الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: المذاهب في تعريف العرش
أولا: مذهب السلف:
قال الطبري- عند تفسير قوله تعالى: {وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ} 1-: يعني بالعرش: السرير. ثم ذكر بسنده عن السدي في تفسير هذه الآية قوله: "محدقين حول العرش، قال العرش: السرير"2. وقال الطبري في موضع آخر: {ذُو الْعَرْش} 3 يقول: ذو السرير المحيط بما دونه"4.
وقال البيهقي: "وأقاويل أهل التفسير على أن العرش: هو السرير، وأنه جسم مجسم خلقه الله، وأمر ملائكته بحمله، وتعبدهم بتعظيمه والطواف به، كما خلق في الأرض بيتا، وأمر بني آدم بالطواف به واستقباله في الصلاة،. وفي الآيات والأحاديث والآثار دلالة واضحة على ما ذهبوا إليه"5.
1سورة الزمر، الآية:75.
2"تفسير الطبري (24/ 37، 38) .
3 سورة غافر، الآية:15.
4"تفسير الطبري": (24/ 49) .
5 "الأسماء والصفات": ص 497.
وقال- أيضا-: "العرش: هو السرير المشهور فيها بين العقلاء"1.
وقال ابن كثير: "هو سرير ذو قوائم تحمله الملائكة، وهو كالقبة على العالم، وهو سقف المخلوقات"2.
وقال الذهبي- بعد أن ذكر سرر أهل الجنة-: "فما الظن بالعرش العظيم الذي اتخذه العلي العظيم لنفسه في ارتفاعه وسعته، وقوائمه وماهيته وحملته، والكروبيين الحافين من حوله وحسنه ورونقه وقيمته: فقد ورد أنه من ياقوته حمراء"3
قلت: وهذا الذي ذكره الطبري والبيهقي وابن كثير والذهبي في تعريف العرش، هو الذي جاءت به الآيات والأحا ديث والآثار، وهو ما ذهب إليه سلف الأمة وأئمتها في عرش الله، فهم يعتقون أن عرش الرحمن هو:
سرير: قال ابن قتيبة: "وطلبوا للعرش معنى غير السرير، والعلماء في اللغة لا يعرفون للعرش معنى إلا السرير، وما عرش من السقوف وأشباهها قال أمية بن أبي الصلت:
مجدوا الله وهو للمجد أهل
…
ربنا في السماء أمسى كبيرا
بالبناء الأعلى الذي سبق النـ
…
اس وسوى فوق السماء سريرا
شرجعا لا يناله بصر العيـ
…
ن ترى دونه الملائك صورا"4.
1 "الاعتقاد": ص 112.
2 "البداية": (1/ 12) .
3 "العلو": ص 57.
4"الاختلاف في اللفظ": ص. 24.
وقال ابن كثير: "العرش في اللغة: عبارة عن السرير الذي للملك، كما قال تعالى:{وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} 1 وليس هو فلكا، ولا تفهم منه العرب ذلك، والقرآن إنما نزل بلغة العرب، فهو سرير ذو قوائم
…
"2.
وأنه ذو قوائم: قال شارح "الطحاوية": "قد ثبت في الشرع أن له قوائم تحمله الملائكة، كما قال صلى الله عليه وسلم: "فإن الناس يصعقون، فأكون أول من يفيق، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور" 3"4.
وأنه مخلوق: قال الحافظ ابن حجر: "قوله: {وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} 5 إشارة إلى أن العرش مربوب، وكل مربوب مخلوق
…
، وفي إثبات القوائم للعرش دلالة على أنه جسم مركب له أبعاض وأجزاء، والجسم المؤلف محدث مخلوق"6.
وقد جاء ذكر خلق العرش في حديث أبي رزين العقيلي قال: يا رسول الله، أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه، قال:"كان في عماء، ما فوقه هواء، وما تحته هواء، ثم خلق عرشه على الماء"7.
1 سورة النمل، الآية:23.
2البداية": (1/ 11، 12) .
3 سيأتي تخريجه ص ا4.
4 "شرح العقيدة الطحاوية": ص 310، 311.
5سورة التوبة، الآية:129.
6 "فتح الباري": (13/ 455) .
7 سياتي تخريجه في التحقيق تحت رقم 7.
وأن الله سبحانه قد أمر ملائكته بحمله، وتعبدهم بتعظيمه:
تال تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} 1، وقال تعالى:{وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ} 2.
وعن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله من حملة العرش، إن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام"3.
وهو أعلى المخلوقات وأعظمها، وسقفها، وهو كالقبة على العالم، وما تحته بالنسبة إليه كحلقة في فلاة.
قال أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أبي زمنين في كتاب "أصول السنة": "ومن قول أهل السنة أن الله عز وجل خلق العرش، واختصه بالعلو والارتفاع فوق جميع ما خلق"4.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأما العرش فإنه مقبب، لما روي في "السنن" لأبي داود عن جبير بن مطعم قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم
1 سورة غافر، الآية:7.
2 سورة الحاقة، الآية:17.
3 أخرجه أبو داود في 9 "سننه"، كتاب السنة، باب في الجهمية:(96/5، حديث 4727) .
وأورده ابن كثير في "تفسيره": (4/ 414)، وعزاه إلى ابن أبي حاتم " وقال: إسناده جيد، ورجاله كلهم ثقات.
4 "أصول السنة": ص 282، تحقيق: احمد إبراهيم بن محمد بن هارون، رسالة ماجستير من قسم الدراسات العليا، الجامعة الإسلامية.
أعرابي فقال: يا رسول الله، جهدت الأنفس، وجاع العيال،- وذكر الحديث- إلى أن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن الله على عرشه، وإن عرشه على سمواته وأرضه، كهكذا" 1 وقال بأصابعه مثل القبة
…
وفي علوه قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس، فإنه وسط الجنة وأعالاها، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة"2.
فقد تبين بهذه الأحاديث أنه أعلى المخلوقات وسقفها، وأنه مقبب
…
"3.
وفي حديث أبي ذر المشهور قال: قلت يا رسول الله، أي ما أنزل عليك أعظم، قال:"آية الكرسي"- ثم قال: " يا أبا ذر ما السموات السبع مع الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على الحلقة" 4
وهذا القول للسلف في عرش الله هو ما جاءت به الآيات والأحاديث الصحيحة، وقد كان سلف الأمة وأئمتها- دائما- يصرحون بذلك في كتبهم عند الحديث عن هذه المسألة.
1 سياتي تخريجه في التحقيق تحت رقم 11.
2أخرجه البخاري في "صحيحه، كتاب التوحيد، باب {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ} . انظر: "فتح الباري": (13/ 404) .
3 "الفتاوى": (5/ 151) .
4سيأتي تخريجه في التحقيق تحت رقم 58.
وقد وافقهم- في هذا القول في عرش الله- الكلابية1، والكرامية2، ومتقدمو الأشاعرة3، وبعض الجهمية4،
1 هم أتباع أبي محمد عبد الله بن سعيد بن محمد بن كلاب (بضم الكاف وتشديد اللام) القطان، المتوفى بعد سنة 240 هـ بقليل، قال عنه ابن حزم إنه شيخ قديم للأشعرية.
انظر عنه وعن مذهبه: "لسان الميزان": "3/ 295، 291"، "طبقات الشافعية":(2/ 51)، "مقالات الأشعري":(1/ 298، 299)، "الملل والنحل":(1/ 48 1)، "أصول الدين": ص 89، 5 9، 97، 104، 109" وغيرها، "الفصل": (2/ 23 1) ، (4/ 208) .
2 الكرامية هم أتباع محمد بن كرام بن عراق بن حزبه السجستاني المتوفى سنة 255 هـ وهم يوافقون السلف في إثبات الصفات ولكنهم يبالغون في ذلك إلى حد التشبيه والتجسيم. انظر عن ابن كرام والكرامية: "لسان الميزان": (5/ 353، 356)، "ميزان الاعتدال":(4/ 21، 22)، "الفصل":(4/ 45، 204، 205)، "الملل والنحل":(1/ 5 8 1، 93 1)، "الفرق بين الفرق": ص 30، 137.
3هم أتباع أبي الحسن الأشعري، وهم ينقسمون إلى قسمين: متقدمين ومتأخرين، فالمتقدمون كأبي الحسن الأشعري- نفسه- والباقلاني، وهؤلاء يوافقون السلف في إثبات العرش والاستواء عليه، ولكنهم ينكرون أن يكون الاستواء صفة الله، وذلك لأنهم ينكرون قيام الأفعال الاختيارية بذات الله، وأما متأخروهم فمنهم الجويني، والغزالي، والرازي، والآمدي، وابن فورك، فهم الذين ينفون الصفات الخبرية، وسيأتي الكلام على قولهم في المسألة.
4 انظر: ص 276.
والمعتزلة1،2.
ثانيا: أقوال المخالفين:
القول الأول:
ما زعمه طائفة من الجهمية، والمعتزلة، والماتريدية3، وعامة متأخري الأشاعرة4، من أن معنى العرش في قوله تعالى:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} هو الملك.
قال الدارمي في كتابه "الرد على الجهمية": "باب: الإيمان بالعرش، وهو أحد ما أنكرته المعطلة.
فادعت هذه العصابة أنهم يؤمنون بالعرش ويقرون به، فقلت لبعضهم: ما إيمانكم به إلا كإيمان {الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بافْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ
1هم أتباع واصل بن عطاء الغزالي، الذي اعتزل مجلس الحسن البصري، وهم يقولون بنفي الصفات، وبالمنزلة بين المنزلتين وغيرها من المسائل.
انظر الكلام عنهم في: "ميزان الاعتدال": (3/ 274 (، "الفرق بين المرق ": ص 20، 21، و"الملل والنحل": (1/ 49) وغيرها.
2"شرح الأصول الخمسة": ص 226، "أصول الدين" للبغدادي: ص 112، "الفرق بين الفرق": ص 215، 216، "شرح جوهرة التوحيد": ص 181، "نقض التأسيس":(1/ 396"، 2/ 14، 15) .
3 هم أتباع أبي منصور محمد. بن محمد الماتريدي السمرقندي.
انظر قولهم في هذه المسألة في: "تأويلات أهل السنة" للماتريدي: (1/ 85) .
4"التبصر في الدين" للإسفرائيني: ص 158.
قُلُوبُهُمْ} 1، وكالذين:{وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَياطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} 2، أتقرون أن لله عرشا معلوما موصوفا فوق السماء السابعة تحمله الملائكة، والله فوقه كما وصف نفسه، بائن من خلقه، فأبى أن يقر به كذلك، وتردد في الجواب، وخلط ولم يصرح.
قال أبو سعيد: فقال لي زعيم منهم كبير: لا، ولكن لما خلق الله الخلق يعني السموات والأرض وما فيهن، سمى ذلك كله عرشا له، واستوى على جميع ذلك كله"3.
وقال ابن تيمية- في سياق كلامه على حمله العرش-: "ثم إن قوله تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ} 4، وقوله: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ} 5 يوجب أن لله عرشا يحمل، ويوجب أن ذلك العرش ليس هو الملك كما تقوله طائفة من الجهمية"6.
وقال الزمخشري: "إنه لما كان الاستواء على العرش- وهو سرير الملك- مما يردف الملك جعلوه كناية عن الملك، فقالوا: استوى فلان
1سورة المائدة، الآية:41.
2 سورة البقرة، الآية:14.
3"الرد على الجهمية": ص 12، 13.
4 سورة غافر، الآية:7.
5 سورة الحاقة، الآية:17.
6 "نقض تأسيس الجهمية": (1/ 576) .
على العرش، يريدون ملك، وإن لم يقعد على السرير ألبتة، وقالوه – أيضا - لشهرته في ذلك المعنى، ومساواته ملك في مؤداه، وإن كان أشرح وأبسط وأدل على صورة الأمر"1.
وقال البغدادي: "والصحيح عندنا تأويل العرش في هذه الآية على معنى الملك، كأنه أراد أن الملك ما استوى لأحد غيره، وهذا التأويل مأخوذ من قول العرب: ثل عرش فلان، إذا ذهب ملكه، قال متمم بن نويره في هذا المعنى:
عروش تفانوا بعد عز، وأمة
…
هووا بعدما نالوا السلامة والبقا
وأراد بالعروش ملوكا انقرضوا.
وقال سعيد بن زائدة الخزاعي في النعمان بن المنذر:
قد نال عرشا لم ينله حائل
…
جن ولا إنس ولاديار
وأراد بالعرش الملك والسلطان.
وقال النابغة:
بعد ابن جفنة وابن هاتك عرشه
…
والحارثين يؤملون فلاحا
وأراد بهاتك عرش ابن جفنة سالب ملكه، فصح بهذا تأويل العرش على الملك في آية الاستواء على ما بيناه"2.
وقال القفال: "العرش في كلامهم هو السرير الذي يجلس عليه الملوك، ثم جعل العرش كناية عن نفس الملك، يقال: ثل عرشه، أي:
1 "الكشاف ": (2/ 535) .
2 "أصول الدين": ص 112.
انتقض ملكه وفسد، وإذا استقام ملكه واطرد أمره وحكمه قالوا: استوى على عرشه، واستقر على سرير ملكه"1.
قال الآلوسي: "واختار كثير من ال خلف أن المراد بذلك: الملك والسلطان، وذكره لبيان جلالة ملكه وسلطانه- سبحانه- بعد بيان عظمة شأنه وسعة قدرته بما مر من خلق هاتيك الأجرام العظيمة"2.
الرد عليهم:
ما ذهب إليه هؤلاء المخالفون من تفسير معنى العرش الوارد في الآيات بمعنى الملك، إنما هو تاويل باطل، وصرف للفظ عن معناه إلى معنى آخر لا يحتمله.
والمتامل لهذا القول يرى ما فيه من التلبيس والمخالفة.
فقد سبق أن ذكرنا في المبحث اللغوي لكلمة عرش، أن لهذه الكلمة عدة معاني في اللغة العربية، ومن المعلوم أن معرفة المعنى المراد من تلك المعاني لهذه الكلمة أو غيرها، إنما يتحدد بحسب سياق الكلمة، وبحسب ما أضيفت إليه، وليس في سياق الآيات ما يثبت صحة ما ذهبوا إليه، كفا أن ما استدل به هؤلاء المخالفون من الأبيات الشعرية ليس إلا دليلا على أن الملك هو من المعاني اللغوية لكلمة عرش، وهذا أمر لا خلاف عليه، وهذا الاستدلال يماثل ما لو استدللنا على أن من معاني كلمة العرش السقف بقوله:{وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} ،
1 "التفسير الكبير" للرازي: ص 143، 1115.
2 "روح المعاني": (11/ 56) .
فليس في هذه الأبيات أي إشارة، لا من قريب ولا من بعيد على أن الملك هو المعنى المراد في الآيات الواردة في العرش، بل إن المتأمل للآيات والأحاديث الواردة في هذه المسألة، يرى أنها تدل دلالة واضحة وصريحة على أن المراد بالعرش هو ذلك المخلوق العظيم الذي خلقه الله تعالى فوق العالم كله، ثم استوى عليه بعد أن خلق السموات والأرض، وكذلك ترد على هؤلاء المخالفين زعمهم الباطل الذي هو في الحقيقة تحريف لكلام الله.
فيا ترى ماذا يصنع ذلك المخالف الذي يزعم أن العرش إنما هو كناية عن الملك والسلطان بقوله تعالى: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ} 1 هل يزعم أن الملك كان على الماء،
وكذلك ماذا يصنع بقوله تعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ} ، أيقول: ويحمل ملكه يومئذ ثمانية، وبقوله صلى الله عليه وسلم:"فإذا موسى آخذ بقائمة من قوائم العرش" 2، أيقول: آخذ بقائمة من قوائم الملك، وكذا قوله صلى الله عليه وسلم:"اهتز عرش الرحمن" 3، أيقول: اهتز ملكه وسلطانه،
1 سورة هود، الآية:7.
2أخرجه البخاري في "صحيحه"، كتاب الخصومات، باب ما يذكر في الأشخاص والخصومة بين المسلم واليهودي.
انظر: "فتح الباري": (5/ 70) ، ومسلم في "صحيحه"، كتاب الفضائل:(4/101، 102) .
3سيأتي تخريجه في التحقيق تحت رقم 48.
فخلاصة القول:
إن هذا التأويل إنما هو تأويل باطل، ترده الآيات، والأحاديث، ولا يمكن أن يقول به من له أدنى ذوق أو فهم، بل هو في الحقيقة تحريف لكلام الله تعالى.
وكذلك فإن ما استدل به المخالفون من الأبيات ليس فيه دليل لا من قريب أو بعيد على صحة ما زعموا، وذلك أنه ليس في سياق الآيات ما يؤيده، فاستدلالهم إنما هو نوع من التلبيس، وتحريف الكلم عن مواضعه.
القول الثاني:
زعم طائفة من أهل الكلام أن العرش فلك مستدير من جميع جوانبه، محيط بالعالم من كل جهة، وهو محدود الجهات، وربما سموه الفلك الأطلس، أو الفلك التاسع، أو الأثير، أو الفلك الأعلى1.
وفي ذلك يقول ابن سينا في رسالتة، "إثبات النبوات وتاويل رموزهم وأمثالهم":"ومن السهل عليك أن تفهم كيف أن العرش بنص القرآن يحمله ثمانية، فهذه الثمانية هي: الثمانية أفلاك التي تحت هذا الفلك المحيط"2.
1"البداية": (1/ 11)، "الرسالة العرشية": ص 2، "المفردات": ص 329، "روح المعاني":(24/ 45) .
2نقلا عن كتاب ابن سينا "بين الدين والفلسفة": ص 137، 139.
الرد عليهم:
إن المتامل لكلام هؤلاء المتكلمين كابن سينا وأمثاله يرى مدى تأثرهم بالفلاسفة وكلامهم، حتى أنهم وصلوا إلى درجة اعتقادهم أنه لا موجود إلا ما علموه هم والفلاسفة.
ولهذا كان هؤلاء الذين عرفوا ما عرفته الفلاسفة إذا سمعوا أخبار الأنبياء بالملائكة، والعرش، والكرسي، والجنة، والنار، صاروا حائرين ومتأولين لكلام الأنبياء على ما عرفوه وعلى ما تعلموه، وإن كان هذا التأويل لا دليل لهم عليه سوى ظنهم الفاسد بأنه لا موجود إلا ما عرفوه هم والفلاسفة، فقالوا العرش: هو الفلك التاسع، والكرسي: هو الفلك الثامن، فنفوا ما ليس لهم به علم"1، فانطبق عليهم قوله تعالى:{بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَما ياتِهِمْ تاوِيلُهُ} 2.
وقد ثبت أنه ليس لهؤلاء دليل يتمسكون به لا من الشرع ولا من العقل، وأن الذي دفعهم إلى هذا القول هو أنهم نظروا في عالم الهيئة وعلوم الفلسفة فرأوا أن الأفلاك تسعة، وأن التاسع وهو: الأطلس محيط بها، ومستدير كاستدارتها، وهو الذي يحركها الحركة الشوقية، وأن لكل فلك حركة تخصه غير هذه الحركة العامة، ثم سمعوا في أخبار الأنبياء- صلوات الله وسلام عليهم- ذكر عرش الله، وذكر كرسيه، وذكر السموات السبع، فقالوا- بطريق الظن-: إن العرش: هو الفلك التاسع لاعتقادهم
1 "الفتاوى": (7 1/ 335، 336) .
2سورة يونس، الآية:39.
أنه ليس وراء التاسع شيء، إما مطلقا، وإما أنه ليس وراءه مخلوق"1.
وهم معترفون بانه لم يقم لديهم دليل عقلي على صحة قولهم هذا، وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن أئمة الفلاسفة مصرحون بأنه لم يقم عندهم دليل على أن الأفلاك هي تسعة فقط، بل يجوز أن تكون أكثر من ذلك، ولكن دلتهم الحركات المختلفة والكسوفات ونحو ذلك على ما ذكروه، وما لم يكن لهم دليل على ثبوته فهم لا يعلمون ثبوته ولا انتفاءه.
مثال ذلك: أنهم علموا أن هذا الكوكب تحت هذا بان السفلي يكسف العلوي من غير عكس، فاستدلوا بذلك على أنه من فلك فوقه، كما استدلوا بالحركات المختلفة على أن الأفلاك مختلفة حتى جعلوا في الفلك الواحد عدة أفلاك، كفلك الدوير وغيره، فأما ما كان موجودا فوق هذا ولم يكن لهم ما يستدلون به على ثبوته، فهم لا يعلمون نفيه ولا إثباته بطريقهم
…
وإذا كان هؤلاء ليس عندهم ما ينفي وجود شيء آخر فوق الأفلاك التسعة، كان الجزم بان ما أخبرت به الرسل من أن العرش: هو الفلك التاسع- رجما بالغيب وقولا بلا علم"2.
ومع عدم وجود الدليل العقلي عند هؤلاء على صحة زعمهم، فكذلك الأدلة الشرعية ترد زعمهم هذا وتبطله.
1"الرسالة العرشية": ص 2- 3.
2"الرسالة العرشية": ص 2.
وقد ذكر شيح الإسلام ابن تيمية في معرض رده على هؤلاء المتكلمين في رسالته "العرشية" أن الآيات والأحاديث قد دلت على أن العرش مباين لغيره من المخلوقات، وأن الله قد اختصه وميزه بأمور كثيرة، منها أن له حملة يحملونه اليوم ويوم القيامة، وأن الله قد أخبر بوجوده قبل خلق السموات والأرض، وقبل وجود الأفلاك، وأن الله سبحانه تمدح نفسه بانه ذو العرش، ووصف العرش بأنه مجيد وعظيم وكريم، فكل هذه الميز والخصائص تبطل قول المنازع، لأنه يقول بان نسبة الفلك الأعلى إلى ما دونه كنسبة الآخر إلى ما دونه، ذلك، لأنه لو كان العرش من جنس الأفلاك لكان إلى ما دونه كنسبة الآخر إلى ما دونه، وهذا لا يوجب خروجه عن الجنس وتخصيصه بالذكر"1.
كما أن مما يدل على فساد قولهم ما ثبت في الشرع من أن للعرش قوائم، وأنه يهتز، ومعلوم أن الأفلاك مستديرة، وليس لها قوائم، كما أنها متحركة دائما بحركة متشابهة لا تتغير، كما ثبت- أيضا- أن العرش أثقل الأوزان2، وهم يقولون إن الفلك لا ثقيل ولا خفيف3.
فعلم مما تقدم انتفاء الدليل العقلي عند هؤلاء، كما علم مخالفتهم للأدلة الشرعية وإبطالها لأقوالهم، ويضاف إلى هذا- أيضا- مخالفتهم للغة العرب، فالعرب لا تفهم من كلمة العرش هذا المعنى، ولا هو
1 "الرسالة العرشية": ص 3- 7.
2 سيأتي ذكر الحديث. انظر: ص 61.
3 "جلاء العينين في محاكمة الأحمدين": ص 363.
مستعمل في لغتها والقرآن إنما نزل بما يفهمون.
وبعد هذا كله لا تبقى أدنى شبهة في فساد هذا القول وبطلانه. والله أعلم.