الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: قول السلف ومن وافقهم
فالسلف يقولون بأن الله فوق سمواته، مستو على عرشه، عال على خلقه، بائن منهم، وهم بائنون منه.
وقد وافقهم على قولهم بإثبات علو الله عامة الصفاتية، كأبي محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب وأتباعه1، وأبي العباس القلانسي2 وأبي الحسن الأشعري والمتقدمين من أصحابه كأبي المعالي الجويني وغيره، وهو قول الكرامية ومتقدمي الشيعة الإمامية3.
1 الكلابية هم أتباع أبي محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب "بضم الكاف وتشديد اللام" القطان المتوفى بعد سنة 240 هـ بقليل، قال عنه ابن حزم: إنه شيخ قديم للأشعرية. انظر عنه وعن مذهبه: "لسان الميزان": (3/ 290- 291)، "طبقات الشافعية":(2/ 51)، "الملل والنحل":(1/ 148)، "مقالات الأشعري":(1/ 298- 299) ، (2/ 52، 54، 118، 202- 203، 231، 233، 245)، "أصول الدين": ص 89، 90، 97، 104، 109، 113، 123، 132، 222، 254) ، "الفصل" لابن حزم:(2/123) ، (4/208) .
2 قال عنه ابن عساكر في "تبيين كذب المفترى" ص 398: أبو العباس أحمد بن عبد الرحمن بن خالد القلانسي الرازي من معاصري أبي الحسن الأشعري رحمه الله لا من تلامذته، كما قال الأهوازي، وهو من جلة العلماء الكبار الأثبات واعتقاده موافق لاعتقاده في الإثبات- أي: لاعتقاد الأشعري-.
3 انظر: "مجموع الفتاوى": (2/ 297)، "نقض تأسيس الجهمية":(1/ 127)(2/14) .
أدلتهم:
وهذا القول الذي ذهب إليه السلف ومن وافقهم هو الذي دل عليه القرآن والسنة، وإجماع سلف الأمة، والمعقول الصريح الموافق للمنقول الصحيح، والفطر السليمة التي فطر الله عليها الخلق، وسوف نتعرض لهذه الأدلة جميعها.
أولا: الأدلة من القرآن
إن القرآن الكريم من أوله إلى آخره مملوء بما هو إما نص وإما ظاهر في أن الله فوق كل شيء، وأنه عال على خلقه، ومستو على عرشه، وقد تنوعت تلك الدلالات، فوردت بأصناف من العبارات، وما ذلك إلا لتدل دلالة واضحة على علوه- سبحانه-، وبينونته من خلقه، وارتفاعه على عرشه، ثم لا تدع بعد ذلك مجالا للمتأول أن يؤولها، أو يحرف معانيها.
فتارة يخبر- تعالى- بأنه خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش، وقد ذكر استواءه على العرش في سبعة مواضع تقدم ذكرها.
وتارة يخبر بعروج الأشياء وصعودها وارتفاعها إليه كقوله تعالى: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} 1، وقوله تعالى:{إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيّ} 2،
1 سورة النساء، الآية:158.
2 سورة آل عمران، الآية:55.
وقوله تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْه} 1، وقوله تعالى:{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} 2
وتارة يخبر بنزولها من عنده كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَق} 3، وقوله تعالى:{قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقّ} 4، وقال تعالى:{حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} 5.
وتارة يخبر بأنه العلي الأعلى كقوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} 6، وقوله تعالى:{وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} 7.
وتارة يخبر بأنه في السماء، كقوله تعالى:{أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً} 8، فذكر السماء دون الأرض، ولم يعلق بذلك ألوهية أو غيرها، كما ذكر في قوله تعالى:{وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} .
1 سورة المعارج، الآية:4.
2 سورة فاطر، الآية:10.
3 سورة الأنعام، الآية:114.
4 سورة النحل، الآية:102.
5 سورة فصلت، الآيتان: 1- 2.
6 سورة الأعلى، الآية:1.
7 سورة البقرة، الآية: 255، وسورة الشورى، الآية:4.
8 سورة الملك، الآيتان: 16- 17.
وتارة يجعل بعض الخلق عنده دون بعض، ويخبر عمن عنده بالطاعة كقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} 1، فلو كان موجب العندية معنى عاما، كدخولهم تحت مشيئته وقدرته وأمثال ذلك، لكان كل مخلوق عنده، ولم يكن أحد مستكبرا عن عبادته، بل مسبحا له ساجدا2.
ثانيا: الأدلة من السنة
كما أن السنة مليئة بالأحاديث الدالة على علو الله- سبحانه وتعالى واستوائه على عرشه، وقد تكلم على إثبات ذلك في خلال الكثير من الأحاديث، كأحاديث المعراج، وأحاديث صعود الملائكة ونزولها من عند الله، وعروج الروح إليه، واستواء الخالق على عرشه، ونزوله إلى السماء الدنيا، ورؤيته في الآخرة، وسأكتفي بما ورد في متن الكتاب الذي أقوم بتحقيقه من أحاديث، تجنبا للتكرار والإطالة، وفيها الكفاية- إن شاء الله-.
ثالثا: دليل الإجماع
إجماع السلف من الصحابة والتابعين ومن سار على نهجهم منعقد على إثبات علو الله، واستوائه على عرشه، وقد نقل غير واحد من السلف هذا الإجماع عنهم، ومن ذلك ما رواه البيهقي بإسناد صحيح عن الأوزاعي أنه قال: "كنا والتابعون متوافرون نقول: إن الله- تعالى-
1 سورة الأعراف، الآية:206.
2 "مجموع الفتاوى": (5/ 164- 165) .
ذكره فوق عرشه، ونؤمن بما وردت فيه السنة من صفاته"1.
وقال أبو نصر السجزي: "فأئمتنا كسفيان الثوري، ومالك، وسفيان ابن عيينة، وحماد بن سلمة، وحماد بن زيد، وعبد الله بن المبارك، وفضيل بن عياض، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن إبراهيم الحنظلي: متفقون على أن الله- سبحانه- بذاته فوق العرش، وأن علمه بكل مكان، وأنه يرى يوم القيامة بالأبصار فوق العرش"2.
وقال أبو نعيم الأصبهاني في عقيدته المشهورة: "وطريقتنا طريقة السلف المتبعين للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، فما اعتقدوه اعتقدناه، فمما اعتقدوه أن الأحاديث التي تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في العرش والاستواء عليه يقولون بها، ويثبتونها من غير تكييف ولا تشبيه، وأن الله بائن من خلقه، والخلق بائنون منه، لا يحل فيهم، ولا يمتزج بهم، وهو مستو على عرشه في سمواته من دون أرضه"3.
وكلام السلف من الصحابة والتابعين،- من تبعهم في إثبات العلو كثير جدا ولا يتسع المقام ههنا لذكره، وقد نقل شيخ الإسلام ابن تيمية الكثير من تلك النصوص الواردة عنهم، وبين إجماعهم على إثبات ذلك4، وكذلك فعل تلميذه ابن القيم في كتابه "إجتماع الجيوش الإسلامية".
1 "الأسماء والصفات": ص 515.
2 "درء تعارض العقل والنقل": (6/ 250) .
3 "درء تعارض العقل والنقل": (6/ 250) .
4 انظر: "مجموع الفتاوى": (5/ 6) .
رابعا: دليل العقل
وكما أن علو الله ثابت بالكتاب، والسنة، وإجماع السلف، فهو - أيضا- ثابت بالمعقول الصريح الموافق للمنقول الصحيح.
والأدلة العقلية على إثبات العلو كثيرة، وسنورد ههنا ثلاثة منها:
الأول: قول الإمام أحمد- رحمه الله تعالى-: "إذا أردت أن تعلم أن الجهمي كاذب على الله- تعالى-. حين زعم أنه في كل مكان، ولا يكون في مكان دون مكان.
فقل له: أليس كان الله ولا شيء؟
فسيقول: نعم.
فقل له: حين خلق الشيء هل خلقه في نفسه، أم خارجا عن نفسه؟
فإنه يصير إلى ثلاثة أقاويل:
واحد منها: إن زعم أن الله خلق الخلق في نفسه، كفر حين زعم أنه خلق الجن والشياطين وإبليس في نفسه.
وإن قال: خلقهم خارجا عن نفسه ثم دخل فيهم، كان هذا- أيضا- كفرا حين زعم أنه في كل مكان وحش قذر رديء.
وإن قال خلقهم خارجا عن نفسه. لم لم يدخل فيهم، رجع عن قوله كله أجمع"1.
الثاني: قول ابن القيم: "إن كل من أقر بوجود رب للعالم، مدبر له، لزمه الإقرار بمباينته لخلقه، وعلوه عليهم".
1 "الرد على الزنادقة والجهمية": "ص (95- 96) .
فمن أقر بالرب، فإما أن يقر بأن له ذاتا وماهية مخصوصة أو لا،
فإن لم يقر بذلك، لم يقر بالرب، فإن ربا لا ذات له، ولا ماهية له، هو والعدم سواء، وإن أقر بأن له ذا" مخصوصة وماهية، فيما أن يقر بتعينها أو يقول: إنها غير معينة،
فإن قال: إنها غير معينة كانت خيالا في الذهن لا في الخارج، فإنه لا يوجد في الخارج إلا معينا، لا سيما وتلك الذات أولى من تعيين كل معين، فإنه يستحيل وقوع الشركة فيها، وأن يوجد لها نظير، فتعيين ذاته - سبحا نه- واجب.
وإذا أقر بأنها معينة لا كلية، والعالم مشهود معين لا كلي، لزم - قطعا- مباينة أحد المتعينين للآخر، فاز" إذا لم يباينه لم يعقل تميزه عنه وتعينه.
فإن قيل: هو يتعين بكونه لا داخلا فيه، ولا خارجا عنه.
قيل: هذا- والله- حقيقة قولكم، وهو عين المحال، وهو تصريح منكم بأنه لا ذات له، ولا ماهية تخصه، فإنه لو كان له ماهية يختص بها لكان تعينها لماهيته وذاته المخصوصة، وأنتم إنما جعلتم تعيينه أمرا عدميا محضا، ونفيا صرفا، وهو كونه لا داخل العالم ولا خارجا عنه، وهذا التعيين لا يقتضي وجوده مما به يصح على العدم المحض. وأيضا، فالعدم المحض لا يعين المتعين، فإنه لا شيء، وإنما يعينه ذاته المخصوصة وصفاته، فلزم- قطعا- من إثبات ذاته تعيين تلك
الذات، ومن تعيينها مباينتها للمخلوقات، ومن المباينة العلو عليها، لما تقدم من تقريره"1.
الثالث: إنه قد ثبت بصريح المعقول أن الأمرين المتقابلين إذا كان أحدهما صفة كمال والآخر صفة نقص، فإن الله يوصف بالكمال منهما دون النقص، فلما تقابل الموت والحياة وصف بالحياة دون الموت، ولما تقابل العلم والجهل، وصف لي العلم دون الجهل، ولما تقابل القدرة والعجز وصف بالقدرة دون العجز، ولما تقابل المباينة للعالم والمداخلة له وصف بالمباينة دون المداخلة، وإذا كان مع المباينة لا يخلو إما أن يكون عاليا على العالم أو مسامتا له، وجب أن يوصف بالعلو دون المسامتة، فضلا عن السفول.
والمنازع يسلم أنه موصوف بعلو المكانة، وعلو القهر، ؤعلو المكانة معناه أنه أكمل من العالم، وعلو القهر مضمونه أنه قادر على العالم، فإذا كان مباينا للعالم كان من تمام علوه أن يكون فوق العالم، لا محاذيا له ولا سافلا عنه.
ولما كان العلو صفة كمال، كان ذلك من لوازم ذاته، فلا يكون مع وجود غيره إلا عاليا عليه، لا يكون- قط غير عال عليه2
وبهذه النماذج التي أوردناها عن الأدلة العقلية يتضح لنا مدى دلالة المعقول الصريح على إثبات علو الله ومباينته لخلقه، وكذلك مدى
1 "مختصر الصواعق": (1/ 279- 280) .
2 "درء تعارض العقل والنقل": (7/ 5- 6) .
مخالفة أقوال المعطلة والحلولية لصريح المعقول، وصحيح المنقول.
خامسا: دليل الفطرة
من المعلوم أن الفطرة السليمة قد جبلت على الاعتراف بعلو الله- سبحانه وتعالى، ويظهر هذا الأمر حينما يجد الإنسان نفسه مضطرا إلى أن يقصد جهة العلو ولو بالقلب حين الدعاء، وهذا الأمر لا يستطيع الإنسان دفعه عن نفسه، فضلا عن أن يرد على قائله وينكر هذا الأمر عليه.
ومن أجل ذلك لم يجد الجويني- إمام الحرمين- جوابا حين سأله الهمداني محتجا عليه بها، فقد ذكر محمد بن طاهر المقدسي أن الشيخ أبا جعفر الهمداني حضر مجلس الأستاذ أبا المعالي الجويني المعروف بـ"إمام الحرمين"، وهو يتكلم في نفي صفة العلو، ويقول:"كان الله ولا عرش، وهو الآن على ما كان"، فقال الشيخ أبو جعفر: يا أستاذ دعنا من ذكر العرش- يعني: لأن ذلك إنما جاء في السمع- أخبرنا عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا، فإنه ما قال عارف قط: يا ألله، إلا وجد من قلبه ضرورة تطلب العلو، لا يلتفت يمنة ولا يسرة، فكيف تدفع هذه الضرورة عق قلوبنا؟ قال: فلطم أبو المعالي على رأسه، وقال: حيرني الهمداني، حيرني الهمداني1.
1 "مجموع الفتاوى": (4/ 44، 61)، "شرح العقيدة الطحاوية": ص 325، 326.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "علو الخالق على المخلوق وأنه فوق العالم، أمر مستقر في فطر العباد، معلوم لهم بالضرورة، كما اتفق عليه جميع الأمم، إقرارا بذلك، وتصديقا من غير أن يتواطئوا على ذلك ويتشاعروا، وهم يخبرون عن أنفسهم أنهم يجدون التصديق بذلك في فطرهم.
وكذلك هم عندما يضطرون إلى قصد الله وإرادته، مثل قصده عند الدعاء والمسألة، يضطرون إلى توجه قلوبهم إلى العلو، فكما أنهم مضطرون إلى دعائه وسؤاله هم مضطرون إلى أن يوجهوا قلوبهم إلى العلو إليه، لا يجدون في قلوبهم توجها إلى جهة أخرى، ولا استواء الجهات كلها عندها، وخلو القلوب عن قصد جهة من الجهات، بل يجدون قلوبهم مضطرة إلى أن تقصد جهة علوهم دون غيرها من الجهات.
فهذا يتضمن بيان اضطرارهم إلى قصده في العلو، وتوجههم عند دعائه إلى العلو، كما يتضمن فطرتهم على الإقرار بأنه في العلو والتصديق بذلك"1.
1 انظر: "درء تعارض العقل والنقل": (7/5) ، بتصرف.