الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأصل الثالث عشر: الاعتصام بالله عقيدة وعمل ودعاء
قال - تعالى - " قل من ذا الذى يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا "(الأحزاب: 17) ، إذا فالإنسان يحتاج مولى ونصيرا ، وليس لك من دون الله ولى ولا نصير ، فلذلك إذا أردت الولىّ والنصير فاعتصم بالله ، قال - تعالى -" ومن يعتصم بالله فقد هدى " (آل عمران: 101) .. ولكن كيف نعتصم بالله؟.
امرأة العزيز قالت: " ولقد راودته عن نفسه فاستعصم "(يوسف:32) .. كيف استعصم؟ ..
أولا: عقيدة: قال: " معاذ الله " .. أعوذ بالله ، ألتجىء إلى الله وأحتمى به وحده .. ولم يقل لها: هل أصابك الجنون؟! .. ولم يقل أيضا: ألا تعرفين من أنا؟! ، أنا يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام .. ، أنا ابن هؤلاء الأنبياء .. لم يقل لها: اذهبى لحالك يا بنية هداك الله .. لم يقل ذلك ، وإنما قال: معاذ الله ، عقيدة أن الذى ينجّينى هو الله.
أيضا لما فشلت امرأة العزيز وسمعت النسوة يتكلمن ، قالت فى نفسها: آتى بهن إليه أم آتى به إليهن؟ .. الأمران .. أتت بهن وأقعدتهن وأخرجته عليهن .. خرج ولم يكن أمامه كيد امرأة بل كيد نساء ، فقال فى التو:" رب السجن أحب إلىّ مما يدعوننى إليه "(يوسف: 33) .. يا رب ،
السجن أحب إلىّ من حرير امرأة العزيز .. سبحان الله! .. تشم رائحة الصدق من الكلام.
بالله عليك - أخىّ - هل تجد فى نفسك هذه النقطة؟ .. إننا - وللأسف - نضحك من انفسنا .. نهرج ونلعب فى دين الله .. هل فعلا السجن أحب إليك من دعوة الفاتنات أو الغانيات الفاجرات؟ .. قال يوسف: يا رب ، عذاب السجن أحسن عندى من قصور العزيز .. العذاب من أجلك يا رب أحب إلىّ من أن أنام وأنا لك عاص .. هذا هو الاعتصام ، فكن على عقيدة صادقة بالله لتعتصم بها وقت الشدائد ، يقول ربى فى يوسف عليه السلام:" ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزى المحسنين "(يوسف: 22).
" فقد أوتى صحة الحكم على الامور ، وأوتى علما بمصائر الأحداث أو بتأويل الرؤيا ، أو بما هو أعم ، من العلم بالحياة وأحوالها ، فاللفظ عام ويشمل الكثير ، وكان ذلك جزاء إحسانه فى الاعتقاد وإحسانه فى السلوك:
…
" وكذلك نجزى المحسنين " .. وعندئذ تجيئه المحنة الثانية فى حياته ، وهى أشد وأعمق من المحنة الأولى ، تجيئه وقد أوتى صحة الحكم وأوتى العلم - رحمة من الله - ليواجهها وينجو منها جزاء إحسانه الذى سجله الله فى قرآنه.
والآن نشهد ذلك المشهد العاصف الخطير المثير كما يرسمه التعبير:
" وراودته التى هو فى بيتها عن نفسه وغلقت الابواب وقالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربى أحسن مثواى إنه لا يفلح الظالمون "(يوسف: 23) ..
وإذن فقد كانت المراودة فى هذه المرة مكشوفة ، وكانت الدعوة فيها سافرة إلى الفعل الاخير .. وحركة تغليق الابواب لا تكون أول دعوة من المرأة ، إنما تكون هى الدعوة الاخيرة ، وقد لا تكون أبدا إذا لم تضطر إليها المرأة اضطرارا ، والفتى يعيش معها وقوته وفتوته تتكامل ، وأنوثتها هى كذلك تكمل وتنضج ، فلابد كانت هناك إغراءات شتى خفيفة لطيفة ، قبل هذه المفاجأة الغليظة العنيفة ، " قال معاذ الله إنه ربى أحسن مثواى إنه لا يفلح الظالمون " ..
" معاذ الله " ..
أعيذ نفسى بالله أن أفعل ، " إنه ربى أحسن مثواى " ..
وأكرمنى بأن نجانى من الجبّ وجعل فى هذه الدار مثواى الطيب الآمن.
" إنه لا يفلح الظالمون " .. الذين يتجاوزون حدود الله ، فيرتكبون ما تدعيننى اللحظة إليه " .. عقيدة .. عقيدة فى الله اعتصم بها يوسف فنجاه الله من الفتنة.
ويقول شيخ الإسلام وعلم الأعلام ابن القيم - رحمه الله تعالى - فى المفاسد العاجلة والآجلة لعشق الصور:
" والله سبحانه وتعالى إنما حكى هذا المرض طائفتين من الناس ، وهم قوم لوط والنساء ، فأخبر عن عشق امرأة العزيز ليوسف ، وما راودته وكادته به ، وأخبر عن الحال التى صار إليها يوسف بصبره وعفته وتقواه ، مع أن الذى ابتلى به أمر لا يصبر عليه إلا من صبره الله عليه ، فإن موافقة الفعل بحسب قوة الداعى وزوال المانع ، وكان الداعى ها هنا فى غاية القوة ، وذلك لوجوه:
أحدها: ما ركّب الله - سبحانه - فى طبع الرجل من ميله إلى المرأة ، كما يميل العطشان إلى الماء ، والجائع إلى الطعام ، حتى إن كثيرا من الناس يصبر على الطعام والشراب ولا يصبر على النساء ، وهذا لا يذم إذا صادف حلالا.
الثانى: أن يوسف عليه السلام كان شابا ، وشهوة الشباب وحدته أقوى.
الثالث: أنه كان عزبا لا زوجة له ولا سرية تكسر حدة الشهوة.
الرابع: أنه كان فى بلاد غربة لا يتأتى للغريب فيها قضاء الوطر ، ما يتأتى لغيره فى وطنه وأهله ومعارفه.
الخامس: ان المرأة كانت ذات منصب وجمال ، بحيث إن كل واحد من هذين الامرين يدعو موافقتهما.
السادس: إنها غير آبية ولا ممتنعة ، فإن كثيرا من الناس يزيل رغبته فى
المرأة إباؤها وامتناعها ، لما يجد فى نفسه من ذل النفس والخضوع والسؤال لها.
السابع: أنها طلبت وأرادت وبذلت الجهد ، فكفته مؤونة الطلب وذل الرغبة إليها ، بل كانت هى الراغبة الذليلة وهو العزيز المرغوب إليه.
الثامن: أنه فى دارها وتحت سلطانها وقهرها ، بحيث يخشى إن لم يطاوعها من أذاها له ، فاجتمع داعى الرغبة والرهبة.
التاسع: أنه لا يخشى أن تنم عليه هى ولا احد من جهتها ، فهاهى الطالبة والراغبة ، وقد غلقت الابواب وغيبت الرقباء.
العاشر: أنه كان مملوكا لها فى الدار ، بحيث يدخل ويخرج ويحضر معها ، ولا ينكر عليه ، وكان الامن سابقا على الطلب ،وهو أقوى الدواعى.
الحادى عشر: أنها استعانت عيه بأئمة المكر والاحتيال ، فأرته إياهن وشكت حالها إليهن ، لتستعين بهن عليه ، فاستعان هو بالله عليهن ، فقال:" وإلا تصرف عنى كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين "(يوسف: 33).
الثانى عشر: أنها توعدته بالسجن والصغار ، وهذا نوع إكراه ، إذ هو تهديد ممن يغلب على الظن وقوع ما هدد به ، فيجتمع داعى الشهوة ، وداع حب السلامة من ضيق السجن والصغار.
الثالث عشر: أن الزوج لم يظهر من الغيرة والنخوة ما يفرق به بينهما ، ويبعد كلا منهما عن صاحبه.
ومع هذه الدواعى كلها فقد آثر مرضاة الله وخوفه ، وحمله حبه لله على أن يختار السجن على الزنا ، فقال:
" رب السجن أحب إلىّ مما يدعوننى إليه "(يوسف: 33) ، وعلم أنه لا يطيق صرف ذلك عن نفسه ، وأن ربه - تعالى - إن لم يعصمه ويصرف عنه كيدهن صبا إليهن بطبعه ، وكان من الجاهلين ، وهذا من كمال معرفته بربه وبنفسه.
ثم إن الاعتصام لن يكون إلا إذا كان هناك عمل ودعاء .. فمثلا: الاخ الذى أقول له تب ، فيقول: ادع لى يا " عم الشيخ "، أقول له: يا بنى ، " تب " هذه تحتاج إلى عمل وشغل ، وأن تدعو أنت لنفسك أولا ، ثم ادعو أنا لك بعد ذلك .. يوسف عليه السلام كان محسنا .. محسنا فى الاعتقاد ومحسنا فى السلوك ، وفوق ذلك دعا بالعصمة ، فكانت النجاة .. نجا لأنه فى الاصل أحسن العمل.
نعم: كان يوسف محسنا مع ربه وأيضا مع الناس ، وقد سمى الله قصته " أحسن القصص " (يوسف: 3)
ووصفه السجناء بالاحسان فقالوا: " نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين "(يوسف: 36) ..
وبالاحسان مكنه الله - تعالى - فى الارض ، " وكذلك مكنا ليوسف فى الارض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين " (يوسف: 56) .. وقال له إخوته وهم لا يعرفونه: " فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين "(يوسف: 78) .. ثم أثنى على ربه بإحسانه إليه: " وقد أحسن بى إذ أخرجنى من السجن "(يوسف: 100).
قال - تعالى - " ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين "(يوسف: 24)، وهؤلاء ليس للشيطان عليهم سلطان ألبتة .. ومع كل ذلك فزع يوسف إلى الله وقال:" معاذ الله إنه ربى أحسن مثواى إنه لا يفلح الظالمون "(يوسف: 23). ولابد أن نعلم أن طهارة يوسف عليه السلام كانت أساس الاعتصام .. إذا فالاعتصام بالله لابد أن يكون على عقيدة راسخة بالله وعمل دائم له ، وسلوك قويم معه - سبحانه - ومع الناس.
نعم - إخوتاه -: الاعتصام عمل .. الاعتصام دعاء .. الاعتصام عقيدة.
فاربط قلبك بالله وحده ، واصدق معه ، واعمل ما فى وسعك ، وادع بإخلاص ، يعصمك الله فتهتدى إلى طريق الوصول إليه.
قال ربك " ومن يعتصم بالله فقد هدى إلى صراط مستقيم "(آل عمران: 101).
قال ابن كثير رحمه الله: "أى ومع هذا فالاعتصام بالله والتوكل عليه هو العمدة فى الهداية ، والعدة فى مباعدة الغواية ، والوسيلة إلى الرشاد ، وطريق السداد وحصول المراد ".
فاعتصم بالله يا طالب الوصول
*
…
*
…
*