المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌بحث في قول أهل الحديث " رجال إسناده ثقات - الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني - جـ ٤

[الشوكاني]

فهرس الكتاب

- ‌بحث في قول أهل الحديث " رجال إسناده ثقات

- ‌القول المقبول في رد خبر المجهول من غير صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌بحث في الجواب على من قال أنه لم يقع التعرض لمن في حفظه ضعف من الصحابة

- ‌سؤال عن عدالة جميع الصحابة هل هي مسلمة أم لا

- ‌رفع البأس عن حديث النفس والهم والوسواس

- ‌الأبحاث الوضية في الكلام على حديث (حب الدنيا رأس كل خطية)

- ‌سؤال عن معنى بني الإسلام على خمسة أركان وما يترتب عليه

- ‌الأذكار (جواب على بعض الأحاديث المتعارضة فيها)

- ‌بحث في الكلام على حديث " إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن اجتهد وأخطأ فله أجر واحد

- ‌جواب عن سؤال خاص بالحديث " لا عهد لظالم " وهل هو موجود فعلا من عدمه

- ‌فوائد في أحاديث فضائل القرآن

- ‌بحث في حديث "لعن الله اليهود لاتخاذهم قبور أنبيائهم مساجد

- ‌إتحاف المهرة بالكلام على حديث: "لا عدوى ولا طيرة

- ‌بحث في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنما الأعمال بالنيات

- ‌بحث في حديث: "لو لم تذنبوا لذهب الله بكم .. إلخ

- ‌بحث في بيان العبدين الصالحين المذكورين في حديث الغدير

- ‌بحث في حديث (أجعل لك صلاتي كلها) وفي تحقيق الصلاة على الآل ومن خصهم

- ‌تنبيه الأعلام على تفسير المشتبهات بين الحلال والحرام

الفصل: ‌بحث في قول أهل الحديث " رجال إسناده ثقات

‌بحث في قول أهل الحديث " رجال إسناده ثقات

"

تأليف العلامة

محمد بن علي الشوكاني

ويليه: مناقشة للجواب السابق من القاضي محمد بن أحمد مشحم

حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه

محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

ص: 1600

وصف المخطوط

1 -

عنوان الرسالة: " بحث في قول أهل الحديث: رجال إسناده ثقات ".

2 -

موضوع الرسالة: يبحث في جانب من جوانب علم مصطلح الحديث.

3 -

الرسالة ضمن المجلد الثالث من (الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني).

4 -

أول الرسالة: " بسم الله الرحمن الرحيم، أحمدك لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك

".

5 -

آخر الرسالة: "

وإن الفرق ما بين الجودة والقوة وما بين الصحة هو الفرق بين الحديث الصحيح والحسن، والإسناد الصحيح والحسن والكلام في ذلك معروف ". انتهى تحرير الجواب في ليلة الأحد، لعله خامس وعشرون شهر جمادى الآخرة سنة 1217. بقلم المجيب: محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما.

6 -

نوع الخط: خط نسخي معتاد.

7 -

عدد الأوراق: (21).

8 -

المسطرة: 22 - 26 سطرا.

9 -

عدد الكلمات في السطر: (11 - 13) كلمة.

10 -

الناسخ: المؤلف: محمد بن علي الشوكاني.

ص: 1601

بسم الله الرحمن الرحيم

أحمدُك لا أحصي ثناء عليك. أنت كما أثنيت على نفسك، وأصلي وأسلم على رسولك وعلى آله الطاهرين، ورضي الله عن أصحابه الراشدين.

قلتم: - كثر الله فوائدكم، ونفع بعلومكم - تحرير السؤال. إن جماعة من المتأخرين يصححون الحديث لكون رجاله ثقات، فتراهم إذا وقفوا على قول أحد من الحفاظ. إن رجال هذا السند ثقات أو بحثوا في التقريب (1) أو نحوه (2).

فوجدوا توثيق رجال سند حكموا على الحديث بالصحة، وهذا كثيرًا ما يقع في شرح المناوي (3) حتى أنه اعترض على السيوطي (4) لما رمز لحسن حديث "أمروا النساء في أنفسهن" (5) فقال:

(1) وهو تقريب التهذيب لـ (أحمد بن علي بن حجر العسقلاني) طبع عدة مرات.

(2)

"الكاشف في معرفة من له رواية في الكتب الستة" للإمام الذهبي ت 748 هـ ط. أولى سنة 1403هـ - 1983م دار الكتب العلمية.

"وتهذيب التهذيب" لـ (أحمد بن علي بن حجر العسقلاني). ط أولى 1416 هـ - 1996 م مؤسسة الرسالة.

(3)

في فيض القدير شرح الجامع الصغير (1/ 56 رقم: 18).

(4)

في الجامع الصغير رقم: (18).

(5)

أخرجه أبو داود رقم: (2095) وعنه البيهقي (7/ 115) من طريق إسماعيل بن أمية: ثني الثقة: عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمروا النساء في بناتهن" وهو حديث ضعيف.

وقال الألباني في الضعيفة (3/ 677): وهذا إسناد ضعيف لجهالة "الثقة" فإن مثل هذا التوثيق لشخص مجهول العين عند غير الموثق غير مقبول كما هو مقرر في "الأصول" ولذلك رمز السيوطي لحسنه غير حسن إن صح ذلك عنه، فإن المناوي قد نص في مقدمة "فيض القدير" على ما يجعل الواقف على الرمز لا يثق به، ومع ذلك فكثيرًا ما يقول: كما قال في هذا الحديث "ورمز المؤلف لحسنه" ويقره وهو غير مستحق له، كما ترى، بل قلده في الكتاب الآخر، فقال في التيسير: "

بإسناد حسن".

ص: 1605

إنه لا يبلغ درجة الصحة، وليس كذلك، فقد قال الهيثمي (1) بعد عزوه للطبراني (2) رجاله ثقات، هكذا جزم به وقال في حديث "ابن السبيل أول شارب" (3) قال الهيثمي (4): رجاله ثقات، فرمز المؤلف (5) تقصير، وحقه الرمز لصحته، ونحو هذا كثير في كلامه.

(1) في المجمع (4/ 279).

(2)

في المعجم الكبير (17/ 138).

(3)

أي: "من ماء زمزم" من حديث أبي هريرة. وهو حديث منكر.

(4)

في مجمع الزوائد (3/ 286) وقال: رواه الطبراني في الصغير (رقم 252 - الروض الداني) ورجاله ثقات.

(5)

في فيض القدير (1/ 88). وقال المناوي في التيسير لشرح الجامع الصغير (1/ 18) بعد أن عزاه للطبراني في الصغير: "رجاله ثقات لكنه فيه نكارة.".

تنبيه: - اشتهر بين كثير من العلماء الاعتماد على رموز السيوطي للحديث بالصحة والحسن أو الضعف، ونرى أنه غير سائغ للأسباب الآتية:

1\ أن الرموز قد طرأ عليها التحريف والتغيير من الناسخ أو الطباع كما يعلم ذلك أهل المعرفة والعلم بالكتاب، وإليك شاهدًا على ما أقول، قول أعرف الناس به، ألا وهو العلامة عبد الرءوف المناوي، قال في شرحه عليه فيض القدير (1/ 41):"وأما ما يوجد في بعض النسخ من الرمز إلى "الصحيح" و"الحسن" و"الضعيف" بصورة رأس صاد، وحاء، وضاد، فلا ينبغي الوثوق به، لغلبة تحريف النساخ،. . . ".

2 -

\ أن بعض رموز أحاديث الكتاب، قد أصابها السقط من الناسخ فلم تذكر أصلا خلافا لنسخته

".

3 -

\ أن السيوطي معروف بتساهله في التصحيح والتضعيف، فالأحاديث التي صححها أو حسنها فيها قسم كبير منها ردها عليه الشارح المناوي، وهي تبلغ المئات إن لم نقل أكثر من ذلك، وأما الأحاديث التي سكت عليها وهي ضعيفة، فحدث عن البحر ولا حرج!!! بل إن بعضها قد ضعفها مخرجها الذي عزاه السيوطي إليه، ولم يحك هو كلامه أصلًا، وأنقل إليك ما قاله العلامة المناوي في فيض القدير تأييدًا لذلك: "وكثيرًا ما يقع للمصنف عزو الحديث لمخرجه، ويكون مخرجه قد عقبه بما يقدح في سنده، فيحذف المصنف ذلك، ويقتصر على عزوه له، وذلك من سوء التصرف اهـ.

4 -

\ أن ما وقع في الجامع الصغير من الأحاديث الواهية والموضوعة لم يكن من أجل أن السيوطي متساهل فقط، بل الظاهر أنه جرى في تأليفه على القاعدة المعروفة عند المحدثين، وهي قولهم "قمش ثم فتش" فقمش وجمع ما استطاع أن يجمع، ثم لم يتيسر له التفتيش والتحقيق في كل أحاديث الكتاب، ويشهد لهذا أن قسمًا كبيرًا منها قد حكم هو نفسه عليها بالوضع في "اللآلئ المصنوعة" و"ذيل الأحاديث الموضوعة" وغيرها. انظر مقدمة ضعيف الجامع (1/ 12 - 20) للمحدث الألباني.

ص: 1606

انتهى كلام السائل - عافاه الله - أقول: وينبغي هاهنا أن نقدم بيان ماهية الصحيح عند أهل الاصطلاح فنقول: قال الخطابي (1) فالحديث الصحيح عند أهل الحديث ما اتصل سنده وعدلت نقلته. وكذا قال في معالم السنن حاكيًا لذلك عن أهل الحديث، ولم يشترط الضبط ولا السلامة من شذوذ ولا علة. قال ابن دقيق العيد في الاقتراح (2) إن أصحاب الحديث زادوا ذلك يعني الضبط والسلامة من الشذوذ والعلة. قال: وفي هذين الشرطين نظر على مقتضى نظر الفقهاء. فإن كثيرًا من العلل التي يعلل بها المحدثون لا تجري على أصول الفقهاء (3) انتهى. قلت: هذه مناقشة لاصطلاح قوم باصطلاح قوم

(1) في معالم السنن (1/ 11).

(2)

(ص186).

(3)

ومثال: ما إذا أثبت الراوي عن شيخه شيئًا فنفاه من هو أحفظ أو أكثر عددًا أو أكثر ملازمة منه، فإن الفقيه والأصولي يقولون: المثبت مقدم على النافي فيقبل.

والمحدثون يسمونه شاذًا لأنهم فسروا الشذوذ بمخالفة الراوي في روايته من هو أرجح منه عند تعسر الجمع بين الروايتين.

ومن ذلك أيضًا ما إذا روى العدل الضابط عن تابعي عن صاحبي حديثًا، فيرويه ثقة آخر عن هذا التابعي بعينه عن صحابي آخر غير الأول، فإن الفقهاء وأكثر المحدثين يجوزون أن يكون التابعي سمعه منهما معًا.

وبعض المحدثين يعلون بهذا متمسكين بأن الاضطراب في الحديث دليل على عدم الضبط في الجملة. انظر: فتح المغيث (1/ 19 - 20).

ويوضح هذا الكلام الحافظ زين الدين العراقي في التقييد والإيضاح شرح مقدمة ابن الصلاح (ص 20 - 21): حيث يقول والجواب أن من يصنف في علم الحديث إنما يذكر الحد عند أهله لا من عند غيرهم من أهل علم آخر.

وفي مقدمة مسلم: "1/ 30 - 31" أن المرسل في أصل قولنا وقول أهل العلم بالأخبار، وليس بحجة، وكون الفقهاء والأصوليين لا يشترطون في الصحيح هذين الشرطين، لا يفسد الحد عند من يشترطهما على أن المصنف قد احترز عن خلافهم وقال بعد أن فرغ من الحد وما يحترز به عنه، فهذا هو الحديث الذي يحكم له بالصحة بلا خلاف بين أهل الحديث.

وقد يختلفون في صحة بعض الأحاديث لاختلافهم في وجود هذه الأوصاف فيه أو لاختلافهم في اشتراط بعض هذه الأوصاف كما في المرسل. وقد احترز المصنف عما اعترض به عليه؛ فلم يبق للاعتراض وجه، والله أعلم.

وقوله: بلا خلاف بين أهل الحديث إنما قد نفى الخلاف بين أهل الحديث، لأن غير أهل الحديث قد يشترطون في الصحيح شروطًا زائدة على هذه كاشتراط العدد في الرواية كما في الشهادة. فقد حكاه الحازمي في شروط الأئمة عن بعض متأخري المعتزلة على أنه قد حكى أيضًا عن بعض أصحاب الحديث.

قال البيهقي في رسالته إلى أبي محمد الجويني - رحمهما الله - رأيت في الفصول التي أملاها الشيخ رحمه الله حكاية عن بعض أصحاب الحديث أنه يشترط في قبول الأخبار أن يروي عدلان عن عدلين حتى يتصل مثنى مثنى برسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يذكر قائله إلى آخر كلامه، وكان البيهقي رآه من كلام أبي محمد الجويني فنبهه على أنه لا يعرف من أهل الحديث والله أعلم.

ص: 1607

آخرين وقد تقرر أن الاصطلاحات لا مشاحنة فيها، ولا سيما وأهل الفن هم المقدمون في تحقيق شروطه وما يعتبر فيه، والفقهاء هم أقعد بمعرفة فن الفقه لا بمعرفة فن الحديث.

فأكثرهم لا خبرة لهم به. ولا يفرقون بين صحيحه وحسنه وضعيفه [1] بل قد لا يفرقون بين ما كان منه ثابتًا، وما كان موضوعًا كما نشاهد ذلك في مصنفاتهم، فابن دقيق العيد (1) قد روى عن المحدثين زيادة على ما روى عنهم الخطابي. والزيادة مقبولة، ولا مفاد لما تعقب به ذلك من المناقشة، ولكنه قد قال ابن الصلاح (2) في بعض مؤلفاته: إن

(1) في الاقتراح (ص 186).

(2)

في مقدمته (ص 10) والتقييد والإيضاح (ص 20).

ص: 1608

الحديث الذي جمع بين اتصال السند، وعدالة النقلة والضبط، والسلامة من الشذوذ والعطلة القادحة هو الحديث الذي يحكم له بالصحة بلا خلاف، فأفاد هذا أن ما جمع هذه الأمور صحيح بالإجماع. وذلك لا يستلزم أن الصحيح لا يكون إلا ما جمع ذلك عندهم، بل فيهم من يقول: إن الصحيح قد يكون موجودًا بوجود بعض هذه الأمور.

وأما زين الدين العراقي في شرح المنظومة (1) فقال بعد نقله لكلام بن الصلاح ما لفظه: وإنما قيد نفي الخلاف بأهل الحديث، لأن بعض متأخري المعتزلة (2) يشترط العدد في الرواية كالشهادة، حكاه الحازمي في شروط الأئمة (3) انتهى. ولا يخفاك أن إخراج بعض متأخري المعتزلة هو من قيد قوله: أهل الحديث، لأنهم ليسوا من أهل الحديث لا من قيد قوله بإجماع أهل الحديث، فإن المفهوم من إجماعهم أن بعضهم يقول بأن الصحة تثبت بدون ذلك. وقد تعقب الزين (4) كلامه السابق بنقل كلام ابن دقيق العيد (5) فقال: ولو قيل في هذا الحديث الصحيح المجمع على صحته: هو كذا وكذا إلى آخره؛ لكان حسنًا، لأن من لا يشترط مثل هذه الشروط لا يحصر الصحيح في هذه الأوصاف، ومن شرط الحد أن يكون جامعًا مانعًا. انتهى.

وهذا الكلام هو الصواب لا ما قاله العراقي (6) كما عرفت. ويؤيد ذلك ما تقدم نقله عن الخطابي (7)[2].

قال السيد محمد بن إبراهيم الوزير في التنقيح (8) بعد نقله لكلام زين الدين السابق في التقيد بنفي الخلاف ما لفظه: قلت: بل مذهب البغدادية من المعتزلة اشتراط التواتر.

(1) أي ألفية الحديث (ص 8).

(2)

تقدم التعريف بها.

(3)

(ص 113 - 114).

(4)

في ألفية الحديث (ص 7 - 8).

(5)

في الاقتراح (ص 187).

(6)

في ألفية الحديث (ص 7 - 8).

(7)

في معالم السنن (1/ 11).

(8)

(ص 28) بتحقيقنا.

ص: 1609

وعندي أنه لو لم يقيد نفي الخلاف بذلك كما فعل الشيخ تقي الدين (1) لكان صحيحًا.

ويحمل على إجماع الصحابة ومن بعدهم حتى حدث هذا الخلاف. انتهى.

قلت: هو مبني على أن المراد بالتقييد ما أشار إليه زين الدين العراقي، وقد عرفت أن خلافه الصواب، وإذا تقرر أن هذا حد للصحيح المجمع عليه لا لكل صحيح فما ذكره المتأخرون كزين الدين العراقي حيث يقول في منظومته (2):

فالأول المتصل الإسناد

بنقل عدلٍ ضابط الفؤاد

عن مثله من غير ما شذوذ

وعلة قادحة فتو ذي

وكذلك ما قال ابن حجر في النخبة (3) إنه خبر الآحاد بنقل عدل (4) تام الضبط (5)، متصل السند، غير معلل، ولا شاذ هو الصحيح لذاته. انتهى. هو الصحيح المجمع عليه لا كل صحيح، مع ما بين الكلامين من الاختلاف. فإن زين الدين (6) اشترط مجرد الضبط لا تمامه، ولم يذكر في شرح المنظومة ما يفيد أن المعتبر تمام الضبط، بل قال: ولا شك أن ضبط الراوي لا بد من اشتراطه، لأن من كثر الخطأ في حديثه وفحش؛ استحق الترك، وإن كان عدلًا انتهى. وقال في موضع آخر من الشرح المذكور ما لفظه: وقولي: ضابط احتراز عما في سنده راو مغفل، كثير الخطأ، وإن عرف بالصدق والعدالة.

(1) في كتابه "الاقتراح"(ص 187).

(2)

(ص 5) أي في ألفية الحديث.

(3)

(ص 54).

(4)

العدل: قال ابن حجر في "النخبة"(ص 55): العدل من له ملكة تحمله على ملازمة التقوى والمروءة. والمراد بالتقوى: اجتناب الأعمال السيئة من شرك أو فسق أو بدعة.

(5)

والضبط: ملكة تؤهل الراوي لأن يروي الحديث كما سمعه.

ضبط صدر: وهو أن يثبت ما سمعه بحيث يتمكن من استحضاره متى شاء.

وضبط كتاب: وهو صيانته لديه منذ سمع فيه وصححه إلى أن يؤدي منه وقيد بالتام إشارة إلى الرتبة العليا في ذلك.

(6)

(ص 5) أي في ألفية الحديث

ص: 1610

ولا يخفى أن كثرة الخطأ وفحشه يخرجان من قيد مجرد الضبط، لأن من كان كثير الخطأ فاحشًا فيه لا يكون ممن حصلت له ملكة الضبط.

وأما من كان تام الضبط فينافيه وقوع الخطأ نادرًا، لأن قيد التمام يفيد ذلك. لا يقال: إن ضرورة النظم هي الملجية إلى إهمال قيد التمام، لأنا نقول: لو كان الأمر كذلك؛ لذكر التمام في الشرح، متقرر بذلك أنه لا يعتبر تمام الضبط، بل مجرد الضبط بخلاف ابن حجر، فقد اعتبر في الحد المذكور تمام الضبط، وكذلك اعتبر زين الدين في نظمه السابق أن تكون العلة قادحة، ولم يعتبر ذلك ابن حجر في الحد المذكور، وإن كان قد ذكره في الشرح فقال: والمعلل لغة: ما فيه علة، واصطلاحًا:[3] ما فيه علة (1) خفية قادحة. انتهى. ولا يخفى أن إهماله لقيد قادحة في الحد يوجب الخلل فيه ولا ضرورة توجب ترك هذا القيد. فإن العلل منقسمة إلى قسمين: قادحة وغير قادحة كما هو معروف. فإن قيل: إنه اعتبر في الحد المعنى اللغوي كما يفيده كلامه المذكور.

فالكتاب إنما هو مدون لبيان الأمور الاصطلاحية، لا لبيان المعاني اللغوية. وأيضًا مما اختلف فيه حد زين الدين (2)، وحد ابن حجر أن ابن

(1) العلة عبارة عن سبب غامض خفي قادح مع أن الظاهر السلامة منه، ويتطرق إلى الإسناد الجامع شروط الصحة ظاهرًا، وتدرك بتفرد الراوي، وبمخالفة غيره له مع قرائن تنبه العارف على وهم بإرسال أو وقف أو دخول حديث في حديث أو غير ذلك، بحيث يغلب على ظنه فيحكم بعدم صحة الحديث أو يتردد فيتوقف، والطريق إلى معرفته جمع طرق الحديث والنظر في اختلاف رواته وضبطهم وإتقانهم، وكثر التعليل بالإرسال بأن يكون راويه أقوى ممن وصل، تقع العلة في الإسناد وهو الأكثر، وقد تقع في المتن، وما وقع في الإسناد قد يقدح فيه وفي المتن. كالإرسال والوقف، وقد يقدح في الإسناد خاصة، ويكون المتن معروفًا صحيحًا

وقد تطلق العلة على غير مقتضاها الذي قدمناه، ككذب الراوي وغفلته وسوء حفظه، ونحوها من أسباب ضعف الحديث، وسمى الترمذي النسخ علة، وأطلق بعضهم العلة على مخالفة لا تقدح كإرسال ما وصله الثقة الضابط حتى قال: من الصحيح صحيح معلل كما قيل منه صحيح شاذ.

(2)

انظر ألفية الحديث (ص 8).

ص: 1611

حجر (1) صرح بأن ذلك حد الصحيح لذاته كما عرفت.

وقال في الشرح (2) لأنه "إما أن يشتمل من صفات القبول على أعلاها أولًا".

الأول: الصحيح لذاته.

والثاني: إن وجد ما يجبر ذلك القصور ككثرة الطرق فهو الصحيح أيضًا، لكن لا لذاته" انتهى. بخلاف زين الدين (3). فإنه جعل ذلك حدًا لمطلق الصحيح من غير تقييد بالصحيح لذاته، وكان بين الحدين المذكورين اختلافات ثلاثة. وقد وافق زين الدين السيد محمد بن إبراهيم في التنقيح (4) فذكر في حد الصحيح مجرد الضبط لا تمامه، وذكر العلة ولم يقيدها بالقادحة، وإنما نقل تقييد العلة

بالقادحة عن ابن الصلاح (5) فإن قلت: وأي فائدة لما تعرضت له من ذكر الاختلاف بين الحد الذي ذكره العراقي، وبين الحد الذي ذكره ابن حجر؟ قلت فائدة ذلك أن تقف على اضطراب كلامهم في حد الصحيح، وعلى أن ما جمع تلك القيود هو المجمع عليه منه، وأنه قد يكون الحديث صحيحًا عند البعض مع عدم واحد منها أو اثنين. وقد صرح ابن حجر في النخبة (6) وشرحها بما يفيد ما ذكرناه فقال: "وتتفاوت رتبته أي الصحيح بحسب تفاوت هذه الأوصاف المقتضية للتصحيح في القوة، فإنها لما كانت مفيدة لغلبة الظن الذي عليه مدار الصحة اقتضت أن يكون لها درجات بعضها فوق بعض، بحسب الأمور المقوية. وإذا كان كذلك فما يكون رواته في الدرجة العليا من العدالة. والضبط وسائر الصفات التي توجب الترجيح كان أصح مما دونه فمن الرتبة. [4] العليا في ذلك ما أطلق عليه بعض

(1)"شرح النخبة"(ص 54 - 55).

(2)

أي شرح النخبة (ص 54 - 55).

(3)

انظر ألفية الحديث (ص 8).

(4)

(ص 27) بتحقيقنا

(5)

في التقييد والإيضاح (ص 20).

(6)

(ص 56).

ص: 1612

الأئمة: أنه أصح الأسانيد:

كالزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه.

ومحمد بن سيرين عن عبيدة السليماني عن علي.

وكإبراهيم النخعي عن علقمة عن ابن مسعود.

ودونها في الرتبة:

كرواية بريد بن عبد الله بن أبي بردة عن جده، عن أبيه أبي موسى.

وكحماد بن سلمة عن ثابت عن أنس.

ودونها في الرتبة:

كسهيل ابن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة.

وكالعلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة؛ فإن الجميع يشملهم اسم العدالة والضبط إلا أن المرتبة الأولى فيهم من الصفات المرجحة ما يقتضي تقديم روايتهم على التي تليها، وفي التي تليها من قوة الضبط ما يقتضي تقديمها على الثالثة، وهي مقدمة على رواية من يعد ما ينفرد به حسنًا:

كمحمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر عن جابر.

وعمرو بن سعيد عن أبيه عن جده. وقس على هذه المراتب ما يشبهها. انتهى كلامه (1). وهو يفيد أن الصحيح مراتب، وأن تمام الضبط وتمام العدالة إنما هو تعريف للأصح لا للصحيح. فقد يكون الحديث صحيحًا بدون قيد التمامية في الأمرين المذكورين، وهكذا السلامة من كل علة، فإنها رتبة للصحيح فوق رتبة ما هو سالم من العلة القادحة، لا من مطلق العلة، مع كونه صحيحًا. ومما يؤيد هذا أنه قد اتفق المصنفون في اصطلاح الحديث أن الصحيح مراتب: أعلاها ما في الصحيحين، ثم ما في البخاري، ثم ما في مسلم، ثم ما كان على شرطهما، ثم ما كان على شرط البخاري،

(1) أي كلام ابن حجر في شرح النخبة (ص 58).

ص: 1613

ثم ما كان على شرط مسلم، ثم ما صححه غيرهما من الأئمة. فهذه سبع رتب للصحيح بعضها أعلى من بعض، فأفاد ذلك أن الصحيح أنواع لا نوع واحد، وقد وقع الاختلاف من علماء الحديث في شرط البخاري ومسلم ما هو؟ فقال محمد بن طاهر في كتابه في شروط الأئمة (1): شرط البخاري ومسلم أن يخرجا الحديث المجمع على ثقة نقلته إلى الصحابي المشهور. قال العراقي (2) وليس ما قاله بجيد، لأن النسائي [5] ضعف جماعة أخرج لهم الشيخان أو أحدهما (3) وقال الحازمي في شروط الأئمة (4) ما حاصله: إن شرط البخاري أن يخرج ما اتصل إسناده بالثقات المتقنين من الملازمين لمن أخذوا عنه ملازمة طويلة، وإنه قد يخرج أحيانًا عن أعيان الطبقة التي تلي هذه في الإتقان والملازمة لمن رووا عنه، فلم يلزموه إلا ملازمة يسيرة. وإن شرط مسلم أن يخرج حديث هذه الطبقة الثانية.

وقد يخرج حديث من لم يسلم من غوايل الجرح، إذا كان طويل الملازمة لمن أخذ عنه كحماد بن سلمة في ثابت البناني وأيوب. وقال النووي (5) "إن المراد بقولهم على

(1)(ص 86): وتمامه "من غير اختلاف بين الثقات الأثبات، ويكون إسناده متصلًا غير مقطوع، فإن كان للصحابي راويان فصاعدًا فحسن، وإن لم يكن إلا راوٍ واحد إذا صح الطريق إلى ذلك الراوي أخرجاه

".

(2)

في ألفيته (ص 21 - 22).

(3)

قال السيوطي في "تدريب الراوي"(1/ 125): وأجيب بأنهما أخرجا من أجمع على ثقته إلى حين تصنيفهما، ولا يقدح في ذلك تضعيف النسائي بعد وجود الكتابين ونقل عن ابن حجر جوابًا آخر حيث قال: قال شيخ الإسلام: تضعيف النسائي إن كان باجتهاده أو نقله عن معاصر فالجواب ذلك، وإن نقله عن متقدم فلا. قال: ويمكن أن يجاب بأنه ما قاله ابن طاهر - في شروط الأئمة (ص 8) - هو الأصل الذي بنيا عليه أمرهما، وقد يخرجان عنه لمرجع يقوم مقامه.

(4)

(ص 151).

(5)

في مقدمة شرحه لصحيح مسلم (1/ 3):

ص: 1614

شرطهما أن يكون رجال إسناده في كتابيهما، لأن ليس لهما شرط في كتابيهما، ولا في غيرهما" قال العراقي (1) وقد أخذ النووي هذا من كلام ابن الصلاح (2). قال وعلى هذا عمل ابن دقيق العيد، فإنه ينقل عن الحاكم تصحيحه لحديث على شرط البخاري مثلًا، ثم يعترض عليه بأن فيه فلانًا ولم يخرج له البخاري. وكذلك فعل الذهبي في مختصر (3) المستدرك. قال: وليس ذلك بجيد منهم. فإن الحاكم صرح في خطبة كتاب (4) المستدرك بخلاف ما فهموه عنه. فقال: وأنا أستعين الله تعالى على إخراج أحاديث رواتها ثقات قد احتج بمثلها الشيخان أو أحدهما. فقوله بمثلها أي بمثل رواتها لا بهم أنفسهم، ويحتمل أن يراد بمثل تلك الأحاديث. وإنما يكون مثلها إذا كانت بنفس رواتها وفيه نظر انتهى.

أقول: وعلى كل تقدير فليس التصحيح لما في الصحيحين إلا لكون الرواة من الثقات. وقد عرفت أنهما أعلى مراتب الصحيح مع ما تقدم من أن في رجالهما من قد تكلم فيه بجرح، وهكذا تصحيح من صحح من الأئمة لوجود شرطهما أو أحدهما لا مستند له إلا كون رجال إسناد الحديث الذي صححه موجودين في الصحيحين، أو في أحدهما، أو مماثلين لمن فيهما [6].

فهذا التصحيح بأمرين من تلك الأمور السابقة: أحدهما اتصال السند. والثاني ثقة الراوي، وهذا هو عين ما قاله الخطابي في معالم السن (5) حسبما نقلناه عنه سابقًا ولا يخفى عليك أن قد قدمنا أن قد اتفق أهل الاصطلاح على أن مراتب الصحيح سبع، وقد دار الصحيح في ست منها على مجرد اتصال السند، وكون الرواة ثقات، ولم يبق من

(1) في ألفيته (ص 22).

(2)

وتمام العبارة. فإنه لما ذكر كتاب المستدرك للحاكم قال: إنه أودعه ما رآه على شرط الشيخين، فقد أخرجا عن رواته كتابيهما إلى آخر كلامه ..

(3)

مع المستدرك (1/ 3).

(4)

في المستدرك (1/ 3).

(5)

(1/ 11).

ص: 1615

رتب الصحيح إلا رتبة واحدة، وهي السابعة، وذلك ما صرح بصحته إمام من أئمة الحديث وإذا كانت جميع مراتب الصحيح إلا واحدة منها دائرة على مجرد اتصال السند، وثقة الراوي، فكيف يستنكر من إمام من أئمة الحديث أن يصحح حديثًا بهذين الأمرين فقط إذا تتبع السند فوجدهم ثقات اتصلت أسانيدهم! وإن لم يكونوا من رجال الصحيحين، ولا مماثلين لهم، ويكون هذا النوع السابع ملحقًا بالأنواع الستة المتقدمة.

فإن قلت: ما كان في الصحيحين أو على شرطهما أو أحدهما فيبعد كل البعد أن يكون فيه شذوذ أو علة. قلت: وهكذا يبعد كل البعد أن يصرح إمام من أئمة الحديث المعتبرين بأن الحديث صحيح لاتصال سنده، وثقة رجاله، ويخفى عليه أن فيه شذوذًا أو علة.

هذا على فرض أن السلامة من الشذوذ والعلة لا يكون الحديث صحيحًا إلا بها.

وقد عرفت بما أسلفنا أن ذلك إنما هو شرط الصحيح المجمع عليه، لا شرط كل صحيح ومع هذا ففي كون المجمع على صحته هو المستجمع لجميع الأمور المذكورة في حد العراقي، وابن حجر، وغيرهما من المتأخرين، لا ما لم يكن جامعًا لها إشكال، وبيانه أنه قد صرح زين الدين العراقي في شرح الألفية (1) أن ما في [7] الصحيحين مقطوع بصحته، وروي ذلك عن ابن الصلاح قال: قال ابن الصلاح (2) والعلم اليقيني النظري واقع به، بالقطع بالصحة، خلافًا لمن نفى ذلك محتجًا بأنه لا يفيد إلا الظن، وإنما تلقته الأمة بالقبول؛ لأنه يجب عليهم العمل بالظن، والظن قد يخطئ.

قال ابن الصلاح (3): وقد كنت أميل إلى هذا، وأحسبه قويًا، ثم بان لي أن المذهب الذي اخترناه أولًا هو الصحيح، لأن ظن المعصوم لا يخطئ. وقد سبقه إلى ذلك محمد بن طاهر المقدسي، وأبو نصر عبد الرحيم بن عبد الخالق بن يوسف، ورجحه النووي وعزاه إلى المحققين والأكثرين. ورجح ذلك الحافظ ابن الوزير (4) وقال: إن جميع ما فيها

(1)(ص 24).

(2)

في "علوم الحديث"(ص 28).

(3)

في "علوم الحديث"(ص 28).

(4)

تنقيح الأنظار (ص45).

ص: 1616

صحيح متلقى بالقبول. انتهى.

فعلى هذا قد وقع الإجماع على حجة ما في الصحيحين، فهما من الصحيح المجمع عليه، مع أنه لا طريق إلى التصحيح إلا مجرد اتصال السند، وثقة الرواة.

قال السائل كثر الله فوائده: وفيه إشكال يعني فيما قدم ذكره من أن بعض الحفاظ يصحح الحديث بمجرد كون رجاله ثقات قال: لأن رسم الصحيح مشتمل على خمسة أمور: عدالة ناقليه، وتمام ضبطهم، واتصال سندهم، وأن لا يكون الحديث شاذًا، ولا له علة قادحة وقد وقع الخلاف في وصف العلة بكونها قادحة، والظاهر أنه لا بد منها وتكلموا على العلل القادحة، وعلى أن العلل لا يدركها إلا الأفراد من الحفاظ الجامعين للطرق، وحفظ المتون، وعلى أن علم العلل من أغمض أنواع علوم الحديث (1) وأدقها وأشرفها، ولا يقوم به إلا من رزقه الله فهمًا ثابتًا، وحفظًا واسعًا، ومعرفة تامة بمراتب الرواة، وملكة قوية بالأسانيد والمتون، وأنه قد تقصر عبارة المعلل عن إقامة الحجة (2)

(1) قال السيوطي في تدريب الراوي (ص 224): (وهذا النوع من أجلها) أي أجل أنواع علوم الحديث وأشرفها وأدقها، وإنما (يتمكن من أهل الحفظ والخبرة والفهم الثاقب) ولهذا لم يتكلم فيه إلا القليل كابن المديني، وأحمد، والبخاري، ويعقوب بن شيبة وأبي حاتم وأبي زرعة والدارقطني.

وقال الحاكم في "معرفة علوم الحديث (112): وإنما يعلل الحديث من أوجه ليس للجرح فيها مدخل، والحجة في التعليل عندنا بالحفظ والفهم والمعرفة لا غير.

(2)

قال ابن مهدي: في معرفة علم الحديث إلهام، لو قلت للعالم بعلل الحديث: من أين قلت هذا لم يكن له حجة، وكم من شخص لا يهتدي لذلك وقيل له أيضًا: إنك تقول للشيء: هذا صحيح وهذا لم يثبت فعمن تقول ذلك؟ فقال: أرأيت لو أتيت الناقد فأريته دراهمك، فقال: هذا جيد وهذا بهرج، أكنت تسأل عن من ذلك أو نسلم له الأمر؟ قال: بل أسلم له الأمر قال: فهذا كذلك، لطول المجالسة والمناظرة، والخبرة.

وسئل أبو زرعة: ما الحجة في تعليلكم الحديث؟ فقال: الحجة أن تسألني عن حديث له علة. فأذكر علته ثم تقصد ابن وارة يعني محمد بن مسلم، وتسأله عنه؛ فيذكر علته، ثم تقصد أبا حاتم فيعلله، ثم تميز كلامنا على ذلك الحديث، فإن وجدت بيننا خلافًا؛ فاعلم أن كلا منا تكلم على مراده، وإن وجدت الكلمة متفقة؛ فاعلم حقيقة هذا العلم، ففعل الرجل ذلك فاتفقت كلمتهم، فقال أشهد أن هذا العلم إلهام. وانظر: معرفة علوم الحديث (ص 113).

ص: 1617

على دعواه كالصيرفي، إلى غير ذلك مما يفيد أن العلل أمر لا يدركه إلا الأفراد. انتهى أقول: قد تقررنا فيما سبق أن الحديث المشتمل على الأمور الخمسة هو الصحيح المجمع عليه، لا أنه يعتبر ذلك في كل صحيح، وأيدنا ذلك بنقل كلام الخطابي، [8] وابن دقيق العيد، وبنقل كلام الحافظ ابن حجر. إن الصحيح ينقسم إلى قسمين: صحيح لذاته، وصحيح لغيره. وبنقل كلامه أيضًا أن الصحيح أنواع: بعضها أعلى من بعض، وبما ذكرناه من أن الصحيح مراتب: أعلاها ما في الصحيحين، ثم ما في أحدهما ثم ما هو على شرطهما، ثم شرط أحدهما، وبينا أنه لا شرط لهما إلا مجرد كون الرجال ثقات، والسند متصل، ولمجموع هذا يعرف أنها لم تتفق كلمة أهل الحديث على اشتراط الأمور الخمسة التي ذكرها السائل -أدام الله فوائده- حتى يرد الأشكال على تصحيح من صحح بمجرد كون الرجال ثقات والسند متصل، بل ذلك هو مذهب جماعة منهم، بل مذهب القدماء منهم، بل لم يعتبر في الرتب التي للصحيح إلا ذلك لما قدمنا أنها سبع، وأن ستًا منها دائرة على شرط الشيخين ورجالهما، وليس بيد من جزم بصحة ما في الصحيحين أو أحدهما، أو ما هو على شرطهما أو أحدهما إلا مجرد اتصال السند، وكون الرجال ثقات كما سبق تقريره غير مرة. بل قد أسلفنا عن أئمة الحديث أن في رجال الصحيحين من لم يسلم من غوائل الجرح، وأن البخاري يخرج حديث الطبقة العالية (1).

وقد يخرج حديث الطبقة التي تليها. ومسلم يخرج حديث الطبقة الثانية، وقد يخرج حديث الطبقة الثالثة، مع أن في هؤلاء جماعة ضعفاء مشهورين، بل جزم جماعة من الحفاظ بأن معلقات البخاري (2) إذا أوردها بصيغة الجزم كقوله: قال فلان. أو روى فلان من جملة

(1) انظر: شروط الأئمة (ص 151) تدريب الراوي (1/ 75).

(2)

عرف ابن حجر التعليق في الجامع الصحيح، فقال:"هو أن يحذف من أول الإسناد رجلًا، فصاعدا معبرًا بصيغة لا تقتضي التصريح بالسماع. مثل قال، وروى، وزاد، وذكر، أو يروى ويذكر، ويقال، وما أشبه ذلك من صيغ الجزم والتمريض" اهـ.

فأما المعلق من المرفوعات فعلى قسمين:

- أحدهما: ما يوجد في موضع آخر من كتابه هذا موصولًا.

وثانيهما: ما لا يوجد فيه إلا معلقًا.

فالأول: يورده معلقًا حيث يضيق مخرج الحديث، إذ من قاعدته أنه لا يكرر إلا لفائدة، فمتى ضاق المخرج، واشتمل المتن على أحكام فاحتاج إلى تكريره فإنه يتصرف في الإسناد بالاختصار، خشية التطويل.

والثاني: وهو ما لا يوجد فيه إلا معلقًا، فإنه على صورتين:

- إما أن يورده بصيغة الجزم.

- وإما إن يورده بصيغة التمريض.

فالصيغة الأولى: يستفاد منها الصحة إلى من علق عنه، لأنه لا يستجيز أن يجزم عنه بذلك، إلا وقد صح عنده عنه.

فإذا جزم به عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن الصحابي عنه فهو الصحيح، أما إذا كان الذي علق الحديث عنه دون الصحابي؛ فلا يحكم بصحة الحديث مطلقًا، بل يتوقف على النظر فيمن أبرز من رجاله، فمنه ما يلتحق بشرطه، ومنه ما لا يلتحق.

1 -

\ إما لكونه أخرج ما يقوم مقامه، فاستغنى عن إيراد هذا مستوفي السياق، ولم يهمله، بل نبه عليه فأورده بصيغة التعليق طلبا للاختصار.

مثال ذلك: ما علقه في كتاب الجزية (58) في باب إذا قالوا صبأنا ولم يحسنوا أسلمنا رقم: (11) فإنه ترجم ببعض ما ورد في الحديث وهو قوله "صبأنا" ولم يورده موصولًا في الباب، واكتفى بطرق الحديث التي وقعت هذه اللفظة فيه.

2 -

\ وإما لكونه لم يحصل عنده مسموعًا، أو سمعه، وشك في سماعه له من شيخه أو سمعه عن شيخه مذاكرة، فما رأى أن يسوقه مساق الأصل وغالب هذا فيما أورده عن مشايخه.

فمن ذلك أنه قال في كتاب الوكالة وقال عثمان بن الهيثم أبو عمر، ثنا عوف عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة، قال: وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام الحديث بطوله

وأوردها في موضع أخرى منها في فضائل القرآن، وفي ذكر إبليس ولم يقل في موضع منها حدثنا عثمان، فالظاهر أنه لم يسمعه منه.

الصيغة الثانية: وهي صيغة التمريض فما علق بها لا تغير الصحة عن المضاف إليه لأن مثل تلك العبارات تستعمل في الحديث الضعيف أيضًا، قال ابن الصلاح: "لكن لا تحكم على ذلك بأنه ساقط جدًا لإدخاله إياه في الكتاب الموسوم بالصحة قال ابن الصلاح: فإيراده في أثناء الصحيح مشعر بصحة أصله إشعارًا يؤنس به، ويركن إليه.

- والتعاليق التي أوردها بهذه الصيغة، فمنها ما هو صحيح، ومنها ما هو ضعيف، ومنها ما أورده في موضع آخر من جامعه، ومنها ما لم يورده.

- فما أورده في جامعه فهو صحيح على شروطه، لكنه قليل، وإنما علقه بصيغة التمريض، لكونه رواه بالمعنى أو اختصره.

- مثاله قوله في كتاب مواقيت الصلاة، ويذكر عن أبي موسى: كنا نتناوب النبي صلى الله عليه وسلم عند صلاة العشاء، فأعتم بها، وقد وصله في باب فضل العشاء، من نفس الكتاب، ولفظه فيه، فكان يتناوب رسول الله صلى الله عليه وسلم، عند صلاة العشاء، كل ليلة نفر منهم .. الحديث.

قال الحافظ: وإنما علقه بصيغة التعريض لإيراده بالمعنى، نبه على ذلك شيخنا الحافظ أبو الفضل، وأجاب به على من اعترض على ابن الصلاح حيث فرق بين الصيغتين، وحاصل الجواب أن صيغة الجزم تدل على القوة، وصيغة التمريض لا تدل، ثم بين مناسبة العدول في حديث أبي موسى عن الجزم مع صحته إلى التمريض، بأن البخاري قد يفعل ذلك لمعنى غير التضعيف، وهو ما ذكره من إيراد الحديث بالمعنى وكذا الاقتصار على بعضه، لوجود الاختلاف بجوازه، وإن كان المصنف - ابن حجر في فتح الباري (2/ 46) - يرى الجواز.

انظر تعليق التعليق (1/ 295 - 297).

فائدة: المعلق في صحيح البخاري كثير جدًا، ففيه من التعاليق ألف وثلاثمائة وواحد وأربعون، وأكثرها مخرج في أصول متونه، والذي لم يخرجه مائة وستون حديثًا قد وصلها الحافظ ابن حجر في تأليف مستقل سماه "التوفيق" وفيه من التنبيه على اختلاف الروايات ثلاثمائة وأربعة وثمانون.

وله في جميع التعاليق والمتابعات والموقوفات كتاب جليل بالأسانيد سماه "تعليق التعليق" واختصوه بحذف أسانيده، وسماه التشويق إلى وصل المهم من التعليق.

ص: 1618

المحكوم بصحته كما صرح بذلك زين الدين العراقي في منظومته (1) وشرحها. قال في تعليل ذلك: لأنه لا يستجيز أن يجزم بذلك عنه إلا وقد صح عنده عنه. انتهى وهذا لم

(1)(ص 26).

ص: 1620

يتصل سنده من البخاري إلى الصحابي، بل من موضع التعليق فقط، وهو يدل على أنه يسوغ التصحيح وإن لم يتصل السند، كما في معلقات البخاري المجزومة [9] لا المروية بصيغة التمريض نحو أن يقول: يذكر، أو يروى، أو نحو ذلك مع أن ابن الصلاح (1) قد قال في مثل ذلك: إن إيراد البخاري له في أثناء الصحيح مشعر بصحة أصله إشعارًا يؤنس به، ويركن إليه. انتهى.

وهذا من أعجب ما يحكى حيث يورد المعلق بصيغة ممرضة كأن يقول مثلًا: ويروى عن ابن عباس، أو يذكر عن ابن عباس لم يحكم بصحة ذلك مع أنه لم يكن بينه وبين

(1) في التقييد والإيضاح شرح مقدمة ابن الصلاح لزين الدين العراقي (ص 34).

قال زين الدين العراقي في شرحه لمقدمة ابن الصلاح (ص40 - 41) قوله مثل قول البخاري باب ما يذكر في الفخذ، ويروى عن ابن عباس وجرهد ومحمد بن جحش عن النبي صلى الله عليه وسلم. "الفخذ عورة" ا هـ.

اعترض عليه بأن حديث جرهد صحيح، وعلى تقدير صحة حديث جرهد ليس على المصنف رده لأنه لم ينف صحته مطلقًا، لكن نفى كونه من شرط البخاري فإنه لما مثل به - يعني ابن الصلاح - قال: فهذا قطعًا ليس من شرطه على أنا لا نسلم أيضًا صحته لما فيه من الاضطراب في إسناده، فقيل عن زرعة بن عبد الرحمن بن جرهد عن أبيه عن جده وقيل عن زرعة عن جده ولم يذكر أباه، وقيل عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر جده، وقيل عن زرعة بن مسلم بن جرهد عن أبيه عن جده، وقيل عن زرعة بن مسلم عن جده ولم يذكر أباه، وقيل عن ابن جرهد عن أبيه ولم يسمه، وقيل عن عبد الله بن جرهد عن أبيه.

وقد أخرجه أبو داود وسكت عليه - رقم: (4014) والترمذي من طرق وحسنه - رقم: (2798) وقال في بعض طرقه: وما أرى إسناده بمتصل.

وقال البخاري في صحيحه: حديث أنس أسند، وحديث جرهد أحوط.

وقال الحافظ في الفتح (1/ 479): وقد وصل المصنف - البخاري - حديث أنس في الباب - رقم: 371 - وقوله "حديث أنس أسند" أي أصح إسنادًا، كأنه يقوله حديث جرهد ولو قلنا بصحته فهو مرجوح بالنسبة إلى حديث أنس، وقوله (حديث جرهد) أي وما معه (أحوط) أي للدين، وهو يحتمل أن يريد بالاحتياط الوجوب أو الورع وهو أظهر ..

ص: 1621

الصحابي رجال ثقات من الأصل، فضلًا عن اتصال وضبط وسلامة من شذوذ وعلة، وهذا كثير في صحيح البخاري كقوله: ويروى عن ابن عباس، وجرهد، ومحمد بن جحش عن النبي صلى الله عليه وسلم:"الفخذ عورة" فكيف يستنكر على حافظ من حفاظ الحديث الحكم بصحة حديث باتصال سنده، وثقة رجاله مع أنه قد تقدمه من يقول بصحة حديث بلا إسناد كما ذكرناه في بعض معلقات البخاري! بل صرح جماعة من المحدثين أن المرسل إذا أرسله آخر من طريق أخرى كان من جملة الصحيح، مع كون في سنده من لا يعرف حاله، ولا صفته. وقد روى ذلك ابن الصلاح عن الشافعي، واختاره، وتابعه العراقي واستدرك عليه استدراكًا يرجع إلى تصحيح العبارة لا إلى المخالفة وما ذكره السائل - كثر الله فوائده - في تعظيم علم العلل ناقلًا لذلك عن الحافظ ابن حجر في شرح النخبة (1) فأقول: الحافظ ابن حجر قال قبل هذا الكلام الذي نقله السائل - عافاه الله - في قسم المعلل في النخبة وشرحها ما لفظه: ثم الوهم وهو القسم السادس، وإنما أفصح به لطول الفصل إن اطلع عليه، أي على الوهم بالقرائن الدالة على وهم راويه من وصل مرسل، أو منقطع، أو إدخال حديث في حديث، أو نحو ذلك من الأشياء القادحة، وتحصل معرفة ذلك بكثرة التتبع، وجمع الطرق، وهذا هو المعلل، وهو من [أغمض](2) أنواع علوم الحديث ثم ذكر ما ذكره السائل - عافاه الله - ولا يخفى عليك أن ما ذكره من وصل المرسل والمنقطع وما بعده هو لا يقع من الثقة إلا نادرًا، والأصل عدم هذا النادر.

فإذا وجدنا الحديث قد اتصل إسناده برجال ثقات كان الواجب عليها حمل الاتصال على الوجه الذي أخبر به الثقة، [10] وصدور الوهم منه مع كونه ثقة خلاف الأصل والظاهر، لأن تلك العلل بأسرها أعم من أن تكون قادحة أو غير قادحة هي صادرة عن مجرد الوهم من غير تعهد، والثقة لا يهم إلا نادرًا، والنادر لا اعتبار به كما سلف.

(1)(ص 89).

(2)

في المخطوط "أعظم" وما أثبتناه من النخبة.

ص: 1622

لا يقال: إن الوهم قد يكثر لأنا نقول المفروض أنه ثقة أي حافظ عدل، ومن كان كثير الوهم ليس بثقة، فإن قيل: قد دخل الاحتمال في حديث الثقة بتجويز وقوع الوهم منه في النادر فلا يؤخذ بحديثه إلا بعد العلم بأنه لا وهم فيه. قلنا: هذا يسري إلى كل حديث صحيح، سواء كان في الصحيحين أو في غيرهما، لأن هذا التجويز لا يرتفع لمجرد قول بعض الحفاظ أنه لا وهم من رجال إسناده لين غير هذا الحافظ، ممن هو أحفظ منه أو أكثر ممارسة لرجال هذا الحديث بخصوصه قد يطلع على ما لا يطلع عليه ذلك الحافظ، لا سيما مع ما تقدم من كون هذا النوع في غاية الغموض والدقة. وحينئذ لا يجوز الجزم بصحة حديث حتى يتفق الحفاظ على أنه لا وهم فيه بوجه من الوجوه، وهم لم يتفقوا على ما في الصحيحين فضلًا عن غيرهما كما اشتهر من كلام أبي زرعة المعاصر للبخاري ومسلم، وكما اشتهر من كلام ابن حزم أن في الصحيحين حديثين موضوعين، وكما قدمنا نقله من أن في رجالهما من هو ضعيف.

وقد تعرض بعض الحفاظ لتعداد الضعفاء فيهما فبلغوا في البخاري (1) عددًا،. . . .

(1) "يعلم أن تخريج صاحب الصحيح لأي راو كان مقتضٍ لعدالته عنده وصحة ضبطه وعدم غفلته ولا سيما ما انضاف إلى ذلك من إطباق جمهور الأئمة على تسمية الكتابين بالصحيحين، وهذا معنى لم يحصل لغير من خرج عنه في الصحيح فهو بمثابة إطباق الجمهور على تعديل من ذكر فيهما هذا إذا خرج له في الأصول، فأما إن خرج له في المتابعات والشواهد والتعاليق فهذا يتفاوت درجات من أخرج له منهم في الضبط وغيره مع حصول اسم الصدق لهم وحينئذ إذا وجدنا لغيره في أحد منهم طعنا فذلك الطعن مقابل تعديل هذا الإمام فلا يقبل إلا مبين السبب مفسرًا بقادح يقدح في عدالة هذا الراوي وفي ضبطه مطلقًا أو في ضبطه لخبر بعينه؛ لأن الأسباب الحاملة للأئمة على الجرح متفاوتة عنها ما يقدح ومنها ما لا يقدح، وقد كان الشيخ أبو الحسن المقدسي يقول في الرجل الذي يخرج عنه في الصحيح هذا جاز القنطرة؛ يعني بذلك أنه لا يلتفت إلى ما قيل فيه، قال الشيخ أبو الفتح القشيري في مختصره وهكذا نعتقد، وبه نقول، ولا نخرج عنه إلا بحجة ظاهرة وبيان شاف يزيد في غلبة الظن على المعنى الذي قدمناه من اتفاق الناس بعد الشيخين على تسمية كتابيهما بالصحيحين، ومن لوازم ذلك تعديل رواتهما.

قلت ابن حجر - فلا يقبل الطعن في أحد منهم إلا بقادح واضح.

وقد سرد ابن حجر أسماء من طعن فيه من رجال البخاري مع حكاية ذلك الطعن والتنقيب عن سببه والقيام بجوابه والتنبيه عن وجه رده على النعت. . . ".

انظر ذلك كله في هدي الساري مقدمة فتح الباري (384 - وما بعدها).

ص: 1623

وفي مسلم (1) أكثر من ذلك العدد على اختلاف في مقدار العدد بين الحفاظ.

وقد

(1) قال النووي في شرحه لصحيح مسلم (1/ 25): عاب عائبون مسلمًا بروايته في صحيحه عن جماعة من الضعفاء والمتوسطين الواقعين في الطبقة الثانية الذين ليسوا من شرط الصحيح ولا عيب عليه في ذلك بل جوابه من أوجه ذكرها الشيخ الإمام أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله في صيانة مسلم (94 - 95):

أحدهما: أن يكون ذلك فيمن هو ضعيف عنده ولا يقال الجرح مقدم على التعديل؛ لأن ذلك فيما إذا كان الجرح ثابتًا مفسر السبب، وإلا فلا يقبل الجرح إذا لم يكن كذا، وقد قال الإمام الحافظ أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي وغيره ما احتج البخاري ومسلم وأبو داود به من جماعة علم الطعن فيهم من غيرهم محمول على أنه لم يثبت الطعن المؤثر مفسر السبب.

الثاني: أن يكون ذلك واقعًا في المتابعات والشواهد لا في الأصول وذلك بأن يذكر الحديث أولًا بإسناد نظيف رجاله ثقات، ويجعله أصلًا ثم يتبعه بإسناد آخر أو أسانيد فيها بعض الضعفاء على وجه التأكيد بالمتابعة أو الزيادة؛ فيه تنبيه على فائدة فيما قدمه، وقد اعتذر الحاكم أبو عبد الله بالمتابعة والاستشهاد في إخراجه عن جماعة ليسوا من شرط الصحيح؛ منهم مطر الوراق، وبقية بن الوليد، ومحمد بن إسحاق بن يسار، وعبد الله بن عمر العمري، والنعمان بن راشد، وأخرج مسلم عنهم في الشواهد في أشباه لهم كثيرين.

الثالث: أن يكون ضعف الضعيف الذي احتج به طرأ بعد أخذه عنه باختلاط حدث عليه فهو غير قادح فيما رواه من قبل في زمن استقامته كما في أحمد بن عبد الرحمن بن وهب بن أخي عبد الله بن وهب فذكر الحاكم أبو عبد الله أنه اختلط بعد الخمسين ومائتين بعد خروج مسلم من مصر فهو في ذلك كسعيد بن أبي عروبة وعبد الرزاق وغيرهما ممن اختلط آخرًا، ولم يمنع ذلك من صحة الاحتجاج في الصحيحين بما أخذ عنهم قبل ذلك.

الرابع: أن يعلو بالشخص الضعيف إسناده وهو عنده من رواية الثقات نازل فيقتصر على العالي ولا يطول بإضافة النازل إليه مكتفيًا بمعرفة أهل الشأن في ذلك.

وقال ابن القيم في زاد المعاد (4/ 278) مجيبًا من عيب على مسلم من إخراجه حديث من تكلم فيه ما نصه: "ولكن مسلم روى من حديثه ما تابعه عليه غيره ولم ينفرد به، ولم يكن منكرًا، ولا شاذًا".

انظر: الإمام مسلم بن الحجاج ومنهجه في الصحيح وأثره في علوم الحديث (2/ 430 - 433) وصيانة صحيح مسلم (ص 94 - 96) لابن الصلاح.

ص: 1624

استدرك الدارقطني، وهو الحافظ الذي لم يكن له نظير على الشيخين في مواضع كثيرة حكى ذلك الشارحون لها، وبهذا يتقرر أن نوع المعلل الذي منشؤه الوهم لا يرتفع عن الحديث الذي قد صححه إمام من أئمة الحديث، أو إمامان، أو ثلاثة أو أكثر، لجواز أن يكون فيه علة لا يعرفها إلا من هو أحفظ منهم، وأتقن. ولا يمتنع أن يبعث الله في زمن متأخر من هو أحفظ من أهل الأزمنة المتقدمة، فإن ابن خزيمة المعروف بإمام الأئمة قد شهد له [11] جماعة بأنه أحفظ ممن تقدمه، وكذلك الدارقطني مع تأخر زمنه قد شهد له جماعة بأنه أحفظ ممن تقدمه، وكذلك ابن عساكر، وابن السمعاني، والسلفي قد شهد لهم جماعة بأنهم أحفظ ممن تقدمهم، مع أنهم من أهل القرن السادس. فليس تقدم العصر دليلًا على أن أهله أحفظ ممن بعده وأعرف بالعلل. ولا يزال هذا التجويز كائنًا إلى انقطاع الدنيا وحضور القيامة، فلا يتم تصحيح حديث حتى ينقرض العالم لجواز أن يوجد الله من هو أرفع طبقة ممن تقدمه فيطلع على علل لم يعرفها من هو دونه ممن صححه.

وإذا تقرر هذا فلا بد من المصير إلى أحد أمرين: إما الرجوع إلى أنه لا اعتبار بما يندر من وهم الثقات، وأنه يسوغ التصحيح بوجود مستنده، وهو اتصال السند، وثقة رجاله، مع اعتبار الأصل والظاهر القاضيين بعدم وجود شذوذ وعلة قادحة، أو الرجوع إلى أمر آخر، وهو أن الإمام الذي جزم بصحة الحديث مستندًا إلى كون رجاله ثقات وسنده متصل يبعد كل البعد أن يطلق التصحيح مع وجود علة قادحة أو شذوذ، وأنه لا يطلق ذلك إلا بعد البحث الكامل. قال السائل - كثر الله فوائده: فإذا وقف الإنسان

ص: 1625

على توثيق رجال سند في كتاب من كتب الرجال، أو منقولًا عن بعض أئمة الحديث، فغاية ما حصل بيده عدالة الراوي، فأين بقية القيود المعتبرة في الصحيح؟ وإن سلم أن الثقة لا يطلقونه إلا على من جمع بين العدالة وتمام الضبط كما أفدتم، فأين بقية القيود على الاتصال والسلامة من الشذوذ والعلة القادحة؟ فإن فرض أن في السند ما يدل على الاتصال، أو في كتب الرجال بقي الكلام في السلامة من الشذوذ والعلة وما قيل إن الشذوذ والعلة نادران فندورهما لا يصح معه الحكم بالصحة كما لا يخفى، لا سيما ومعرفة الشاذ (1) لا يكون إلا بحفظ تام، وكذلك معرفة العلة وأما الحكم بالصحة لمجرد

(1) الشاذ هو عند الشافعي وجماعة من علماء الحجاز: ما روى الثقة مخالفًا لرواية الناس إلا أن يروي ما لا يروي غيره، قال الخليلي: والذي عليه حفاظ الحديث، أن الشاذ ما ليس له إلا إسناد واحد يشذ به ثقة أو غيره، فما كان من غير ثقة فمتروك، وما كان من ثقة توقف فيه، ولا يحتج به، وقال الحاكم: هو ما انفرد به ثقة، وليس له أصل بمتابع.

وما ذكراه مشكل بأفراد العدل الضابط كحديث: "إنما الأعمال بالنيات" والنهي عن بيع الولاء وغير ذلك مما في الصحيح، فالصحيح التفصيل: فإن كان بتفرده مخالفًا أحفظ منه وأضبط، كان شاذًا مردودًا وإن لم يخالف الراوي، فإن كان عدلًا حافظًا موثوقًا بضبطه؛ كان تفرده صحيحًا، وإن لم يوثق بضبطه، ولم يبعد عن درجة الضابط كان حسنًا، وإن بعد؛ كان شاذًا منكرًا مردودًا، والحاصل أن الشاذ المردود: هو الفرد المخالف والفرد الذي ليس في رواته من الثقة، والضبط ما يجبر به تفرده.

تدريب الراوي في شرح تقريب النووي (1/ 204 - 205).

انظر: معرفة علوم الحديث (ص 119).

والشاذ أدق من المعلل بكثير؛ فلا يتمكن من الحكم به إلا من مارس الفن غاية الممارسة، وكان في الذروة من الفهم الثاقب، ورسوخ القدم في الصناعة، ولعسره لم يفرده أحد بالتصنيف، ومن أوضح أمثلته ما أخرجه في المستدرك - (2/ 493) - من طريق عبيد بن غنام النخعي عن علي بن حكيم عن شريك، عن عطاء بن السائب عن أبي الصخر عن ابن عباس قال: في كل أرض نبي كنبيكم، وآدم كآدم، ونوح كنوح، وإبراهيم كإبراهيم، وعيسى كعيسى، "وقال: صحيح الإسناد، ولم أزل أتعجب من تصحيح الحاكم له حتى رأيت البيهقي قال: إسناد صحيح، ولكنه شاذ بمرة.

ذكره السيوطي في تدريب الراوي (1/ 207).

ص: 1626

توثيق رجاله فلا يخلو عن وصمة، ولو كان مجرد نقل رجاله موجبًا لصحة السند لم يعرف أهل الحديث، فإنهم يقولون تارة: وسنده صحيح، بإسناد صحيح؛ وتارة يقولون: رجاله ثقات، ما ذاك إلا أن قولهم بسند صحيح ورجاله ثقات فرقًا، وقد وقفت على كلام للحافظ ابن حجر في حديث (1) العينة لما صحح ابن القطان حديثها قلت (2): وعندي أن إسناد الحديث الذي صححه ابن القطان معلول، لأنه لا يلزم من كون رجاله ثقات أن يكون صحيحًا إلى آخر ما قاله (3). وهذا عين ما ندعيه، ولم أقف عليه والله إلا بعد شهور من الاستشكال، وفي التنقيح (4) في بحث إمكان التصحيح ذكر الضرب الأول، ثم الثاني، وهو أن لا ينص على صحة الحديث أحد من المتقدمين، ولكن يبين لنا رجال إسناده وعرفناهم من كتب الجرح والتعديل الصحيحة بنقل الثقات سماعًا أو غيره من طرق النقل (5)، فهذا وقع فيه خلاف لابن الصلاح، فهذا فيه أن يكفي في التصحيح

(1) أخرجه أبو داود رقم: (3462) والطبراني في "الكبير"(12/ 432 رقم: 13583) والبيهقي (5/ 316) وقد صححه الألباني في "الصحيحة" رقم: (11) بمجموع طرقه.

عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد؛ سلط الله عليكم ذلًا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم".

رواه أبو داود من رواية نافع عنه، وفي إسناده مقال، ولأحمد (7/ 27 رقم: 4825 شاكر) نحوه من رواية عطاء، ورجاله ثقات، وصححه ابن القطان كما ذكره ابن حجر في "التلخيص" (3/ 19 رقم: 1181).

(2)

أي ابن حجر في التلخيص (3/ 19 رقم: 1181)

(3)

وتمامه: "لأن الأعمش مدلس، ولم يذكر سماعه من عطاء، وعطاء يحتمل أن يكون هو الخراساني فيكون من تدليس التسوية بإسقاط نافع بين عطاء وابن عمر فيرجع إلى الحديث الأول وهو المشهور - يعني أن الإسناد الذي صححه ابن القطان هو: الأعمش عن عطاء عن ابن عمر، والإسناد الأول الذي يعنيه الحافظ هو: عطاء الخراساني عن نافع ابن عمر.

والحديث له طرق كثيرة عقد لها البيهقي في السنن الكبرى (5/ 316) بابًا وبين عللها.

(4)

(ص 48).

(5)

انظر تفصيل ذلك في تدريب الراوي (2/ 5 - 40).

ص: 1627

معرفة رجال الإسناد، أي أنهم عدول تامو الضبط، متصل سندهم عمن رووا عنه إذا سلم تكفل كتب الجرح والتعديل بمعرفة الاتصال لكن تبقى السلامة من الشذوذ والعلة القادحة، فيحمل أنه مقيد بما ذكر في رسم الصحيح، وإلا كان مخالفًا لما تقدم. وقد يقال: إن السلامة من الشذوذ والعلة والاتصال ليس مجمعًا عليهما؛ فلا يرد الإيراد إلا على من اعتبر القيود جميعًا. أما من لم يعتبر إلا لبعض كالعدالة والضبط فلا يرد، فيصبح على قوله التصحيح مجرد كون رجاله ثقات، وهذا صحيح لو كان من يعتمد التصحيح بهذه الطريقة مخالفًا في هذه الشروط المعتبرة في الصحيح. نعم وكون الثقة هو العدل الضابط كما أفدتم وقفت على ما يؤيده من كلام ابن حجر (1) لما اعترض على الخطابي بأنه لم يشترط الضبط في الصحيح، إنما قال: الصحيح عندهم ما اتصل سنده، وعدلت نقلته، فقال ابن حجر: قول الخطابي (2) عدلت نقلته مغن عن التصريح باشتراط الضبط، لأن المعدل من عدله النقاد، أي وثقوه. وإنما يوثقون من اجتمع فيه الضبط والعدالة معًا.

قلت: وفيه أنه ليس فيه إلا الضبط. والمعتبر في الصحيح تمام الضبط؛ فإن خف كان الحديث حسنًا، ووقفت على كلام للمولى الأمير رضي الله عنه (3) في ثمرات [13] النظر (4) بعد أن ساق كلامًا كثيرًا. قال: هاهنا فوائد كالنتائج والفروع.

الأولى: أن التوثيق ليس عبارة عن التعديل، بل إن الموثق اسم مفعول صادق لا يكذب، مقبول الرواية كما سمعت من توثيقهم من ليس بعدل، فالعدالة في اصطلاحهم أخص من التوثيق، انتهى.

وهذا مناقض لما ذكره ..................................

(1) انظر "النكت على كتاب ابن الصلاح"(1/ 324).

(2)

في معالم السنن (1/ 11).

(3)

تقدم التعليق على استخدام هذا اللفظ.

(4)

(ص 116 - 117). وهو ضمن (عون القدير من فتاوى ورسائل ابن الأمير) القسم الثالث: الحديث وعلومه. بتحقيقنا.

ص: 1628

الحافظ (1) ابن حجر، فإنه يقتضي أنه التوثيق أخص من التعديل، فالمرجو من مولاي تحقيق هذا البحث، وكذلك هل ثم فرق بين قولهم: وسنده جيد، وبين قولهم: وسنده صحيح؟ وكذلك قولهم: وسنده قوي؟ وما المراد بالقوي والجيد؟ انتهى كلام السائل - كثر الله فوائده - وأقول: ما ذكره هاهنا من الكلام على اعتبار الاتصال والسلامة من الشذوذ والعلة قد عرف جوابه مما سلف، وما نقله عن ابن حجر (2) من أنه لا يلزم من كون رجاله ثقات أن يكون صحيحًا فقد خالفه غيره ممن قدمنا ذكره. وما ذكره - كثر الله فوائده - من أنه لو صح التصحيح بمجرد كون الرجال ثقات لكان متوقفًا على كون من يصحح بذلك مخالفًا في الشروط المعتبرة في الصحيح.

ونقول: هو أيضًا مخالف كما أفاده ما قدمنا ذكره. ولنذكر هاهنا ما يدفع ما أشكل على السائل - عافاه الله - فإن محل إشكاله هو تصحيح من صحح بمجرد كون الإسناد صحيحًا، أو رجاله ثقات، فنقول: قال زين الدين العراقي في منظومته (3) الألفية:

والحكم للإسناد بالصحة أو

بالحسن دون الحكم للمتن رأوا

واقبله إن أطلق من يعتمد

ولم يعقبه بضعف ينتقد

قال في الشرح ما لفظه: أي ورأوا الحكم للإسناد بالصحة كقولهم: هذا حديث إسناده صحيح، دون قولهم: هذا حديث صحيح. وكذلك حكمهم على الإسناد بالحسن كقولهم: إسناد حسن دون قولهم حديث حسن لأن قد يصح الإسناد لثقة رجاله ولا يصح الحديث لشذوذ أو علة.

قال ابن (4) الصلاح: غير أن المصنف المعتمد منهم إذا اقتصر على قوله: [14] إنه صحيح الإسناد، ولم يذكر له علة، ولم يقدح فيه، فالظاهر منه الحكم له بأنه صحيح في

(1) لم أعثر على هذا اللفظ. وانظر "النكت"(1/ 274).

(2)

في النكت (1/ 274).

(3)

(ص 46).

(4)

في التقييد والإيضاح (ص 58).

ص: 1629

نفسه، لأن عدم العلة والقادح هو الأصل والظاهر. قلت: وكذلك إن اقتصر على قوله: حسن الإسناد ولم يعقبه بضعف فهو أيضًا محكوم له بالحسن. انتهى كلام زين الدين العراقي في شرحه لألفيته، حاكيًا عن ابن الصلاح، ومقررًا له. فهذان إمامان معتبران وتابعهما على ذلك السيد محمد بن إبراهيم في التنقيح (1) فقال بعد أن نقل كلامهما المذكور هاهنا: قلت: هذا الكلام متجه؛ لأن الحفاظ قد يذكرون ذلك لعدم العلم ببراءة الحديث من العلة لا لعلمهم بوجود العلة، ولهذا يصرحون بهذا كثيرًا فيقول أحدهم: هذا حديث صحيح الإسناد، ولا أعلم له علة، على أن الأصوليين والفقهاء أو كثيرًا منهم يقبلون الحديث المعلول كما سيأتي - إن شاء الله [تعالى]- انتهى. فهؤلاء ثلاثة من أئمة الحديث، ومعهم الأصوليون والفقهاء قد صرحوا بما هو موافق لما حررته وقررته سابقًا من تحكيم الأصل، والظاهر في أني لم أقف عليه إلا بعد أن فرغت من تحرير ما سلف. وقد ذكر زين الدين العراقي في شرح منظومته (2) الألفية في بحث حد الصحيح بعد أن نقل كلام الخطابي في حد الصحيح أنه ما اتصل سنده وعدلت نقلته. إن الخطابي (3) لم يشترط في الحد ضبط الراوي، ولا سلامة الحديث من الشذوذ والعلة، ولا شك أن ضبط الراوي لا بد من اشتراطه، لأن من كثر الخطأ في حديثه وفحش استحق الترك، وإن كان عدلًا. وأما السلامة من الشذوذ والعلة فقال الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد في الاقتراح (4) إن أصحاب الحديث زادوا ذلك في حد الصحيح.

قال: وفي هذين الشرطين نظر على مقتضى نظر الفقهاء؛ فإن كثيرًا من العلل التي يعلل بها المحدثون لا تجري على أصول الفقهاء. انتهى ما نقله زين الدين العراقي في شرح ألفيته ولا يخفاك أن اعتراضه على الخطابي بأنه لم يشترط الضبط غير صحيح لما عرفت سابقًا، وقد خالفه هو

(1)(ص 26).

(2)

(ص 7).

(3)

في معالم السنن (1/ 11).

(4)

(ص 186).

ص: 1630

في شرحه المذكور، وفي نظمه في الألفية المذكورة كما نقلناه قريبًا عنه، وانظر كيف استدرك بالشذوذ ثم لم يصرح بأنه لا بد من اعتبار ذلك، والعلة بل قال: وأما السلامة من الشذوذ والعلة فقال الشيخ تقي الدين (1) إلخ. وقد قدمنا نقل كلام الشيخ تقي الدين، واعترضناه بما سلف، فارجع إليه.

وأيضًا قد نقل السائل - عافاه الله - عن الحافظ ابن حجر (2) ما اعترض به على من اعترض كلام الخطابي، والمعترض هو زين الدين في كلامه هذا الذي نقلناه هاهنا. [15].

واعلم أن الثقة عند كثير من الحفاظ هو وصف لا يصدق إلا على أكابر الحفاظ المشهورين، ولا يصدق على كل رجال الصحيح، كما يفيد ذلك ما ذكره زين الدين العراقي في منظومته (3) وشرحها فقال في المنظومة:

وإن معين قال من أقول لا

بأس به فثقة ونقلا

إن ابن مهدي أجاب من سأل

أثقة كان أبو خلدة بل

كان صدوقًا خيرًا مأمونًا

الثقة الثوري لو تعونا

قال في الشرح إن كلام ابن معين يقتضي التسوية بينهما، يعني ثقة ولا بأس به، لأن ابن أبي خيثمة قال: قلت ليحيى بن معين إنك تقول: فلان ليس به بأس، وفلان ضعيف، قال: إذا قلت لك: ليس به بأس فهو ثقة، وإذا قلت لك: هو ضعيف فليس هو بثقة، لا تكتب حديثه.

قال ابن الصلاح: ليس في هذا حكاية ذلك عن غيره من أهل الحديث فإنه نسبه إلى نفسه خاصة بخلاف ما ذكره ابن أبي حاتم. قلت: ولم يقل ابن معين: إن قول ليس به بأس كقول ثقة حتى يلزم منه التساوي بين اللفظين، إنما قال: إن من قال فيه هذا فهو ثقة، وللثقة مراتب، فالتعبير عنه بقولهم ثقة أرفع من التعبير عنه بأنه لا بأس به وإن اشتركا في مطلق الثقة، والله أعلم.

ثم قال: إن عبد الرحمن بن مهدي قال: حدثنا أبو

(1)(ص 186).

(2)

النكت (1/ 274).

(3)

(173 - 174).

ص: 1631

خلدة فقيل له. أكان ثقة؟ فقال: كان صدوقًا، وكان مأمونًا، وكان خيرًا، وفي رواية وكان خيارًا، الثقة شعبة وسفيان، فانظر كيف وصف أبا خلدة بما يقتضي القبول، ثم ذكر أن هذا اللفظ يقال لمثل شعبة وسفيان، ونحوه ما حكاه المروزي قال: سألت أبا عبد الله - يعني أحمد بن حنبل -: عبد الوهاب بن عطاء ثقة؟ فقال: تدري ما الثقة؟ إنما الثقة يحيى بن سعيد القطان، انتهى ما نقله العراقي. فتأمل كيف صرح هذان الإمامان الجليلان عبد الرحمن بن مهدي [16] وأحمد بن حنبل كيف جعلا الثقة اصطلاحًا لا يصدق إلا على من هو عندهما أرفع الناس رتبة في الدين والورع، وجودة الحفظ والمعرفة بالعلل، والإحاطة بجميع أنواع الحديث مع الإمامة المجمع عليها. ولعل عبد الرحمن بن مهدي (1) ذكر شعبة (2) وسفيان (3) لكونهما أعظم أئمة الحديث عنده. والأمر كذلك، فإن شعبة كان يقال إنه حفظ من مائتين، وكان يقال: إنه أمير المؤمنين في الحديث، وأما سفيان الثوري فهو الإمام الذي فاق من قبله، وأتعب من بعده واتفقت على إمامته كلمة الطوائف الإسلامية من أهل عصره ومن بعدهم، وهكذا أحمد بن حنبل؛ فإنه لما سئل عن الثقة أطلقه على يحيى بن سعيد القطان (4)، وهو إمام الجرح

(1) هو الإمام الكبير والحافظ عبد الرحمن بن مهدي أبو سعيد العنبري مولاهم ثقة ثبت حافظ عارف بالرجال والحديث، قال ابن المديني: ما رأيت أعلم منه.

من التاسعة مات سنة 198هـ.

تذكرة الحافظ (1/ 329) والتقريب "1/ 499).

(2)

شعبة بن الحجاج بن الورد العتكي مولاهم أبو بسطام الواسطي ثم البصري ثقة حافظ متقن، كان الثوري يقول: هو أمير المؤمنين في الحديث، وكان عابدًا، من السابعة مات سنة 160.

التقريب (1/ 351).

(3)

سفيان بن سعيد بن مروت الثوري - أبو عبد الله الكوفي، ثقة حافظ فقيه عالم إمام حجة من رءوس الطبقة السابعة، مات سنة 161 هـ.

التقريب (1/ 311).

(4)

يحيى بن سعيد القطان التيمي أبو سعيد البصري ثقة متقن حافظ إمام قدوة من كبار الطبقة التاسعة مات سنة 198هـ.

التقريب (2/ 348).

ص: 1632

والتعديل، وحافظ الحفاظ، وإمام الأئمة، فهذا اصطلاح بينه إمامان من أئمة الحديث وحفاظه، وأئمة الجرح والتعديل، فإن عبد الرحمن بن مهدي كان الفرد الذي لا يلحق به في زمنه أحد من أهله، وأما الإمام أحمد بن حنبل فهو الإمام الذي تتقاصر أقلام البلغاء عن التعبير بوصف يليق به، فإذا كان الثقة بشهادة هذين الإمامين الجليلين مع كون كل واحد منهما هو الرأس في زمنه، المرجوع إليه في جميع فنون الحديث لا يطلق إلا على مثل أولئك الأئمة الذين لو تفرق علم أحدهم وحفظه ومعرفته على ألف رجل لكانوا معدلين مقبولين، فكيف لا يكون الحكم من إمام من الأئمة المعتبرين بكون رجال الإسناد ثقات، وإسناده متصلًا كافيًا في كون ذلك الحديث صحيحًا، فإنه لا شك ولا ريب [17] أن الثقة بهذا الاصطلاح يكون حديثه أصح الصحيح لا صحيحًا فقط، وإنما أوردنا ما قاله هذان [الإمامان](1) ليعلم المستفيد بمقدار هذه اللفظة، أعني ثقة عند أكابر الأئمة.

واعلم أنه لا بد أن يكون المخبر بكون رجال السند ثقات إمامًا من الأئمة المتبحرين في هذا الفن، المتمكنين من الإحاطة بما قيل في كل واحد من رجال الإسناد، القادرين على الترجيح عند تعارض التعديل والترجيح، العارفين بعلل الحديث على اختلاف أنواعها.

وهذه الأوصاف إنما يرزقها الله أفرادًا من عباده قد يوجد في كل طبقة منهم رجل، أو رجلان، أو ثلاثة، وقد لا يوجد في الطبقة أحد كما يعرف هذا من له إكباب على مطالعة تراجم أهل العصور المنقرضة، وأما من لم يرزق هذه الأوصاف فليس له أن يتقول بما لا يعلم، فيكذب على نفسه وعلى من يأخذ عنه، ويتلاعب بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيصحح الباطل، ويبطل الصحيح، فإن هذا يدخل تحت الحديث (2) المتواتر: "من كذب

(1) في المخطوط: الإمام والصواب ما أثبتناه.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه رقم: (108) ومسلم رقم: (2) من حديث أنس. وأخرجه البخاري في صحيحه رقم: (109) من حديث سلمة.

وأخرجه البخاري في صحيحه رقم: (110) ومسلم رقم: (3) من حديث أبي هريرة.

ص: 1633

علي متعمدًا؛ فليتبوأ مقعده من النار" وتحت حديث: "من روى عني حديثًا يظن أنه كذب؛ فهو أحد الكاذبين" وهو في الصحيح (1)، ويغنيه عن هذا أن يرجع إلى المؤلفات الموضوعة في تراجم الرجال، وفي ما نقل عن أئمة الجرح والتعديل المعتبرين، فإن لذلك مؤلفات معروفة قد صنفها جماعة من الحفاظ، ونقلوا عن الأئمة الكبار

ما يستغني به الباحث عن الحديث، فإنهم ألفوا مؤلفات في رجال الصحيحين، ثم في رجال جميع [18] الأمهات الست، وفي رجال غيرها مما يلتحق بها من المسانيد وغيرها، فذكروا ما قيل في كل رجل منهم من جرح وتعديل، ورجحوا بحسب الإمكان، ثم تكلموا على نفس الأسانيد التي رويت بها الأحاديث في جميع هذه الكتب المتقدمة وغيرها، وأبانوا حال كل إسناد ورجاله وما فيه من شذوذ وعلة، وأبانوا حال كل متن وطرقه، واختلاف ألفاظه، وزيادته ممن له فهم ومعرفة، وكتب يمكنه البحث عن حال كل حديث، والوقوف على كلام الأئمة المعتبرين فيه أمكنه أن يعرف حال الحديث الذي يريد معرفته، وقد صنفوا هذا الفن على كل مسلك يظن فيه أنه أقرب إلى تناول من يتناوله، فتارة يصنفون على أبواب الفقه، وتارة يجمعون حديث كل صحابي حتى يفرغون منه، ثم يتبعونه بحديث صحابي آخر. وتارة يجمعون متون الأحاديث على ترتيب حروف المعجم، فالحمد لله الذي قرب مسافات الاجتهاد للمتأخرين بما لم يكن مثله للمتقدمين. فإن الإمام من الأئمة المتقدمين كان يرحل للحديث الواحد أو لتفسيره، وفي الأزمنة المتأخرة صارت السنة جميعها مجموعة في الدفاتر مع تفسيرها وما يستفاد منها، والكلام على رجالها، وقد يضم إلى ذلك اختلاف الأئمة في المسائل المستفادة من

(1) أخرجه مسلم في صحيحه (1/ 9 - مقدمة) عن المغيرة بن شعبة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حدث عني بحديث، يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين".

ص: 1634

الحديث، وذكر الراجح والمرجوح، كما يقع في كثير من شروح الحديث المبسوطة، فإن المطلع على شيء منها يستفيد جميع هذه الفوائد المذكورة بالوقوف على الحديث وشرحه في مصنف من المصنفات، حتى لا يحتاج بعده إلى غيره [19] وهذا معلوم لكل من له علم لا من لا علم له، فإنه لا يدري بشيء من هذا، وهو الجاني على نفسه بما أحرمها من العلم، كما تجده في غالب طلبة العلم في هذه الأزمنة. وما أشار إليه السائل - كثر الله فوائده - من أن العلامة الأخير محمد بن إسماعيل الأمير ذكر في مؤلفه المسمى بورقات (1) النظر إن التوثيق ليس عبارة عن التعديل، بل الموثق هو الصادق الذي لا يكذب، وإن كان غير عدل وإن العدالة في اصطلاحهم أخص من التوثيق، فأقول قد علم مما سبق من اصطلاح أئمة الحديث المتقدمين كعبد الرحمن بن مهدي، وأحمد بن حنبل أن الثقة لا يطلق إلا على مثل أولئك الأئمة، وعلم أيضًا من اصطلاح من بعدهم ما يخالف ما ذكره السيد رحمه الله وهذا ابن حجر وهو من حفاظ القرن التاسع يقول: إن الثقة هو العدل الضابط كما تقدم نقل ذلك عنه، ولا يصح أن يقال: إن السيد محمد أراد بيان المعنى اللغوي للثقة، لأنه قال في اصطلاحهم أي اصطلاح أهل الحديث: ولو كان ذلك بيانًا للمعنى اللغوي؛ لكان غير صحيح، فإن الثقة في اللغة (2) المؤتمن، والعدل (3) هو المستقيم في أموره المتوسط فيها، وهما مختلفان صدقًا ومفهومًا.

وأما في الاصطلاح فقد عرفت معنى الثقة (4). وأما العدل فهو اصطلاحا من حصلت له العدالة (5)، وهي ملكة في النفس يمنعها عن اقتراف الكبائر والرذائل، فالثقة أخص؛ لأن العدل مع زيادة الضبط، أو مع زيادة أنه إمام مقتدى به، متفرد في العلم والعمل.

(1) أي كتابه " ثمرات النظر في علم الأثر"(116 - 117).

(2)

لسان العرب (15/ 212).

(3)

انظر لسان العرب (9/ 86).

(4)

تقدم وانظر النخبة (ص55).

(5)

تقدم وانظر النخبة (ص55 - 56).

ص: 1635

فالحاصل أن العدل والثقة في اللغة يطلقان على الكافر كما يطلقان على المسلم إذا كانا متصفين [20] بذلك المعنى اللغوي.

وأما في الشرع فلا يصدقان إلا على ثقات المسلمين وعدولهم. فلا أدري ما وجه ما حكم به الأمير رحمه الله من أن العدل أخص من الثقة، وأن الثقة قد لا يكون عدلًا. ثم قال السائل - كثر الله فوائده -: هل ثم فرق بين قولهم: سنده جيد، وبين قولهم: سنده صحيح، وسنده قوي؟

أقول: قد صرحوا بما يفيد جواب هذا السؤال، فإنهم قالوا: إن قولهم جيد الحديث، أو حسن الحديث هو من المرتبة الرابعة من مراتب التعديل (1)، كما ذكر ذلك زين الدين العراقي (2)، فيكون على هذا جيد الحديث بمنزلة قولهم: حسن الحديث، وكذلك قولهم: إسناد جيد بمنزلة إسناد حسن، ولهذا قرن زين الدين العراقي بين جيد الحديث، وحسن الحديث، وجعلهما جميعًا من الألفاظ المستعملة في أهل المرتبة الرابعة.

ولعل قوي الحديث هو كجيد الحديث، لأن اللفظين جميعًا يستعملان في رجال الحسن، فهكذا يكون وصف الإسناد بالجودة كوصفه بالقوة، فظهر بهذا أن قولهم: جيد

(1) مراتب التعديل:

المرتبة الأولى: وهي أعلاها شرفًا. مرتبة الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم.

المرتبة الثانية: وهي أعلى المراتب في دلالة العلماء على التزكية، وهي ما جاء التعديل فيها بما يدل على المبالغة، أو عبر بأفعل التفضيل، كقولهم أوثق الناس وأثبت الناس، وأضبط الناس. وإليه المنتهى.

المرتبة الثالثة: إذا كرر لفظ التوثيق، إما مع تباين اللفظين كقولهم: ثبت حجة، أو ثبت حافظ، أو ثقة ثبت

أو إعادة اللفظ الأول كقولهم، ثقة ثقة، ونحوها، وأكثر ما وجدوا قول ابن عيينة حدثنا عمرو بن دينار، وكان ثقة ثقة ثقة

إلى أن قاله سبع مرات.

المرتبة الرابعة: ما انفرد فيه بصيغة دالة على التوثيق: كثقة، أو ثبت أو ثبت أو متقن.

المرتبة السادسة: ما أشعر بالقرب من التجريح، وهي أدنى المراتب كقولهم ليس ببعيد من الصواب. أو شيخ أو يروى حديثه، أو يعتبر به، أو شيخ وسط، أو صالح الحديث.

انظر: مقدمة لسان الميزان (ص 215 - 216).

(2)

في ألفيته (ص 171 - 172).

ص: 1636

الحديث، وقوي الحديث، وإسناد جيد، وإسناد قوي هما دون قولهم: صحيح الحديث وإسناد صحيح، وإن الفرق ما بين الجودة والقوة، وما بين الصحة هو الفرق بين الحديث الصحيح والحسن، والإسناد الصحيح والحسن، والكلام في ذلك معروف.

انتهى تحرير الجواب في ليلة الأحد لعله خامس وعشرون شهر جمادى الآخرة سنة 1217. بقلم المجيب: محمد بن علي الشوكاني - غفر الله لهما -[21].

ص: 1637

مناقشة للجواب - في البحث - السابق من القاضي العلامة:

محمد بن أحمد مشحم رحمه الله.

حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

ص: 1639

وصف المخطوط:

1 -

العنوان: مناقشة للجواب السابق.

2 -

موضوع المناقشة: في مصطلح الحديث.

3 -

أول المناقشة: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وبه نستعين وصلى الله وسلم على سيدنا محمد الأمين وآله الميامين، وقفت على ما حرره المولى العلامة الإمام المجمع على جلالته بين علماء الإسلام. . .

4 -

آخر المناقشة: إذا شاهد المولى من العبد زلة فعادته عنها التغافل والصفح، نفع الله بعلومه المسلمين، ونصر بها سنة سيد المرسلين - اللهم صلى وسلم على سيدنا محمد وآله آمين. حرره في رجب سنة 1217 هـ.

5 -

نوع الخط: خط نسخي جيد.

6 -

عدد الصفحات: (14) صفحة.

7 -

المسطرة: (21 - 23) سطرًا.

8 -

عدد الكلمات في السطر: (11 - 12) كلمة.

ص: 1641

ترجمة صاحب المناقشة: القاضي محمد بن أحمد مشحم.

محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن جار الله مشحم الصعدي الأصل الصنعاني المولد والمنشأ.

ولد سنة 1186 هـ، وقرأ الفقه على السيد العلامة الحسين بن يحيى الديلمي والفقيه العلامة سعيد بن إسماعيل الرشيدي، وشيخنا العلامة أحمد بن محمد الحرازي، وولاه الإمام المنصور بالله القضاء الصنعاني بصنعاء.

قال الشوكاني في ترجمته في "البدر الطالع" رقم: (415) وكان قبل ارتحاله من صنعاء إلى تلك الجهة يكثر الاتصال بيننا، ويجري من المباحث العلمية في أنواع العلم أشياء كثيرة، وبيني وبينه مودة أكيدة. ومحبة زائدة وما زالت كتبه تصل من هنالك تارة بمسائل علمية وتارة بمطارحة أدبية.

ثم قال الشوكاني وأخذ عني فنون الحديث، ثم مرض مرضًا طويلًا وانتقل إلى رحمة الله في شهر رجب سنة 1223 هـ.

البدر الطالع رقم: (415) والضوء اللامع (7/ 39 رقم: 82) نيل الوطر (2/ 235).

ص: 1645

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وبه نستعين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد الأمين، وآله الميامين.

وقفت على ما حرر المولى العلامة الإمام المجمع على جلالته بين علماء الإسلام - حفظ الله معاليه، وأحمد مساعيه، وأسعد لياليه وأيامه، وأمضى في البسيطة أحكامه - فسرحت النظر في رياضه، وكرعت من معين حياضه، وبقيت في النفس أشياء أوردتها على سبيل الاستفسار، وتطفلت بها على هذه الحضرة السامية المقدار، سائلًا العفو عن الزلل، والصفح عن الخطأ والوجل الخطل، مع أني - والله - أوردت ما رددت الكلام فيه على شدة وجل من تكثير الكلام، وتكدير الخاطر الشريف، بما شملته هذه الأرقام، ولكني راجعت نفسي بأنها إن بقيت على ما جهلته، ولم يتبين الصواب؛ بقيت على جهل عظيم، لا يرتضيه أولو الألباب، فتجاسرت بإرجاع المذاكرة واتكلت على سعة الخاطر الكريم، ومحبته لإيضاح الحق بأي طرق التعليم، وتمثلت ما قيل:

في انقباض وحشمة فإذا

صادفت أهل الحياء والكرم

أرسلت نفسي على سجيتها

وقلت ما قلت غير محتشم

فأقول: حاصل ما استشكله السائل أولًا:

التصحيح للحديث لمجرد وجدان ثقة رجال إسناده في كتاب من كتب الجرح والتعديل، أو النص من إمام على ثقتهم، مع أنهم اعتبروا في رسم الصحيح أمورا خمسة تضمنها قول النخبة (1) وخبر الآحاد بنقل عدل تام الضبط، متصل السند، غير معلل ولا شاذ هو الصحيح لذاته. وكان يتصور لي في جواب هذا الإشكال أمران، الاتصال فالأصل عدم الشذوذ والعلة لندورهما، فيصح مع ذلك التصحيح لوجدان كون الرواة ثقات أو [1] النص من إمام على ثقتهم، لأن

(1) انظر ألفية الحديث للحافظ العراقي (ص 7 - 8)، والاقتراح (ص 186)، التقييد والإيضاح (ص 20).

ص: 1647

الحافظ إذا أطلق على هذا السند، كون رجاله ثقات، وكان له علة فيبعد أن لا يذكرها بأن يقول: رجاله ثقات وله علة مثلًا، وهذا قد يسلم فيما نص على ثقة رجاله حافظ.

إنما الشأن فيمن وقف في هذه الأزمان على ثقة رواة حديث في كتاب من كتب الجرح والتعديل، ولم يكن من أهل الحفظ والإتقان، حتى يعلم مخالفة راوي الحديث لمن هو أوثق منه، أو يعلم بعلة قادحة. أما من رزقه الله حفظًا واسعًا، وتمكنًا فلا فرق بينه وبين الأوائل إلا بتقدم العصور (1)

ولسنا - بحمد الله تعالى - ممن يفضل بتقدم العصر، ولكن

(1) قال ابن الصلاح في علوم الحديث (ص 16 - 17): إذا وجدنا فيما يروى من أجزاء الحديث وغيرها حديثًا صحيح الإسناد ولم نجده في أحد الصحيحين ولا منصوصًا على صحته في شيء من مصنفات أئمة الحديث المعتمدة المشهورة، فإنا لا نتجاسر على جزم الحكم بصحته، فقد تعذر في هذه الأعصار الاستقلال بإدراك الصحيح بمجرد اعتبار الأسانيد؛ لأنه ما من إسناد من ذلك إلا وتجد في رجاله من اعتمد في روايته على ما في كتابه عريًا عما يشترط في الصحيح من الحفظ والضبط والإتقان. فآل الأمر إذا في معرفة الصحيح والحسن إلى الاعتماد على ما نص عليه أئمة الحديث في تصانيفهم المعتمدة المشهورة التي يؤمن فيها - لشهرتها - من التغيير والتحريف. . .

وخالفه النووي في التقريب (1/ 78 - 83) فقال: والأظهر عندي جوازه لمن تمكن وقويت معرفته.

وقال العراقي في ألفيته (22 - 23): وما رجحه النووي هو الذي عليه عمل أهل الحديث فقد صحح غير واحد من المعاصرين لابن الصلاح وبعده أحاديث لم نجد لمن تقدمهم فيها تصحيحًا كأبي الحسن بن القطان والضياء المقدسي والزكي عبد العظيم ومن بعدهم.

وقال الحافظ ابن حجر "ما اقتضاه كلامه من قبول التصحيح من المتقدمين ورده من المتأخرين قد يستلزم رد ما هو صحيح وقبول ما ليس بصحيح، فكم من حديث حكم بصحته إمام متقدم اطلع المتأخر فيه على علة قادحة تمنع من الحكم بصحته، ولا سيما إن كان ذلك التقدم ممن لا يرى التفرقة بين الصحيح والحسن، كابن خزيمة وابن حبان".

وقد كتب السيوطي في هذه المسألة بحثًا خاصًا سماه:

"التنقيح لمسألة التصحيح" جنح فيه إلى التوفيق بين رأي ابن الصلاح ورأي من خالفه، وخرج مذهب ابن الصلاح تخريجًا حسنًا فقال: والتحقيق عندي أنه لا اعتراض على ابن الصلاح ولا مخالفة بينه وبين من صحح في عصره أو بعده.

وتقرير ذلك أن الصحيح قسمان:

صحيح لذاته، وصحيح لغيره، كما هو مقرر في كتاب ابن الصلاح وغيره. والذي منعه ابن الصلاح، إنما هو القسم الأول دون الثاني كما تعطيه عبارته.

وذلك أن يوجد في جزء من الأجزاء حديث بسند واحد من طريق واحد لم تعد طرقه، ويكون ظاهر الإسناد الصحة؛ لاتصاله وثقة رجاله، فيريد الإنسان أن يحكم لهذا الحديث بالصحة لذاته بمجرد هذا الظاهر، ولم يوجد لأحد من أئمة الحديث الحكم عليه بالصحة، فهذا ممنوع قطعًا؛ لأن مجرد ذلك لا يكتفى به في الحكم بالصحة، بل لا بد من فقد الشذوذ، ونفي العلة، والوقوف على ذلك؛ لأنه متعسر بل متعذر؛ لأن الاطلاع على العلل الخفية إنما كان للأئمة المتقدمين لقرب أعصارهم من عصر النبي صلى الله عليه وسلم فكان الواحد منهم من تكون شيوخه التابعين أو أتباع التابعين، أو الطبقة الرابعة؛ فكان الوقوف على العلل إذ ذاك متيسرًا للحافظ العارف، وأما الأزمان المتأخرة فقد طالت فيها الأسانيد، فتعذر الوقوف على العلل إلا بالنقل من الكتب المصنفة، فإذا وجد الإنسان في جزء من الأجزاء حديثًا بسند واحد ظاهره الصحة لاتصاله وثقة رجاله لم يمكنه الحكم عليه بالصحة لذاته، لاحتمال أن يكون له علة خفية لم نطلع عليها لتعذر العلم بالعلل في هذه الأزمان.

وأما القسم الثاني: فهذا لا يمنعه ابن الصلاح ولا غيره، وعليه يحمل صنع من كان في عصره، ومن جاء بعده، فإني استقريت ما صححه هؤلاء فوجدته من قسم الصحيح لغيره لا لذاته

وقال السيوطي في تدريب الراوي (1/ 82) والأحوط في مثل ذلك أن يعبر عنه بصحيح الإسناد، ولا يطلق التصحيح لاحتمال علة للحديث خفيت عليه، وقد رأيت من يعبر خشية من ذلك بقوله صحيح إن شاء الله.

ص: 1648

الشأن في وجدان هذا الحافظ المتقن، مع أن معي وقفة فيما أطلق الحافظ على حديث ثقة رواته، ولم يذكر له علة، فإنه يحتمل أنه لم يجد له علة، ويحتمل أنه لم يبحث حتى يعلم أن له علة، أو لا علة له. وهذا هو ما أشرت إليه في السؤال بقولي: بقي الكلام في السلامة من الشذوذ والعلة، وما قيل إن الشذوذ والعلة نادران، يعني فيصبح مع ندورهما التصحيح، فندورهما لا يصح معه الحكم بالصحة انتهى.

وذلك لأن السلامة من الأمرين إذا كانت معتبرة فلا بد من التصريح بها، لأن عدم الأمرين معتبر، وأما إذا لم يحصل

ص: 1649

التصريح بعد هذا فهو باقٍ على التجويز.

وذلك مناف لاعتبار السلامة في الحد. لا يقال أنه يجوز وجدان حافظ آخر لعلة لهذا الحديث، فلا يكون صحيحًا، لأنا نقول: فتح باب هذا التجويز يغلق باب التصحيح بالمرة. وإنما الواجب أن يبحث الحافظ فيصرح بأني لا أعلم له علة، وليس بشاذ، أو يصرح بالصحة، لأن تصريحه بصحة الحديث في قوة الإخبار بخمس جمل، وهو عدالة الناقلين، وتمام ضبطهم، واتصال سندهم، والسلامة من الشذوذ [2] والعلة.

ثم أيد ما كنت أفهمه من أن العلة والشذوذ وإن كانا نادرين؛ فلا يصح الحكم بالصحة، هذا ما قاله إمام الفن ابن حجر (1) أنه لا يلزم من كون رجال الحديث ثقات أن يكون صحيحًا.

والحاصل أن من وقف على توثيق بعض الحفاظ لرواة حديث. فقال: الحديث صحيح، فإما أن ينسب تصحيح إلى ثقة أو إلى ذلك الحافظ الذي نص على ثقة رواته.

إن نسبته إلى الحافظ، فقد نقول عليه ما لم يقله، وحمله ما لم يتحمله، فإنه إنما أخبر بعدالة الرواة وضبطهم لا غير. فيتحمل شذوذ الحديث أو وجود علة له. ويحتمل أن ذلك الحافظ قد بحث فلم يجده شاذًا ولا علة له، ويحتمل أنه لم يبحث. وإما أن ينسب تصحيحه إلى نفسه، فإن كان مع أهليته وقوة معرفته قد بحث حتى كان الحديث لديه تصحيحه إلى نفسه، فإن كان مع أهليته وقوة معرفته قد بحث حتى كان الحديث لديه سالمًا من العلة والشذوذ؛ فلا مانع له من التصحيح، وإن كان لم يقف إلا على مجرد توثيق الحافظ للرواة كما هي مسألة السؤال لم يجز له التصحيح، لأن من أجاز التصحيح (2) اشترط أهلية المصحح بأن يكون متمكنًا قوي المعرفة، وهذا الاشتراط إنما هو ليتمكن من معرفة علة الحديث، وسلامته من الشذوذ، وإلا فلا فائدة لهذا الاشتراط أصلًا، بل كل من وقف على توثيق رجال سند صحيح الحديث، سواء كان متمكنًا قوي المعرفة أولًا. وهذا شيء لم يقله أحد من أهل العلم إن شاء الله تعالى. فهذا الأمر الذي كان

(1) تقدم قريبًا.

(2)

انظر: منهج النقد في علوم الحديث (280).

ص: 1650

يتصور لي في جواب هذا الإشكال.

الأمر الثاني: أن الحد المذكور ليس مجمعًا عليه من أهل العلم، وهذا أشرت إليه في السؤال بقولي: وقد يقال إن السلامة من الشذوذ والعلة ليس مجمعًا عليهما، فلا يرد الإيراد إلا على من اعتبر القيود جميعًا، أما من لم يعتبر إلا البعض كالعدالة والضبط فلا يرد، فيصح على قوله التصحيح لمجرد كون رجاله ثقات، وهذا صحيح لو كان من يعتمد التصحيح لهذه الطريقة مخالفًا في هذه الشروط المعبرة في الصحيح انتهى. وأنا إلى الآن لم أجد أحدًا من أهل الاصطلاح خالف في اشتراط الضبط والسلامة من الشذوذ والعلة. أما الضبط فإن الخطابي (1) وإن لم يشترطه فيما نقله [3] عن أهل الحديث. فقد رد عليه المحققون بأن لا بد من اشترط عندهم، بل وعند الأصوليين أيضًا. وتأول آخرون كلامه بدخول الضبط تحت عبارته، وقال بعضهم فيما وقفت عليه الآن: أن السلامة من الشذوذ داخلة تحت الضبط؛ لأن مخالفة الثقات منافية للضبط. قلت: وعلى هذا فيدخل تحت الضبط السلامة من العلل القادحة، لأن وجدانها في الحديث مناف لضبط راويه، ولكن في هذا كله نوع تكلف كما لا يخفى. وأما السلامة من الشذوذ والعلة فهما وإن لم يذكرا في الصحيح عند بعض المحدثين فذكر المعلل (2) والشاذ (3) من جملة الأقسام المنافية للصحيح مشعر بأنه يعتبر سلامته عنهما، لا سيما والعلل مقيدة بالقادحة.

وقد ذكر ابن دقيق العيد أن السلامة من الشذوذ والعلة زادها المحدثون في الحد، وهذه رواية عنهم مقبولة، وأيدها قول الزين في الألفية (4)، وأهل هذا الشأن قسموا السنن إلى صحيح، وسقيم، وحسن، ثم حد الصحيح بما نقله في الجواب - كثر الله فوائده - فإن ظاهره أن هذا الحد هو المعتبر عند أهل الحديث قاطبة، أو عند المعتبرين منهم، بحيث لو كان أحد المشاهير منهم مخالفًا في اعتبار - أي هذه الشروط - لم يصح للزين نسبته هذا

(1) انظر معالم السنن (1/ 11).

(2)

تقدم توضيح ذلك.

(3)

تقدم توضيح ذلك

(4)

(ص 7).

ص: 1651

الحد إليهم، وكذلك الكتب المؤلفة في هذا الشأن، فإنها مصرحة باعتبار هذه القيود، وما منهم أحد صرح بأنه لا يعتبر في التصحيح إلا ثقة الرواة والاتصال فقط غير الخطابي.

وقد علم رده. فهذا تحقيق ما استشكله الخاطر السقيم في التصحيح، وإنما أعدته لأرتب عليه ما استشكلته في الجواب عنه، فإنه مع سعة فجاجه وتلاطم أمواجه بهرني مبدؤه، وحيرني منتهاه فأوجب تكرار المقال، وإنما "شفاء العي السؤال (1) ". ولا ريب أن ما كان رجاله ثقات معمول به، لأنه خبر أحادي يجب قبوله كما تقرر في الأصول.

إنما الكلام في كونه صحيحًا على مقتضى الاصطلاح الحديثي، ولا ملازمة بين [4] وجوب العمل بالحديث وصحته بالمعنى الاصطلاحي، وهذا ما استشكله السائل من الجواب. قوله - كثر الله فوائده - يعني الضبط والسلامة من الشذوذ والعلة. لعل هنا سبق فلم، فإن كلام ابن دقيق العيد (2) إنما هو في السلامة من الشذوذ والعلة فقط. قوله كثر الله فوائده: ولكنه قد قال ابن الصلاح (3) رحمه الله في بعض كتبه إلى قوله بل فيهم من يقول: إن الصحيح قد يكون موجود بعض هذه الأمور لما خفي أن ظاهر كلام ابن الصلاح هو ما ذكره - كثر الله فوائده - ولكنه محتاج إلى تبين هذه الأمور التي يوجد الصحيح بدونها من هذه الأمور الخمسة، وتعيين من قال به من أئمة الحديث،

(1) يشير إلى الحديث الذي أخرجه أبو داود رقم: (336) والبيهقي (1/ 228) والدارقطني (1/ 189 - 190) من حديث جابر بن عبد الله وله شاهدان:

الأول: عن ابن عباس أخرجه أبو داود رقم: (337) وابن ماجه رقم: (572) وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجه (1/ 93 رقم: 464) بدون بلاغ عطاء.

أخرجه الحاكم (1/ 165) وقال حديث صحيح ووافقه الذهبي، وابن حبان رقم:(201 - موارد) والدارمي (1/ 192).

الثاني: أخرجه الحاكم (1/ 178) والدارقطني (1/ 190).

والخلاصة أن حديث جابر حسن بشواهده

(2)

في الاقتراح (ص 178).

(3)

انظر التقييد والإيضاح (ص 20 - 21).

ص: 1652

فإن هذا الكلام المنقول عنه لا يؤخذ منه مذهب لقائل فيسند إليه، ولا يعرف منه الشروط التي اعتبرها بعض المحدثين فيكون اصطلاحًا يمشى عليه؛ حتى يجاب السائل أن هذا التصحيح على رأي فلان وفلان. فإنهم لا يعتبرون في التصحيح الاتصال ولا السلامة من الشذوذ والعلة القادحة: وأما فهمه لزين (1) الدين والسيد الوزير - رحمهما الله - (2) في كلام ابن الصلاح فهو مجمل، لكن الظاهر في عبارته ما ذكره مولاي - حفظه الله - وأما ما نقله زين الدين (3) عن ابن دقيق العيد (4) رحمه الله من قوله: ولو قيل في هذا الحديث الصحيح المجمع على صحته: هو كذا وكذا؛ لكان حسنًا؛ لأن من لا يشترط مثل هذه الشروط لا يحصر الصحيح في هذه الأوصاف، ومن شرط الحد أن يكون جامعًا انتهى. فقد كان يظهر لي فيه أن ابن دقيق العيد أراد المجمع عليه بين الفقهاء، وأهل الحديث، فإنه قال أولًا: إن السلامة من الشذوذ والعلة زادها أصحاب الحديث، وفيهما نظر على مقتضى نظر الفقهاء. وقال آخر: إذ لو قيل في هذا إلخ لمعناه حينئذ إن هذا الحد للمجمع عليه بين المحدثين والفقهاء.

أما المحدثون فلاشتراطهم السلامة من الأمرين، وأما الفقهاء فإنهم لا يشترطونها لكن الحديث السالم عن الشذوذ [5] والعلة صحيح عندهم بالطريق الأولى، وهكذا عبارة الزين (5) مشعرة بهذا. فإن عقب مناقشة ابن دقيق العيد (6) باصطلاح الفقهاء بقوله: قلت قد احترزت بقولي قادحة عن العلل التي لا تقدح في صحة الحديث، فظاهر هذا أنه إنما زاد قادحة في الحد لتخرج العلل التي تعلل بها المحدثون غير جارية على أصول الفقهاء، فصار الحد بهذه الزيادة جامعًا بين اصطلاح المحدثين والفقهاء فإن العلل القادحة وإن كانت مجهولة في الحد لا يتصور من الفقهاء أن لا يعتبروا عدها في صحة الحديث كما لا يخفى.

(1) في ألفيته (ص 7 - 8).

(2)

في التنقيح (ص 25 - 26).

(3)

في ألفيته (ص 8).

(4)

في الاقتراح (ص 187).

(5)

في ألفيته (ص 8).

(6)

في الاقتراح (ص 187).

ص: 1653

وأما ابن الصلاح فإنه وإن لم يذكر القادحة في الحد لكنه ذكر القادحة بعد سطر منه، فدل على اعتبارها عنده في الحد، فعرف بهذا أن هذا الحد للمجمع عليه بين الفقهاء والمحدثين. ثم كلام ابن دقيق العيد (1)، الذي ناقش به الحد مناقشة، وهو أنه نظر على اشتراط الشرطين على مقتضى نظر الفقهاء، ولم يذكر في مستند النظر إلا أمرًا واحدًا وهو قوله: فإن كثيرًا من العلل، وأما الشذوذ فلم يتعرض له. هل يجري التعليل به على أصول الفقهاء أو لا؟ إلا أن يقال: إنه قد يجعل الشذوذ من جملة العلل.

قوله حفظه الله: إذا تقرر أن هذا حد للصحيح المجمع عليه لا لكل صحيح.

أقول: لا سند لهذا الكلام فيما مر إلا كلام ابن الصلاح، وهو مع كونه محتملًا لما فهمه زيد الدين، والسيد من أن ذلك التقييد إنما هو لإخراج بعض المعتزلة، ولا استدلال بالمحتمل فيه ما ذكرته أولًا. وأما ما أيده به من كلام الخطابي (2) فقد قرر - كثر الله فوائده - أن رواية ابن دقيق العيد عن المحدثين زيادة مقبولة [6] وأما ما قاله ابن دقيق العيد (3)، من أن هذا حد للمجمع عليه فالظاهر أنه أراد بين الفقهاء والمحدثين كما يشعر به كلامه السابق.

قوله حفظه الله: مع ما بين الكلامين من الاختلاف، فإن زين الدين اشترط الضبط وابن حجر (4) اعتبر تمامه. أقول: كان يظهر لي أولا أن اعتبار ابن حجر لتمام الضبط زيادة رواها عن أهل الاصطلاح، والزيادة مقبولة كما قاله مولانا - دامت فوائده - فيما قاله ابن دقيق العيد (5)

ولكني راجعت كلامه فوجدته موافقًا للزين، فإنهما معًا متفقان على أنه يعتبر في الحسن الضبط، ولكنه دون رتبة ما يعتبر أنه في رواة الصحيح،

(1) انظر الاقتراح (ص 187).

(2)

في معالم السنن (1/ 11) ،

(3)

في الاقتراح (ص 187).

(4)

انظر النكت (1/ 235)، والنخبة (ص 62).

(5)

في الاقتراح (ص 187).

ص: 1654

فقد اتفقا على حصول أصل الضبط في الحسن، فالصحيح لا بد أن يكون المعتبر فيه من الضبط رتبة فوق أصله، فعبر عنها ابن حجر بتمام الضبط.

وقال في الحسن. فإن خف - الضبط أي قل فقد قابل بين تمام الضبط وقلته، فالمراد بالتام كثير الضبط، وكثير الضبط تتفاوت رتبه، ولهذا عقبه بقوله: وتتفاوت رتبه (1). وأما الزين (2) فإنه اعتبر في الصحيح الضبط، واعتبر في الحسن ما رجحه ابن الصلاح (3) من أنه قسمان:

الأول: الذي لا يخلو رجال إسناده من مستور لم تتحقق أهليته، غير أنه ليس مغفلًا كثير الخطأ إلخ.

الثاني: أن يكون من المشهورين بالصدق والأمانة غير أنه لا يبلغ درجة رواة الصحيح.

ولا يخفى أن القسمين المذكورين قد اعتبر فيهما من الضبط حصول أصله. فالمعتبر في الصحيح إذن رتبة فوق أصله، فغاية ما صنعه ابن حجر بيان المراد، وتهذيب الحد.

وعلى هذا لا مخالفة بين زين الدين وابن حجر من هذا الوجه، وهو الأول.

الوجه الثاني: وحق المخالفة التي أبداها - حفظه الله - قوله: وكذلك اعتبر زين الدين في نظمه السابق أن تكون العلة قادحة، ولم يعتبره ابن حجر، إن كان قد ذكره في الشرح فقال: والمعلل لغة ما فيه علة، واصطلاحًا ما فيه علة خفية [7] قادحة انتهى.

ولا يخفى أن إهماله لقيد قادحة في الحد يوجب الخلل فيه إلى قوله: لا بيان المعاني اللغوية. أقول: حد ابن (4) حجر، هو قوله: وخبر الآحاد بنقل عدل تام الضبط، متصل السند، غير معلل ولا شاذ هو الصحيح لذاته، ولم يذكر فيه لفظ علة حتى يحتاج إلى وصفها بالقادحة، بل ذكر المعلل. والمعلل عندهم ما حرره في شرحه كما نقله - حفظه الله -،

(1) في هامش المخطوط ما نصه: "ولو كان المراد بتام الضبط أعلى رتبة منه لما صح قوله. وتتفاوت رتبه كما لا يخفى."

(2)

في ألفيته (ص 34 - 35).

(3)

في التقييد والإيضاح (43 - 44).

(4)

في النخبة (ص 55 - 56).

ص: 1655

فلا يرد عليه أنه أهمل ذكر القادحة، لأنه اكتفى بلفظ المعلل اصطلاحًا كما اكتفى بالعدل، وتام الضبط والشاذ، وإلا لوجب ذكر حدود هذه جميعًا في حد الصحيح. وعلى هذا ففي حد ابن حجر زيادة على حد الزين - رحمهما الله -، وهي قوله: خفية. فإن الزين لم يذكر إلا قادحة، فلعل الزين اكتفى بالإطلاق لأنه لا بد في الصحيح من سلامته من الخفية والجلية. ومن اعتبر سلامته من الخفية فالجلية عنده من باب أولى.

قوله - كثر الله فوائده - وإنه مما اختلف فيه حد زين الدين وابن حجر أن ابن حجر صرح بأن ذلك حد الصحيح لذاته بخلاف زين الدين (1) فإنه جعل ذلك حدا لمطلق الصحيح من غير تقييد بالصحيح لذاته. فكان بين الحدين المذكورين اختلافات ثلاثة. أقول: لا خفاء أن حد الزين إنما هو للصحيح لذاته لا لأمر خارج، أما أولًا فإنه الذي ينصرف إليه لفظ الصحيح عند الإطلاق، وأما ثانيًا: فالصحيح لغيره قد ذكره فيما بعد بقوله:

والحسن المشهور بالعدالة

والصدق راويه إذا أتى له

طرق أخرى نحوها من الطرق

صححته كمتن لولا أن أشق

وهذا معنى قول ابن (2) حجر في الحسن، وبكثرة طرقه يصحح، فلا مخالفة من هذا الوجه. قوله كثر الله فوائده: وقد صرح ابن حجر بما يفيد ما ذكرناه فقال: وتتفاوت رتبه إلخ.

أقول إن كان المراد ما ذكره - حفظه الله -[8] من كون ما جمع القيود الخمسة هو الصحيح المجمع عليه بين المحدثين، وإنه قد يكون الحديث صحيحًا عند البعض مع عدم واحد منها أو اثنين، فلم يظهر لي أن هذا الكلام المنقول من النخبة يفيده، وقد عقب - حفظه الله تعالى - بكلام ابن حجر هذا بقوله: وهو أي كلام ابن حجر يفيد أن

(1) في ألفيته (ص 7 - 8).

(2)

في النخبة (ص62).

ص: 1656

الصحيح مراتب، وأن تمام الضبط وتمام العدالة إنما هو تعريف للأصح لا للصحيح، فقد يكون الحديث صحيحًا بدون قيد التمامية في الأمرين المذكورين، وهكذا السلامة من كل علة، فإنها رتبة للصحيح فوق رتبة ما هو سالم من العلة القادحة، لا من مطلق العلة مع كونه صحيحًا.

أقول الذي أفاد كلامه: أن الصحيح مراتب، وأن تمام الضبط معتبر في الصحيح. ولكن التمام قابله بالعلة في حد الحسن، فالمراد به الكثرة ولا يخفى أن الكثرة متفاوتة فقال: إن ما كان في الدرجة العليا من العدالة والضبط كان أصح مما دونه، ثم قال: ودونها في الرتبة كرواية بريد بن عبد الله. ودونها كسهيل بن أبي صالح عن أبيه، ثم قال (1) فإن الجميع يشملهم اسم العدالة والضبط، وهذا قد يشعر بأن المعتبر إنما هو الضبط في حد الصحيح لا كثرته المعبر عنها بتام الضبط، لكن ما بعده بسطرين يبين أن المعتبر عنده الضبط، فإنه قال (2) وفي التي تليها يعني الرتبة الثانية من قوة الضبط ما يقتضي تقديمها على الثالثة، وهي أي الثالثة مقدمة على رواية من بعد ما ينفرد به حسنًا انتهى.

ولا يخفى أن الذي يعد ما ينفرد به حسنًا لا بد فيه من اعتبار الضبط، وإنما هو أقل رتبة من رجال الصحيح، فقد تبين أن كلام ابن حجر يفيد أن المعتبر من الضبط في الصحيح فوق حصوله أصله. وهو التمامية التي عبر بها في متنه، وإلا لكان المعتبر في الحسن والصحيح نوعًا واحدًا من الضبط، وذلك باطل. ويبين من كلامه أيضًا أن الضبط أربع مراتب: الثانية والثالثة والرابعة في الصحيح [9] بأنواعه. والأولى منها في الحسن. قوله نفع الله بعلومه: مما يؤيد هذا أنه قد اتفق المصنفون أن الصحيح مراتب إلى قوله حفظه الله: وعلى كل تقدير فليس التصحيح لما في الصحيحين إلا لكون الرواة من الثقات وقد عرفت أيهما أعلى (3) مراتب الصحيح.

أقول قد تضمن هذا الكلام الجزم بأن تصحيح أحاديث الصحيحين ليس إلا لثقة

(1) أي ابن حجر في النخبة (ص 58).

(2)

أي ابن حجر في النخبة (58).

(3)

تقدم ذكرها.

ص: 1657

الرواة، واتصال السند من غير اعتبار السلامة من الشذوذ والعلة، وهكذا تصحيح من صحح من الأئمة لوجود شرطهما أو أحدهما لا مستند له إلا ثقة الرجال، واتصال السند فقط. قال حفظه الله: وهذا عين ما قاله الخطابي (1). أقول على هذا الكلام مؤاخذات.

الأول: أنه مخالف لجميع الكتب المصنفة في الاصطلاح، فإنهم حدوا الصحيح بأنه ما جمع القيود الخمسة ثم قالوا: وهو مراتب: أعلاها ما في الصحيحين، ثم كذا، ثم كذا، وهذا تصريح منهم أن الصحيحين جمعت أحاديثها هذه القيود الخمسة.

الثاني: أن المعترضين اعترضوا على البخاري ومسلم بأحاديث ذكروها معلة وشاذة.

فلو كان السلامة من الشذوذ والعلة ليس من شرطهما، لكان دفع تلك الأحاديث بأسهل دفع، وهو أن يقال: هذه الأحاديث لا ترد. لأن السلامة من المعل ليس من شرطهما.

الثالث: أنه قال الحافظ ابن (2) حجر في بيان تفضيل صحيح البخاري على صحيح مسلم: وأما من حيث التفضيل فقد قررنا أن مدار الحديث الصحيح على الاتصال، وإتقان الرواة، وعدم العلل.

وعند التأمل يظهر أن كتاب البخاري أتقن رجالًا، وأشد اتصالًا، ثم ما يتعلق بالاتصال والإتقان. وقال: وأما [ما] يتعلق بعدم العلة وهو الوجه السادس. فإن الأحاديث التي انتقدت عليهما إلخ. وقال [10] في الفصل الثامن (3) في سياق الأحاديث المنتقدة في الجواب على سبيل الإجمال بعد نقل ما قاله مسلم: عرضت كتابي على أبي زرعة، فكلما أشار أن له علة تركته، فإذا عرف ذلك وتقرر أنهما لا يخرجان من الحديث إلا ما لا علة له، أو فيه علة (4)، إلا أنها غير مؤثرةٍ

(1) معالم السنن (1/ 11).

(2)

النكت (1/ 286).

(3)

في هدى الساري مقدمة فتح الباري (ص 347).

(4)

منهج النقد في علوم الحديث (ص 12).

ص: 1658

عندهما إلخ انتهى، وهذا معنى اشتراط السلامة من العلة القادحة.

الرابع: أنه قال ابن الصلاح في شرط مسلم: شرط مسلم في صحيحه أن يكون متصل الإسناد بنقل الثقة عن الثقة من أوله إلى منتهاه، غير شاذ ولا معلل انتهى. فهذا التصريح من أئمة الحديث شرط البخاري ومسلم السلامة من الشذوذ والعلة.

وقد تبين بهذا أن المراتب الست التي لا بد فيها من السلامة من العلة والشذوذ وأما ما نص على صحته إمام فالعبرة بما اشترطه؛ فيبقى الكلام فيما إذا وقف في هذه الأزمان على حديث صحيح الإسناد لثقة رجاله بالنص على ذلك من إمام، أو لوجدانهم في كتب الجرح والتعديل ثقات.

فأما على رأي ابن الصلاح فقد سد باب التصحيح والتحسين (1) لضعف أهله المتأخرين. والذي رآه النووي (2) وتبعه المحققون أنه لا بأس بالتصحيح، لكن لمن قويت معرفته، وتمكن، وهذان الشرطان ليس إلا ليأمن من أن يكون الحديث سالمًا أو معللًا، وإلا فلا فرق بين المتمكن وغيره. ومع هذا فقد قال بعض المحققين (3): الأحوط أن يقال: صحيح الإسناد لاحتمال علة خفيت عليه، وهذا ما يرشد أن السلامة من العلل أمر معتبر في الباب.

وقال ابن حجر (4) في مسألة ما لو اقتصر حافظ معتمد على قوله: صحيح الإسناد الذي لا أشك فيه أن الإمام منهم لا يعدل عن قوله: صحيح إلى قوله: صحيح الإسناد إلا لأمر ما قلت: وقوله: رجاله ثقات بالأولى. قوله حفظه الله: وليس بيد من جزم بصحة ما في الصحيحين أو أحدهما أو ما هو على شرطهما أو أحدهما إلا بمجرد اتصال السند، وكون الرجال ثقات إلخ.

أقول: تقدم أن الظاهر أن شرط البخاري ومسلم السلامة من [11] الشذوذ والعلة

(1) في علوم الحديث (ص 16) وقد تقدم مناقشة ذلك.

(2)

في التقريب (1/ 121 - مع التدريب).

(3)

قاله السيوطي في تدريب الراوي (1/ 82).

(4)

انظر النكت (1/ 272).

ص: 1659

القادحة، فما كان على شرطهما لا بد فيه من السلامة من ذينك الأمرين. قوله حفظه الله: وبهذا يتقرر أن نوع المعلل الذي منشؤه الوهم لا يرتفع عن الحديث الذي قد صححه إمام من الأئمة.

أقول: لا ريب أن فتح هذا الباب يغلق باب التصحيح بالمرة. ولكن ليس المعتبر في ذلك إلا البحث من ذلك الحافظ، فإذا حكم بصحة فقد تضمن إخباره عن نفسه بأنه ليس الحديث شاذًا ولا معلًا. فيكون الحديث صحيحًا، فإن وجدت له علة فذاك أمر آخر. والتصحيح والتحسين إنما هو باعتبار الظاهر. فقوله حفظه الله تعالى: فلا بد من المصير إلى أمرين إلخ ما أفاده - كثر الله فوائده - مشعر أن السلامة من العلة والشذوذ معتبرة. ولا كلام لنا فيما صححه إمام من الأئمة، إنما كلامنا في تصحيح الحديث لمجرد ثقة ناقليه، أما معنى يجب مع تمكنه وقوة معرفته فلا كلام في صحة التصحيح. منه قوله - نفع الله بعلومه - ولنذكر هاهنا ما يدفع إشكال السائل، فإن محل استشكاله هو تصحيح من صحح لمجرد كون الإسناد صحيحًا، أو رجاله ثقات، فتقول ما قاله الزين (1) رحمه الله إلخ. أقول هذا الكلام مما يشعر أيضًا باعتبار السلامة من الشذوذ والعلة عند المحدثين، لكن هل يجري كلامهم فيما لو وقف في هذه الأزمان على ثقة رجال إسناد في كتب الجرح والتعديل، فإن كلامهم إنما هو فيما أطلقه حافظ معتمد، ثم لا يخفى أن في هذا الكلام شيء، وهو أن قولهم إن صحيح الإسناد دون صحيح المتن يشعر بعدم الصحة، وإن كان بمعنى يقاربها، فظاهر لفظه دون يقضي بانتفاء الصحة، وقول ابن الصلاح الظاهر فيما أطلق المصنف المعتمد أنه صحيح الإسناد صحته في نفسه؛ لأن الظاهر عدم الشذوذ والعلة مشعر بتساوي الأمرين، فإن جعل أن المراد قبول الحديث من غير نظر إلى صحته كما يفيده لفظ وأقبله إن كان يعود إلى الحديث. فصريح عبارة ابن الصلاح أنه صحيح في نفسه عملًا بالظاهر، فهل يصح

(1) في ألفيته (ص 8).

ص: 1660

أن يقال: فيه أن التصحيح كله باعتبار الظاهر، ولكن الظهور مراتب، فما صرح بين الصحة مطلقًا فهو أظهر مما صرح فيه بصحة إسناده، وهل قول الحافظ ابن حجر في هذا المقام الذي لا أشك فيه [12] إن الإمام منهم لا يعدل عن قوله: صحيح إلى قوله: صحيح الإسناد إلا لأمر ما. انتهى. توقف في صحة ما هذا شأنه أم لا؟ ثم هل قولهم: صحيح الإسناد، ورجاله ثقات سواء؟ فإن الحسن لا بد أن يكون راويه عدلًا ضابطًا، وإطلاق الثقات محتمل أن يكونوا بلغوا من الضبط إلى ما يعتبر في الصحيح، فيكون الحديث صحيحًا أو لا فيكون حسنًا. قوله حفظه الله: ولا يخفاك أن اعتراضه أي الزين على الخطابي (1) بأنه لم يشترط الضبط غير صحيح، هذا ولم أفهم مراده وقوله: وانظر كيف استدرك عليه بالشذوذ والعلة، ولم يصرح بأنه لا بد من اعتبار ذلك! هلا قيل ذكرهما في الألفية (2) تصريح باعتبارهما. وقد وقف العبد حال بحثه في هذه المذاكرة على كلام للحافظ ابن (3) حجر رحمه الله في اعتبار السلامة من الشذوذ في حد الصحيح. فرأيت نقله هنا، وإن كان غير لائق بي، لكن رأيته موافقًا لما يلمح إليه نظر المجيب نفع الله بعلومه: قال (4) رحمه الله بعد تفسيره الشاذ بأن مخالفة الثقة لأرجح منه وهو مشكل، لأن الإسناد إذا كان متصلًا، ورواته كلهم عدولًا ضابطين فقد انتفت عنه العلل الظاهرة. ثم إذا انتفى كونه معلولًا فما المانع من الحكم بصحته لمجرد مخالفة أحد رواته لمن هو أوثق منه، أو أكثر عددًا لا يستلزم الضعف بل يكون من باب صحيح وأصح؟ قال: ولم أر مع ذلك عن أحد من أئمة الحديث اشتراط نفي الشذوذ المعبر عنه بالمخالفة، وإنما الموجود في تصرفاتهم تقديم بعض ذلك على بعض في الصحة،

(1) تقدم انظر معالم السنن (1/ 11).

(2)

في ألفيته (ص 7).

(3)

تقدم.

(4)

في النكت (2/ 653).

ص: 1661

وأمثلة ذلك موجودة في الصحيحين وغيرها. فمن ذلك أنهما أخرجا قصة جمل (1) جابر من طرق، وفيها اختلاف كثير في مقدار الثمن، وفي اشتراط ركوبه. وقد رجح (2) البخاري الطرق التي فيها الاشتراط على غيرها مع تخريجه للأمرين، ورجح أيضًا كون الثمن أوقية مع تخريجه ما يخالف ذلك. ومن ذلك أن مسلمًا (3) أخرج فيه حديث مالك عن الزهري عن عروة عن عائشة في الاضطجاع قبل ركعتي الفجر، وقد خالفه عامة أصحاب الزهري كمعمر، ويونس (4)، وعمرو بن الحارث (5)، والأوزاعي، وابن أبي ذئب، وسعيد وغيرهم عن الزهري، فذكروا الاضطجاع بعد ركعتي الفجر، ورجح جمع منهم من الحفاظ روايتهم على رواية مالك ومع ذلك فلم يتأخر أصحاب [13] الصحيح عن إخراج حديث مالك في كتبهم. وأمثلة ذلك كثيرة، ثم قال: فإن قيل: يلزم أن يسمى الحديث صحيحًا ولا يعمل به، قلنا: لا مانع من ذلك فليس كل صحيح

(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم: (2115)، (2610) (2611) ومسلم رقم:(109/ 715) وأبو داود رقم: (3505) والنسائي رقم: (4637) وأحمد (3/ 299).

(2)

انظر فتح الباري (4/ 335 - 336).

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه رقم: (121/ 736) حدثنا يحيى بن يحيى. قال: قرأت على مالك عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي بالليل إحدى عشرة ركعة. يوتر منها بواحدة. فإذا فرغ منها اضطجع على شقه الأيمن. حتى يأتيه المؤذن فيصلي ركعتين خفيفتين.

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه رقم: (000/ 736) وحدثنيه حرملة أخبرنا ابن وهب، أخبرني ابن يونس عن ابن شهاب. بهذا الإسناد.

(5)

أخرجه مسلم في صحيحه رقم: (122/ 736): وحدثني حرملة بن يحيى. حدثنا ابن وهب. أخبرني عمرو بن الحارث عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير. عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء "وهي التي يدعو الناس العتمة" إلى الفجر، إحدى عشرة ركعة. يسلم بين كل ركعتين. ويوتر بواحدة، فإذا سكت المؤذن من صلاة الفجر، وتبين له الفجر، وجاءه المؤذن قام فركع ركعتين خفيفتين. ثم اضطجع على شقه الأيمن. حتى يأتيه المؤذن للإقامة.

ص: 1662

يعمل به بدليل المنسوخ. قال: وعلى تقدير التسليم إن المخالف المرجوح لا يسمى صحيحًا، ففي جعل انتفائه شرطًا في الحكم للحديث بالصحة كون ذلك نظر، بل إذا وجدت الشروط المذكورة أولا حكم للحديث بالصحة، ما لم يظهر بعد ذلك أن فيه شذوذا؛ لأن الأصل عدم الشذوذ، وكون ذلك أصلًا بلا خور، ففي عدالة الراوي وضبطه، فإذا أثبت عدالته وضبطه كان الأصل أنه حفظ ما روى حتى يتبين خلافه انتهى.

وقوله حفظه الله: لا أدري ما وجه ما حكم به الأمير (1) رحمه الله من أن العدل أخص من الثقة، وأن الثقة قد لا يكون عدلًا. وجهه ما صرح به في هذه الرسالة من توثيقهم غير العدول، وذلك أنهم وثقوا أهل البدع والأهواء مع كون البدعة منافية للعدالة عندهم. فمن جملة من وثقوه كما قاله أبو معاوية الضرير. قال الحاكم احتجابه، وقد اشتهر عنه الغلو قال الذهبي (2) غلو التشيع، وقد وثقه العجلي، وأخرج الشيخان (3) لأيوب بن عائذ بن مدلج وثقه ابن معين (4) وأبو حاتم (5) والنسائي (6)، والعجلي (7) .... .... .... ....

(1) الأمير الصنعاني في "ثمرات النظر في علم الأثر "(ص117).

(2)

في ميزان الاعتدال (1/ 459 رقم: 1085/ 2388).

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه رقم (4346) حدثني عباس بن الوليد: حدثنا عبد الواحد عن أيوب بن عائذ: حدثنا قيس بن مسلم قال: سمعت طارق بن شهاب يقول: حدثني أبو موسى الأشعري رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض قومي، فجئت ورسول الله صلى الله عليه وسلم منيخ بالأبطح فقال:"أحججت يا عبد الله بن قيس؟ " قلت: نعم يا رسول الله، قال: كيف قلت؟ "قال: قلت: لبيك إهلالًا كإهلالك". قال: "فهل سقت معك هديا؟ " قلت: لم أسق، قال:"فطف بالبيت، واسع بين الصفا والمروة ثم حل" ففعلت حتى مشطت لي امرأة من نساء بني قيس ومكثنا بذلك حتى استخلف عمر.

(4)

ذكره الذهبي في ميزان الاعتدال (1/ 459).

(5)

ذكره الذهبي في ميزان الاعتدال (1/ 459).

(6)

ذكره المزي في تهذيب الكمال (1/ 478 - 479).

(7)

ذكره المزي في تهذيب الكمال (1/ 478 - 479).

ص: 1663

وزاد أبو داود (1) وكان (2) مرجئا، وساق جماعة انتهى. فعلى هذا لكلامه وجه (3)،

(1) ذكره الكلاباذي في رجال صحيح البخاري (1/ 82).

(2)

المرجئة من الإرجاء وهو التأخير والإمهال. قال تعالى: [قالوا أرجه وأخاه][الشعراء: 36] القاموس المحيط (ص 1660).

وفي الاصطلاح كانت المرجئة في آخر القرن الأول تطلق على فئتين كما قال الإمام ابن عيينة:

1 -

\ قوم أرجئوا أمر عثمان وعلي فقد مضى أولئك.

2 -

\ فأما المرجئة اليوم فهم يقولون: الإيمان قول بلا عمل واستقر المعنى الاصطلاحي للمرجئة عند السلف على المعنى الثاني "إرجاء الفقهاء" وهو القول بأن: الإيمان التصدق أو التصديق والقول، أو الإيمان قول بلا عمل. (أي أخرج الأعمال من مسمى الإيمان) وعليه فإن: من قال الإيمان لا يزيد ولا ينقص. وأنه لا يجوز الاستثناء في الإيمان من قال بهذه الأمور أو بعضها فهو مرجئ.

قال ابن تيمية في منهاج السنة (7/ 231): حدثت بدعة المرجئة في أواخر عصر الصحابة، في عهد عبد الملك بن مروان وعبد الله بن الزبير، وعبد الملك توفي سنة 86 هـ وابن الزبير قتل سنة 73 هـ.

انظر مزيدًا من التفاصيل عن ذلك.

الإبانة (2/ 903)، الملل والنحل (1/ 139)، منهاج السنة (1/ 309).

(3)

قال ابن حجر في هدي الساري (ص 392): له في صحيح البخاري حديث واحد في المغازي في قصة أبي موسى الأشعري أخرجه له بمتابعة شعبة - رقم: (1565، 1724، 1795، 4397) - وسفيان رقم: (1559) - وروى له مسلم - في صحيحه رقم: (6/ 686) حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد، جميعًا عن القاسم بن مالك قال عمرو: حدثنا قاسم بن مالك المزني حدثنا أيوب بن عائذ الطائي عن بكير بن الأخنس. عن مجاهد عن ابن عباس قال: "إن الله فرض الصلاة على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم على المسافر ركعتين، وعلى المقيم أربعًا، وفي الخوف ركعة" - والترمذي - في السنن رقم: (614) وقال هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، لا نعرفه إلا من حديث عبيد الله بن موسى.

حدثنا عبد الله بن أبي زياد القطواني الكوفي حدثنا عبيد الله بن موسى حدثنا غالب أبو بشر عن أيوب بن عائذ الطائي عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب كعب بن عجرة قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعيذك بالله يا كعب بن عجرة من أمراء يكونون من بعدي، فمن غشي أبوابهم فصدقهم في كذبهم وأعانهم على ظلمهم؛ فليس مني ولست منه، ولا يرد علي الحوض، ومن غشي أبوابهم أو لم يغش؛ فلم يصدقهم في كذبهم، ولم يعنهم على ظلمهم؛ فهو مني، وأنا منه وسيرد علي الحوض.

يا كعب بن عجرة! الصلاة برهان، والصوم جنة حصينة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، يا كعب بن عجرة! إنه لا يربو لحم نبت من سحت إلا كانت النار أولى به".

وهو حديث صحيح.

ص: 1664

وهو يناقض ما صرح به أئمة الفن من أن الثقة العدل الضابط فيحتاج إلى الجمع بينهما.

إذا شاهد المولى من العبد زلة

فعادته عنها التغافل والصفح

نفع الله بعلومه المسلمين، ونصر بها سنة سيد المرسلين. اللهم صل وسلم على سيدنا محمد وآله آمين.

حرره في رجب سنة (1217 هـ)[14].

ص: 1665