المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الثاني: أقوال مثبتة الاستواء - العرش وما روي فيه

[محمد بن عثمان بن أبي شيبة]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌الباب الأول: تعريف العرش والأدلة عليه

- ‌الفصل الأول: تعريف العرش

- ‌المبحث الأول: المعنى اللغوي لكلمة العرش

- ‌المبحث الثاني: المذاهب في تعريف العرش

- ‌الفصل الثاني: الأدلة على صفة العرش من الكتاب والسنة

- ‌المبحث الأول: الأدلة القرآنية على صفة العرش

- ‌المبحث الثاني: الأدلة من السنة على صفة العرش

- ‌الباب الثاني: صفات العرش وذكر ما يتعلق به

- ‌الفصل الأول: صفة العرش وخصائصه

- ‌المبحث الأول: خلق العرش وهيئته

- ‌المبحث الثاني: مكان العرش

- ‌المبحث الثالث: خصائص العرش

- ‌الفصل الثاني: ذكر ما يتعلق بالعرش

- ‌المبحث الأول: الكلام على حملة العرش

- ‌المبحث الثاني: الكلام على الكرسي

- ‌الباب الثالث: الكلام على صفتي العلو والاستواء

- ‌الفصل الأول: الأقوال في صفة العلو

- ‌المبحث الأول: أقوال المخالفين

- ‌المبحث الثاني: قول السلف ومن وافقهم

- ‌الفصل الثاني: الاستواء والأقوال فيه

- ‌المبحث الأول: أقوال نفاة الاستواء

- ‌المبحث الثاني: أقوال مثبتة الاستواء

- ‌الباب الرابع: التعريف بالمؤلف

- ‌الفصل الأول: عصر المؤلف

- ‌الفصل الثاني: سيرته الشخصية وحياته العلمية

- ‌الباب الخامس: التعريف بالكتاب وبالمخطوطة

- ‌الفصل الأول: التعريف بالكتاب

- ‌الفصل الثاني: التعريف بالمخطوطة

- ‌الباب السادس: قسم التحقيق

- ‌مصادر ومراجع

الفصل: ‌المبحث الثاني: أقوال مثبتة الاستواء

‌المبحث الثاني: أقوال مثبتة الاستواء

القول الأول:

وهو قول من يثبت الاستواء على أنه صفة للعرش، وليس على أساس أنه صفة الله- تعالى-.

وأصحاب هذا القول يقولون: إن الاستواء فعل يفعله الرب في العرش، بمعنى أنه يحدث في العرش قربا فيصير مستويا عليه من غير أن يقوم به- أي بالله- فعل اختياري.

وهذا القول هو ما يقول به ابن كلاب، والأشعري1 وأئمة أصحابه المتقدمين، كالباقلاني وغيره، وهو- أيضا- قول القلانسي، ومن وافق هؤلاء من أتباع الأئمة الأربعة وغيرهم من أصحاب الإمام أحمد كالقاضي أبي يعلى، وابن الزاغوني، وابن عقيل في كثير من أقواله2.

والسبب الذي جعل هؤلاء القوم يمنعون جعل الاستواء صفة لله- تعالى- هو قولهم بنفي قيام الأفعال الاختيارية بذاته- سبحانه وتعالى

1 هذا القول لأبي الحسن الأشعري، قاله عندما كان على قول ابن كلاب من نفي الأفعال الاختيارية عن الله تعالى.

2 "مجموع الفتاوى": (5/ 386، 437، 466) ، (16/ 393)، "الأسماء والصفات": ص 517، "اجتماع الجيوش الإسلامية": ص 64، 65.

ص: 171

ولذلك يجعلون أفعاله اللازمة لذاته - كالنزول والاستواء - كأفعاله المتعدية- كالخلق والإحسان-، وقولهم في نفي الأفعال الاختيارية راجع إلى قولهم في صفات الله.

وهم يقولون: "إن الله هو الموصوف بالصفات، لكن ليست الصفات أعراضا، إذ هي قديمة ولا تزول"1.

وحجتهم في منع قيام الحوادث بذات الله- تعالى- أنهم يقولون:

"إن كل ما صح قيامه بالبارئ- تعالى- فإما أن يكون صفة كمال أو لا يكون، فإن كان صفة كمال استحال أن يكون حادثا، وإلا كانت ذاته قبل اتصافه بتلك الصفة خالية من صفة الكمال، والخالي من الكمال الذي هو ممكن الاتصاف به ناقص، والنقص على الله محال بإجماع الأمة.

وإن لم يكن صفة كمال استحال اتصاف البارئ بها، لأن إجماع الأمة على أن صفات البارئ بأسرها صفات كمال، فإثبات صفة لا من صفات الكمال خرق للإجماع وهو أمر-غير جائز"2.

الرد عليهم:

لقد اعتمد أصحاب هذا القول فر، منعهم كون الاستواء صفة لله تعالى- على حجة منع قيام الحوادث بذاته- تعالى-، وهي حجة واهية، وقد رد عليها شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله: "إن المقدمة التي اعتمد عليها هؤلاء وهي قولهم: إن الخالي من الكمال الذي يمكن

1 "مجموع الفتاوى": (6/ 36) .

2 انظر كتاب: "ابن تيمية السلفي": ص 130.

ص: 172

الاتصاف به ناقص. فيقال لهم: معلوم أن الحوادث المتعاقبة لا يمكن الاتصاف بها في الأزل، كما لا يمكن وجودها في الأزل، وعلى هذا فالخلو عنها في الأزل لا يكون خلوا عما يمكن الاتصاف به في الأزل.

ثم إنه لم يثبت امتناع ما ذكر من النقص بدليل عقلي، ولا بنص من كتاب ولا سنة، بل بما ادعوه من إجماع، وإذا فمعلوم أن المنازعين في اتصافه بذلك هم من أهل الإجماع، فكيف يحتج بالإجماع في مسألة النزاع.

وقولهم باجماع الأمة على أن صفاته صفات كمال، فإن قصد بذلك صفاته اللازمة لم يكن في هذا حجة لهم، وإن قصد بذلك ما يحدث بمشيئته وقدرته لم يكن هذا إجماعا، فإن أهل الكلام يقولون: إن صفة الفعل ليست صفة كمال ولا نقص، والله موصوف بها بعد أن لم يكن موصوفا.

ثم إن هذا الإجماع الذي ادعوه حجة عليهم، فإنا إذا عرضنا على العقول موجودين: أحدهما يمكنه أن يتكلم ويفعل بمشيئته كلاما وفعلا، والآخر لا يمكنه ذلك، بل لا يكون كلامه إلا غير مقدور، ولا مراد، أو يكون بائنا عنه، لكانت العقول تقتضي بأن الأول أكمل من الثاني.

وكذلك إذا عرضنا على العقول موجودين من المخلوقين، أو مطلقا أحدهما يقدر على الذهاب والمجيء، والتصرف بنفسه، والآخر لا يمكنه ذلك، لكانت العقول تقضي بأن الأول أكمل.

ص: 173

فنفس ما به يعلم أن اتصافه بالحياة والقدرة صفات كمال، به يعلم أن اتصافه بالأفعال والأقوال الاختيارية التي تقوم به، والتي يفعل بها المفعولات المباينة له- صفات كمال"1.

وكذلك مما يرد به على هذا القول ما قاله ابن القيم: "إنه لو كان الاستواء عائدا على العرش لكانت القراءة برفع العرش، ولم تكن بخفضه، فلما كانت بخفض العرش دل على أن الاستواء عائد إلى الله تعالى"2.

القول الثاني: القول بالتفويض

ويذهب أصحاب هذا القول إلى إثبات لفظ الاستواء فقط مع التوقف في المعنى المراد، فهم يقولون أن إن الاستواء ثابت في القرآن، حيث إنه قد ورد في سبع آيات، وكذلك قد وردت به الأخبار الصحيحة، وقبوله من جهة التوقف واجب، والبحث عنه وطلب الكيفية غير جائز، وهو استواء لا نعلمه3.

وقد ذهب إلى هذا القول البيهقي في كتابه "الاعتقاد"4، وهو

1 "الموافقة بين صريح العقل وصحيح النقل": (2/73-175) ، ط. دار الكتب.

2 انظر: "اجتماع الجيوش الإسلامية": ص 64- 65.

3 "الاعتقاد" للبيهقي: ص 115.

4 المصدر السابق.

ص: 174

أحد قولي الرازي1.

وقد زعم كثير من الأشاعرة أن القول بالتفويض هو قول السلف2. ويستدلون على نسبة هذا القول إلى السلف بعبارات نقلت عن السلف، ظنوا أنها ترمي إلى القول بالتفويض كقول الأوزاعي: "كنا والتابعون متوافرون نقول: إن الله- تعالى ذكره- فوق عرشه، ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته- جل وعلا-".

وقول ربيعة بن عبد الرحمن، والإمام مالك:"الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة، والإيمان به واجب".

والقول بالتفويض هو مقصود هؤلاء القوم في قولهم: "إن طريقة السلف أسلم"، حيث إنهم ظنوا أن طريقة السلف هي مجرد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث من غير فقه لذلك، بمنزلة الأميين الذين قال الله فيهم:{وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيّ} 3.

الرد عليهم:

معلوم أن نسبة هذا القول إلى السلف إنما هو محض كذب وافتراء، ومن نسب هذا القول إلى السلف فإنما هو جاهل بطريقة السلف الذين

1 "تلخيص المحصل": ص 114.

2 "الاعتقاد" للبيهقي: ص 117، "الإتقان في علوم القرآن":(2/ 6)، "مناهل العرفان":(2/ 182، 183)، "تحفة المريد": ص 91، 92، "شرح الخريدة البهية": ص 75، "الأسماء والصفات": ص 517.

3 سورة البقرة، الآية:78.

ص: 175

لم يقولوا بهذا القول، ولم يرد عن واحدة منهم أنه فوض معنى الاستواء، بل إن الوارد عنهم جميعا أنهم يفسرون الاستواء بالمعنى المراد وهو: العلو والارتفاع على العرش، ويؤمنون بأن الله مستو على العرش حقيقة.

قال شيخ الإسلام: "وهذا القول على الإطلاق كذب صريح على السلف، أما في كثير من الصفات فقطعا مثل أن الله فوق العرش، فإن من تأمل كلام السلف المنقول عنهم علم بالاضطرار أن القوم كانوا مصرحين بأن الله فوق العرش حقيقة، وأنهم ما قصدوا خلاف هذا قط، وكثير منهم صرح في كثير من الصفات بمثل ذلك"1.

وقال في موضع آخر: "وقد فسر الإمام أحمد النصوص التي نسميها متشابهات، فبين معانيها آية آية، وحديثا حديثا، ولم يتوقف فيها هو والأئمة قبله، مما يدل على أن التوقف عن بيان معاني آيات الصفات وصرف الألفاظ عن ظواهرها لم يكن مذهبا لأهل السنة، وهم أعرف بمذهب السلف، وإنما مذهب السلف إجراء معاني آيات الصفات على ظاهرها، بإثبات الصفات له حقيقة، وعندهم قراءة الآية والحديث تفسيرها، وتمر كما جاءت دالة على المعاني لا تحرف، ولا يلحد فيها"2.

1 "الفتوى الحموية": ص 64.

2 "مجموع الفتاوى": (17/ 414) .

ص: 176

ويقول ابن القيم- رحمه الله تعالى-: "تنازع الناس في كثير من الأحكام، ولم يتنازعوا في آيات الصفات وأخبارها في موضع واحد، بل اتفق الصحابة والتابعون على إقرارها وإمرارها مع فهم معانيها وإثبات حقائقها، أعني فهم أصل المعنى، لا فهم الكنه والكيفية"1.

وأما بالنسبة إلى ما استدل به أصحاب هذا القول على أن القول بالتفويض هو مذهب السلف وذكرهم لقول الإمام مالك: "الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة"، فليس المراد ههنا تفويض معنى الاستواء، ولا نفي حقيقة الصفة، ولو كان المراد الإيمان بمجرد اللفظ من غير فهم لمعناه على ما يليق بالله لما قال:"الكيف مجهول"، لأنه لا يحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا لم يفهم عن اللفظ معنى2. والاستواء على هذا المعنى لا يكون معلوما، بل هو مجهول بمنزلة حروف المعجم، لكن الأمر على عكس ذلك، فنفى علم الكيفية لأنه أثبت الصفة، وأراد بقوله: الاستواء معلوم، أي: أنه معلوم معناه في اللغة التي نزل بها القرآن، فعلى هذا يكون معلوما في القرآن.

ومعلوم أن ادعاء هؤلاء أن مذهب السلف إنما هو القول بالتفويض سببه اعتقاد هؤلاء أنه ليس في نفس الأمر صفة دلت عليها هذه النصوص، فلما اعتقدوا انتفاء الصفات في نفس الأمر- كان مع ذلك

1 "مختصر الصواعق": (1/ 15) .

2 "الفتوى الحموية": ص 25.

ص: 177

لابد للنصوص من معنى- فبقوا مترددين بين الإيمان باللفظ وتفويض المعنى، وبين صرف اللفظ إلى معان بنوع من التكلف، وهذا التردد هو الذي وقع فيه من قال بالتفويض من هؤلاء كالبيهقي، والرازي.، فهم لم يلتزموا بهذا القول مطلقا، بل غالبا ما يخالفونه، كما فعل الرازي في تأسيسه حيث جنح إلى التأويل وترك القول بالتفويض.

القول الثالث: قول المشبهة، والمقصود بها الهشامية1 من الروافض، والكرامية2 وغيرهم.

وهؤلاء يثبتون استواء الله، وارتفاعه فوق عرشه، إلا أنهم تعمقوا في الكلام على كيفية ذلك الاستواء.

فالهشامية مثلا يقولون إن الله تعالى مماس لعرشه لا يفضل منه شيء في العرش ولا يفضل عن العرش شيء منه3

وأما الكرامية فقد تعددت أقوالهم في كيفية استوائه:

فمنهم من يقول: إنه على بعض أجزاء العرش.

1 هم أصحاب هشام بن عبد الحكم الرافضي من الإمامية، وتنسب إليه وإلى هشام بن سالم الجواليقي أحيانا من الإمامية المشبهة. انظر:"المقالات": (1/ 31- 34)، "الملل والنحل":(1/ 144- 147) .

2 هم أصحاب محمد بن كرام وهم طوائف يبلغ عددهم اثنتي عشرة فرقة وأصولها ستة هي: العابدية، والنونية، والزرينية، والإسحاقية، والواحدية، وأقربهم الهيصمية. انظر:"الملل والنحل": (1/ 144- 147) .

3 "الملل والنحل": (1/ 21) .

ص: 178

ومنهم من يقول: إن العرش مكان له، وأن العرش امتلأ به.

ومنهم من يقول: إنه لو خلق بإزاء العرش عروشا موازية لعرشه لصارت العروش كلها مكانا له، لأنه أكبر منها كلها.

ومنهم من يقول: إن بينه وبين العرش من البعد والمسافة ما لو قدر مشغولا بالجواهر لاتصلت به1.

وقول هؤلاء المشبهة إنما هو نتيجة لازمة لأقوالهم في صفات الله وكلامهم في ذاته.

فالهشامية يقولون: "إن الله جسم ذو أبعاض، له قدر من الأقدار، ولكن لا يشبه شيئا من المخلوقات، ولا يشبهه شيء".

ونقل عنهم أنهم قالوا: إنه سبعة أشبار بشبر نفسه، وأن له مكانا مخصوصا، وجهة مخصوصة، وأنه يتحرك، وحركته فعله، وليست من مكان إلى مكان، وهو متناه بالذات، غير متناه بالقدرة، وأنه مماس لعرشه، ولا يفضل منه شيء من العرش، ولا يفضل عن العرش شيء منه2.

وأما الكرامية فيقول عنهم ابن كرام: "إن معبوده مستقر على العرش استقرارا، وإنه بجهة فوق ذاتا، وإنه أحدي الذات، أحدي الجوهر، وإنه مماس للعرش من الصفحة العليا".

ولهم في معنى العظم خلاف فقال بعضهم: "إنه مع وحدته على

1 "الملل والنحل": (1/ 144- 147) .

2 "الملل والنحل": (2/ 22) .

ص: 179

جميع أجزاء العرش، والعرش تحته وهو فوقه كله، على الوجه الذي هو فوق جزء منه".

وقال بعضهم: إنه يلاقي مع وحدته من جهة واحدة أكثر من واحد، وهو يلاقي جميع أجزاء العرش وهو العلي العظيم.

وقالت المهاجرية منهم: إنه لا يزيد على عرشه في جهة المماسة ولا يفضل منه شيء على العرش، وهذا يقتضي أن يكون عرضه كعرض العرش.

وصار المتأخرون منهم إلى أنه تعالى بجهة فوق وأنه محاذ للعرش1.

الرد عليهم:

هذا القول للمشبهة يتضمن حقا وباطلا.

فالحق فيه هو: اعترافهم بعلو الله، واستوائه على عرشه، وأنه بائن عن خلقه، والخلق بائنون عنه.

وأما الباطل فهو: كلامهم في ذات الله، والتعرض لكيفية استوائه، وهو كلام باطل وفاسد ليس لهم به دليل من القرآن أو السنة، بل هو قول على الله بغير علم، فالله- سبحانه وتعالى لم يطلعنا على كيفية ذاته، فأنى لنا أن نعلم كيفية صفاته، وأمر الكيفية هو مما استأثر الله بعلمه قال تعالى:{وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَاّ بِمَا شَاءَ} 2.

1 انظر كتاب: "التجسيم عند المسلمين": ص 205.

2 سورة البقرة، الآية:255.

ص: 180

ومما يدلنا على فساد هذا القول وعدم وجود دليل لأصحابه على ما يقولون هو اختلاف آرائهم وأقوالهم عند الحديث عن ذات الله وكيفية استوائه، فمن خلال عرض أقوالهم يتضح اختلافهم وتناقضهم، وما ذاك إلا أنهم يفترون على الله الكذب، قال تعالى:{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} 1.

والسؤال الذي ينبغي أن يوجه إلى هؤلاء المشبهة في هذا المقام هو: أين الدليل من الكتاب أو السنة على ما تزعمون؟

والجواب معروف، وهو أنه لا دليل لهم على ذلك لا من القرآن ولا من السنة.

ومما ينبغي معرفته أن الكلام على كيفية ذات الله، أو كيفية استوائه، أو غيرها من الصفات، هو أمر غير جائز عند السلف، ويحرم الخوض فيه، بل ويبدعون السائل عن ذلك، ولذلك بدع الإمام مالك السائل الذي سأله عن كيفية استواء البارئ- عز وجل، حيث قال له:"الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة، والإيمان به واجب، وما أراك إلا رجل سوء"، وأمر به أن يخرج. وما قاله الإمام مالك هو الذي جاءت به النصوص، وهو الذي سار عليه السلف جميعا.

القول الرابع: مذهب السلف في الاستواء.

والمقصود بالسلف: هم الصحابة، والتابعون، ومن سار على نهجهم.

1 سورة النساء، الآية:82.

ص: 181

ولقد كان قولهم في الاستواء كقولهم في سائر صفات الله، فهم وسط بين طائفتين هم المعطلة والمشبهة.

فهم لا يمثلون صفات الله بصفات خلقه، ولا ذاته بذوات خلقه، كما يفعل المشبهة.

وكذلك لا ينفون عن الله ما وصف، به نفسه، ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم فيعطلون أسماءه وصفاته، ويحرفون الكلم عن مواضعه، ويلحدون في أسمائه وآياته. بل كان مذهبهم في سائر الصفات- بما في ذلك الاستواء- أنهم يصفون الله بما وصف به نفسه في كتابه، أو على لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم نفيا وإثباتا.

وطريقتهم في الإثبات أنهم يثبتون ما أثبته الله من الصفات من غير تكييف لها، ولا تحريف، ولا تمثيل، ولا تعطيل.

وطريقتهم في النفي أنهم ينفون عن الله ما نفاه عن نفسه مع إثبات ما أثبته من الصفات، فطريقة السلف هي إثبات أسماء الله وصفاته مع نفي مماثلة المخلوقين، فإثبات بلا تشبيه وتنزيه بلا تعطيل كما قال تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِير} 1، ففي قوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} رد للتشبيه والتمثيل، وفي قوله:{وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِير} رد للإلحاد والتعطيل2.

1 سورة الشورى، الآية:11.

2 انظر: "الرسالة التدمرية": ص 4- 7، ط. المطبعة السلفية، "الفتوى الحموية الكبرى": ص 16- 17، ط. المطبعة السلفية.

ص: 182

ولقد كانت هذه طريقة السلف في جميع الصفات دون تفريق بين صفة وصفة، وفي ذلك يقول الإمام أحمد- رحمه الله تعالى-:"لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم لا نتجاوز القرآن والسنة"1.

وبناء على هذه القاعدة كان مذهب السلف في صفة الاستواء أنهم يثبتون استواء الله على عرشه استواء يليق بجلاله وعظمته، ويناسب كبرياءه، وهو بائن من خلقه، وخلقه بائنون به.

فالاستواء صفة ثابتة في القرآن والسنة، وقد أجمع سلف الأمة على إثباتها، فذكر صفة الاستواء جاء في سبعة مواضع من القرآن الكريم، وقد تقدم ذكرها، كما أن السنة مليئة بالأحاديث الثابتة الصحيحة الدالة على علو الله، واستوائه على عرشه.

والسلف يقولون: إن معنى هذا الاستواء الوارد في الكتاب والسنة معلوم في اللغة العربية، كما قال ربيعة بن عبد الرحمن، والإمام مالك:"الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة" فقولهم: "الاستواء معلوم"، أي: أن معنى الاستواء معلوم في اللغة، وهو ههنا بمعنى العلو والارتفاع.

قال ابن القيم- رحمه الله: "إن لفظ الاستواء في كلام العرب الذي خاطبنا الله بلغتهم وأنزل به كلامه نوعان: مطلق، ومقيد.

1 "مجموع الفتاوى": (5/ 26) .

ص: 183

فالمطلق ما لم يوصل معناه بحرف مثل قوله تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى} 1، وهذا معناه: كمل وتم، يقال: استوى النبات، واستوى الطعام.

وأما المقيد فثلاث أضرب:

أحدهما: مقيد بـ"إلى" كقوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} ، واستوى فلان إلى السطح، وإلى الغرفة، وقد ذكر الله- سبحانه وتعالى المعدى بـ"إلى" في موضعين من كتابه، الأول: في سورة البقرة في قوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} ، والثاني في سورة فصلت:{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} 2، وهذا بمعنى العلو والارتفاع بإجماع السلف.

الثاني: المقيد بـ"على" كقوله تعالى: {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} 3، وقوله:{وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيّ} 4، وقوله:{فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} 5، وهذا - أيضا- معناه العلو والارتفاع والاعتدال بإجماع أهل اللغة.

الثالث: المقرون بواو "مع" التي تعدى الفعل إلى المفعول معه،

1 سورة القصص، الآية:14.

2 سورة فصلت، الآية:11.

3 سورة الزخرف، 1 لآية:13.

4 سورة هود، الآية:44.

5 سورة الفتح، الآية:29.

ص: 184

نحو استوى الماء والخشبة بمعنى: ساواها، وهذه معاني الاستواء المعقولة في كلامهم1.

ومما يؤكد- أيضا- أن السلف يعلمون معنى الاستواء قول ابن عبد البر: "والاستواء معلوم في اللغة ومفهوم وهو: العلو والارتفاع على الشيء، والاستقرار والتمكن فيه".

قال أبو عبيدة في قوله واستوى قال: علا، قال: وتقول العرب: استويت فوق الدابة، واستويت فوق البيت، وقال غيره: استوى، أي: انتهى شبابه، واستقر فلم يكن في شبابه مزيد، والاستواء الاستقرار في العلو، وبهذا خاطبنا الله عز وجل وقال:{لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} ، وقال:{وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيّ} ، وقال:{فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} 2.

وقال الشاعر:

فأوردتهم ماء بفيفاء قفرة

وقد حلق النجم اليماني فاستوى

وهذا لا يجوز أن يتأول فيه أحد: استولى، لأن النجم لا يستولي.

وقد ذكر النضر بن شميل- وكان ثقة، مأمونا، جليلا في علم الديانة واللغة- قال: "حدثني الخليل- وحسبك بالخليل- قال: أتيت أبا ربيعة الأعرابي، وكان من أعلم من رأيت، فإذا هو على سطح فسلمنا فرد علينا السلام، وقال لنا: استووا، فبقينا متحيرين ولم ندر ما قال؟

1 انظر: "مختصر الصواعق المرسلة": (2/ 126- 127) .

2 سروة المؤمنون، الآية:28.

ص: 185

فقال لنا أعرابي إلى جنبه: إنه أمركم أن ترتفعوا، قال الخليل: هو من قول الله عز وجل: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} فصعدنا إليه1.

وقال ابن القيم: "إن ظاهر الاستواء وحقيقته هو العلو والارتفاع، كما نص عليه جميع أهل اللغة والتفسير المقبول"2.

ولما كان هذا هو معنى الاستواء في لغة العرب فقد تكلم السلف والمفسرون بهذا المعنى عند تفسير هذه الآية، فقد روي عن مجاهد في تفسير قوله تعالى:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} قال: علا على العرش3، وقد روى ابن أبي حاتم في تفسيره بسنده عن أبي العالية في تفسير الآية السابقة الذكر قال: ارتفع4.

وقد روى عن الحسن البصري والربيع بن أنس مثله"5.

وقد روى اللالكائي بسنده عن بشر بن عمر قال: "سمعت غير واحد من المفسرين يقولون: إ {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ، قال: على العرش استوى: ارتفع6.

وفي هذا التفسير لمعنى الاستواء من قبل السلف رد على من زعم

1 "التمهيد": (7/ 131- 132) .

2 انظر: "مختصر الصواعق": (2/ 145) .

3 انظر: "فتح الباري": (13/ 403) .

4 "مجموع الفتاوى": (5/ 519) .

5 "مجموع الفتاوى": (5/ 519) .

6 "شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة": (3/ 397) .

ص: 186

أن مذهب السلف هو التقيد باللفظ مع تفويض المعنى المراد، وأنهم كانوا لا يفسرون الاستواء ولا يتكلمون فيه، فمن خلال ما تقدم من أقوال نقلت عن السلف يتضح كذب هؤلاء وزيف ادعائهم.

ومما ينبغي معرفته أن السلف مع إثباتهم لمعنى الاستواء، واعتقادهم بأن الله مستو على عرشه ومرتفع عليه، إلا أنهم يكلون علم كيفية ذلك الاستواء إلى الله- عز وجل لأن أمره هو مما استأثر الله بعلمه، وفي ذلك يقول القرطبي:"ولم ينكر أحد من السلف الصالح أنه استوى على عرشه حقيقة، وإنما جهلوا كيفية الاستواء، فإنه لا تعلم حقيقته، كما قال الإمام مالك: "الاستواء معلوم "- يعني في اللغة- والكيف مجهول والسؤال عنه بدعة"1.

وقال ابن القيم: "إن العقل قد يئس من تعرف كنه صفات الله وكيفياتها، فإنه لا يعلم كيف الله إلا الله، وهذا معنى قول السلف "بلا كيف"، أي: بلا كيف يعقله البشر، فإنه من لا تعلم حقيقة ذاته وماهيته، كيف تعرف كيفية نعوته وصفاته، ولا يقدح ذلك في الإيمان بها، ومعرفة معانيها، فالكيفية وراء ذلك، كما أنا نعرف معاني ما أخبر الله به من حقائق ما في اليوم الآخر، ولا نعرف حقيقة كيفيته مع قرب ما بين المخلوق والمخلوق، فعجزنا عن معرفة كيفية الخالق وصفاته أعظم وأعظم"2.

1 "تفسير القرطبي".

2 "مدارج السالكين": (3/ 359) .

ص: 187