المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌رفع البأس عن حديث النفس والهم والوسواس - الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني - جـ ٤

[الشوكاني]

فهرس الكتاب

- ‌بحث في قول أهل الحديث " رجال إسناده ثقات

- ‌القول المقبول في رد خبر المجهول من غير صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌بحث في الجواب على من قال أنه لم يقع التعرض لمن في حفظه ضعف من الصحابة

- ‌سؤال عن عدالة جميع الصحابة هل هي مسلمة أم لا

- ‌رفع البأس عن حديث النفس والهم والوسواس

- ‌الأبحاث الوضية في الكلام على حديث (حب الدنيا رأس كل خطية)

- ‌سؤال عن معنى بني الإسلام على خمسة أركان وما يترتب عليه

- ‌الأذكار (جواب على بعض الأحاديث المتعارضة فيها)

- ‌بحث في الكلام على حديث " إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن اجتهد وأخطأ فله أجر واحد

- ‌جواب عن سؤال خاص بالحديث " لا عهد لظالم " وهل هو موجود فعلا من عدمه

- ‌فوائد في أحاديث فضائل القرآن

- ‌بحث في حديث "لعن الله اليهود لاتخاذهم قبور أنبيائهم مساجد

- ‌إتحاف المهرة بالكلام على حديث: "لا عدوى ولا طيرة

- ‌بحث في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنما الأعمال بالنيات

- ‌بحث في حديث: "لو لم تذنبوا لذهب الله بكم .. إلخ

- ‌بحث في بيان العبدين الصالحين المذكورين في حديث الغدير

- ‌بحث في حديث (أجعل لك صلاتي كلها) وفي تحقيق الصلاة على الآل ومن خصهم

- ‌تنبيه الأعلام على تفسير المشتبهات بين الحلال والحرام

الفصل: ‌رفع البأس عن حديث النفس والهم والوسواس

‌رفع البأس عن حديث النفس والهم والوسواس

تأليف محمد بن علي الشوكاني

حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق أبو مصعب

ص: 1735

وصف المخطوط:

1 -

عنوان الرسالة: (رفع البأس عن حديث النفس والهم والوسواس) ،

2 -

موضوع الرسالة: في الحديث.

3 -

أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، أحمدك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأصلي وأسلم على رسولك وآله وصحبه، وبعد: فإنه ورد سؤال من الشيخ العلامة علي بن محمد بن محمد بن عبد الوهاب -كثر الله فوائده- وهذا لفظه:

4 -

آخر الرسالة:

والبحث في هذا يطول جدًا. وقد جمعت فيه مصنفين مطولًا ومختصرًا- ولله الحمد.

حرره مؤلفه في يوم الأربعاء الثالث من شهر القعدة من شهور سنة (1228 هـ) حامدًا لله شاكرًا له مصليًا مسلمًا على رسوله.

5 -

نوع الخط: خط نسخي معتاد.

6 -

عدد الأوراق: (8).

7 -

المسطرة: (28 - 32) سطرًا.

8 -

عدد الكلمات في السطر: (12 - 13) كلمة.

9 -

الناسخ: محمد بن علي الشوكاني.

10 -

تاريخ النسخ: الأربعاء \3 \ ذي القعدة \1228 هـ.

11 -

الرسالة من المجلد الرابع من "الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني".

ص: 1737

[بسم الله الرحمن الرحيم]

أحمدك: لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك. وأصلي وأسلم على رسولك وآله وصحبه، وبعد:

فإنه ورد سؤال من الشيخ العلامة علي بن محمد بن عبد الوهاب (1) -كثر الله فوائده- وهذا لفظه:

عرض لي إشكال في قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت بها أنسفها (2) ما لم

(1) هو أكبر أبناء الشيخ محمد بن عبد الوهاب سنًا رحمه الله، فقد كان الشيخ يكني به.

ولد علي بن محمد بن عبد الوهاب في مدينة الدرعية. ونشأ بها وأخذ العلم عن والده الشيخ محمد بن عبد الوهاب.

قال عنه الشيخ عبد الرحمن بن قاسم: "الشيخ علي الإمام العلامة الثقة الزاهد الورع. كان شهمًا همامًا، فقيهًا، صدوقًا" وكان يحضر المغازي مع الغازي من أئمة آل سعود. توفي سنة 1245 هـ. "علماء نجد خلال ستة قرون (3/ 735 - 736" عبد الله بن عبد الرحمن بن صالح البسام.

(2)

قال ابن منظور في "لسان العرب"(14/ 233): النفس: الروح، قال ابن سيده.

قال أبو إسحاق: النفس في كلام العرب يجري على ضربين: أحدهما قولك خرجت نفس فلان أي روحه. وفي نفس فلان أن يفعل كذا وكذا أي في روعه، والضرب الآخر معنى النفس فيه معنى جملة الشيء وحقيقته، تقول: قتل فلان نفسه وأهلك نفسه أي أوقع الإهلاك بذاته كلها وحقيقته، والجمع من كل ذلك أنفس ونفوس.

وقال النووي في شرحه لصحيح مسلم (2/ 147 - 148): ضبط العلماء أنفسها بالنصب والرفع وهما ظاهران إلا أن النصب أظهر وأشهر.

قال ابن رشد: روي الحديث بالوجهين، فمعنى الرفع: ما وقع من الخطرات دون قصد.

ومعنى النصب: ما حدثت به أنفسها أن تفعله ولم تفعله. قال: ويؤيد هذا لفظ التجاوز، لأنه إنما يكون عما اكتسب.

وقال الأبي في إكمال إكمال المعلم (1/ 395): أن في النفس ثلاث خطرات: خطرات لا تقصد ولا تندفع ولا تستقر، وهم وعزم. فالخطرات خاف الصحابة أن يكونوا كلفوا بالتحفظ منها، ثم رفع ذلك الخوف، وأما الهم وهو حديث النفس اختيارًا أن تفعل ما يوافقها فغير مؤاخذ به.

ص: 1741

تتكلم أو تعمل به" (1): ما هو هذا المغفور؟ هل هو شيء يستقر في القلب (2)، ويريده الإنسان أم هو خاطر يمر على القلب لا يستقر (3)، ولا يريده الإنسان؟ فإن كان الأول: فكيف من نوى الردة مثلًا -والعياذ بالله- ولم يرتكب موجبها من قول أو فعل؟ وكذلك من عزم على فعل ذنب من الذنوب في حينه أم معلقًا على وصول شيء ونحو ذلك؟ وكذلك من دخل في عبادة من صلاة أو صيام أو طهارة (4) ثم نوى إبطالها والخروج منها من غير فعل يوجب البطلان؟

فإن قلتم إنه يكفر ويأثم وتبطل عبادته، فما قولكم في من نوى الطلاق أو العتاق

(1) أخرجه البخاري رقم (2528، 5269) ومسلم رقم (127) وأبو داود رقم (2209) والنسائي رقم (3434) والترمذي رقم (1183) وابن ماجه رقم (2041، 2044) وابن حبان في صحيحه رقم (4319) وأحمد في مسنده (2/ 393، 425، 474، 481) والطيالسي في مسنده (ص 322 رقم 2459).

عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تجاوز لي عن أمتي ما وسوست به صدورها ما لم تعمل أو تكلم به".

(2)

قال الرازي في تفسيره (7/ 125): أن الخواطر الحاصلة في القلب على قسمين فمنها ما يوطن الإنسان نفسه عليه ويعزم على إدخاله في الوجود، ومنها ما لا يكون كذلك، بل تكون أمورًا خاطرة بالبال مع أن الإنسان يكرهها، ولكنه لا يمكنه دفعها عن النفس، فالقسم الأول يكون مؤاخذًا به، والثاني لا يكون مؤاخذًا به. ألا ترى إلى قوله تعالى:{لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم} .

وقال في آخر هذه السورة: {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} . وقال: {إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا} .

(3)

قال الرازي في تفسيره (7/ 125): أن الخواطر الحاصلة في القلب على قسمين فمنها ما يوطن الإنسان نفسه عليه ويعزم على إدخاله في الوجود، ومنها ما لا يكون كذلك بل تكون أمورًا خاطرة بالبال مع أن الإنسان يكرهها، ولكنه لا يمكنه دفعها عن النفس، فالقسم الأول يكون مؤاخذًا به، والثاني لا يكون مؤاخذًا به. ألا ترى إلى قوله تعالى:{لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم} .

وقال في آخر هذه السورة: {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} . وقال: {إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا} .

(4)

قال ابن الجوزي: إذا حدث نفسه بالمعصية لم يؤاخذ، فإن عزم وصمم زاد على حديث النفس وهو من عمل القلب. قال: والدليل على التفريق بين الهم والعزم أن من كان في الصلاة فوقع في خاطره أن يقطعها لم تنقطع، فإن صمم على قطعها بطلت.

انظر: "فتح الباري"(11/ 327).

ص: 1742

بقلبه، لكن لم يتكلم بموجبه -إن فرقتم في الحكم بين هذه المسائل- فما وجه الفرق مع أن ظاهر الحديث لا يقتضي التفرقة؟، وإن كان المراد من الحديث الخاطر الذي يمر على القلب لا يستقر فيه، ولا يريده الإنسان، فما هو الحرج المرفوع المعفو لهذه الأمة دون غيرها؟

وما معنى قول من قال من السلف في قوله: {وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي} (1) الآية. حيث قال: إنها أرجى آية في القرآن (2)؟

(1)[البقرة: 260].

ذكر ذلك صاحب "الجامع لأحكام القرآن"(3/ 296): ثم قال: "اختلف الناس في هذا السؤال هل صدر من إبراهيم عن شك أم لا؟ فقال الجمهور: لم يكن إبراهيم عليه السلام شاكًا في إحياء الله الموتى قط، وإنما طلب المعاينة وذلك أن النفوس مستشرفة إلى رؤية ما أخبرت به.

وقال القرطبي في تفسيره (3/ 300): {قال بلى ولكن ليطمئن قلبي} أي سألتك ليطمئن قلبي بحصول الفرق بين المعلوم برهانًا والمعلوم عيانًا والطمأنينة: اعتدال وسكون، فطمأنينة الأعضاء معروفة، كما قال عليه السلام:"ثم اركع حتى تطمئن راكعًا" الحديث، وطمأنينة القلب هي أن يسكن فكره في الشيء المعتقد، والفكر في صورة الإحياء غير محظور كما لنا نحن اليوم أن نفكر فيها، إذ هي فكر فيها عبر، فأراد الخليل أن يعاين فيذهب فكره في صورة الإحياء.

وقال الرازي في تفسيره (7/ 40): أما قوله تعالى: {قال بلى ولكن ليطمئن قلبي} فاعلم أن اللام في (ليطمئن) متعلق بمحذوف. والتقدير: سألك ذلك إرادة طمأنينة القلب. قالوا، والمراد منه أن يزول عنه الخواطر التي تعرض للمستدل، وإلا فاليقين حاصل على كلتا الحالتين.

(2)

يشير إلى موقف عمر بن الخطاب من صلح الحديبية، فذهب عمر رضي الله عنه إلى الصديق رضي الله عنه، فقال: يا أبا بكر، أليس برسول الله؟ قال: بلى، قال: أولسنا بالمسلمين؟ قال: بلى: أوليسوا بالمشركين؟ قال: بلى، قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟!! فقال أبو بكر: يا عمر، الزم غرره -طريقته- فإني أشهد أنه رسول الله، فقال عمر: وأنا أشهد أنه رسول الله.

وكأن الفارق لما يزل في نفسه بعض الحرج في قبول هذا الشرط، فرأى أن يستبين من الرسول وجه الحق وأن يسمع منه، فأتى رسول الله وقال له: ألست برسول الله؟ قال: "بلى"، قال: أولسنا بالمسلمين؟ قال: "بلى"، قال: أوليسوا بالمشركين؟ قال: "بلى"، قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ فقال الرسول: "أنا عبد الله ورسوله لن أخالف أمره، ولن يضيعني".

"السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة"(2/ 334) للدكتور محمد بن محمد أبو شهبة.

ص: 1743

وكذلك ما وقع في نفوس بعض الصحابة رضي الله عنهم يوم الحديبية (1) كعمر، وغيره.

وقد طالعت كلام كثير من أهل العلم من شراح الحديث، وغيرهم في معنى هذا الحديث، فما وجدت في كلامهم ما يدفع الإشكال.

فالمسئول منكم -أدام الله النفع بكم- تحرير الجواب، وتبين ما هو الصواب؟ وكذلك ما يقول في رجل معه علة السلس، فإن بكر بالخروج إلى صلاة الجمعة اعتراه الحدث لطول المدة، وإن تأخر إلى حين دخول الإمام أو إلى قريب من الخطبة فاتته الفضيلة، ولكنه إذا تأخر هذا التأخر صلى بطهارة؟ وهل شهود الخطبة واجب أم لا؟. انتهى السؤال.

وأقول -مستعينا بالله ومتكلًا عليه، مصليًا مسلمًا على رسوله وآله وصحبه- إن قوله صلى الله عليه وسلم:«إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها، ما لم يتكلموا أو يعملوا به» كما في حديث أبي هريرة الثابت في الصحيح (2) يدل على مغفرة كل ما وقع من حديث النفس؛ فإن لفظ "ما" من صيغ العموم (3)، كما صرح به أهل اللغة، وأهل المعاني والبيان. فهذا اللفظ في قوله:«إن الله غفر لأمتي كل ما حدثت به أنفسها» . وهكذا ما ثبت في لفظ آخر في الصحيح (4) وغيره من حديث أبي هريرة: «إن الله تجاوز لأمتي ما

(1) انظر التعليقة السابقة.

(2)

تقدم آنفًا.

(3)

انظر: "الكوكب المنير"(3/ 120) و"تيسير التحرير"(1/ 224).

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه رقم (5269).

ص: 1744

حدثت به أنفسها» فإنه في قوة: "كل ما حدثت به أنفسها". وهكذا بقية الألفاظ في الصحيح وغيره؛ فإنها دالة على العموم؛ مفيدة لعدم اختصاص التجاوز والمعرفة: [1 أ] ببعض حديث النفس دون بعض.

ويؤيد ذلك ما في الحديث الثابت في "الصحيح": أنها لما أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير} (1) فإن هذه الآية لما نزلت اشتد على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بركوا على الركب، فقالوا: أي رسول الله! كلفنا من الأعمال ما نطيق: الصلاة، والصيام، والجهاد، والصدقة. وقد أنزلت عليك هذه الآية، ولا نطيقها؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: {سمعنا وعصينا} بل قولوا: {سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير}» فقالوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير.

فلما اقترأها القوم، وذلت بها ألسنتهم، أنزل الله في أثرها:{آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه، والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، لا نفرق بين أحد من رسله، وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير} . فلما فعلوا ذلك، نسخها الله تعالى، فأنزل عز وجل:{لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} -قال نعم- {ربنا ولا تحمل علينا إصرًا كما حملته على الذين من قبلنا} -قال: نعم- {ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به} -قال نعم- {واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولنا فانصرنا على القوم الكافرين} (2)

(1)[البقرة: 284].

(2)

[البقرة: 286].

ص: 1745

قال نعم- هذا لفظ حديث أبي هريرة الثابت في "الصحيح"(1)

وفي حديث ابن عباس الثابت في الصحيح (2) أيضًا بلفظ: "قد فعلت" مكان: "قال: نعم" في هذه المواضع، ولا يخفاك أن الحرج الذي رفعه الله في الآية الأولى ونسخه وغفره لأمته، هو التسوية بين إبداء ما في النفس أو إخفائه، ولفظ الآية يقتضي العموم، لأن قوله:{أو تخفوه} الضمير يرفع إلى قوله: {ما في أنفسكم} ولفظ "ما" من صيغ العموم -كما قدمنا- لأنها الموصولة، ثم رفع الله عنهم هذا التكليف، ولم يحملهم ما لا طاقة لهم به. ولفظ:{ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به} يقتضي العموم؛ لأن "ما" في: {ما لا طاقة لنا به} هي الموصولة أو الموصوفة أي: لا تحملنا الشيء الذي لا طاقة لنا به أو شيئًا لا طاقة لنا به، فقال: نعم أو قال: قد فعلت.

وهكذا يصح أن تكون "ما" في "ما حدثت به أنفسها" موصوفة، كما يصح أن تكون موصولة، أي: الشيء الذي حدثت به أنفسها أو شيئًا حدثت به أنفسها. وهكذا في: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه} كما صح أن تكون "ما" موصولة يصح أن تكون موصوفة؛ أي: إن تبدوا الشيء الذي في أنفسكم أو شيئًا في أنفسكم أو تخفوا الشيء الذي في أنفسكم أو شيئًا في أنفسكم (3).

فتقرر لك بهذا أن الشيء الذي تجاوز الله لهذه الأمة من حديث النفس هو كل ما

(1) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (125) وأحمد (2/ 412). والبيهقي في "الشعب" رقم (327) وهو حديث صحيح.

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه رقم (126) والنسائي في تفسيره (1/ 293 رقم 79). والترمذي رقم (2992) وقال: هذا حديث حسن. وهو كما قال.

(3)

انظر: إعراب القرآن الكريم وبيانه (1/ 446 - 448). محيي الدين الدرويش.

ص: 1746

يصدق عليه أنه حديث نفس، كائنًا ما كان سواء استقر في النفس وطال الحديث لهابه أو قصر، وسواء بقي زمنًا كثيرًا أو قليلًا، وسواء مر على النفس مرورًا سريعًا أو تراخى فيها، فالكل [1 ب] مما غفره الله لهذه الأمة وشرفها به وخصها برفع الحرج فيه، دون سائر الأمم، فإنها كانت مخاطبة بذلك مأخوذة به، ولا يقال: كيف خوطبت الأمم المتقدمة بمجرد الخواطر التي تمر بأنفسهم من حديث النفس مع كون ذلك من تكليف ما لا يطاق، ولا تقدر على دفعه الطبائع البشرية؟ لأنا نقول:{ويفعل الله ما يشاء} (1)، و {يحكم ما يريد} (2)، {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون} (3).

فظهر لك بهذا أن كل ما يصدق عليه حديث النفس، فهو مغفور، عفو، متجاوز عنه، كائنًا ما كان على أي صفة كان، فلا يقع به ردة، ولا يكتب به ذنب، ولا تبطل به عبادة، ولا يصح به طلاق، ولا عتاق (4) ولا شيء من العقوبة، كائنا من كان، فإن

(1)[إبراهيم: 27].

(2)

[المائدة: 1].

(3)

[الأنبياء: 23].

(4)

قال ابن القيم في "زاد المعاد"(5/ 184 - 185): أنا ما لم ينطق به اللسان من طلاق أو عتاق، أو يمين، أو نذر ونحو ذلك، عفو غير لازم بالنية والقصد، وهذا قول الجمهور.

وفي المسألة قولان:

أحدهما: التوقف فيها، قال عبد الرزاق عن معمر. سئل ابن سيرين عمن طلق في نفسه، فقال: أليس قد علم الله ما في نفسك؟ قال: بلى، قال: فلا أقول فيها شيئًا.

الثاني: وقوعه إذا جزم عليه، وهذا رواية أشهب عن مالك، وروي عن الزهري. وحجة هذا القول قوله صلى الله عليه وسلم:"إنما الأعمال بالنيات"، وأن من كفر في نفسه، فهو كفر، وقوله تعالى:{وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به} [البقرة: 284]، وأن المصر على المعصية فاسق مؤاخذ وإن لم يفعلها، وبأن أعمال القلوب في الثواب والعقاب كأعمال الجوارح، ولهذا يثاب على الحب والبغض، والموالاة والمعاداة في الله، وعلى التوكل والرضى، والعزم على الطاعة، ويعاقب على الكبر والحسد، والعجب والشك والرياء وظن السوء بالأبرياء.

قال ابن القيم: ولا حجة في شيء من هذا على وقوع الطلاق والعتاق بمجرد النية من غير تلفظ، أما حديث:"الأعمال بالنيات" فهو حجة عليهم، لأنه أخبر فيه أن العمل مع النية هو المعتبر، لا النية وحدها، وأما من اعتقد الكفر بقلبه أو شك، فهو كافر بزوال الإيمان الذي هو عقد القلب مع الإقرار، فإذا زال العقد الجازم، كان نفس زواله كفرًا، فإن الإيمان أمر وجودي ثابت قائم بالقلب، فما لم يقم بالقلب حصل ضده وهو الكفر، وهذا كالعلم والجهل إذا فقد العلم، حصل الجهل، وكذلك كل نقيضين زال أحدهما خلفه الآخر.

وأما الآية فليس فيها أن المحاسبة بما يخفيه العبد إلزامه بأحكامه بالشرع، وإنما فيها محاسبته بما يبديه أو يخفيه، ثم هو مغفور له أو معذب، فأين هذا من وقوع الطلاق بالنية، وأما أن المصر على المعصية فاسق مؤاخذ، فهذا إنما هو فيمن عمل المعصية، ثم أصر عليها، فهنا عمل اتصل به العزم على معاودته، فهذا هو المصر، وأما من عزم على المعصية ولم يعملها، فهو بين أمرين إما أن لا تكتب عليه، وإما أن تكتب له حسنة إذا تركها لله عز وجل، وإما الثواب والعقاب على أعمال القلوب فحق، والقرآن والسنة مملوآن به.

ولكن وقوع الطلاق والعتاق بالنية من غير تلفظ أمر خارج عن الثواب والعقاب، ولا تلازم بين الأمرين، فإن من يعاقب عليه من أعمال القلوب هو معاصي قلبية يستحق العقوبة عليها، كما يستحقه على المعاصي البدنية، إذ هي منافية لعبودية القلب، فإن الكبر والعجب والرياء وظن السوء محرمات على القلب.

وهي أمور اختيارية يمكن اجتنابها فيستحق العقوبة على فعلها، وهي أسماء لمعان مسمياتها قائمة بالقلب.

ص: 1747

الرجل الذي حدث نفسه ولم يعمل ولا تكلم قد غفر الله له ذلك الحديث الذي حدث به نفسه بالردة إلى غاية هي العمل أو التكلم، فإن حصل منه العمل وذلك بأن يفعل فعلًا يقتضي الردة أو تكلم بما يقتضي الردة صار مرتدًا أو لزمته أحكام المرتدين. وهكذا بقية ما سأل عنه السائل.

وما يؤيد هذا ويدل عليه الحديث الثابت ...........................

ص: 1748

في "الصحيح"(1) من حديث ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه:«إن الله كتب الحسنات والسيئات، ثم بين ذلك فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله له حسنة كاملة، وإن هم بها فعملها كتبها الله له عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وإن هم بسيئة يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن هم بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة» .

وفي حديث أبي هريرة الثابت في "الصحيح"(2) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله عز وجل: "إذا هم عبدي بحسنة ولم يعملها كتبتها له حسنة فإن عملها كتبتها عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف، وإن هم بسيئة ولم يعملها لم أكتبها عليه، فإن عملها كتبتها سيئة واحدة".»

وفي لفظ من حديث أبي هريرة الثابت في "الصحيح"(3) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله عز وجل: "إذا تحدث عبدي بأن يعمل حسنة، فأنا أكتبها حسنة ما لم يعمل، فإذا عملها، فأنا أكتبها بعشر، فإذا تحدث بأن يعمل سيئة، فأنا أغفرها له ما لم يعملها، فإذا عملها فأنا أكتبها له مثلها» .

وفي لفظ من حديثه الثابت في "الصحيح"(4) أيضًا: قال: "قالت

(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6491) ومسلم رقم (131) وأحمد (1/ 227، 310، 361) والبيهقي في "الشعب"(1/ 299 رقم 333). وأبو عوانة في صحيحه (1/ 84). وهو حديث صحيح.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه رقم (7501) ومسلم رقم (128 إلى رقم 130) والترمذي رقم (3073) وقال: هذا حديث حسن صحيح.

وأحمد في "المسند"(2/ 234، 315، 11؛ 498) وابن حبان في صحيحه رقم (382). وهو حديث صحيح.

(3)

أخرجه مسلم في صحيحه رقم (205/ 129).

(4)

انظر التعليقة السابقة.

ص: 1749

الملائكة (1) رب! ذاك عبدك يريد أن يعمل سيئة -وهو أبصر به- فقال: ارقبوه: فإن عملها فاكتبوها له بمثلها، وإن تركها فاكتبوها له حسنة، إنما تركها من جراي (2) -أي من أجلي- وألفاظ الأحاديث في هذا الباب كثيرة، وفيما ذكرناه كفاية، فإن قوله:«لا وإن هم بسيئة فلم يعملها» يدل على أن كل ما هم به الإنسان -أي هم كان- سواء كان حديث نفس أو عزم أو إرادة أو نية لا يؤاخذ به حتى يعمله، كما يدل على ذلك إطلاق السيئة وعدم تقييدها. وكما يفيده جعل العمل مقابلًا للهم، فإنه يدل على أنه إذا لم يعمل بالسيئة، فهو من قسم الهم (3).

(1) قال الحافظ: في "الفتح"(11/ 325): "فيه دليل على أن الملك يطلع على ما في قلب الآدمي إما باطلاع الله إياه أو يخلق له علمًا يدرك به ذلك، وقيل بل يجد الملك للهم بالسيئة رائحة خبيثة، وبالحسنة رائحة طيبة.

وقال ابن تيمية في "الفتاوى"(4/ 253): أن الله قادر أن يعلم الملائكة بما في نفس العبد كيف شاء كما هو قادر على أن يطلع بعض البشر على ما في الإنسان.

ثم قال: وقد قيل في قوله تعالى: {ونحن أقرب إليه من حبل الوريد} أن المراد به الملائكة: والله قد جعل الملائكة تلقي في نفس العبد الخواطر، كما قال عبد الله بن مسعود:"إن للملك لمة وللشيطان لمة، فلمة الملك تصديق بالحق ووعد بالخير، ولمة الشيطان تكذيب بالحق وإيعاد بالشر". وقد ثبت عنه في الصحيح أنه قال: "ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الملائكة، وقرينه من الجن، قالوا: وإياك يا رسول الله؟ قال: وأنا، إلا أن الله قد أعانني عليه فلا يأمرني إلا بخير".

(2)

جراي: بتشديد الراء وفتح الياء، وفيه لغة أخر بالمد أي "جرائي" من "أجلي".

انظر: "تاج العروس"(1/ 72) القاموس المحيط (ص1749 - 1650).

(3)

قال الحافظ في "الفتح"(11/ 325): قال المازري: ذهب ابن الباقلاني يعني ومن تبعه إلى أن من عزم على المعصية بقلبه ووطن عليها نفسه أنه يأثم، وحمل الأحاديث الواردة في العفو عمن هم بسيئة ولم يعملها على الخاطر الذي يمر بالقلب ولا يستقر. قال المازري: وخالفه كثير من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين، ونقل ذلك نص الشافعي. ويؤيده قوله في حديث أبي هريرة فيما أخرجه مسلم من طريق همام عنه بلفظ "فأنا أغفرها له ما لم يعملها".

فإن الظاهر أن المراد بالعمل هنا عمل الجارحة بالمعصية المهموم به. وتعقبه عياض بأن عامة السلف وأهل العلم على ما قال ابن الباقلاني لاتفاقهم على المؤاخذة بأعمال القلوب. لكنهم قالوا: إن العزم على السيئة يكتب سيئة مجردة لا السيئة التي هم أن يعملها، كمن يأمر بتحصيل معصية، ثم لا يفعلها بعد حصولها، فإنه يأثم بالأمر المذكور لا بالمعصية

وهنا قسم آخر وهو من فعل المعصية ولم يتب ثم هم أن يعود إليها فإنه يعاقب على الإصرار كما جزم ابن المبارك وغيره في تفسير قوله تعالى: {ولم يصروا على ما فعلوا} ويؤيد أن الإصرار معصية اتفاقًا، فمن عزم على المعصية وصمم عليها كتبت عليه سيئة، فإذا عملها كتبت عليه معصية ثانية.

قال النووي: وهذا ظاهر حسن لا مزيد عليه، وقد تظاهرت نصوص الشريعة بالمؤاخذة على عزم القلب المستقر كقوله تعالى:{إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة} وقوله: {اجتنبوا كثيرًا من الظن} وغير ذلك.

ص: 1750

وأيضًا: يدل أعظم دلالة ذكر حرف الشرط في قوله: "فإن عملها" فإن هذه الصيغة تفيد أنه لا مؤاخذة بالسيئة (1) حتى يعملها، وبهذا يرد على من جعل القصد، والعزم (2)، وعقد القلب أمورًا زائدة على مجرد الهم [2أ].

وأما ما روي (3) عن بعض أهل العلم من الفرق بين ما استقر من أفعال القلوب، وما لم يستقر، وأنه يؤاخذ بما استقر منها، لا بما لم يستقر، وأن حديث: «إن الله تجاوز

(1) انظر التعليقة السابقة.

(2)

اختلف أهل العلم في أحوال القلب مما يرد عليه من الوساوس قبل عمل الجوارح، وأكثرهم على أن ذلك على ثلاث مراحل:

أولها: الخاطر والهاجس وحديث النفس الذي لا يستقر وسرعان ما يزول، فهذا لا يؤاخذ عليه العبد، وقد سماه بعضهم همًا كما فعل الباقلاني ومن وافقه.

الثانية: هي قصد الفعل مع التردد، وهو الهم، والأكثرون على عدم المؤاخذة بهذا القسم أيضًا.

الثالث: هي قوة ذلك القصد والتصميم على الفعل ورفع التردد، وهذا هو العزم والتحقيق أن صاحبه يؤاخذ عليه وهو مذهب الأكثرين.

انظر: "تأويل مختلف الحديث"(ص 149)، "فتح الباري"(11/ 323 - 329)، "إكمال إكمال المعلم"(1/ 236).

(3)

انظر: "فتح الباري"(11/ 327).

ص: 1751

لأمتي ما حدثت به أنفسها، ما لم تكلم به أو تعمل» محمول على ما لم يستقر فلا يخفاك (1): إنه لا وجه لهذا التأويل المتعسف، والتفرقة بين ما يشمله الحديث ويدل عليه، بإدخال بعضه تحت حكم العفو والتجاوز، وإخراج بعضه عن ذلك الحكم وجعله مما لم يتناوله التجاوز عن حديث النفس، مع كونه منه! وفي هذا التعسف ما لم تلج إليه ضرورة، ولا قام عليه دليل.

وقد استدل بعض القائلين بالتفرقة المذكورة بقوله سبحانه: {فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها} (2) وجعل هذه الآية دليلًا على تأويل حديث التجاوز عن حديث النفس، وتخصيصه بما لم يستقر في الحديث! ولا يخفاك أنه لا دلالة في الآية على ما استدل به لا بمطابقة، ولا تضمن، ولا التزام! وبيان ذلك: أن قوله: {فأقم وجهك للدين} (3) إن أريد به معناه الحقيقي، فليس فيه الأمر بمجرد الإقامة للوجه، وذلك عمل جارحة لا عمل قلب، وإن كان المراد بإقامة الوجه: الكناية عن الإتيان بأمور الدين التي شرعها الله لعباده، فهي: أقوال وأفعال، لا حديث نفس! وإن كان محل الاستدلال الذي زعمه هذا المستدل هو قوله في الآية:{فطرت الله التي فطر الناس عليها} (4): فليس في ذلك إلا أن كل مولود يولد على الفطرة، وهذه الفطرة (5) هي الخلقة التي خلقها الله عليها، والطبع الذي طبعه عليه، وليست من حديث النفس في ورد ولا صدر!.

ولهذا إنها توجد مقارنة للولادة والمولود، لا حديث نفس له، ولا اعتقاد، ولا قصد، ولا نية! وكذلك بعد الولادة بأيام طويلة حتى يبلغ حد التمييز.

(1) تقدم التعليق على ذلك.

(2)

[الروم: 30].

(3)

[الروم: 30].

(4)

[الروم: 30].

(5)

انظر: "الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (14/ 27).

ص: 1752

ومثل هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الثابت في "الصحيح"(1)«كل مولود يولد على الفطرة، ولكن أبواه يهودانه، وينصرانه، ويمجسانه» . فإن هذه هي الفطرة التي ذكرها الله في تلك الآية.

وإذا تقرر لك أن هذا معنى الآية، علمت أنه لا يصح الاستدلال بها على هذا المدلول الذي لا تدل عليه بمطابقة، ولا تضمن، ولا التزام! وكيف تجعل هذه الدلالة التي هي أخفى من السها (2) مرجحة على دلالة الحديث التي هي أوضح من شمس النهار، وموجبة لتأويله وقصره على بعض مدلوله، وإخراج بعضه، مع ما فيه من العموم الشامل المفيد لتلك الغاية التي هي العمل أو التكلم، فإن هذه الغاية بمجردها دلت على أنه حديث النفس هو شيء مغاير للقول والعمل، فكل ما لم يخر من الخواطر القلبية إلى التكلم أو العمل به، فهو حديث نفس من غير فرق بين المستقر منها [2ب] وغير المستقر على ما بيناه.

وأوضح من هذا الحديث دلالة على المطلوب حديث (3): "من هم بسيئة، فإن عملها كتبت عليه سيئة، وإن لم يعملها لم تكتب عليه". وفي رواية صحيحة (4):

(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (4775) ورقم (1385) ومسلم في صحيحه رقم (2658) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

وأخرجه البخاري رقم (6599) ومسلم في صحيحه رقم (2658) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مولود إلا يولد على هذه الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه، كما تنتج الإبل فهل تجدون فيها من جدعاء حتى تكونوا أنتم تجدعونها

".

(2)

هو كويكب صغير خفي الضوء في بنات نعش الكبرى، والناس يمتحنون به أبصارهم. "لسان العرب"(6/ 416).

(3)

أخرج مسلم في صحيحه رقم (203/ 128) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله عز وجل: إذا هم عبدي بسيئة فلا تكتبوها عليه، فإن عملها فاكتبوها سيئة .... ".

(4)

أخرجه مسلم في صحيحه رقم 205/ 129) من حديث أبي هريرة ورقم (207/ 131) من حديث ابن عباس.

ص: 1753

"كتبت له حسنة"(1) فإن هذا الحديث يدل على أكمل دلالة، وينادي بأعلى صوت أن الهم مغفور بجميع أقسامه. ما لم يعمل به ولا أصرح، وأوضح من قوله:"ما لم يعملها"، فإن عملها كتبت عليه سيئة" (2).

فإن التقييدين "ما لم يعملها" ثم المجيء بالشرطية، وجعل الكتب لها عليه جزاء لعملها في غاية الوضوح. فهل أوضح من هذا وأنطق من دلالته؟! فكيف يقال: إن هذا محمول على ما لم يستقر (3) دون ما استقر من حديث النفس؟ وما الذي يفيد أن هذا الاستقرار قد خرج من الخواطر القلبية والأحاديث النفسية إلى حيز الأفعال الجوارحية؟ وما الموجب لهذا التأويل المتعسف والتخصيص المتعنت؟ وما المقتضي لتخصيص هذا الكلام النبوي، والعبارة المحمدية؟! فإن هذا من التقول على الله بما لم يقل، ومن إثبات الإثم على العباد،

(1) قال الحافظ في "الفتح"(11/ 326): يحتمل أن تكون حسنة من ترك بغير استحضار ما قيد به دون حسنة الآخر لما تقدم أن ترك المعصية كف عن الشر، والكف عن الشر خير، ويحتمل أن يكتب لمن هم بالمعصية ثم تركها حسنة مجردة. فإن تركها من مخافة الله سبحانه كتبت حسنة مضاعفة.

وقال الخطابي: محل كتابة الحسنة على الترك أن يكون التارك قد قدر على الفعل ثم تركه، لأن الإنسان لا يسمى تاركاً إلا مع القدرة، ويدخل فيه من حال بينه وبين حرصه على الفعل مانع كأن يمشي إلى امرأة ليزني بها مثلاً فيجد الباب مغلقاً ويتعسر فتحه.

ووقع في حديث أبي كبشة الأنماري ما قد يعارض ظاهر حديث الباب - من هم

".

وهو ما أخرجه أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه بلفظ: "إنما الدنيا لأربعة" فذكر الحديث وفيه: "وعبد رزقه الله مالا ولم يرزقه علماً فهو يعمل في ماله بغير علم لا يتقي فيه ربه ولا يصل فيه رحمه ولا يرى لله فيه حقاً فهذا بأخبث المنازل. ورجل لم يرزقه الله مالاً ولا علماً فهو يقول: لو أن لي مالاً لعملت فيه بعمل فلان، فهما في الوزر سواء".

فقيل الجمع بين الحديثين بالتنزيل على حالتين، فتحمل الحالة الأولى على من هم بالمعصية هماً مجرداً من غير تصميم، والحالة الثانية على من صمم على ذلك وأصر عليه.

(2)

تقدم تخريجه.

(3)

تقدم في بداية الرسالة وانظر "الفتح"(11/ 327 - 328).

ص: 1754

والمؤاخذة لهم بما صرحت الشريعة المطهرة بأنه عفو.

وقال بعض هؤلاء العالمين بالفرق بين ما استقر من حديث النفس وما لم يستقر بأنه يمكن إدخال الحديث المستقر تحت قوله: "ما لم تعمل"! وما أبعد هذا! وأن العمل والتكلم هما قسيم حديث النفس ومقابلاه، كما في حديث:"الهم بالسيئة" وهما أيضًا الغاية التي ينتهي عندها التجاوز! وكل عربي أو فاهم للغة العرب يفهم من هذا التركيب المذكور في الحديث، وهو أنه لو قال قائل: قد تجاوزت عن كل من حدث نفسه بشتمي ما لم يتكلم بالشتم أو يعمل عملًا يدل عليه.

فإن كل من يفهم لغة العرب يفهم أن كل ما لم يتكلم به من الشتم ولا عمل عملًا يدل عليه، داخل تحت عموم ذلك التجاوز دخولًا ظاهرًا وواضحًا. فإن قال قائل: إذا حدث نفسه حديثًا كثيرًا بالشتم، ولم يتكلم به ولا عمل عملًا يدل عليه فقد صار ذلك من جملة العمل الذي يدل على الشتم! فإن بطلان هذا ما يفهمه الصبيان.

وهكذا لو قال قائل: من هم بشتمي ولم يشتمني لم أؤاخذه، فإن شتمني وأخذته فإن كل من يفهم لغة العرب يعلم أن المؤاخذة ليست إلا على الشتم الصراح الذي تسمعه الآذان أو تراه الأعين، وأن كل ما لم يبرز إلى الخارج منه عفو مغفور، غير مؤاخذ به.

فإن قال قائل: إنه إذا استقر ذلك الهم في نفسه كان بمنزلة الشتم الصراح باللسان! كان بطلان هذا الكلام مما يفهمه الصبيان. ومما يزيدك بصيرة، ويطلعك على بطلان هذا الاستدلال، أن جعل حديث النفس أو الهم من العمل سيلزم منه الدور أو التسلسل في مثل قوله صلى الله عليه وسلم:«إنما الأعمال بالنيات» (1) فإن النية: هي القصد، وعقد القلب.

(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1) ومسلم رقم (1907).

وأبو داود رقم (2201) والترمذي رقم (1647) وأحمد (1/ 302 رقم 300 - شاكر) وله ألفاظ.

وهو حديث صحيح.

وسيأتي تخريج الحديث بطرقه في رسالة خاصة ضمن هذا المجلد رقم (54).

ص: 1755

وقد جعلت في الحديث من محصلات الأعمال، فلو جعلت من جملة الأعمال، لكانت محصلة لنفسها، ومحصلة، وهذا ظاهر لا يلتبس على من له فهم.

فعرفت بهذا بطلان ما قاله المخصصون للمستقر من حديث النفس بالمؤاخذة، وأنه ليس في أيديهم أثارة من علم، بل مجرد رأى بحت لا وجه له، ولا دليل عليه، ولا ملجئ إليه، ولا مسوغ له.

ثم يقال لهذا القائل: ماذا تريد بكون الخواطر المستقرة من حديث النفس مخالفة لغير ما هو مستقر منها، وزائدة عليها؟ [3أ] فإنه إن قال: إن كونها زائدة على الهم يقتضي المؤاخذة بها!.

فكلامه باطل؛ فإن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم قد حكى لنا عن ربه: أنه لا يؤاخذ إلا إذا عملها.

ولا شك ولا ريب أن القصد (1)، والعزم، وعقد القلب، والنية -لو فرضنا- أنها أمور زائدة على مجرد الهم لم تكن بها مؤاخذة، لأنها ليست بعمل.

والمؤاخذة إنما هي العمل، ولا يخالف في ذلك مخالف من أهل اللسان، ولا من أهل الشرع.

وإن قال: إن كونها زائدة لا يقتضي المؤاخذة بها، ولكنها تتميز عن الهم بكونها زائدة عليه!

فيقال له: لا فائدة في هذا أصلًا، فإنها إذا كانت مغفورة لا يؤاخذ الله العبد بها، فذلك هو المطلوب، والتفرقة ضائعة باعتبار ما نحن بصدده، وقد دلت الأحاديث أن المؤاخذة (2) ليست إلا بالعمل كما دلت الأحاديث المصرحة بأن الله غفر لهذه الأمة ما حدثت به أنفسها، وبأن المؤاخذة ليست إلا بالعمل أو التكلم.

(1) تقدم ذكر ذلك.

(2)

انظر: "إكمال المعلم بفوائد مسلم"(1/ 425).

ص: 1756

ومن أعظم الأدلة وأوضحها ما في حديث ابن عباس هنا: «وإن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله له حسنة» (1) وفي اللفظ الآخر: من حديث أبي هريرة: «وإن تركها فاكتبوها له حسنة» (2).

فإن هذا يدل على أن الله يكتب لمن هم بالسيئة، ولم يعملها، حسنة. ومعلوم أن القاصد، والعازم، والناوي، والمريد للسيئة لم يعملوها، فهم في عداد من يكتب له بتلك السيئة التي قصدها، أو عزم عليها، أو نواها، أو أرادها حسنة، لأنه لم يعملها، ولأنه تركها بلا شك ولا شبهة.

فاندفع ما جاء به الفارقون بين الهم، وبين تلك الأمور، ولم يشتمل كلامهم على فائدة يعتد بها فيما نحن بصدده.

واعلم أنه قد زعم قوم من علماء الكلام أن العزم (3) إن شارك الفعل للمعزوم عليه، كان مؤاخذًا به ومعاقبا عليه!

قالوا: فمن عزم على أن يستخف بنبي من الأنبياء، أو بكتاب من الكتب المنزلة، كفر بمجرد هذا العزم، وإن لم يفعل فعلًا، ولا قال قولًا! هذا معنى كلامهم، وهو كلام ساقط، وتفرقة باطلة، ليس عليها أثارة من علم نقل ولا عقل!

وبيان ذلك أن الغاية التي أثبتت الأدلة المؤاخذة بها هي العمل أو التكلم. وهذا العازم لم يعمل، ولا تكلم.

فالقول بالمؤاخذة له: قول بلا دليل، بل قول مخالف للدليل مخالفةً واضحةً ظاهرةً.

والذي حملهم على هذا خيال مختل وشبهة داحضة، وهو أنهم ظنوا أن هذا العازم على ما ذكروه، وقد

(1) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (207/ 131) وقد تقدم.

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه رقم (205/ 129) وقد تقدم.

(3)

انظر: "الفتح"(11/ 328).

ص: 1757

عزم على ما لا يجوز (1)، وأن ذلك موجب للمؤاخذة! وهذا غلط ظاهر، فإنه لا شك أنه قد عزم على ما لا يجوز، لكن الذي لا يجوز هو ما عزم عليه، والنزغة الشيطانية، فإن الشرع قد جاءنا بأنها عفو مغفورة، ما لم يعمل أو يتكلم.

وهذا لم يعمل، ولا تكلم. وليس عزمه بعمل، ولا كلام باتفاق أهل اللغة والشرع، وهذا هو المعنى الذي فهمه السلف الصالح من هذه الأحاديث.

ورحم الله الأمام الشافعي، فإنه قال في "الأم"(2) كل ما لم يحرك به لسانه فهو حديث النفس الموضوع عن بني آدم. انتهى.

ولم يصب من تأوله، كما لم يصب من تأول الأحاديث [3ب].

فقد تبين بجميع ما ذكرناه جواب ما سأل عنه السائل -كثر الله فوائده- وأن الحرج المغفور لهذه الأمة هو ما كان من تكليف غيرهم من العقوبة على حديث النفس وما تخفيه الضمائر، وما تهتم به القلوب من غير فرق بين ما استقر وطال أمد لبثه وتردد في النفس، وتكرر حديثهما به، وبين ما مر بها وعرض عرضًا يسيرًا، فإنه مغفور لنا، ومعاقب به من قبلنا كما قدمنا ذكره.

ولا يشكل هذا التقرير الذي قررناه، بما ورد في مواضع مخصوصة مما يدل على المؤاخذة بشيء من الأفعال القلبية من دون عمل ولا تكلم، فإن ذلك يقصر على موضعه، ويخص بسببه، ويكون ما ورد منها مخصصًا لهذه العمومات التي ذكرناها،

(1) قال الحافظ في "الفتح"(11/ 552): وظاهر الحديث أن المراد بالعمل عمل الجوارح لأن المفهوم من لفظ (ما لم يعمل) يشعر بأن كل شيء في الصدر لا يؤاخذ به سواء توطن به أم لم يتوطن،

ثم قال: وفي الحديث إشارة إلى عظيم قدر الأمة المحمدية لأجل نبيها صلى الله عليه وسلم لقوله صلى الله عليه وسلم (تجاوز لي) وفيه إشعار باختصاصها بذلك، بل صرح بعضهم بأنه كان حكم الناسي كالعامد في الإثم، وأن ذلك من الإصر الذي كان على من قبلنا، ويؤيده ما أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة لما نزلت:{وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله} اشتد ذلك على الصحابة فذكر الحديث في شكواهم - تقدم في بداية الرسالة.

(2)

عزاه إليه الحافظ في "الفتح"(11/ 328).

ص: 1758

وذلك كقوله سبحانه: {ومن يرد فيه بإلحاد بظلم} (1) الآية.

فإنها تدل على المؤاخذة بمجرد الإرادة في الحرم أو في البيت الحرام لشيء من المعاني التي تصدق عليها أنها ظلم للنفس أو ظلم للغير إذا كانت تلك الإرادة متعلقة بما هو إلحادٌ من ذلك.

فهذه الآية لو حملناها على ظاهرها (2)، ولم نتأولها بوجه من وجوه التأويل، لورودها مخالفة للأدلة القطعية الدالة على عدم المؤاخذة بما تخفيه القلوب، وتضمره السرائر حتى يعمل أو يتكلم به. لكان الواجب على قصرها على المورد الذي وردت فيه، وتخصيصها بالمكان الذي خصها به الدليل، فيقال: إن المؤاخذة. بمجرد الإرادة لما هو إلحاد بظلم خاص بالحرم أو البيت الحرام، فتقصر على محلها، وموردها، ومكانها، وليس فيها ما يقتضي كل الأحوال، أو الأزمنة، أو الأمكنة.

فإن قلت: فهل نجعل من هذا القبيل الوارد مخالفًا لتلك الأدلة العامة ما ثبت في "الصحيح" من قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار. قيل: يا رسول الله! هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصًا على قتل .............................

(1)[الحج: 25]. وتمام الآية: {نذقه من عذاب أليم} .

(2)

قال الحافظ في "الفتح"(11/ 328): "

ويؤيد ذلك أن الحرم يجب اعتقاد تعظيمه، فمن هم بالمعصية فيه خالف الواجب بانتهاك حرمته، وتعقب هذا البحث بأن تعظيم الله آكد من تعظيم الحرم ومع ذلك فمن هم بمعصية لا يؤاخذه، فكيف يؤاخذ بما دونه؟ ويمكن أن يجاب عن هذا بأن انتهاك حرمة الحرم بالمعصية تستلزم انتهاك حرمة الله لأن تعظيم الحرم من تعظيم الله فصارت المعصية في الحرم أشد من المعصية في غيره، وإن اشترك الجميع في ترك تعظيم الله تعالى، نعم من هم بالمعصية قاصدًا الاستخفاف بالحرم عصى، ومن هم بمعصية الله قاصدًا الاستخفاف بالله كفر، وإنما المعفو عنه من هم بالمعصية ذاهلاً عن قصد الاستخفاف.

وانظر "زاد المعاد"(5/ 184 - 185).

ص: 1759

صاحبه» (1)؟.

قلت: لا أجعله من هذا القبيل؛ لأن هذا المقتول لم يكن منه مجرد الحرص فقط، بل قد فعل في الخارج فعلًا هو عمل ظاهر، وهو أخذه لسيفه وملاقاته لصاحبه قاصدًا لقتله عازما على سفك دمه، فهو داخل تحت قوله:"ما لم يعمل أو يتكلم" وهذا قد عمل، وداخل تحت قوله:«ومن هم بالسيئة لم تكتب عليه حتى يعملها» . وهذا قد أردف القصد بالعمل.

وعلى تسليم أن هذا العمل الذي عمله، وهو حمله للسيف وملاقاته لصاحبه ليقتله لا يكون عملًا؛ لأنه لم يعمل العمل المقصود، وهو القتل ولا سيما بعد قوله فيه:«إنه كان حريصًا على قتل صاحبه» فإنه صلى الله عليه وآله وسلم جعل السبب الموجب للنار هو مجرد الحرص فقط، فيكون هذا الحديث مما خصصت به تلك العمومات، ولا معارضة بين عام وخاص، بل الواجب بناء العام على الخاص بالاتفاق (2).

والوجه ظاهر في تخصيص الحرص على قتل المسلم بالمؤاخذة به، وإخراجه من تلك

(1) أخرجه البخاري في صحيحه (31 و6875 و7083) ومسلم رقم (2888) وأبو داود رقم (4368) والنسائي (7/ 124 رقم 4118) من حديث أبي بكرة.

(2)

قال الحافظ في "الفتح"(11/ 327):

وتعقبه عياض بأن عامة السلف وأهل العلم على ما قال ابن الباقلاني لاتفاقهم على المؤاخذة بأعمال القلوب لكنهم قالوا: إن العزم على السيئة يكتب سيئة مجردة لا السيئة التي هم أن يعملها كما يأمر بتحصيل معصية ثم لا يفعلها بعد حصولها فإنه يأثم بالأمر المذكور، لا بالمعصية ومما يدل على ذلك حديث "إذا التقى المسلمان " قال: والذي يظهر أنه من هذا الجنس وهو أنه يعاقب على عزمه بمقدار ما يستحقه ولا يعاقب عقاب من باشر القتل حسًا.

وقال الحافظ في "الفتح"(13/ 34): واستدل بقوله "إنه كان حريصًا على قتل صاحبه" من ذهب إلى المؤاخذة بالعزم وإن لم يقع الفعل وأجاب من لم يقل بذلك أن في هذا فعلاً وهو المواجهة بالسلاح ووقوع القتال، ولا يلزم من كون القاتل والمقتول في النار أن يكون في مرتبة واحدة، فالقاتل يعذب على القتال والقتل، والمقتول يعذب على القتال فقط، فلم يقع التعذيب على العزم المجرد.

ص: 1760

العمومات لما في إراقة دم المسلم من عظم الذنب الذي لا يماثله فيه غيره من الذنوب التي يرتكبها المسلمون بعد الإسلام مما ليس بشرك.

ولأجل هذا اختلف السلف في قبول توبة القاتل [4أ] اختلافًا طويلًا (1) على ما هو

(1) قال ابن كثير في تفسيره (1/ 536) قوله تعالى: {ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم خالدًا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابًا عظيمًا} [النساء: 93]، وقد كان ابن عباس يرى أنه لا توبة لقاتل المؤمن عمدًا، وقال الإمام البخاري: حدثنا آدم حدثنا شعبة حدثنا المغيرة بن النعمان قال: سمعت ابن جبير قال: اختلف فيها أهل الكوفة فرحلت إلى ابن عباس فسألته عنها، فقال: نزلت هذه الآية: {ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم} هي آخر ما نزل وما نسخها شيء. رواه البخاري رقم (4590) ومسلم رقم (18/ 160) كلاهما من طريق سعيد بن جبير.

وقال ابن جرير في تفسيره (5/ 219) عن سعيد بن جبير قال: سألت ابن عباس عن قوله: {ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم} قال: إن الرجل إذا عرف الإسلام وشرائع الإسلام، ثم قتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم ولا توبة له، فذكرت ذلك لمجاهد فقال: إلا من ندم.

والذي عليه الجمهور من سلف الأمة وخلفها أن القاتل له توبة فيما بينه وبين الله عز وجل فإن تاب وأناب وخشع وخضع وعمل عملاً صالحًا يبدل الله سيئاته حسنات، وعوض المقتول من ظلامته وأرضاه عن ظلامته، قال تعالى:{والذين لا يدعون مع الله إلهًا} إلى قوله تعالى {إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحًا} [الفرقان: 70].

وقال تعالى: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله} [الزمر:53]. وهذا عام في جميع الذنوب من كفر وشرك وشك ونفاق وقتل وفسق وغير ذلك كل من تاب تاب الله عليه.

قال الله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} فهذه الآية عامة في جميع الذنوب ما عدا الشرك، وثبت في الصحيحين -أخرجه البخاري رقم (3470) ومسلم في صحيحة رقم (2786) عن أبي سعيد الخدري -خبر الإسرائيلي الذي قتل مائة نفس ثم سأل عالمًا: هل له من توبة؟ فقال: ومن يحول بينك وبين التوبة، ثم أرشده إلى بلد يعبد الله فيها فهاجر إليها فمات في الطريق فقبضته ملائكة الرحمة.

ص: 1761

معروف في كتب التفسير، وفي كتب شروح الحديث.

وكما أن تخصيص المؤاخذة بالحرص على القتل وإخراجه من تلك العمومات لما ذكرنا؛ فكذلك أيضًا تخصيص المؤاخذة (1) بالإرادة بإلحاد بظلم في البيت الحرام أو في الحرم له وجه ظاهر واضح، وهو كون ذلك المريد في ذلك المكان المقدس المطهر الذي هو محل للطاعات، لا للمعاصي.

ولهذا ورد في الترغيب في الطاعات فيه، ومضاعفة ثوابها (2) ما ورد. وورد أيضًا- في الترهيب عن المعاصي (3) فيه، وكثرة إثمها ما ورد، مما هو معروف.

فإن قلت: هل يكون من هذا القبيل المخصص لتلك العمومات ما ورد في شأن أهل القرية التي أصبحت كالصريم، فإن الله عاقبهم بمجرد قولهم:{أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين} (4).

قلت: ليس من هذا القبيل؛ فإنهم قد تكلموا بما عزموا عليه، كما حكى الله عنهم في قوله:{فانطلقوا وهم يتخافتون أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين} (5).

(1) انظر "فتح الباري"(11/ 328).

(2)

انظر تفسير ابن كثير (2/ 332 - 335).

(3)

انظر تفسير ابن كثير (5/ 408).

(4)

[القلم: 24]

(5)

[القلم: 23 - 24].

قال القرطبي في "الجامع لأحكام القرآن"(18/ 241): في هذه الآية دليل على أن العزم مما يؤاخذ به الإنسان، لأنهم عزموا على أن يفعلوا فعوقبوا قبل فعلهم، ونظير هذه الآية قوله تعالى:{ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم} .

وقال الطبري في "جامع البيان"(14\ ج 29/ 34): صح أن الذي هو أولى بتأويل الآية قول من قال: معنى قوله {وغدوا على حرد قادرين} وغدوا على أمر قد قصدوه واعتمدوه واستسروه بينهم، قادرين عليه في أنفسهم.

ص: 1762

وقد سبق تقييد تلك المعلومات بعدم العمل أو التكلم كما أسلفنا، وهؤلاء قد تكلموا بما عزموا فعوقبوا لأجل تكلمهم لا لأجل عزمهم.

قال السائل -كثر الله فوائده- وما معنى قول من قال من السلف في قول الله تعالى: {وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي} (1) الآية. حيث قال إنها أرجى آية (2) في القرآن؟.

وكذلك ما وقع في نفوس بعض الصحابة رضي الله عنهم يوم الحديبية (3) كعمر وغيره؟.

وقد طالعت كلام كثير من أهل العلم من شراح الحديث، وغيرهم في معنى الحديث، فما وجدت في كلامهم ما يدفع الإشكال؟.

أقول: وجه قول بعض السلف: إنها أرجى آيةٍ؛ أن الله سبحانه لم يؤاخذ نبيه وخليله إبراهيم عليه السلام بطلب الطمأنينة؛ فإذا طلبها الواحد منا أو اختلج في خاطره شيء من الوسوسة الشيطانية؛ لم يكن مؤاخذا بذلك بالأولى.

ولهذا قال نبينا صلى الله عليه وسلم كما ثبت عنه في "الصحيح"(4) «نحن أحق بالشك .........................

(1)[البقرة: 260].

(2)

تقدم ذكر ذلك.

(3)

تقدم تخريجه.

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه رقم (3372) ورقم (4537 و4694) ومسلم في صحيحه رقم (151، 2370) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال: {رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي} ويرحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد، ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي".

ص: 1763

من (1) إبراهيم ". فإذا كان نبينا صلى الله عليه وآله وسلم أحق بطلب الطمأنينة من إبراهيم الخليل، فنحن أيضًا -أيتها الأمة- أحق بذلك منه.

وليس في هذا -والعياذ بالله- ما يقدح في دين طالب الطمأنينة أو يثلم في إيمانه؛ لأنه طلب شيئا طلبه أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام. فأين نحن منهم؟ وملائكة الله -سبحانه- تتنزل عليهم في الوقت بعد الوقت، والحين بعد الحين، ويرون من براهين الله سبحانه ما لا يمكننا الوقوف عليه، ولا الوصول إلى بعضه.

وقد ورد في الأحاديث الكثيرة الصحيحة في الوسوسة، ما هو معروف، فلنذكر بعضه هاهنا:

فأخرج أحمد (2) ومسلم (3) من حديث أنس مرفوعا:» إن أحدكم يأتيه الشيطان فيقول: من خلقك؟ فيقول: الله. فيقول: من خلق الله؟ فإذا وجد أحدكم ذلك فليقل: آمنت بالله ورسوله [4 ب]؛ فإن ذلك يذهب عنه «.

(1) قال الحافظ في "الفتح"(6/ 412): ثم اختلفوا في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "نحن أحق بالشك" فقال بعضهم: معناه نحن أشد اشتياقا إلى رؤية ذلك من إبراهيم، وقيل معناه إذا لم نشك نحن فإبراهيم أولى أن لا يشك، أي لو كان الشك متطرقا إلى الأنبياء لكنت أنا أحق به منهم. وقد علمتم أني لم أشك فاعلموا أنه لم يشك، وإنما قال ذلك تواضعا منه، أو من قبل أن يعلمه الله بأنه أفضل من إبراهيم، وهو كقوله في حديث أنس عند مسلم: "أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا خير البرية قال ذاك إبراهيم، وقيل أن سبب هذا الحديث أن الآية لما نزلت قال بعض الناس: شك إبراهيم ولم يشك نبينا فبلغه ذلك فقال: نحن أحق بالشك من إبراهيم.

وقال ابن الجوزي: إنما صار أحق من إبراهيم لما عانى من تكذيب قومه وردهم عليه وتعجبهم من أمر البعث فقال: أنا أحق أن أسأل إبراهيم، لعظيم ما جرى لي مع قومي المنكرين لإحياء الموتى ولمعرفتي بتفضيل الله لي، ولكن لا أسأل في ذلك.

(2)

في "المسند"(3/ 102).

(3)

في صحيحه رقم (136).

ص: 1764

وأخرج نحوه أحمد (1)، من حديث عائشة.

وأخرج البخاري (2) من حديث أنس مرفوعا:» لن يبرح الناس يتساءلون: هذا الله خالق كل شيء؛ فمن خلق الله؟ «.

وأخرج نحوه البخاري (3)، ومسلم (4)، من حديث أبي هريرة مرفوعا، وزاد،» فإذا بلغه فليستعذ بالله، ولينتبه «.

وأخرج نحوه الطبراني في "الكبير"(5) من حديث ابن عمر مرفوعا.

وأخرج نحوه ابن أبي الدنيا في "مكائد الشيطان"(6) عن عائشة مرفوعًا.

وأخرج أيضًا نحوه: مسلم (7)، وأبو داود (8) من حديث أبي هريرة مرفوعا.

وأخرج البخاري (9)، ومسلم (10)، وغيرهما من حديث عائشة:» أن النبي - صلى

(1) في "المسند"(6/ 257) وأورده الهيثمي في "المجمع"(1/ 33) وقال: "رواه أحمد وأبو يعلى- في مسنده (8/ 160 - 161 رقم 4704) والبزار- (1/ 34 رقم 50 - كشف) - ورجاله ثقات.

(2)

في صحيحه رقم (7396).

(3)

في صحيحه رقم (3276).

(4)

في صحيحه رقم (134، 135).

(5)

ذكره الهيثمي في "المجمع"(1/ 34) وقال: رواه الطبراني في الأوسط - رقم 1917 - والكبير ورجاله رجال الصحيح خلا أحمد بن محمد بن نافع الطحان شيخ الطبراني والله أعلم.

وأحمد بن محمد بن نافع هذا ترجم له الذهبي في "تاريخه" حوادث (291 هـ- 300 هـ)(ص72) وسكت عنه.

(6)

(ص 49 رقم 28) بسند صحيح.

(7)

في صحيحه رقم (134، 135).

(8)

في "السنن" رقم (4721).

قلت: وأخرجه البخاري في صحيحه رقم (3276).

(9)

في "الأدب المفرد" رقم (1285) فيه "ليث" و"شهر" ضعيفان.

(10)

لم يخرجه مسلم في صحيحه.

قلت: وأخرجه أحمد (6/ 106) وأبو يعلى في مسنده (8/ 109 رقم 4649). وأورده الهيثمي في "المجمع"(1/ 33) وقال: "رواه أحمد، وأبو يعلى بنحوه

وفي إسناده شهر ابن حوشب. قلت: وليث وهما ضعيفان.

وخلاصة القول أن الحديث ضعيف والله أعلم.

ص: 1765

الله عليه وآله وسلم - سئل عن الوسوسة؟ فكبر ثلاثًا، وقال: ذاك صريح الإيمان ".

وأخرج مسلم (1)، وغيره (2) من حديث أبي هريرة قال:"جاء أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى رسول الله، فقالوا: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به؟ قال: وقد وجدتموه؟ قالوا: نعم. قال: ذاك صريح الإيمان".

وأخرج مسلم (3) وغيره (4) عن عبد الله بن مسعود قال: "سئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الوسوسة؟ فقال: تلك محض الإيمان".

وأخرج أحمد (5) من حديث عائشة: "أن الناس سألوا رسول الله، عن الوسوسة التي يجدها أحدهم، لأن يسقط من عند الثريا أحب إليه من أن يتكلم به؟ قال؟ ذاك محض الإيمان".

وأخرج نحوه: الجماعة (6) من حديث ابن مسعود، وفيه:"ذاك صريح الإيمان".

وأخرج نحوه مسلم (7)، وأبو داود (8) من حديث أبي هريرة، والطبراني في "الأوسط"(9) من حديث ابن عباس.

(1) في صحيحه رقم (132).

(2)

كأبي داود رقم (5111) وابن حبان رقم (145، 148). وهو حديث صحيح.

(3)

في صحيحه رقم (133).

(4)

كابن حبان في صحيحه رقم (149). وهو حديث صحيح.

(5)

في "المسند"(6/ 106) بإسناد ضعيف.

(6)

تقدم.

(7)

في صحيحه رقم (132).

(8)

في "السنن"(5111) وقد تقدم.

(9)

لم أجده في "الأوسط" من حديث ابن عباس. وهو في "الصغير"(2/ 237 - الروض الداني) من حديث ابن عباس بسند ضعيف.

وذكره الهيثمي في "المجمع"(1/ 34) وقال: رواه الطبراني في "الصغير" ورجاله رجال الصحيح خلا شيخ الطبراني منتصر بن محمد أبو منصور البغدادي. ترجم له الخطيب في "تاريخه"(13/ 269) ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلاً.

للعلماء أقول في تفسير قوله صلى الله عليه وسلم حين سئل عن الوسوسة: "ذلك محض الإيمان" منها:

ما ذكره المازري في "المعلم بفوائد مسلم"(1/ 210 - 211): أما قوله: "ذلك محض الإيمان" فلا يصح أن يراد به أن الوسوسة هي الإيمان؛ لأن الإيمان هو اليقين، وإنما الإشارة إلى ما وجدوا من الخوف من الله تعالى أن يعاقبوا على ما وقع في أنفسهم فكأنه يقول: جزعكم من هذا هو محض الإيمان، إذ الخوف من الله تعالى ينافي الشك فيه، فإذا تقرر هذا تبين أن هذا التبويب المذكور- في بعض نسخ مسلم "باب الوسوسة محض الإيمان"- غلط على مقتضى ظاهره.

وأما أمره عليه السلام لهم عند وجود ذلك أن يقول: "آمنت بالله" فإن ظاهره أنه أمرهم أن يدفعوا الخواطر بالإعراض عنها والرد لها من غير استدلال ولا نظر في إبطالها، والذي يقال في هذا المعنى: إن الخواطر على قسمين:

فأما التي ليست بمستقرة ولا اجتلبتها شبهة طرأت فهي التي تدفع بالإعراض عنها، وعلى هذا يحمل الحديث، وعلى مثلها ينطلق اسم الوسوسة، فكأنه لما كان أمرا طارئا على غير أصل دفع بغير نظر في دليل إذ لا أصل له ينظر فيه.

وأما الخواطر المستقرة التي أوجبتها الشبهة فإنها لا تدفع إلا بالاستدلال، ونظر في إبطالها، ومن هذا المعنى حديث "لا عددي"- سيأتي قريبًا-.

وقيل سبب الوسوسة علامة الإيمان لأن الشيطان إنما يوسوس لمن أيس من إغرائه من أهل الإيمان القوي.

وقيل: الوقوف عن الاسترسال مع وساوس الشيطان ودفعها وإثبات خالق لا خالق له هو محض الإيمان.

ص: 1766

وأخرج -أيضًا- الطبراني في "الأوسط"(1) من حديث أم سلمة مرفوعا- بلفظ:

(1) في "الأوسط"(3/ 371 رقم 3430). وفي "الصغير"(1/ 129) وذكره الهيثمي في (المجمع)(1/ 34). وقال: رواه الطبراني في "الأوسط" و"الصغير" وفي إسناده سيف بن عميرة. قال الأزدي يتكلمون فيه". اهـ.

قلت: وسيف هذا صدوق له أوهام كما في "التقريب".

ص: 1767

» لا يلقى ذلك الكلام إلا مؤمن «.

وأخرج من حديثها (1) - أيضا-: "أن رجلا قال: يا رسول الله! إني أحدث نفسي بالشيء، لو تكلمت به لحبطت أجري؟ فقال: الله أكبر، الله أكبر، الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة".

وأخرج أحمد (2)، وأبو داود الطيالسي (3) والطبراني في الكبير (4)، والبيهقي في "الشعب" (5) من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم لما سئل عن الوسوسة-: "الحمد لله، إن الشيطان قد أيس أن يعبد بأرضي هذه ولكن قد رضي منكم بالمحقرات من أعمالكم".

وأخرج الطبراني في "الكبير"(6) من حديث معاذ قال: "قلت يا رسول الله! إنه ليعرض في نفسي الشيء، لأن أكون حممة أحب إلي من أن أتكلم به

" فذكر نحو ما تقدم.

وأخرج .......................................................................

(1) لم يخرجه الطبراني في الكبير ولا في الأوسط ولا في الصغير انظر "مجمع الزوائد"(1/ 32 - 35) و"مجمع البحرين"(1/ 110 - 113) من حديث أم سلمة. بل أخرجه أبو داود في سننه رقم (5112) وابن أبي عاصم في "السنة" رقم (658) وأحمد (1/ 235) من حديث ابن عباس.

(2)

في "المسند"(1/ 340)

(3)

في مسنده (ص 352 رقم 2704).

(4)

رقم (10838).

(5)

رقم (340).

قلت وأخرجه النسائي في "عمل اليوم والليلة" رقم (669) وابن منده في "الإيمان" رقم (345).

(6)

في "الكبير" رقم (367). بسند رجاله ثقات إلا أنه منقطع. وأورده الهيثمي في "المجمع"(1/ 34) وقال: رواه الطبراني في الكبير وهو من رواية ذر بن عبد الله عن معاذ ولم يدركه.

ص: 1768

الديلمي (1) عن معاذ مرفوعا:» إن إبليس له خرطوم كخرطوم الكلب واضعه على قلب ابن آدم، يذكره الشهوات واللذات، ويأتيه بالأماني، ويأتيه بالوسوسة على قلبه ليشككه في ربه، فإذا قال العبد: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، وأعوذ بالله أن يحضرون، إن الله هو السميع العليم، خنس الخرطوم عن القلب «.

والأحاديث في هذا الباب كثيرة، بالغة حد التواتر.

وقد دلت على أمور: منها أن للشيطان قدرة على تشكيك الإنسان حتى يشككه في خالقه، ويخطر بباله -بوسوسته- أن يقول في نفسه: من خلق الله؟ فانظر إلى أي مرتبة بلغ اللعين في الوسوسة؟ خيل إلى الإنسان أن خالقه مخلوق؟ وتشعب في ذهنه من وسوسته أن خالق هذا الرب الذي خلق الخلق [5 أ] من ذا هو؟ وناهيك بهذا المبلغ الذي بلغه اللعين، والمكان الذي وصل إليه.

ثم أرشد صلى الله عليه وآله وسلم هذا الذي وسوس له الشيطان، وأدخله في هذا الشك العظيم، والممارة- الكبيرة أن يقول: آمنت بالله (2) ورسوله، وأن يستعيذ (3) بالله

(1) لم أجده في "الفردوس بمأثور الخطاب".

وقد أخرج أبو يعلى في "المسند" رقم (1546/ 4301) عن أنس مرفوعًا بلفظ "إن الشيطان واضع خطمه على قلب ابن آدم، فإن ذكر الله خنس، وإن نسي التقم قلبه فذلك الوسواس الخناس".

وأورده الهيثمي في "المجمع"(7/ 149) وقال: رواه أبو يعلى وفيه عدي ابن أبي عمارة وهو ضعيف.

قلت: وزياد النميري: ضعيف. والخلاصة أن الحديث ضعيف.

(2)

قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "قل آمنت بالله" أمر بتذكر الإيمان الشرعي واشتغال القلب به لتمحى تلك الشبهات، وتضمحل تلك الترهات لها، وهذه كلها أدوية للقلوب السليمة الصحيحة المستقيمة التي تعرض الترهات لها، ولا تمكث فيها، فإذا استعملت هذه الأدوية على نحو ما أمر به بقيت القلوب على صحتها وانخفضت سلامتها، فأما القلوب التي تمكنت أمراض الشبه فيها، ولم تقدر على دفع ما حل بها بتلك الأدوية المذكورة فلا بد من مشافهتها بالدليل الفعلي والبرهان القطعي.

انظر: "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم"(1/ 345 - 346).

(3)

قوله: "فليستعذ بالله ولينته" لما كانت هذه الوساوس من إلقاء الشيطان ولا قوة لأحد بدفعه إلا بمعونة الله وكفايته أمر بالالتجاء إليه والتعويل في دفع ضرره عليه، وذلك معنى الاستعاذة على ما يأتي. ثم عقب ذلك بالأمر بالانتهاء عن تلك الوساوس والخواطر. أي عن الالتفات إليها والإصغاء نحوها، بل يعرض عنها، ولا يبالي بها، وليس ذلك نهيا عن إيقاع ما وقع منها ولا عن ألا يقع منه لأن ذلك ليس داخلاً تحت الاختيار ولا الكسب، فلا يكلف بها.

"المفهم" للقرطبي (1/ 345)"فتح الباري"(6/ 341).

ص: 1769

من الشيطان، ويكف نفسه عن الانقياد لوسوسته.

ومن الأمور التي دلت عليها هذه الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سمى هذه الوسوسة: "صريح (1) الإيمان" وفي لفظ أنها: "محض (2) الإيمان".

وإنما سماها "محض الإيمان" و"صريح الإيمان" لأن الشيطان لم يقدر من المؤمن إلا على ذلك، وهو شيء مغفور، متجاوز عنه، ولم يطمع فيه بأن يقبل ما يوسوس به إليه، أو يتأثر له، أو يقدح به في دينه.

كلا، ومن لم يكن ثابت الإيمان؛ فإن الشيطان اللعين ينقله من رتبة إلى رتبة، ومن درجة إلى درجة، حتى يزيغ عن الدين، ويدخل في سبيل الملحدين، ويؤيد هذا قوله في الحديث السالف لا يلقي ذلك الكلام إلا مؤمن، فكان عدم التأثر لها:"محض الإيمان" و"صريح الإيمان".

ويمكن أن يقال: إنما كان ذلك: "محض الإيمان" و"صريح الإيمان" لوقوع المدافعة من المؤمن عن أن يتكلم بشيء مما وسوس به إليه الشيطان، وسوله له،

(1) الصريح والمحض: الخالص الصافي، وأصله في اللبن، ومعنى هذا الحديث: أن هذه الإلقاءات والوساوس التي تلقيها الشياطين في صدور المؤمنين تنفر منها قلوبهم، ويعظم عليهم وقوعها عندهم، وذلك دليل صحة إيمانهم ويقينهم ومعرفتهم بأنها باطلة ومن إلقاءات الشيطان، ولولا ذلك لركنوا إليها، ولقبلوها ولم تعظم عندهم، ولا سموها وسوسة، ولما كان ذلك التعاظم وتلك النفرة عن ذلك الإيمان. عبر عن ذلك بأنه خالص الإيمان، ومحض الإيمان وذلك من باب تسمية الشيء باسم الشيء إذا كان مجاورا له، أو كان منه بسبب.

"المفهم"(1/ 344)"المنهاج شرح صحيح مسلم"(2/ 155).

(2)

الصريح والمحض: الخالص الصافي، وأصله في اللبن، ومعنى هذا الحديث: أن هذه الإلقاءات والوساوس التي تلقيها الشياطين في صدور المؤمنين تنفر منها قلوبهم، ويعظم عليهم وقوعها عندهم، وذلك دليل صحة إيمانهم ويقينهم ومعرفتهم بأنها باطلة ومن إلقاءات الشيطان، ولولا ذلك لركنوا إليها، ولقبلوها ولم تعظم عندهم، ولا سموها وسوسة، ولما كان ذلك التعاظم وتلك النفرة عن ذلك الإيمان. عبر عن ذلك بأنه خالص الإيمان، ومحض الإيمان وذلك من باب تسمية الشيء باسم الشيء إذا كان مجاورا له، أو كان منه بسبب.

"المفهم"(1/ 344)"المنهاج شرح صحيح مسلم"(2/ 155).

ص: 1770

وأخطره على قلبه.

ولهذا قال قائل الصحابة: لأن يسقط من عند الثريا أحب إليه من أن يتكلم بما وسوس به إليه الشيطان، كما في حديث عائشة، فقال رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم في جواب ذلك:» ذاك محض الإيمان «(1).

وقال قائلهم: إني أحدث نفسي بالشيء، لو تكلمت به: لأحبطت أجري (2): كما في الحديث الآخر.

وكما قال معاذ: قلت: يا رسول الله! إنه ليعرض في نفسي الشيء؛ لأن أكون حممة أحب إلي من أن أتكلم به.

فالمؤمن إذا بلغ من تحفظه إلى هذا الحد، حتى يكون سقوطه من الثريا إلى الثرى، أخف عنده من التكلم به، وصار احتراقه بالنار التي يكون حممة أيسر عنده من ذلك، فلا رتبة أعلى من هذه الرتبة من الإيمان، ولا صلابة في الدين أقوى من هذه الصلابة؛ فيستحق إيمان من كان كذلك أن يكون "محض الإيمان" و"صريح الإيمان".

ويؤيد ما ذكرناه أولاً ما تقدم في حديث (3) ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما سئل عن الوسوسة؟ قال: «الحمد لله، إن الشيطان قد أيس أن يعبد بأرضي هذه، ولكن قد رضي منكم بالمحقرات» .

فإن هذا يدل على أن مجرد عدم تأثير الشيطان في المؤمنين بشيء من الإغواء والتسويل، إلا مجرد الوسوسة التي خاطر من خواطر القلب المغفورة، من النعم التي أنعم الله بها على عباده.

ولهذا حمد الله النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك؛ فإن الشيطان الرجيم هو القائل: {فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين} (4)

(1) تقدم تخريجه.

(2)

تقدم تخريجه.

(3)

تقدم تخريجه.

(4)

[ص: 82 - 83].

ص: 1771

[5 ب].

فإذا لم يكن له سبيل على المؤمنين، إلا بأن يوسوس لهم وسوسة لا وجود لسمع من معناها في الخارج، ولا تبرز في قول، ولا فعل، فذلك من أعظم النعم التي ينبغي شكر الله عليها، ومن أعظم الأدلة الدالة على قوة إيمان العبد، وصلابته في الدين؛ فإنه قد نجا بإيمانه الذي تفضل الله به عليه من جميع مكائد الشيطان، وسلم من كل نزغاته، التي توجب الإثم، ويطلق عليها اسم الذنب، ولم يقدر على شيء منه، إلا مجرد الوسوسة المغفورة، المعفو عن صاحبها.

ومثل هذا قوله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث السابق لما سمع قول القائل: إني أحدث نفسي بالشيء، لو تكلمت به لأحبطت عملي. فقال:صلى الله عليه وآله وسلم: «الله أكبر، الله أكبر، الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة» .

فإن هذا الحديث يدل أبلغ دلالة على أن الشيطان لا يقدر على المؤمن إلا مجرد الوسوسة، وذلك من النعم العظيمة؛ لأن كيد اللعين كيد عظيم وتسلطه على بني آدم تسلط شديد، فإذا رد الله كيده إلى محض الوسوسة، فقد سلم المؤمن منه، ونجا. ولا يكون من هذا القبيل، إلا خلص المؤمنين، فمن بلغ إلى هذه الرتبة العلية، وهي أنه قد سلم من كيد الشيطان العظيم، ورد اله كيد اللعين إلى الوسوسة؛ فذاك "صريح الإيمان" و"محض الإيمان".

فقد اتضح لك بهذا ما يرفع عنك الإشكال، ويدفع الاضطراب. وقد كررنا في هذا الجواب بعض التكرير؛ بقصد الإيضاح؛ لأن المقام من أعظم المقامات التي تشكل على أهل العلم، ويسألون عنها.

ولا أظن أنه بقي في صدر من تأمل ما حررناه هاهنا خرج، ولله الحمد.

وإذا عرفت هذا، فاعلم أن الواقع من عمر رضي الله عنه في الحديبية، ليس إلا مجرد استشكال وقوع الصلح على تلك الكيفية، وقال: لم نعط الدنية في ديننا مع كوننا على الحق، وعدونا على ......................................

ص: 1772

الباطل (1)؟.

ويتم إلى ذلك السؤال عما وعدهم به رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم من فتح مكة، فلما تبين له وجه المصلحة في ذلك الصلح، ثم تبين له أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يعين لهم وقت فتح مكة في ذلك العام، قنع وارتفع ما حصل له من الإشكال.

فليس الواقع معه إلا مثل ما يقع لمن يستشكل بحثا من الأبحاث العلمية، ويسأل عنه من يرجو عنده الفائدة.

وإذا كان قد وقع مع الصحابة ما ذكرنا من الوسوسة التي يحب أحدهم أن يسقط من الثريا إلى الثرا، ولا يتكلم بها، ويحب الآخر أن يحترق حتى يصير حممة، ولا يتكلم بها، وجعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك "محض الإيمان" و"صريح الإيمان" فكيف يستبعد من عمر أن يشكل (2) عليه مثل ذلك الأمر، ويسأل عنه؟ وبهذا يتضح للسائل -كثر الله فوائده- جواب ما سأل عنه من قول الخليل عليه السلام:{قال بلى ولكن ليطمئن قلبي} (3).

ويظهر وجه قول بعض السلف: "إن هذه الآية أرجى آية في القرآن [6 أ] ويتضح ما استشكله (4) من قول عمر رضي الله عنه.

قال السائل -كثر الله فوائده- وكذلك ما يقول في رجل معه علة السلس، فإن بكر بالخروج إلى صلاة الجمعة اعتراه الحدث لطول المدة، وإن تأخر إلى حين دخول الإمام، أو إلى فراغه من الخطبة فاتته الفضيلة، ولكنه إذا تأخر هذا التأخر صلى بطهارة كاملة؟.

وهل شهود الخطبة واجب أم لا؟ انتهى.

(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2731، 2732) و (3182، 4844) ومسلم في صحيحه رقم (1785) وقد تقدم.

(2)

تقدم.

(3)

[البقرة: 260]

(4)

تقدم.

ص: 1773

أقول: قد تقدم في العام الأول من السائل -كثر الله فوائده- سؤال في أحكام السلس، وما يتعلق بها، ويتفرع عليها.

وأجبنا على ذلك جوابا، ربما يستفاد منه جواب هذا، فليراجعه إن شاء.

ولا شك أن مجرد التبكير إلى صلاة الجمعة فضيلة، وسنة حافظ عليها السلف، وأرشد إليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى فضل أجر المبكرين وثوابهم على حسب اختلافهم في التبكير، فقال: فيما ثبت عنه في "الصحيح"(1)» من اغتسل يوم الجمعة، ثم راح في الساعة الأولى، فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية، فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة، فكأنما قرب كبشا أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة، فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة، فكأنما قرب بيضة؛ فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر».

فهذا المبتلى بعلة السلس؛ إذا كانت العلة مطبقة مستمرة، لا يمكن تأدية الفرض إلا مع خروج شيء من ذلك، كان حكمه حكم الصحيح الذي لا علة معه في طهارته، وثيابه، وبدنه، وصلاته في أول الوقت.

وذلك الخارج عفو لا يبطل به وضوءه، ولا يتنجس به ثوبه الذي سيصلي فيه تلك الفريضة، ولا بدنه، ولا غير ذلك.

وقد أوضحنا هذا في الجواب الذي حررناه العام الأول على السائل -كثر الله فوائده- وأما هذه المسألة التي وقع السؤال عنها؛ فإن كان يثق من نفسه أنه إذا ترك التبكير وحضر مع حضور الإمام، لم يخرج شيء من الخارج، فترك التبكير أولى له.

(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (881) ومسلم رقم (850) وأبو داود رقم (351) والنسائي (3/ 99 رقم 1388) والترمذي رقم (499) وابن ماجه في "السنن" رقم (1092) وابن حبان في صحيحه رقم (2764) وأحمد رقم (2/ 460) والبغوي في "شرح السنة"(4/ 234 رقم 1063) ومالك في "الموطأ"(1/ 101) والبيهقي في "السنن الكبرى"(1/ 297). كلهم من حديث أبي هريرة. وهو حديث صحيح.

ص: 1774

وإن كان معذورًا -في الواقع- لكن إذا قدر على تأدية الصلاة بطهارة كاملة مع انقطاع الخارج منه، فذلك متحتم لازم، لأن الطهارة فريضة من فرائض الصلاة المتعينة على كل مصل، إذا كان متمكنا من ذلك غير معذور عنه.

وأما ما سأل عنه -عافاه الله- من كون شهود الخطبة واجبًا أم لا؟

فلم يتقرر لهذا بدليل صحيح معتبر ما يدل على وجوب الخطبة في الجمعة حتى يكون شهودها واجبًا.

والفعل الذي وقعت المداومة عليه لا يستفاد منه الوجوب، بل يستفاد منه أن ذلك المفعول على الاستمرار سنة من السنن المؤكدة.

فالخطبة في الجمعة سنة من السنن المؤكدة، وشعار من شعائر الإسلام [6 ب] لم تترك منذ شرعت إلى موته صلى الله عليه وآله وسلم، ولا أقيمت صلاة جمعة بغير خطبة.

وهكذا ما بعد عصره، في جميع الأقطار إلى هذا العصر لم تترك في قطر من أقطار المسلمين، ولا أهملت في عصر من العصور الإسلامية.

وأما كونها واجبة مفترضة، فلم يأت في كتاب الله سبحانه ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما يدل على ذلك، ولا بلغ إلينا ما يفيد الوجوب.

وقد استدل بعض أهل العلم بقوله تعالى: {فاسعوا إلى ذكر الله} (1) وأن السعي إذا كان مأمورًا به، كان المسعو إليه أولى بالوجوب؟

ويجاب عن هذا: بأن الذكر المأمور بالسعي إليه هو صلاة الجمعة، كما في أول الآية:{إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله} . فالمسعو إليه هو الصلاة، والصلاة هي ذكر الله.

واستدل بعض القائلين بوجوب الخطبة بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (صلوا كما رأيتموني

(1)[الجمعة: 9].

ص: 1775

أصلي» (1).

وهذا استدلال غير صحيح؛ فإن النزاع في الخطبة، وليست بصلاة فكيف يستدل عليها بهذا الحديث؟

ولعل هذا المستدل قد علق بذهنه ما يقوله بعض الفقهاء من أن خطبة الصلاة كركعتين، فحقق هذا التشبيه، وجزم بأنها ركعتان، ثم استدل عليها فغلط غلطا متكررًا، وخبط خبطا شديدًا، وغفل عن كون القائل من الفقهاء إنما قال: إنها كركعتين، ولم يقل: إنها ركعتان والذي حمل هذا القائل على أنها كركعتين شيء لا يقع في ذهن متيقظ، ولا ينفق على محقق.

وذلك أنه لما استقر في ذهنه أن صلاة الجمعة بدل عن الظهر، وأن الظهر أربع ركعات، ظن أن البدل لا بد أن يكون كالمبدل في العدد؛ فجعل الخطبة منزلة منزلة ركعتين، فجاء بجهل مرتب على جهل.

وتكلم بباطل متفرع على باطل! وهكذا من توغل في الرأي، وجعله مرجعا للمسائل الشرعية؛ فإنه يأتي بمثل هذه الخرافات المخزية!.

وبالجملة، فلا شيء من كتاب، ولا سنة يدل على أن الخطبة واجبة من واجبات الشريعة، وفريضة من فرائضها!.

ولو كان طول الملازمة يستفاد منه الوجوب، لكانت نوافله صلى الله عليه وآله وسلم وأذكاره التي داوم عليها، ولم يخل بها واجبة! واللازم باطل بإجماع المسلمين فالملزم مثله.

وبيان الملازمة: اتصاف الخطبة، وهذه النوافل، والأذكار بكون كل واحدة منه وقعت الملازمة له، والمداومة عليه، والمواظبة على فعله، وبيان بطلان اللازم: إجماع المسلمين أجمعين -إلا من لا يعتد بخلافه- أن تلك النوافل التي واظب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والأذكار التي كان يحافظ عليها، غير واجبة [7 أ]!.

(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (631) وأبو داود رقم (589) والترمذي رقم (205) والنسائي (2/ 77) وابن ماجه رقم (979) من حديث مالك بن الحويرث.

ص: 1776

واعلم أن من تأمل فيما وقع لأهل العلم في هذه العبادة الفاضلة التي افترضها الله عليهم في الأسبوع، وجعلها شعارا من شعائر الإسلام -وهي صلاة الجمعة- من الأقوال الساقطة، والمذاهب الزائفة، والاجتهادات الداحضة قضى من ذلك العجب!.

فقائل يقول: الخطبة كركعتين، وأن من فاتته لم تصح جمعته! وكأنه لم يبلغه ما ورد عن رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم من طرق متعددة يقوي بعضها بعضا، ويشد بعضها من عضد بعض "أن من فاتته ركعة من ركعتي الجمعة، فليضف إليها أخرى، وقد تمت صلاته"(1).

(1) أخرجه النسائي (3/ 112 رقم 1425) بإسناد صحيح من طريق قتيبة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "من أدرك من صلاة الجمعة ركعة فقد أدرك".

وأخرجه الحاكم (1/ 291) من طريق الوليد بن مسلم، عنه بلفظ النسائي إلا أنه زاد في آخره "الصلاة".

وأخرجه الحاكم (1/ 291) والبيهقي (3/ 203) والدارقطني (2/ 11 رقم 4) بإسناد حسن من طريق أسامة بن زيد الليثي، عنه بلفظ:"من أدرك من الجمعة ركعة فليصل إليها أخرى".

ثم أخرجه الحاكم (1/ 291) والبيهقي (3/ 203) والدارقطني (2/ 11 رقم 6) من طريق صالح ابن أبي الأخضر، عنه بلفظ:"من أدرك من الجمعة ركعة فليصل إليها أخرى، فإن أدركهم جلوسا صلى أربعا" ولم يذكر الحاكم الجملة الأخيرة.

وأخرجه ابن ماجه (1/ 356 رقم 1121) من طريق عمر بن حبيب، عنه: بلفظ أسامة بن زيد الليثي.

ولحديث أبي هريرة شاهد من حديث ابن عمر مرفوعا. بلفظ: "من أدرك ركعة يوم الجمعة فقد أدركها وليضف إليها أخرى".

وأخرجه الدارقطني (2/ 13 رقم 14) من طريق عيسى بن إبراهيم عنه.

وأخرجه الطبراني في "الصغير"(1/ 339 رقم 562) من طريق إبراهيم بن سليمان الدباس. عنه.

وأخرجه النسائي (1/ 274 رقم 557) وابن ماجه رقم (1123) والدارقطني (2/ 12 رقم 12) من طريق سالم. عنه.

والخلاصة أن الحديث بذكر الجمعة صحيح من حديث ابن عمر، لا من حديث أبي هريرة. وانظر الكلام بتوسع على هذا الحديث في كتاب "إرواء الغليل"(3/ 84 - 90 رقم 622). للمحدث الألباني.

ص: 1777

ولا بلغه غير هذا الحديث من الأدلة!

وقائل يقول: لا تنعقد الجمعة إلا بثلاثة مع الإمام!

وقائل يقول: بأربعة معه!

وقائل يقول: بستة!

وقائل يقول: بتسعة!

وقائل يقول: باثني عشر!

وقائل يقول: بعشرين!

وقائل يقول: بثلاثين!

وقائل يقول: لا تنعقد إلا بأربعين!

وقائل يقول: بخمسين!

وقائل يقول: لا تنعقد إلا بستين!

وقائل يقول: بثمانين!

وقائل يقول: بجمع كثير من غير تقييد!

وقائل يقول: إن الجمعة لا تصح إلا في مصر جامع وحدده بعضهم بأن يكون الساكنون فيه: كذا وكذا من آلاف!

وآخر قال: أن يكون فيه جامع، وحمام!

وآخر قال: أن يكون فيه كذا!

وآخر قال: أن يكون فيه كذا!

وآخر قال: إنها لا تجب إلا مع الإمام الأعظم؛ فإن لم يوجد، أو كان مختل العدالة بوجه من الوجوه، لم تجب الجمعة، ولم تشرع!

ص: 1778

ونحو هذه الأقوال التي ليس عليها أثارة من علم، ولا يوجد في كتاب الله، ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حرف واحد يدل على ما ادعوه من كون هذه الأمور المذكورة شروطا لصحة صلاة الجمعة أو فرضا من فرائضها أو ركنا من أركانها!

فيا لله العجب! ما يفعل الرأي بأهله! وما يخرج من رءوسهم من الخزعبلات الشبيهة بما يتحدث الناس به في مجامعهم، وما يجرونه في أسمارهم من القصص، والأحاديث الملفقة، وهي من الشريعة المطهرة بمعزل! يعرف هذا كل عارف بالكتاب والسنة وكل متصف بصفة الإنصاف، وكل من ثبت قدمه، ولم يتزلزل عن طريق الحق بالقيل والقال.

ومن جاء بالغلط، فغلطه رد عليه، مضروب به في وجهه. والحكم بين العباد هو كتاب الله، وسنة رسوله، كما قال سبحانه:{فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} (1).

{إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا} (2).

{فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما} (3).

فهذه الآيات، ونحوها، تدل أبلغ دلالة، وتفيد أعظم فائدة أن المرجع مع الاختلاف إلى حكم الله ورسوله [7 ب].

وحكم الله هو كتابه. وحكم رسوله -بعد أن قبضه الله إليه- هو: سنته ليس غير

(1)[النساء: 59].

(2)

[النور: 51].

(3)

[النساء: 65].

ص: 1779

ذلك.

ولم يجعل الله لأحد من العباد -وإن بلغ في العلم إلى أعلى مبلغ، وجمع منه ما لم يجمعه غيره- أن يقول في هذه الشريعة بشيء لا دليل عليه من كتاب ولا سنة.

والمجتهد -وإن جاءت الرخصة له بالعمل برأيه عند عدم الدليل- فلا رخصة لغيره أن يأخذ بذلك الرأي كائنا من كان. والبحث في هذا يطول جدا. وقد جمعت فيه مصنفين مطولا ومختصرا -ولله الحمد-.

حرره مؤلفه في يوم الأربعاء الثالث من شهر ذي القعدة من شهور سنة 1228 حامدًا لله شاكرا له مصليا مسلما على رسوله [8 أ].

ص: 1780