المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الأبحاث الوضية في الكلام على حديث (حب الدنيا رأس كل خطية) - الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني - جـ ٤

[الشوكاني]

فهرس الكتاب

- ‌بحث في قول أهل الحديث " رجال إسناده ثقات

- ‌القول المقبول في رد خبر المجهول من غير صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌بحث في الجواب على من قال أنه لم يقع التعرض لمن في حفظه ضعف من الصحابة

- ‌سؤال عن عدالة جميع الصحابة هل هي مسلمة أم لا

- ‌رفع البأس عن حديث النفس والهم والوسواس

- ‌الأبحاث الوضية في الكلام على حديث (حب الدنيا رأس كل خطية)

- ‌سؤال عن معنى بني الإسلام على خمسة أركان وما يترتب عليه

- ‌الأذكار (جواب على بعض الأحاديث المتعارضة فيها)

- ‌بحث في الكلام على حديث " إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن اجتهد وأخطأ فله أجر واحد

- ‌جواب عن سؤال خاص بالحديث " لا عهد لظالم " وهل هو موجود فعلا من عدمه

- ‌فوائد في أحاديث فضائل القرآن

- ‌بحث في حديث "لعن الله اليهود لاتخاذهم قبور أنبيائهم مساجد

- ‌إتحاف المهرة بالكلام على حديث: "لا عدوى ولا طيرة

- ‌بحث في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنما الأعمال بالنيات

- ‌بحث في حديث: "لو لم تذنبوا لذهب الله بكم .. إلخ

- ‌بحث في بيان العبدين الصالحين المذكورين في حديث الغدير

- ‌بحث في حديث (أجعل لك صلاتي كلها) وفي تحقيق الصلاة على الآل ومن خصهم

- ‌تنبيه الأعلام على تفسير المشتبهات بين الحلال والحرام

الفصل: ‌الأبحاث الوضية في الكلام على حديث (حب الدنيا رأس كل خطية)

‌الأبحاث الوضية في الكلام على حديث (حب الدنيا رأس كل خطية)

تأليف

محمد بن علي الشوكاني

حققته وعلقت عليه وخرجت أحاديثه

محفوظة بنت علي شرف الدين

أم الحسن

ص: 1781

وصف المخطوط (أ):

1 -

عنوان الرسالة: (الأبحاث الوضية في الكلام على الحديث: "حب الدنيا رأس كل خطية").

2 -

موضوع الرسالة: في "الحديث".

3 -

أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين وآله الطاهرين وصحبه الراشدين. وبعد: فإنه ورد إلي سؤال من عالم مفضال هو لطف الله بن أحمد جحاف ..

4 -

آخر الرسالة: " .... وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية. والله ولي التوفيق، حرر في أوائل ليلة الخميس لعله في شهر جمادى الآخرة سنة (1217 هـ) بقلم مؤلفه الحقير محمد بن علي الشوكاني. غفر الله ذنوبه وستر عيوبه".

5 -

نوع الخط: خط نسخي معتاد.

6 -

عدد الصفحات: 16 صفحة.

7 -

عدد الأسطر في الصفحة: (21 - 24) سطرا.

8 -

عدد الكلمات في السطر: (11 - 12) كلمة.

9 -

الناسخ: المؤلف محمد بن علي الشوكاني.

10 -

الرسالة من المجلد الثالث من "الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني".

ص: 1783

الأبحاث الوضية في الكلام على حديث حب الدنيا رأس كل خطية

[صورة عنوان الرسالة من المخطوط (أ)]

ص: 1784

[صورة الصفحة الأولى من المخطوط (أ)].

ص: 1785

[صورة الصفحة الأخيرة من المخطوط (أ)].

ص: 1786

وصف المخطوط (ب):

1 -

عنوان الرسالة: (سؤال عن حديث حب الدنيا رأس كل خطية).

2 -

موضوع الرسالة: في " الحديث ".

3 -

أول الرسالة: قال رضي الله عنه: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين، وآله الطاهرين وصحبه الراشدين، وبعد: فإنه ورد إلي سؤال من بعض الأعلام ولفظه. . .

4 -

آخر الرسالة: لكن الخطر فيه دون الخطر في حب ما هو من الدنيا كالمال والبنين والشهوات والشرف، وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية، والله ولي التوفيق، والحمد لله أولا وآخرًا، وصلى الله على خير خلقه محمد وآله وصحبه وسلم.

5 -

نوع الخط: خط نسخي جيد.

6 -

عدد الصفحات: (14) صفحة.

7 -

عدد الأسطر في الصفحة: (18 - 23) سطرا.

8 -

عدد الكلمات في السطر: (10 - 12) كلمة.

9 -

الرسالة من المجلد الثالث من " الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني ".

ص: 1787

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين، و [على](1) آله الطاهرين وصحبه الراشدين، وبعد:

فإنه ورد إلي سؤال من [عالم مفضال هو لطف الله بن أحمد حجاف (2) - لا برح من الله في خفي الألطاف (3) -]، ولفظه:

ورد [في (4)] حديث أخرجه البيهقي (5) وغيره مرفوعا، وبعضهم صحح رفعه قال:

(1) زيادة من (ب).

(2)

هو لطف الله بن أحمد بن لطف الله بن أحمد بن لطف الله بن أحمد حجاف، الصنعاني المولد والدار والمنشأ، ولد سنة 1189 هـ، وأخذ العلم عن جماعة من علماء العصر.

قال الشوكاني في " البدر الطالع "(2/ 60 - 71): وقد كتب إلي. . . بحيث لو جمع هو وما أكتبه عليه من الجوابات لكان مجلدًا، أو لعل غالب ذلك محفوظ لديه وعندي منه القليل، وهو قوي الإدراك، جيد الفهم، حسن الحفظ، مليح العبارة، فصيح اللفظ، بليغ النظم والنشر.

(3)

في (ب): بعض الأعلام.

(4)

زيادة من (أ).

(5)

في " الشعب "(7/ 338 رقم 10501) من مراسيل الحسن مرفوعا.

قلت: وأخرجه البيهقي في " الزهد " رقم (249) من كلام عيسى ابن مريم عليه السلام.

وأخرجه أحمد بن حنبل في " الزهد " رقم (472، 473) من طريقين عن عيسى عليه السلام من قوله، وهو الأشبه على إعضال الطريقين.

وأخرجه أبو نعيم في " الحلية "(6/ 388) من قول عيسى عليه السلام أيضا.

وأورده الزركشي في " التذكرة في الأحاديث المشتهرة "(ص 122\ رقم 1)، وعزاه لابن لأبي الدنيا في كتاب " مكائد الشيطان " من كلام ابن دينار.

قلت: لم أجده في " مكائد الشيطان " المطبوع بتحقيق مجدي السيد إبراهيم.

عزاه العراقي في " تخريج أحاديث إحياء علوم الدين "(4/ 1854) إلى ابن أبي الدنيا في ذم الدنيا.

وعزاه الألباني في " الضعيفة " رقم (1226) إلى ابن عساكر (7/ 98 رقم 1) من قول: " سعد بن مسعود الصيرفي "، وذكر أنه تابعي، وأنه كان رجلا صالحا.

وأورده السيوطي في " الجامع الصغير " رقم (3662)، وعزاه للبيهقي فقط عن الحسن البصري مرسلا، ورمز السيوطي لضعفه، وقال المناوي في " فيض القدير " (3/ 369) متعقبا على السيوطي:" ثم قال - أعني البيهقي -: ولا أصل له من حديث النبي صلى الله عليه وسلم "، قال الحافظ الزين العراقي: ومراسيل الحسن عندهم شبه الريح.

وقال المناوي في " التيسير بشرح الجامع الصغير "(1/ 492): " وقال المؤلف - يعني في فتاويه -: رفعه وهم، بل عده الحفاظ موضوعا ".

وقال السيوطي في " الدرر المنتثرة "(ص 191 رقم 184): " قد عد الحديث في الموضوعات "، وذكره ابن تيمية في " أحاديث القصاص "(ص 58 رقم 7)، وقال:" هذا معروف عن جندب بن عبد الله البجلي، وأما عن النبي صلى الله عليه وسلم فليس له إسناد معروف ".

وأورده القاري في " الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة " - " الموضوعات الكبرى " - (ص 88 رقم 63) وقال: " القائل بأنه موضوع لم يصرح بإسناده، والأسانيد مختلفة، والمرسل حجة عند الجمهور إذا صح إسناده، قلت: المرسل ضعيف عند جماهير المحدثين والشافعي وكثير من الفقهاء وأصحاب الأصول، ولهذا قال ابن المديني: مرسلات إذا رواها عنه الثقات صحاح، وقال الدارقطني: في مراسيله ضعف، فالاعتماد على عماد الإسناد " اهـ.

وقد حكم المحدث الألباني على حديث الحسن البصري في " ضعيف الجامع "(3/ 90 رقم 2681) بالضعف، وعندما تكلم على طرقه في " الضعيفة " رقم (1226) حكم عليه بالوضع.

وخلاصة الأمر أن الحديث موضوع، والله أعلم.

ص: 1791

قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " حب الدنيا رأس كل خطيئة "، فأشكل علينا استدلالهم به من وجوه:

الأول: أنهم جعلوا محبة الدنيا أصلا في الخطايا مع أن حبها أمر جبلي، فكيف يمكن أن يزيل الإنسان ما ركزه الله في طبيعته من حبها؟ وهل هي إلا فتنة جعلها الله؟

الثاني: نسألكم: ما المراد بالدنيا؟ إن قال: المراد بها متاعها من منقول وغيره، فهذا غير مسلم لأن الدنيا غير متاعها، وإن قال: هو من تسمية الحالية والمحلية [أو (1)] المظروف والظرف فهو مجاز، فنقول: الأصل الحقيقة، وأيضا لا بد من قرينة ترد من الشارع تدل

(1) زيادة من (ب).

ص: 1792

على أن المراد بذلك المجاز، والآيات [القرآنية] (1) تشهد بأن المراد بالدنيا هي الحياة الأولى كما دل على ذلك:{من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها} [1 أ]{نوف إليهم أعمالهم فيها} (2)، {تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة} (3)، {وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور} (4)، والآيات (5) في ذلك كثيرة.

الثالث: إن قام الدليل على أن المراد هنا المعنى المجازي - وما أظنه يقوم - فنقول بعد ذلك كله: [قد](6) سلمنا أنه المراد، لكن نحكم بأنها سبب لوقوع المفاسد والطغيان كثيرًا، فتكون محرمة وجمعها قبيح، لكن لا يخفى أن تحريم المسبب لا يستلزم تحريم السبب في أمثلة كثيرة، كما لو تسبب عن السمر خروج وقت [صلاة](7) الضحى، فإنه لا يقضى بتحريم ذلك السبب، فما بقي إلا أن المراد تحريم حب الحياة وقبحها لئلا يرد علينا شيء، وذلك مجرى [1] على التساهل بالآخرة، وليس ذلك من قبيل المسبب المحرم اللازم منه تحريم سببه، بل ذلك السبب نفسه قد صح عن الشارع تقبيحه، فكان [بالدليل](8)، والمقصود إظهار الفائدة. انتهى السؤال.

(1) زيادة من (ب).

(2)

[هود: 15].

(3)

[الأنفال: 67].

(4)

[آل عمران: 185].

(5)

منها قوله تعالى: (وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحياة الدنيا)[الأنعام: 70].

وقوله تعالى: (وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع)[الرعد: 26].

وقوله تعالى: (يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا)[يونس: 23].

وقوله تعالى: (الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة. . .)[إبراهيم: 3].

(6)

زيادة من (ب).

(7)

زيادة من (ب).

(8)

زيادة من (ب).

ص: 1793

[الجواب]

والجواب - بمعونة الوهاب - ينحصر في أبحاث خمسة:

الأول: الكلام على الحديث المسئول عنه فنقول: قال الحافظ السخاوي في " المقاصد الحسنة في الأحاديث الدائرة على الألسنة "(1): أخرجه البيهقي (2) في الحادي والسبعين من الشعب بإسناد حسن إلى الحسن البصري [رفعه](3) مرسلا، وأورده في الفردوس (4) بلا إسناد عن علي [رضي الله عنه](5)[رفعه](6)، وهو عند البيهقي أيضًا في الزهد (7)، وأبي نعيم في ترجمة البلوي من الحلية (8) من قول عيسى ابن مريم عليه السلام، وعند ابن أبي الدنيا في مكائد الشيطان له من قول مالك بن دينار [1 ب]، وعند [ابن يونس (9)] في ترجمة سعد بن مسعود التجيبي من تاريخ مصر له من قول سعد هذا، وجزم ابن تيمية (10) بأنه من قول جندب البجلي رضي الله عنه.

قال السخاوي: وبالأول يرد عليه وعلى غيره ممن صرح بالحكم [عليه](11) بالوضع؛ لقول ابن المديني: مرسلات الحسن البصري إذا رواها عنه الثقات صحاح، ما أقل ما

(1)(ص 296 - 297 رقم 384).

(2)

تقدم آنفا.

(3)

في (ب): يكون.

(4)

(2/ 231 رقم 3112، 3113).

(5)

زيادة من (ب).

(6)

في (ب): يرفعه.

(7)

(ص 249).

(8)

(6/ 388).

(9)

في (ب): أبو نواس.

(10)

في أحاديث القصاص (ص 58 رقم 7).

(11)

زيادة من (ب).

ص: 1794

يسقط منها! وقال أبو زرعة: كل شيء يقول الحسن: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجدت له أصلا ثابتا ما خلا أربعة أحاديث، وليته ذكرها، وقال الدارقطني: في مراسيله ضعيف، وللديلمي عن أبي هريرة [رفعه] (1):(الآفات تصيب أمتي حبهم الدنيا وجمعهم الدنانير والدراهم، لا خير في كثير ممن جمعها إلا من سلطه الله على هلكتها في الحق).

قلت: فعلى هذا يكون الحديث مرسلا قويا؛ لأنه قد تقوى بما تقدم ذكره، ولا ينافي رفعه وقف من وقفه على بعض الصحابة، أو على من بعدهم، فقد يتكلم الصحابي أو التابعي بالحديث [2] النبوي من دون أن يرفعه، إما لإخراجه مخرج الأمثال المرسلة، أو [لكون](2) المقام ليس مقام [الرواية](3)، أو [لكون](4) الحديث مشتهرا شهرة تغني عن رفعه، وعلى كل حال فمعناه صحيح، وقد ورد ما يشهد له ويقويه كحديث:(الدنيا ملعونة وملعون ما فيها، إلا ذكر الله [وما والاه] (5) أو عالم أو متعلم)، وهو في السنن (6).

(1) في (ب): يرفعه.

(2)

في (ب): يكون.

(3)

في (ب): للرواية.

(4)

في (ب): يكون.

(5)

زيادة من (ب).

(6)

أخرجه الترمذي رقم (2322)، وقال: حديث حسن غريب، وابن ماجه رقم (4112) من حديث أبي هريرة.

وأخرجه البغوي في " شرح السنة "(14/ 229 رقم 4028) عن عبد الله بن ضمرة.

وأخرجه أبو داود في " المراسيل " رقم (502)، وأحمد في الزهد رقم (154) عن محمد بن المنكدر، ورجاله ثقات، رجال الشيخين.

وأخرجه أبو نعيم في " الحلية "(3/ 157) و (7/ 90)، والبيهقي في " الزهد " رقم (246) من حديث جابر بن عبد الله.

وأخرجه البزار في " المسند "(4/ 108 رقم 3310 - كشف) من حديث عبد الله بن مسعود.

والخلاصة أن الحديث حسن، وقد حسنه المحدث الألباني في " صحيح الجامع " رقم (3414).

ص: 1795

وحديث: (الدنيا خضرة حلوة، وإن الله مستخلفكم فيها، فناظر كيف تعملون؟) أخرجه مسلم (1)، والنسائي (2)، وغيرهما (3) من حديث أبي سعيد الخدري.

وأخرجه العسكري (4) من حديث [2 أ] أبي هريرة بلفظ: " الدنيا حلوة خضرة، من أخذها بحقها بورك له فيها، ورب متخوض في مال الله ورسوله له النار يوم القيامة "، وأصله في البخاري (5) بلفظ:" إن رجالا يتخوضون في مال الله. . . ".

وفي البخاري (6) أيضًا من حديث حكيم بن حزام أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال له: " يا حكيم إن هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذ بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه ".

وقد روي من حديث ميمونة عند أبي يعلى (7) والطبراني (8)،

(1) في صحيحه رقم (99/ 2742).

(2)

في " عشرة النساء " رقم (387).

(3)

كابن ماجه رقم (4000)، والبيهقي في " السنن الكبرى "(1/ 91) وفي " الآداب " رقم (744)، وأحمد في " المسند "(3/ 7، 19، 22)، والبغوي في " شرح السنة "(9/ 12 رقم 2243)، والترمذي رقم (2191) وقال: حديث حسن صحيح.

(4)

لم أعثر عليه.

(5)

في صحيحه (3118) عن خولة الأنصارية رضي الله عنها قالت: " سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " إن رجالا يتخوضون في مال الله بغير حق، فلهم النار يوم القيامة ".

يتخوضون: أي يتصرفون في مال المسلمين بالباطل. " الفتح "(6/ 219).

(6)

في صحيحه رقم (1472، 2750، 3143، 6441).

خضرة: أي مشتهاة، والنفوس تميل إلى ذلك. " الفتح "(6/ 219).

(7)

في مسنده (13/ 15 رقم 22/ 7099) من حديث ميمونة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الدنيا خضرة حلوة، فمن اتقى فيها وأصلح وإلا فهو كالآكل ولا يشبع ".

(8)

في " الكبير "(24/ 24 رقم 58) مختصرًا.

وأورده الهيثمي في " المجمع "(10/ 246 - 247)، وقال: رواه أبو يعلى والطبراني باختصار كثير عنه، وفيه " المثنى بن الصباح " وهو ضعيف.

قلت: والمثنى بن الصباح ضعفه الأئمة المتقدمون، والضعف على حديثه بين، انظر:" الكامل " لابن عدي (6/ 2418) والمجروحين لابن حبان (3/ 20).

ص: 1796

والرامهرمزي (1) في الأمثال، وعن عبد الله بن عمرو عند الطبراني (2).

وأخرج أحمد (3) من حديث عائشة بلفظ: " الدنيا دار من لا دار له، ولها يجمع من لا عقل له "، قال السخاوي (4): ورجاله ثقات.

وأخرج مسلم (5) من حديث أبي هريرة: " الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر "، وقد روي من حديث ابن عمرو عند البزار (6).

ومن حديث ابن [عمرو (7)] عند الطبراني (8)، وأبي نعيم (9)، وأخرجه أيضًا من حديثه

(1) نسبه صاحب " كنز العمال "(3/ 212 - 213 رقم 6200) إلى الرامهرمزي في الأسندة، ونقل عنه قوله:" وسنده حسن عن ميمونة ".

(2)

عزاه الهيثمي في " المجمع "(10/ 246)، وقال: رجاله ثقات.

(3)

في " المسند "(6/ 71).

(4)

في " المقاصد الحسنة " رقم (494).

(5)

في صحيحه رقم (1/ 2956).

قلت: وأخرجه الترمذي رقم (2324)، وقال: حديث حسن صحيح.

وابن ماجه رقم (4113)، وأحمد في " المسند "(2/ 323، 389، 485)، وابن حبان في صحيحه رقم (2488 - موارد).

(6)

في " المسند "(4/ 247 رقم 3645 - كشف) بسندين.

وأورده الهيثمي في " المجمع "(10/ 289)، وقال:" رواه البزار بسندين، أحدهما ضعيف، والآخر فيه جماعة لم أعرفهم ".

(7)

في المخطوط: [عمر]، والصواب ما أثبتناه من " المجمع "(10/ 289).

(8)

كما في " المجمع "(10/ 289).

(9)

في " الحلية "(8/ 185)، وقال أبو نعيم:" غريب من حديث عبد الله بن عمرو، بهذا اللفظ لم نكتبه إلا من حديث يحيى بن أيوب " اهـ.

ص: 1797

أحمد (1) وأبي نعيم (2).

(1) في " المسند "(2/ 197).

(2)

في " الحلية "(8/ 177)، وفيها " عبد الرحمن بن عمرو " وهو خطأ، والصواب " عبد الله بن عمرو "، وأورده الهيثمي في " المجمع "(10/ 288 - 289)، وقال:" رواه أحمد والطبراني باختصار، ورجال أحمد رجال الصحيح غير عبد الله بن جنادة، وهو ثقة ".

قلت: وأخرجه البغوي في " شرح السنة "(14/ 297 رقم 4106)، والحاكم في " المستدرك "(4/ 315)، وسكت هو والذهبي عن الكلام عليه.

فائدة:

قال القرطبي في " المفهم "(7/ 109 - 110) قوله: " الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر " إنما كانت الدنيا كذلك لأن المؤمن فيها مقيد بقيود التكاليف، فلا يقدر على حركة ولا سكون إلا أن يفسح له الشرع، فيفك قيده ويمكنه من الفعل أو الترك، مع ما هو فيه من توالي أنواع البلايا والمحن والمكابدات من الهموم والغموم والأسقام والآلام، ومكابدة الأنداد والأضداد والعيال والأولاد، وعلى الجملة:" وأشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأولياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل بحسب دينه " كما قاله صلى الله عليه وسلم، وأي سجن أعظم من هذا؟ ثم هو في هذا السجن بحسب على غاية الخوف والوجل؛ إذ لا يدري بماذا يختم له من عمل؟ كيف وهو يتوقع أمرا لا شيء أعظم منه، ويخاف هلاكا لا هلاك فوقه؟ فلولا أنه يرتجي الخلاص من هذا السجن لهلك مكانه، لكنه لطف به فهون عليه ذلك كله بما وعد على صبره، وبما كشف له من حميد عاقبة أمره.

والكافر منفك عن تلك الحالات بالتكاليف، آمن من تلك المخاويف

، مقبل على لذاته، منهمك في شهواته، معتز بمساعدة الأيام، يأكل ويتمتع كما تأكل الأنعام، وعن قريب يستيقظ من هذه الأحلام، ويحصل السجن الذي لا يرام، فنسأل الله السلامة من أهوال يوم القيامة.

وانظر: شرح صحيح مسلم للنووي (18/ 93).

وقال القاضي عياض في " إكمال المعلم بفوائد مسلم "(8/ 511): قوله: " الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر " معناه: أن المؤمن مدة بقائه فيها وعلمه بما أعد له في الآخرة من النعيم الدائم والبشر، أنه عند موته وعرضه عليه فحبسه عنه في الحياة الدنيا وتكليفه ما ألزمه، ومنعه مما حرم عليه من شهواته كالمسجون المحبوس عن لذاته ومحابه، حتى إذا ما فارقها استراح من نصبها وأنكادها خرج إلى ما أعد له، واتسعت آماله، وقضى ما شاء من شهواته، والكافر إنما له من ذلك ما في الدنيا على قلته وتكديره بالشوائب وتنكيده بالعوائق، حتى إذا فارق ذلك صار إلى سجن الجحيم وعذاب النار وشقاء الأبد.

ص: 1798

وأخرجه مسلم (1)، والنسائي (2)، وابن ماجه (3) من حديث عبد الله بن عمرو:" الدنيا متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة ".

وأخرج في مسند الفردوس (4) عن ابن عمر مرفوعا: " الدنيا منظرة الآخرة، فاعبروها ولا تعمروها ".

وأخرج العقيلي في " الضعفاء "(5) من حديث طارق بن أشيم: " نعمت الدار الدنيا لمن تزود منها لآخرته "، وهو عند الحاكم في مستدركه (6)، وصححه وتعقبه الذهبي بأنه منكر.

والأحاديث في هذا الباب [3] كثيرة جدا، ولا يخفى ما في هذه الأحاديث التي سقناها من الدلالة على صحة معنى حديث:" حب الدنيا رأس كل خطيئة "(7)، فإن ما كان

(1) في صحيحه رقم (1467).

(2)

في " السنن "(6/ 69).

(3)

في " السنن " رقم (1855)، وهو حديث صحيح.

(4)

أورده الديلمي في " الفردوس بمأثور الخطاب "(2/ 228 رقم 3102).

(5)

في " الضعفاء الكبير "(3/ 89)، وتتمة الحديث:" ما يرضي به ربه، وبئست الدار الدنيا لمن صرعته عن آخرته، وقصرت به عن رضا ربه، فإذا قال العبد: قبح الله الدنيا، قالت الدنيا: أقبح الله أعصانا للرب ".

وقال العقيلي: هذا يروى عن علي من قوله.

(6)

(4/ 312 - 313)، وفي سنده عبد الجبار بن وهب: مجهول وحديثه منكر.

انظر: " الميزان "(2/ 534)، و" الضعفاء " للعقيلي (3/ 89 رقم 1060).

والخلاصة أن حديث طارق بن أشيم ضعيف، والله أعلم.

(7)

تقدم تخريجه.

ص: 1799

من هذه الأحاديث وغيرها متضمنا لذم الدنيا والتنفير منها ففيه دليل على أنها لا تكون محلا للمحبة، وأن حبها وهي بهذه المثابة وسيلة للخطيئة، وما كان منها متضمنا لمدحها أو إباحة الانتفاع بها فهو مقيد يفيد مسوغ للتناول، وليس فيه ما يفيد أنها محل للمحبة.

وبالجملة فالأدلة الواردة في ذم البخل كتابا (1) وسنة (2) تدل على صحة معنى هذا

(1) منها: قول الله عز وجل: (ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء)[محمد: 38].

ومنها قول الله عز وجل: (ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة)[آل عمران: 180].

ومنها قول الله عز وجل: (الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد)[الحديد: 24].

(2)

منها ما أخرجه أبو داود رقم (1698)، وأحمد (2/ 160، 195)، والحاكم (1/ 415)، وصححه ووافقه الذهبي، عن عبد الله بن عمرو قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " إياكم والشح، فإنما هلك من كان قبلكم بالشح، أمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالفجور ففجروا "، وهو حديث صحيح.

ومنها ما أخرجه البخاري رقم (6638)، ومسلم رقم (30/ 990) من حديث أبي ذر قال: انتهيت إليه وهو يقول في ظل الكعبة: " هم الأخسرون ورب الكعبة، هم الأخسرون ورب الكعبة، قلت: ما شأني؟ أيرى في شيء؟ ما شأني؟ فجلست إليه وهو يقول فما استطعت أن أسكت، وتغشاني ما شاء الله، فقلت: من هم بأبي أنت وأمي يا رسول الله؟ قال: الأكثرون أموالا، إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا ".

ومنها ما أخرجه البخاري رقم (1407)، ومسلم رقم (992): حدثنا أبو العلاء بن الشخير أن الأحنف بن قيس حدثهم قال: جلست إلى ملأ من قريش، فجاء رجل خشن الشعر والثياب والهيئة، حتى قام عليهم فسلم ثم قال:" بشر الكانزين برصف يحمى عليه في نار جهنم، ثم يوضع على حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج من نفض كتفه، ويوضع على نفض كتفه حتى يخرج من حلمة ثديه، يتزلزل، ثم ولى فجلس إلى سارية، وتبعته وجلست إليه وأنا لا أدري من هو؟ فقلت له: لا أرى القوم إلا قد كرهوا الذي قلت، قال: إنهم لا يعقلون شيئا، قال لي خليلي، قال: قلت: من خليلك؟ قال: النبي صلى الله عليه وسلم: " يا أبا ذر أتبصر أحدا؟ " قال: فنظرت إلى الشمس ما بقي من النهار وأنا أرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرسلني في حاجة له، قلت: نعم، قال: " ما أحب أن لي مثل أحد ذهبا أنفقه كله إلا ثلاثة دنانير "، وإن هؤلاء لا يعقلون، إنما يجمعون الدنيا، لا والله، لا أسألهم دنيا ولا أستفتيهم عن دين حتى ألقى الله.

ومنها ما أخرجه مسلم رقم (3/ 2958)، والترمذي رقم (3354)، والنسائي (6/ 238)، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.

عن عبد الله بن الشخير رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ: " ألهاكم التكاثر " قال: " يقول ابن آدم: مالي مالي، (قال:) وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت؟ "

ومنها ما أخرجه مسلم رقم (5/ 2959) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يقول العبد: مالي مالي، إنما له من ماله ثلاث: ما أكل فأفنى، أو لبس فأبلى، أو أعطى فاقتنى، وما هو سوى ذلك فهو ذاهب وتاركه للناس ".

قوله: (ألهاكم التكاثر)[التكاثر: 1] يعني: شغلكم الإكثار من الدنيا ومن الالتفات إليها عما هو الأولى بكم من الاستعداد للآخرة، وهذا الخطاب للجمهور؛ إذ جنس الإنسان على ذلك مفطور، كما قال تعالى:(كلا بل تحبون العاجلة وتذرون الآخرة)[القيامة: 20 - 21]، وكما قال تعالى:(زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين. . . .)[آل عمران: 14].

وقوله: " يقول ابن آدم: مالي مالي ": أي يغتر بنسبة المال إليه وكونه في يديه، حتى ربما يعجب به ويفخر به، ولعله ممن تعب هو في جمعه، ويصل غيره إلى نفعه، ثم أخبر بالأوجه التي ينتفع بالمال فيها، وافتتح الكلام بـ (إنما) التي هي للتحقيق والحصر فقال:" إنما له من ماله ثلاث ".

وقوله: " أو أعطى فاقتنى " أي أعطى الصدقة فاقتنى الثواب لنفسه كما قال في الرواية الأخرى: " أو تصدقت فأمضيت "، وقد رواه ابن ماهان:" فأقنى " بمعنى: أكسب غيره كما قال تعالى (أغنى وأقنى)[النجم: 48]" المفهم "(7/ 110 - 112).

ص: 1800

الحديث المسئول عنه؛ لأن البخل بمتاع الحياة الدنيا لا تكون إلا من محب لها، متهالك عليها، وهكذا الأدلة الدالة على ذم التكاثر والجمع والكنز والمنع لما يجب [2 ب] في المال، فإنها تفيد صحة معنى الحديث المسئول عنه؛ لأن كل ذلك لا يصدر إلا من محب للدنيا، وهكذا الأدلة الواردة في الترغيب في الزهد (1)، والترهيب من مقابله هي تفيد هذا

(1) منها ما أخرجه مسلم في صحيحه رقم (125/ 1054) عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " قد أفلح من أسلم ورزق كفافا وقنعه الله بما آتاه ".

(منها) ما أخرجه البخاري رقم (6460)، ومسلم رقم (126/ 1055) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اللهم ارزق آل محمد قوتا ".

قوتا: ما يقوت الأبدان ويكف عن الحاجة والفاقة، وهذا الحديث حجة لمن قال: إن الكفاف - كما جاء في رواية أخرى - أفضل من الغنى والفقر، ووجه التمسك بهذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما يدعو لنفسه بأفضل الأحوال، وأيضا فإن الكفاف حالة متوسطة بين الغنى والفقر، فإن حالة صاحب الكفاف حالة الفقير؛ إذ لا يترفه في طيبات الدنيا، ولا في زهرتها، فكانت حاله إلى الفقر أقرب، فقد حصل له ما حصل للفقير من الثواب على الصبر، وكفي مرارته وآفاته.

انظر: " المفهم "(7/ 130 - 132).

ومنها ما أخرجه مسلم رقم (55/ 2858) عن المستورد أخي بني فهر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه هذه - وأشار يحيى بالسبابة - في اليم، فلينظر بم يرجع؟ ".

قال القرطبي في " المفهم "(7/ 125 - 126): وهذا مثل لحقارة الدنيا وقلتها، وهو نحو قوله تعالى:(قل متاع الدنيا قليل)[النساء: 77]، أي: كل شيء يتمتع به في الدنيا من أولها إلى آخرها قليل؛ إذ لا بقاء ولا صفو فيه، وهذا بالنسبة إلى نفسها، وأما بالنسبة إلى الآخرة فلا خطر ولا قدر للدنيا، وهذا هو المقصود بتمثيل هذا الحديث حيث قال:" فلينظر بماذا يرجع؟ "، ووجه هذا التمثيل أن القدر الذي يتعلق بالإصبع من ماء البحر لا قدر له ولا خطر، وكذلك الدنيا بالنسبة إلى الآخرة.

ومنها ما أخرجه مسلم في صحيحه رقم (2/ 2957) عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بالسوق داخلا من بعض العالية، والناس كنفته، فمر بجدي، أسك ميت، فتناوله فأخذ بأذنه ثم قال:" أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟ " فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء، وما نصنع به؟ قال:" أتحبون أنه لكم؟ " قالوا: والله لو كان حيا كان عيبا فيه؛ لأنه أسك، فكيف وهو ميت؟ فقال: فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم ".

جدي أسك: أصل السك: ضيق الصماخ، وقال الهروي في غريب الحديث (4/ 160): الاستكاك: الصم، استكت أسماعهم: صموا، وقال ثابت: السك: صغر الأذن مع لصوقها وقلة إشرافها.

قال القرطبي في " المفهم "(7/ 108): وقوله: " والله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم " الدنيا: وزنها (فعلى) وألفها للتأنيث، وهي الدنو بمعنى القرب، وهي صفة لموصوف محذوف، كما قال تعالى:(وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور)[آل عمران: 185]، غير أنه قد كثر استعمالها استعمال الأسماء، فاستغني عن موصوفها كما جاء في هذا الحديث.

والمراد: الدار الدنيا أو الحياة الدنيا التي تقابلها الدار الأخرى أو الحياة الأخرى، ومعنى هوان الدنيا على الله: أن الله تعالى لم يجعلها مقصودة لنفسها، بل جعلها طريقا موصلة إلى ما هو المقصود لنفسه، وأنه لم يجعلها دار إقامة ولا جزاء، وإنما جعلها دار رحلة وبلاء، وأنه ملكها في الغالب الكفرة والجهال، وحماها الأنبياء والأولياء. . .

وقد أوضح النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى فقال: " لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها شربة ماء " - أخرجه ابن ماجه رقم 4110 - ، وحسبك بها هوانا أن الله قد صغرها وحقرها وذمها وأبغضها وأبغض أهلها ومحبيها، ولم يرض لعاقل فيها إلا بالتزود منها والتأهب للارتحال عنها.

ومنها ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1465)، ومسلم في صحيحه رقم (123/ 1052) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر وجلسنا حوله، فقال:" إن مما أخاف عليكم بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها ".

من دلائل الزهد ومعناه:

1 -

أن يكون العبد بما في يد الله أوثق منه بما في يد نفسه، وهذا ينشأ من صحة اليقين وقوته، وقال الفضيل بن عياض:" أصل الزهد الرضا عن الله عز وجل "، أخرجه البيهقي في " الزهد " رقم (78).

2 -

أن يكون العبد إذا أصيب في دنياه من ذهاب مال أو ولد أو غير ذلك أرغب في ثواب ذلك مما ذهب منه من الدنيا أن يبقى له.

وقد روي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في دعائه: " اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ".

أخرجه الترمذي رقم (3502)، وابن السني في " عمل اليوم والليلة " رقم (446)، والنسائي في " عمل اليوم والليلة " رقم (401)، والحاكم في " المستدرك "(1/ 528)، وقال: حديث صحيح على شرط البخاري، ووافقه الذهبي، وهو حديث حسن.

3 -

أن يستوي عند العبد حامده وذامه في الحق، وهذه من علامات الزهد في الدنيا واحتقارها، وقلة الرغبة فيها، قال إبراهيم بن أدهم:" الزهد ثلاثة أصناف: زهد فرض، وزهد فضل، وزهد سلامة، فأما الزهد الفرض فالزهد في الحرام، والزهد الفضل الزهد في الحلال، والزهد السلامة الزهد في الشبهات ".

ص: 1802

المفاد.

ص: 1803

وهكذا إذا تدبر الإنسان المعاصي الشرعية التي ثبت النهي عنها فإنه يجدها لا محالة ناشئة عن حب الدنيا؛ إذ المعاصي بأسرها لا تكون إلا لمحبة المال، أو لمحبة الشرف، أو لقضاء شهوة جسمانية أو نفسانية، والمحبة لكل هذه أو لبعضها هي من محبة الدنيا بلا شك ولا شبهة.

ومن أعظم ما يشهد لمعنى حديث: " حب الدنيا رأس كل خطيئة "(1) الأحاديث الواردة في ذم حب الشرف والمال كحديث: " ما ذئبان ضاريان "(2)، وهو حديث

(1) تقدم تخريجه.

(2)

ورد من حديث ابن عمر وابن عباس وأبي هريرة وأسامة بن زيد وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهم أجمعين.

- أما حديث ابن عمر فقد أخرجه البزار (4/ 234 رقم 3608 - كشف) عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما ذئبان ضاريان في حظيرة يأكلان ويفسدان بأضر فيها من حب الشرف وحب المال في دين المرء المسلم ".

قال البزار: لا نعلمه يروى عن ابن عمر إلا من هذا الوجه، وأورده الهيثمي في " المجمع "(10/ 250)، وقال:" رواه البزار، وفيه قطبة بن العلاء وقد وثق، وبقية رجاله ثقات ".

وأخرجه أبو نعيم في " الحلية "(7/ 89)، والقضاعي في " مسند الشهاب "(2/ 26 رقم 812)، والعقيلي في " الضعفاء "(3/ 487)، وابن حجر في " اللسان "(4/ 473 - 474).

- وأما حديث ابن عباس فقد أخرجه الطبراني في " الأوسط "(1/ 470 رقم 855)، وفي " الكبير " (10/ 388 رقم 10779) عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما ذئبان ضاريان باتا في غنم بأفسد لها من حب ابن آدم الشرف والمال ".

وأورده الهيثمي في " المجمع "(10/ 250)، وقال:" رواه الطبراني في الأوسط، وفيه عيسى بن ميمون، وهو ضعيف، وقد وثق "، ولم ينسبه الهيثمي للطبراني في " الكبير " كما هو شرطه.

وأخرجه أبو نعيم في " الحلية "(3/ 220)، وقال:" هذا حديث غريب من حديث محمد بن كعب عن ابن عباس، لم نكتبه إلا من هذا الوجه ".

- وأما حديث أبي هريرة فقد أخرجه أبو يعلى في " المسند "(11/ 331 رقم 609/ 6449) عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما ذئبان ضاريان جائعان في غنم افترقت، أحدهما في أولها، والآخر في آخرها، بأسرع فسادا من امرئ في دينه يحب شرف الدنيا ومالها ".

وأورده الهيثمي في " المجمع "(10/ 250)، وقال:" رواه أبو يعلى، ورجاله رجال الصحيح غير محمد بن عبد الملك بن زنجويه، وعبد الله بن محمد بن عقيل، وقد وثقا ".

وأورده ابن حجر في " المطالب العالية "(3/ 207 رقم 3372)، وعزاه إلى أبي يعلى، وقال البوصيري:" رواه أبو يعلى والطبراني بإسناد جيد ".

وأخرجه أبو نعيم في " الحلية "(7/ 89)، والقضاعي في " مسند الشهاب "(2/ 25 رقم 811) و (2/ 26 رقم 813)، والطبراني في " الأوسط "(1/ 432 رقم 776) من طريق آخر.

- وأما حديث أسامة بن زيد فقد أخرجه الطبراني في " الصغير "(2/ 149 رقم 943 - الروض الداني)، وفي " الأوسط " والضياء في " المختارة "، كما في " تخريج أحاديث إحياء علوم الدين " (4/ 1886) عنه بلفظ:" ما ذئبان ضاريان باتا في حظيرة فيها غنم يفترسان ويأكلان بأسرع فسادا من طلب المال والشرف في دين المسلم ".

- وأما حديث أبي سعيد الخدري فقد أخرجه الطبراني في " الأوسط " كما في " المجمع "(10/ 250) عنه بلفظ: " ما ذئبان ضاريان في زريبة غنم فيها فسادا من طلب المال والشرف في دين المسلم "، وفيه خالد بن يزيد العمري، وهو كذاب.

والخلاصة أن الحديث صحيح بمجموع طرقه.

ص: 1804

صحيح، وإذا قد ثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم ذم حب الشرف والمال، والتنفير عنه، والتنويه بأنه مرجع المعاصي وأصل الخطايا، فهو مفيد لصحة معنى حديث:" حب الدنيا رأس كل خطيئة "(1)، والاختلاف في العموم [4] والخصوص لا يقدح في هذه [الإفادة](2).

وبالجملة فيغني عن هذا كله ما في كتاب الله العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه في ذم الدنيا، والتنفير منها، وإيضاح أنها ظل زائل، وأنها وإن كانت موجودة فهي بالعدم أشبه، وإن ظن ظان أن في متاعها نفعا فهو إلى الضر أقرب، فمن ذلك قوله عز وجل:{وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور} (3)، وقوله:{تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة} (4).

وقوله: {إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد} (5).

(1) تقدم تخريجه.

(2)

في (ب): الأحاديث.

(3)

[آل عمران: 185].

(4)

[الأنفال: 67].

(5)

[الحديد: 20].

ص: 1806

وقوله: {زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير} [3أ]{المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب} (1).

وقوله تعالى: {زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون من الذين آمنوا} (2).

وقوله تعالى: {وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها وما عند الله خير وأبقى أفلا تعقلون} {أفمن وعدناه وعدا حسنا فهو لاقيه كمن متعناه متاع الحياة الدنيا ثم هو يوم القيامة من المحضرين} (3).

وقوله [تعالى (4)]: {بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى} (5).

وقوله تعالى: {واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا} (6).

وقوله [تعالى (7)]: {المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا} (8).

وقوله تعالى: {وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وللدار الآخرة خير للذين}

(1)[آل عمران: 14].

(2)

[البقرة: 212].

(3)

[القصص: 60 - 61].

(4)

زيادة من (ب).

(5)

[الأعلى: 16 - 17].

(6)

[الكهف: 45].

(7)

زيادة من (ب).

(8)

[الكهف: 46].

ص: 1807

{يتقون أفلا تعقلون} (1).

وقوله [تعالى (2)]: {وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع} (3).

وقوله تعالى: {يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار} (4)، والآيات القرآنية [5] في هذا الباب كثيرة جدا، فالاستكثار منها تحصيل للحاصل، وليس المراد إلا الإشارة لما فيه تصحيح لمعنى حديث:" حب الدنيا رأس كل خطيئة ".

البحث الثاني: في بيان ماهية الدنيا لغة وشرعا.

فأما في اللغة فقد فسرها أئمة اللغة (5) في مؤلفاتها بأنها ضد الآخرة، وأنها صفة للدنو، وهو القرب، وضدها أيضًا القصوى، وهي البعيدة، ومنه:{إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى} (6)، أي: بالعدوة الدانية إليكم، وهم بالعدوة [3 ب] القاصية عنكم، فلما كانت الدنيا قريبة من أهلها بمعنى أنهم متلبسون بزمنها ومكانها ومتاعها قبل تلبسهم بالآخرة سميت دنيا، وأصلها دنوي بالواو كما صرح به أهل اللغة (7) والصرف،

(1)[الأنعام: 32].

(2)

زيادة من (ب).

(3)

[الرعد: 26].

(4)

[غافر: 39].

(5)

الدنو غير مهموز: مصدر دنا يدنو فهو دان، وسميت الدنيا لدنوها، ولأنها دنت وتأخرت الآخرة، وكذلك السماء الدنيا هي القربى إلينا، والنسبة إلى الدنيا دنياوي، " لسان العرب "(4/ 419).

(6)

[الأنفال: 42].

(7)

" القاموس المحيط "(ص 1656).

ص: 1808

ولهذا يقال في النسبة: دنياوي ودنيوي.

وأما في الشرع فالآيات القرآنية تفيد تارة أنها مقابل الآخرة كما في قوله تعالى: {الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة} (1)، وقوله [تعالى (2)]:{وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع} (3)، وقوله [تعالى (4)]:{يا قوم إنما الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار} (5)، وقوله تعالى:{يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا وإن كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما} (6)، وقوله تعالى:{من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب} (7).

وقوله تعالى: {وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون} (8)[6]، وقوله تعالى:{يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة} (9).

وقوله تعالى: {والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا}

(1)[إبراهيم: 3].

(2)

زيادة من (أ).

(3)

[الرعد: 26].

(4)

زيادة من (أ).

(5)

[غافر: 39].

(6)

[الأحزاب: 28 - 29].

(7)

[الشورى: 20].

(8)

[الأنعام: 32].

(9)

[إبراهيم: 27].

ص: 1809

{حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون} (1)، وقوله تعالى:{وآتيناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين} (2)، وقوله تعالى:{بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى} (3)، وقوله تعالى:{تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة} (4)، إلى غير ذلك من الآيات.

ومن الآيات القرآنية ما يفيد [4 أ] أن الحياة الدنيا هي المتاع العاجل، والأفعال الصادرة من أهلها كقوله تعالى:{وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور} (5)، وقوله تعالى:{إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد} (6)، وقوله تعالى:{وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون} (7)، وقوله تعالى:{يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع} (8).

ومن الآيات القرآنية ما يفيد أن المتاع العاجل والأفعال الصادرة هي غير الدنيا؛ وذلك لأنها تارة تضاف إلى الدنيا، وتارة تضاف إلى الحياة الدنيا، والمضاف غير المضاف إليه، فمن ذلك قوله تعالى:{تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة} (9).

(1)[النحل: 41].

(2)

[النحل: 122].

(3)

[الأعلى: 16 - 17].

(4)

[الأنفال: 67].

(5)

[آل عمران: 185].

(6)

[الحديد: 20].

(7)

[الأنعام: 32].

(8)

[غافر: 39].

(9)

[الأنفال: 67].

ص: 1810

وقوله تعالى: {زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا} (1)، فجعل هذه الأمور متاعا، وأضافه إلى الحياة الدنيا، فأفادت الإضافة أنه غيرها، وكذلك إضافة العرض إلى الدنيا، وكذلك قوله تعالى:{وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها وما عند الله خير وأبقى أفلا تعقلون أفمن وعدناه وعدا حسنا فهو لاقيه كمن متعناه} [7]{متاع الحياة الدنيا} (2).

وقوله تعالى: {المال والبنون زينة الحياة الدنيا} (3)، وقوله تعالى:[و](4){قال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا} (5).

وقوله تعالى: [قل](6){إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم} (7).

وقوله تعالى: {يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا} (8).

وقوله تعالى: {فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم} [4 ب]{إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا} (9)، وقوله تعالى: {ليس له دعوة في ...............

(1)[آل عمران: 14].

(2)

[القصص: 60 - 61].

(3)

[الكهف: 46].

(4)

زيادة من (أ).

(5)

[يونس: 88].

(6)

زيادة من (أ).

(7)

[يونس: 69 - 70].

(8)

[يونس: 23].

(9)

[التوبة: 55].

ص: 1811

{الدنيا} (1)، وقوله تعالى:{فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى} (2)، وقوله تعالى:{من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها} (3)، ومن الآيات القرآنية ما يفيد أن متاع الدنيا منها لا أنه هي، ولا هو غيرها، كقوله تعالى:{ولا تنس نصيبك من الدنيا} (4).

وبالجملة فالآيات القرآنية في هذا المعنى كثيرة جدا يطول الاستقصاء لها، وكذلك الأحاديث النبوية فإنها واردة مورد هذه الآيات، وهكذا الأشعار العربية والتراكيب اللغوية.

وهاهنا تحقيق يستفيد منه اللبيب ما لا ينكره فهمه، ولا يخالفه علمه، وبه يحصل الجمع بين جميع ما أشرنا إليه وذكرنا بعضه، وهو أنا نقول: إن هذا [الموجود (5)] الخارجي (6) المتشخص إما جسم أو هو جوهر أو عرض، والجسم إما أن يكون ناميا أو غير نام، [والنامي (7)] أن يكون حيوانا أو غير حيوان، وكل نوع من هذه الأنواع يختص باسم يتميز به عن الآخر كالتراب والماء والنار والهواء، ثم منها [8] ما هو بسيط، ومنها ما هو مركب مع غيره، والمراد من هذا التقسيم أن هذه الموجودات

(1)[غافر: 43].

(2)

[الأعراف: 169].

(3)

[الشورى: 20].

(4)

[القصص: 77].

(5)

في (ب): الوجود.

(6)

انظر: " منهاج السنة " لابن تيمية (202، 205)، و" شرح الأصول الخمسة " ص 217، و" تلبيس الجهمية "(1/ 47).

(7)

في (ب): والثاني.

ص: 1812

المشاهدة قد سميت بأسماء، ثم ما كان منها في جهة السفل [فهي](1) الأرض، وما كان منها في جهة العلو فهو السماء، ولكل نوع من الأجسام والأعراض الكائنة في الحيزين اسم يخصه ويتميز به عن غيره، فهذه الموجودات الخارجية هي بالنسبة إلى الموجودات التي ستكون في الآخرة دنيا؛ لأنها دنت منا، أي: قربت، وتلك أخرى [5 أ] لأنها تأخرت عنا، أي: بعدت، وهكذا ما يوجد من المأكولات والمشروبات والملبوسات وسائر ما يستمتع [به] (2) في هذه الدار يقال له: دنيا؛ لأنها دنت ودنا الانتفاع بها بالنسبة إلى المأكولات والمشروبات [والملبوسات](3) ونحوها التي ستكون في الدار الآخرة؛ لأن هذه لما كانت قريبة وتلك بعيدة كانت هذه دنيا وتلك أخرى، وهكذا الحياة الكائنة في هذه الدار فإنها دنيا لدنوها بالنسبة إلى الحياة الكائنة في الآخرة، ولهذا وصفها الله سبحانه بالحياة الدنيا أي: القريبة، وهكذا الأزمان والأكوان الكائنة في هذه الدار، فإنها دنيا لأنها دنت [بالنسبة](4) إلى الأكوان [والأزمان](5) الكائنة في الآخرة.

إذا عرفت هذا فقد تطلق هذه الصفة - أعني الدنيا - على جميع هذه الأشياء، وذلك إذا قوبلت بالآخرة كما قدمنا تحقيقه [9]، وقد تطلق هذه الصفة على بعض هذه المذكورات كالحياة الدنيا، وقد يضاف بعض هذه المذكورات إلى الدنيا كمتاع الدنيا من باب إضافة الشيء إلى أصله أو إلى جنسه كخاتم حديد ورطل زيت ورجل القوم، ومن ذلك:" الدنيا ملعونة، وملعون ما فيها "(6)، فإنه أطلقها على بعض ما تطلق عليه، وجعل البعض الآخر كالمغاير لها من جهة كونه مظروفا لها، والظرف غير المظروف،

(1) في (ب): فهو.

(2)

زيادة من (ب).

(3)

زيادة من (ب).

(4)

زيادة من (أ).

(5)

في (ب): الأزمنة.

(6)

تقدم تخريجه، وهو حديث حسن.

ص: 1813

مع أنه يصدق على الأشياء المظروفة أنها دنيا كما تقدم، فمعنى قوله صلى الله عليه وآله وسلم:" حب الدنيا رأس كل خطيئة "(1) أن حب هذه الأشياء التي هي دانية إلينا رأس كل خطيئة؛ إذ لا يوجد ذنب من الذنوب ولا خطيئة من الخطايا إلا وهي راجعة إلى حب هذه الأشياء [5 ب].

فإن من جملة الدنيا الشهوات الجسمية والنفسية، فإنها بالنسبة إلى شهوات الآخرة دنيا، فكل مستلذ للحواس والأعضاء فهو دنيا لقربه منا وبعد مستلذات الحواس والأعضاء الكائنة في الآخرة عنا.

ومن جملة الدنيا الأفعال والأقوال الكائنة في هذه الدار، فإنها بالنسبة إلى الأفعال والأقوال الكائنة في الآخرة دنيا، وليس من حق الدنيا أن تكون جميعها شرا محضا، بل فيها ما هو خير كالأفعال والأقوال التي هي طاعات وعبادات، وإليها يتوجه ما ورد في مدح الدنيا كحديث:" لا تسبوا الدنيا، فإنها مطية الآخرة "(2)، وفي لفظ:" مزرعة الآخرة "(3)[10]، وحديث ....................

(1) تقدم تخريجه، وهو حديث موضوع.

(2)

أخرجه ابن عدي في " الكامل "(1/ 304) من طريق إسماعيل بن أبان الغنوي: ثنا السري بن إسماعيل، عن عامر، عن مسروق، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تسبوا الدنيا، فنعم مطية المؤمن، عليها يبلغ الخير، وبها ينجو من الشر ".

وفيه إسماعيل بن أبان الغنوي الكوفي، قال عنه يحيى بن معين: كذاب، وقال عنه ابن عدي: عامتها - أي: رواياته - مما لا يتابع عليه إما إسنادا وإما متنا، فهو حديث ضعيف جدا.

وأورده صاحب " الكنز "(3/ 239 رقم 6343)، وعزاه للديلمي وابن النجار عن ابن مسعود، ولفظه:" لا تسبوا الدنيا، فلنعم المطية للمؤمن، عليها يبلغ الخير، وعليها ينجو من الشر ".

وأورده الديلمي في " الفردوس "(5/ 10 رقم 7288) من حديث ابن مسعود، ولفظه:" لا تسبوا الدنيا، فنعم مطية المؤمن هي، عليها تبلغه الجنة، وبها ينجو من النار ".

(3)

قال العجلوني في " كشف الخفاء " رقم (1320): لم أقف عليه مع إيراد الغزالي له في " الإحياء "، وفي " الفردوس " رقم (3102) بلا سند عن ابن عمر مرفوعا:" الدنيا قنطرة الآخرة، فاعبروها ولا تعمروها ".

والعقيلي في " الضعفاء "(3/ 89)، والحاكم في " المستدرك "(4/ 312)، وصححه الحاكم، لكن تعقبه الذهبي بأنه منكر، قال: وعبد الجبار لا يعرف.

وانظر: " الأسرار المرفوعة "(205)، و" المقاصد "(497)، " الشذرة في الأحاديث المشتهرة "(1/ 298 رقم 437).

ص: 1814

" الدنيا ملعونة [و (1)] ملعون ما فيها إلا ذكر الله أو عالم أو متعلم "(2)، وبهذا التقرير يتضح الصواب، وينكشف عن وجه السؤال كل جلباب.

البحث الثالث: في جواب ما أورده السائل [كثر الله فوائده](3) من الوجوه فقال:

الوجه الأول: كيف تكون الدنيا أصل الخطايا مع أن حبها أمر جبلي؟

فنقول: [إن](4) الأمر الجبلي هو محبة الحياة، وما لا يمكن حفظها إلا به، وأما محبة التكاثر المفضي إلى التكالب على الدنيا، وكذلك محبة الشرف والرياسة والعلو والظفر من كل شيء بأحسنه، فهذا إنما هو [في](5) جبلة الطبائع الشيطانية لا الطبائع الإنسانية، فإذا كان الشخص مفتونا بحب شيء من ذلك فهو الذي أرخى عنان نفسه حتى تفلتت

(1) زيادة من (أ).

(2)

تقدم، وهو حديث حسن.

قال القرطبي في " المفهم "(7/ 109): ووجه الجمع بينهما أن المباح لعنه من الدنيا ما كان منها مبعدا عن الله وشاغلا عنه، كما قال بعض السلف: كل ما شغلك عن الله تعالى من مال وولد فهو عليك مشئوم، وهو الذي نبه الله على ذمه بقوله تعالى:(أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد)[الحديد: 20]، وأما ما كان من الدنيا يقرب إلى الله تعالى ويعين على عبادة الله تعالى فهو المحمود بكل لسان، والمحبوب لكل إنسان، فمثل هذا لا يسب، بل يرغب فيه ويحب، وإليه الإشارة بالاستثناء حيث قال:" إلا ذكر الله، وما والاه، أو عالم، أو متعلم "، وهو المصرح به في قوله:" فإنها نعمت مطية المؤمن، عليها يبلغ الخير، وبها ينجو من الشر ".

(3)

زيادة من (أ).

(4)

زيادة من (أ).

(5)

زيادة من (أ).

ص: 1815

عليه في شعاب الأماني وهضاب التسويف؛ فصار مقهورًا بتفريطه، مستعبدا بترخيصه، ولو زجرها بزواجر التقوى، وربطها برباط القنوع، وضربها بعصا الزهد، لكان قاهرا لها لا مقهورا بها، وحاكما عليها لا محكوما عليه منها.

وفي هذا العالم الإنساني من صلحاء العباد من هو لما ذكرناه شاهد صدق، وهذا يجده كل عاقل من نفسه، فإنه إذا استرسل في شهوة من الشهوات، أو خلى بين نفسه وبين لذة من اللذات، وجد من نفسه ميلا إليها ورغوبا فيها لم يكن قد وجده قبل ذلك.

على أنه لو قال قائل: إن حب ما لا تتم الحياة إلا به في هذه الدنيا [6 أ] ليس هو أمرا [11] جبليا، بل هو أمر دعت إليه الضرورة، فإن الحياة ما دامت لا بد لصاحبها من تناول ما يسد به رمقه، ويدفع به جوعته، ويزيل به ضرورته، وهذا أمر دعت إليه الضرورة؛ لأنه محبوب حبا جبليا، فإنه لو كان كذلك لم يعف الإنسان شيئا من ذلك، مع أنه إذا تناول ما يكفيه من طعام أو شراب أو نكاح لم يكن ذلك محبوبا إليه في تلك الحال، فتناول ما دعت إليه الضرورة من الدنيا مما هو سائغ، وليس بقبيح عقلا، ولا شرعا، لو فرضنا أنه من حب الدنيا لا من ضرورة الحاجة إليه لكان مأذونا فيه بالأدلة الثابتة في الكتاب (1) والسنة (2) القاضية بأن ذلك مأذون فيه، فيكون الحب الذي هو رأس كل خطيئة ما زاد على ذلك.

فحاصل هذا الجواب هو أنا نمنع أن يكون الإنسان مجبولا على محبة شيء من الدنيا،

(1) منها قوله تعالى: (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين)[القصص: 77].

(2)

منها ما أخرجه النسائي (7/ 61 رقم 3939)، وأحمد (3/ 128، 199، 285)، والحاكم في " المستدرك "(2/ 160)، والبيهقي في " السنن الكبرى " (7/ 78) من طرق: عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " حبب إلي من الدنيا النساء والطيب، وجعل قرة عيني في الصلاة "، وهو حديث صحيح.

ص: 1816

وما توجبه الضرورة من سد الجوعة ونقع الغلة ليس من المحبة في شيء، بل ذلك أمر أوجبته الضرورة، ولو سلمنا أن هذا القدر الذي تدعو إليه الضرورة متلازم هو والمحبة لم يرد الاعتراض بذلك، فإن الشارع قد أذن فيه، وإنما الممنوع المذموم ما تتسبب عنه الخطايا، وهو ما زاد على ذلك.

البحث الرابع: في جواب ما أورده السائل [عافاه الله](1) من قوله: ما المراد بالدنيا؟ إن قال: المراد بها متاعها. . . إلى آخر ما ذكره.

ونقول: الجواب على هذا قد أسلفناه في البحث الثاني مستكملا مطولا [12] على وجه لا يبقى بعده إشكال، فلا نطول بإعادته، بل يرجع السائل إليه ليندفع ما أورده.

البحث الخامس: في الجواب عن قول السائل [كثر الله فوائده](2) أن تحريم المسبب لا يستلزم (3) تحريم السبب، إلى آخر كلامه.

لعله يريد [6 ب] أن الخطايا المتسببة عن حب الدنيا وإن كانت محرمة فإن ذلك لا يستلزم تحريم حب الدنيا الذي هو السبب، وهذا الكلام إنما [يرد] (4) لو قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: حب الدنيا حرام لأنه رأس كل خطيئة، ولم يقل هكذا، بل قال:" حب الدنيا رأس كل خطيئة "(5)، ولم يذكر حكم الحب، فكان الأنسب بسياق السؤال أن يسأل السائل [عافاه الله] (6): هل الحب حلال أم حرام؟

إن قيل: إنه حرام لكونه سببا للخطايا فتحريم المسبب لا يستلزم تحريم السبب، وهذا البحث يعود إلى الكلام على وسائل الحرام، هل هي حرام أم لا؟ والخلاف في ذلك مشهور معروف.

(1) زيادة من (أ).

(2)

زيادة من (أ).

(3)

انظر: " الكوكب المنير "(1/ 450 - 451)، " المدخل إلى مذهب أحمد "(ص 67).

(4)

في (ب): يراد.

(5)

تقدم، وهو حديث موضوع.

(6)

زيادة من (أ).

ص: 1817

وأما قوله: [كما](1) لو تسبب عن السمر خروج وقت صلاة الضحى فإنه لا يقضي بتحريم ذلك السبب.

فهذا التمثيل غير مطابق لما هو مثال له، فإن كلامه في [أن](2) تحريم المسبب لا يستلزم تحريم السبب، وهذا المسبب - أعني خروج وقت الضحى - ليس من المسببات المحرمة حتى يقال: لا يستلزم تحريمه تحريم سببه، فإن فوات صلاة الضحى ليس من المحرمات، والأولى التمثيل بسبب يفضي إلى [مسبب](3) محرم كالاستمتاع [13] بمكان من بدن الحائض، هو حول فرجها، وكان المستمتع لا يملك إربه، بل يتدرج من الحلال إلى الحرام، ولولا التلبس بهذا السبب وهو الاستمتاع بما هو حول الحمى لم يقع في الحمى، فهذا يصلح للتمثيل به للوسائل إلى الحرام.

وقد صح حديث: " الحلال بين، والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات، والمؤمنون وقافون عند الشبهات، فمن تركها فقد استبرأ لعرضه ودينه، ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه "(4)، والأمثلة للوسائل إلى الحرام كثيرة جدا يمكن إيراد صور منها في كل باب من أبواب العبادات والديانات والمعاملات.

وأما قوله [كثر الله فوائده](5): فما بقي إلا تحريم حب الحياة وقبحها.

فيقال: وأي دليل دل على تحريم حب الحياة؟ إن كان [7 أ] لكونه وسيلة إلى الخطايا فهذا محل الخلاف في الوسائل، وإن كان من حديث:" حب الدنيا رأس كل خطيئة "

(1) زيادة من (ب).

(2)

زيادة من (أ).

(3)

في (ب): سبب.

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه رقم (52)، ومسلم رقم (2051)، والترمذي رقم (1205)، وقال: حديث حسن صحيح.

والنسائي (7/ 241، 4453)، وابن ماجه رقم (3984)، وغيرهم من طرق وبألفاظ متقاربة من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.

(5)

زيادة من (أ).

ص: 1818

فليس ما يفيد تحريم الحب، اللهم إلا أن يقال: إن الحب للدنيا لما كان رأسا للخطايا، والرأس جزء من الذات، بل هو أعظم أجزائها، كان هذا الحب جزءا من الخطيئة التي هي المعصية، والخطيئة حرام، فجزؤها حرام.

ثم حمل الدنيا في قوله: " حب الدنيا رأس كل خطيئة "(1) على حب الحياة هو تخصيص بلا مخصص، أو تقييد بلا مقيد، فإنك قد عرفت مسمى الدنيا لغة وشرعا بما حررناه سابقا، ثم حب الحياة وطول العمر قد كان من مقاصد جماعة من الأنبياء، وجمهور من الصلحاء والعلماء، وهو كما يكون وسيلة للشر لأهل العصيان يكون وسيلة للخير لأهل الطاعات، وهو إن كان [14] من الدنيا كما قررناه سابقا لكن الخطر فيه دون الخطر في حب ما هو من الدنيا كالمال والبنين والشهوات والشرف.

وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية

والله ولي التوفيق.

[حرر في أوائل ليلة الخميس، لعله ثاني شهر جمادى الآخرة سنة 1217 هـ، بقلم مؤلفه الحقير محمد بن علي الشوكاني غفر الله ذنوبه، وستر عيوبه](2).

[والحمد لله أولا وآخرًا، وصلى الله على خير خلقه محمد وآله وصحبه وسلم، بلغ مقابلته على الأم](3).

(1) تقدم تخريجه، وهو حديث موضوع.

(2)

زيادة من (أ).

(3)

زيادة من (ب).

ص: 1819