الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويضطر السائر المسكين إلى ركوب الظلمة ودخول النفق فاذا لم تكن البصائر على يقين والابصار على وضوح ، فالكارثة ستقع لا محالة ، ويكون التّيه الذي لا يدرى فيه ما المخرج.
ولذا فالانوار الكاشفة في هذا النفق تتمثل في الاستمساك بوضوح المنهج: الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة ، قال الله نعالى:"وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ "(التوبة: 100).
لابد أن تنتبه إلى " وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ "، فالإحسان: الرؤية ، ليس مجرد الاتباع وإنما احسان الاتباع .. والاحسان ان ترى ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الاحسان أن تعبد الله كأنك تراه " متفق عليه
(البخارى: 50 ، ومسلم: 9) .. هذا اول مخرج من النفق.
أما النور الثانى للمخرج من هذا النفق المظلم فهو الا تشغل نفسك بالمناقشات والجدال والردود وإنما " بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ "(القيامة: 14).
اعرف طريقك وامض ، فان كان ولابد فألق النصيحة وانطلق .. فأخسر الناس صفقة من انشغل بالناس عن نفسه وأخسر منه صفقة من انشغل بنفسه عن الله .. فاعرف كواشف الانفاق لتخرج من هذا الظلام بسلام.
الآفة الرابعة: جسر على الطريق:
وفى الطريق - أيها السائر الحبيب - جسر لابد من تجاوزه وعبوره
إذ إن هذا شأن السالكين إلى الله - تعالى - في كل زمان ومكان بل وانه من شأن الأنبياء والمرسلين ، ذالكم الجسر هو الابتلاء والمحن التي تصيب السائر.
فلابد في هذا الطريق أن يصقله الابتلاء وأن تظهر معدنه المحنة ، قال لله - تعالى - " أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ "
(العنكبوت: 2 - 3) .. وكان اول تبشير الرسول صلى الله عليه وسلم بالنبوة انذاره بالاخراج .. قال ورقة: ما أتى رجل بمثل ما أوتيت به الا عودى .. وقال الراهب للغلام: أنت اليوم أفضل منى وانك ستبتلى .. وقيل للشافعى: أحب إليك أن يمكن الرجل أو يبتلى ، قال لا يمكّن حتى يبتلى.
فالجسر إلى التمكين في هذا الطريق هو الابتلاء .. ولابد من الصبر فيه الاحتساب والرضا عن الله تعالى وبه ، فانه جسر الوصول .. وقد حفت الجنة بالمكاره .. يقول ابن القيم:
" وان تأملت حكمته سبحانه وتعالى فيما ابتلى به عباده وصفوته بما ساقهم به إلى أجلّ الغايات واكمل النهايات التي لم يكونوا يعبرون اليها الا على جسر من الابتلاء والامتحان ، وكان ذلك الجسر لكماله كالجسر الذي لا سبيل إلى عبورهم إلى الجنة الا عليه ، وكان ذلك الابتلاء والامتحان عين المحنة في حقهم والكرامة ، فصورته صورة ابتلاء وامتحان ، وباطنه فيه الرحمة والنعمة ، فكم لله
من نعمة جسيمة ومنة عظيمة تجنى من قطوف الابتلاء والامتحان ".
وللمحن في هذا الطريق خصائص ومميزات ، فكما أن المسلم يجب ألا ينفك عن عبادة ما .. " قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ " (الانعام: 162) فلابد أن يكون شعوره بالابتلاء هكذا: أنه في عبادة يدوم معه في كل حركاته وسكناته حتى يستصحب نية العبد على البلاء واحتساب الاجر عند السميع البصير " الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ "(الشعراء: 218 - 219).
وهذا الجسر خطير .. جسر الابتلاء .. فان كثيرا من السالكين ضعفت قوته عن عبوره فرجع القهقرى وترك الطريق.
ثم يطالعك جسر اخر على الطريق .. وهو النفس - نعوذ بالله تعالى - من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا.
يقول ابن القيم في المدارج:
" فالنفس جبل عظيم شاق في طريق السير إلى الله عز وجل وكل سائر لا طريق له الا على ذلك الجبل ، فلابد أن ينتهى إليه ، ولكن منهم من هو شاق عليه ، ومنهم من هو سهل عليه ، وانه ليسير على من يسره الله عليه.
وفى ذلك الجبل أودية وشعوب وعقبات ووهود وشوك وعوسج وعلّيق وشبرق ، ولصوص يقتطعون الطريق على السائرين ولا سيما اهل الليل المدلجين ، فاذا لم يكن معهم عدد الايمان ومصابيح اليقين تتقد
بزيت الاخبات والا تعلقت بهم تلك الموانع ، وتشبثت بهم تلك القواطع وحالت بينهم وبين السير.
فان أكثر السائرين فيه رجعوا على اعقابهم لما عجزوا عن قطعه واقتحام عقباته ، والشيطان على قلة ذلك الجبل يحذر الناس من صعوده وارتفاعه ويخوفهم منه. فيتفق مشقة الصعود وقعود ذلك المخوف على قلته وضعف عزيمة السائر ونيته فيتولد من ذلك: الانقطاع والرجوع والمعصوم من عصمه الله. وكلما رقى السائر في ذلك الجبل اشتد به صياح القاطع وتحذيره وتخويفه ، فاذا قطعه وبلغ قلته انقلبت تلك المخاوف كلهن أمانا ، وحينئذ يسهل السير ، وتزول عنه عوارض الطريق ومشقة عقباتها ويرى طريقا واسعا آمنا يفضى به إلى المنازل والمناهل ، وعليه الاعلام وفيه الاقامات ، قد أعدت لركب الرحمن.
فبين العبد وبين السعادة والفلاح: قوة عزيمة وصبر ساعة وشجاعة نفس وثبات قلب ، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ".
فالنفس أمارة بالسوء ، داعية إلى المهالك طامحة إلى الشهوات ولذا فهى أيضا جسر لابد من عبوره .. أتى رجل إلى أبى على الدقاق فقال: قطعت إليك مسافة ، فقال: ليس هذا الامر بقطع المسافات ، فارق
نفسك بخطوة تصل إلى المطلوب ، فلابد من عبور جسر النفس ، شهواتها ، ملذاتها ، أهوائها ، آمالها .. لابد أن تعبر مرحلة " نفسى وما تشتهى " لتصل عبر جسر نفسك إلى ما يرضى ربك.
ويزيدك بصيرة في الامر قول ابن القيم رحمه الله في طريق الهجرتين:
" وكلما سكنت نفسه من كلال السير ومواصلة الشد والرحيل ، وعدها قرب التلاقى وبرد العيش عند الوصول ، فيحدث لها ذلك نشاطا وفرحا وهمة فهو يقول: يا نفس أبشرى فقد قرب المنزل ودنا التلاقى فلا تنقطعى في الطريق دون الوصول فيحال بينك وبين منازل الأحبة ، فان صبرت وواصلت السير وصلت حميدة مسرورة جزلة وتلقتك الأحبة بأنواع التحف والكرامات ، وليس بينك وبين ذلك الا صبر ساعة ، فان الدنيا كلها لساعة من ساعات الاخرة وعمرك درجة من درج تلك الساعة ، فالله الله لا تنقطعى في المفازة ، فهو - والله - الهلاك والعطب لو كنت تعلمين.
فإن استصعبت عليه فليذكرها ما أمامها من أحبابها ، وما لديهم من الاكرام والانعام ، وما خلفها من أعدائها وما لديهم من الاهانة والعذاب وأنواع البلاء ، فان رجعت فإلى أعدائها رجوعها ، وان تقدمت فإلى أحبابها مصيرها ، وان وقفت في طريقها أدركها أعداؤها. فانهم وراءها في الطلب. ولابد لها من قسم من هذه الاقسام الثلاثة فلتختر أيها شاءت
وليجعل حديث الأحبة وشأنهم حاديها وسائقها. ونور معرفتهم وارشادهم هاديا ودليلها ، وصدق ودادهم وحبهم غذاءها وشرابها ودواءها ، ولا يوحشه انفراده في طريق سفره. ولا يغتر بكثرة المنقطعين ، فألم انقطاعه وبعاده واصل إليه دونهم وحظه من القرب والكرامة مختص به دونهم فما معنى الاشتغال بهم والانقطاع معهم؟ وليعلم أن هذه الوحشة لا تدوم بل هى من عوارض الطريق ، فسوف تبدو له الخيام ، وسوف يخرج إليه المتلقون يهنئونه بالسلامة والوصول اليهم ، فيا قرة عينه إذ ذاك ، ويا فرحته إذ يقول "يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ " (يس: 26 - 27).
ولا يستوحش مما يجده من كثافة الطبع وذوب النفس وبطء سيرها ، فكلما أدمن على السير وواظب عليه غدوا ورواحا وسحرا، قرب من المنزل وتلطفت تلك الكثافة وذابت تلك الخبائث والادران ، فظهرت عليه همة المسافرين وسيماهم ، فتبدلت وحشته أنسا وكثافته لطافة ودرنه طهارة ".
هذا هو جسر النفس .. البلاء الأكبر .. والعائق الاشد .. يشبه الجسر المعلق الذي لا جوانب له يستند عليها السائر .. فهو خطر جدا لابد عند المرور عليه من التركيز والهدوء .. والتيقظ والانتباه لكل حركة يد ونقلة رجل .. والا .. فالسقوط.
نعم: انه جسر واهن .. من كثرة الذنوب والمعاصى .. ولذا كان
على السائر أن يأخذ حذره .. ويتدرب المرة بعد المرة .. ويحاول ويعيد ، ثم يحاول ويعيد حتى ينجح في ترويض نفسه على عبور تلك الجسور.
وبعد - أيها السائر الحبيب -: فيا سعادة من جاهد تلك الافات .. نعم: انها أشواك ، لكنها أشواق يستشعر فيها السائر لذة الألم لله .. واحتساب الاجر من الله .. فدس الشوك وسر إلى الله.
فقد اقتضت سنة الخالق أن العسل لا يحصل عليه الا بلسع النحل .. فما كان للمسافر إلى الله أن يحصل على ما يفيده في طريق وصوله الا بشىء من المكابدة والعسر.
يقول ابن القيم - عليه رحمة الله -:
" وما أقدم أحد على تحمل مشقة عاجلة الا لثمرة مؤجلة ، فالنفس موكلة بحب العاجل ، وإنما خاصة العقل: تلمح العواقب ، ومطالعة الغايات ، وأجمع عقلاء كل أمة على أن النعيم لا يدرك بالنعيم ، وان من رافق الراحة حصل على المشقة وقت الراحة في دار الراحة ، فان على قدر التعب تكون الراحة ".