمد اللخمي الإشبيلي، متصوف، توفي سنة 536 هـ بمراكش، انظر ترجمته:"لسان الميزان": (4/ 13- 14)، "فوات الوفيات":(1/ 569)، "الأعلام":(4/ 129) .
3 "مجموع الفتاوى": (2/ 299) .
4 سورة الفجر، الآية:22.
5 "نقض تأسيس الجهمية": (2/ 6) .
ويزعم أصحاب هذا القول أنهم بقولهم هذا قد اتبعوا النصوص كلها، سواء كانت نصوص علو أو معية أو قرب.
الرد عليهم:
إنهم بقولهم هذا جمعوا بين كلام أهل السنة وكلام الجهمية، ولذلك كان قولهم ظاهر الخطأ، وغاية في التناقض.
أما بيان خطئه، فهو يكمن في أن كل من قال بأن الله بذاته في كل مكان، فهو مخالف للكتاب والسنة، وإجماع سلف الأمة وأئمتها، مع مخالفته لما فطر الله عليه عباده، ولصريح المعقول، وللأدلة الكثيرة، فالقرآن الكريم مملوء بالآيات التي تنص على علو الله بذاته فوق خلقه، واستوائه على عرشه، وبينونته من خلقه، كما أن السنة قد تحدثت عن هذا المعنى في كثير من الأحاديث كقصة المعراج، وصعود الملائكة ونزولها من عند الله، وعروج الروح إليه، واستوائه على عرشه، ونزوله إلى السماء الدنيا، وسيأتي عرض تلك الأدلة عند الكلام على مذهب السلف، مع الإشارة إلى دليل الفطرة، والأدلة العقلية، فكل هذه الأدلة تبين بطلان هذا القول ومخالفته.
وأما استدلال هؤلاء بنصوص المعية والقرب، فقد بينا خطأ هذا الاستدلال وبطلانه عند الرد على الأدلة السمعية لمذهب الجهمية، وقد بينا أنه ليس للمخالفين، أي: متمسك في جعلها لمعية الذات أو قرب الذات.
أما بيان تناقض هذا القول: فهو واضح من أقوالهم، فهم يجمعون
بين أقوال متناقضة، فهم تارة يقولون بأنه بذاته فوق العرش، وتارة يقولون: بأنه فوق العرش، ونصيب العرش فيه كنصيب قلب العارف - كما يذكر ذلك أبو طالب المكي وغيره-، ومعلوم أن قلب العارف نصيبه منه المعرفة والإيمان وما يتبع ذلك، فإن قالوا: إن العرش كذلك، فقد نقضوا قولهم بأنه بنفسه فوق العرش.
وإن قالوا بحلول ذاته في قلوب العارفين، كان ذلك قولا بالحلول الخاص، وهذا ما وقع فيه طائفة من الصوفية، ومنهم صاحب "منازل السائرين"1.
1 "مجموع الفتاوى": (5/ 122- 131) .