المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌بحث في حديث: "لو لم تذنبوا لذهب الله بكم .. إلخ - الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني - جـ ٤

[الشوكاني]

فهرس الكتاب

- ‌بحث في قول أهل الحديث " رجال إسناده ثقات

- ‌القول المقبول في رد خبر المجهول من غير صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌بحث في الجواب على من قال أنه لم يقع التعرض لمن في حفظه ضعف من الصحابة

- ‌سؤال عن عدالة جميع الصحابة هل هي مسلمة أم لا

- ‌رفع البأس عن حديث النفس والهم والوسواس

- ‌الأبحاث الوضية في الكلام على حديث (حب الدنيا رأس كل خطية)

- ‌سؤال عن معنى بني الإسلام على خمسة أركان وما يترتب عليه

- ‌الأذكار (جواب على بعض الأحاديث المتعارضة فيها)

- ‌بحث في الكلام على حديث " إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن اجتهد وأخطأ فله أجر واحد

- ‌جواب عن سؤال خاص بالحديث " لا عهد لظالم " وهل هو موجود فعلا من عدمه

- ‌فوائد في أحاديث فضائل القرآن

- ‌بحث في حديث "لعن الله اليهود لاتخاذهم قبور أنبيائهم مساجد

- ‌إتحاف المهرة بالكلام على حديث: "لا عدوى ولا طيرة

- ‌بحث في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنما الأعمال بالنيات

- ‌بحث في حديث: "لو لم تذنبوا لذهب الله بكم .. إلخ

- ‌بحث في بيان العبدين الصالحين المذكورين في حديث الغدير

- ‌بحث في حديث (أجعل لك صلاتي كلها) وفي تحقيق الصلاة على الآل ومن خصهم

- ‌تنبيه الأعلام على تفسير المشتبهات بين الحلال والحرام

الفصل: ‌بحث في حديث: "لو لم تذنبوا لذهب الله بكم .. إلخ

‌بحث في حديث: "لو لم تذنبوا لذهب الله بكم .. إلخ

"

تأليف

محمد بن علي الشوكاني

حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه

محمد صبحي بن حسن حلاق

أبو مصعب

ص: 1979

وصف المخطوط:

1 -

عنوان الرسالة: (بحث في حديث: "لو لم تذنبوا لذهب الله بكم .. ").

2 -

موضوع الرسالة: في "الحديث".

3 -

أول الرسالة: الحمد لله تعالى، سأل الحقير حاكم الحضرة عهدة المسلمين حافظ الدين عليه السلام كثر الله تعالى فوائده، وأطال مدته عن معنى حديث شريف

4 -

آخر الرسالة:

ما يظهر لي في معنى هذا الحديث الصحيح ومن رام الوقف على جميع ما قيل في ذلك فليبحث مطولات شروح الحديث، وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية. والله ولي التوفيق، وذكر اسمه هنا.

5 -

نوع الخط: خط نسخي جيد.

6 -

المسطرة: الأولى: (24) سطرا.

الثانية: (24) سطرا.

الثالثة: (10) أسطر.

7 -

عدد الكلمات في السطر: (13) كلمة.

8 -

الرسالة من المجلد الثالث من "الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني".

ص: 1981

بسم الله الرحمن الرحيم

بحث في حديث: "لو لم تذنبوا"

الحمد لله تعالى

سأل الحقير حاكم الحضرة، عهدة المسلمين، حافظ الدين، عليه السلام، كثر الله تعالى فوائده، وأطال مدته، عن معنى حديث شريف، وعرضت ما لاح للذهن القاصر عليه فأمرني -عافاه الله- بتحرير أصل ذلك وفرعه، فأجبته لوجوب جوابه، مقتنصا بذلك من نفحاته، متوسلا إلى استخراج ثمراته من ينابيع إفاداته عن قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم:"والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم" رواه البخاري (1) ومسلم (2). وله شواهد (3).

قال القاضي أحمد (4) المسوري - عفا الله عنه - في رسالته .............

(1) لم يخرجه البخاري بهذا اللفظ. وأخرجه البخاري رقم (7507) ومسلم رقم (2758) من حديث أبي هريرة بلفظ آخر.

(2)

في صحيحه رقم (11/ 2749) من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم".

(3)

منها: ما أخرجه مسلم في صحيحه رقم (10/ 2748) من حديث أبي أيوب الأنصاري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لو أنكم لم تكن لكم ذنوب، يغفرها الله لكم، لجاء الله بقوم لهم ذنوب، يغفرها لهم".

ومنها: ما أخرجه مسلم في صحيحه رقم (9/ 2748) عن أبي أيوب أنه قال حين حضرته الوفاة: كنت كتمت عنكم شيئا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لولا أنكم تذنبون لخلق الله خلقا يذنبون يغفر لهم".

ومنها: ما أخرجه أحمد (4/ 346) ومسلم في صحيحه رقم (2750) من حديث حنظلة الأسيدي في حديث طويل: "

والذي نفسي بيده إن لو تدومون على ما تكونون عندي، وفي الذكر، لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة" ثلاث مرات.

(4)

أحمد بن سعد الدين بن الحسين بن محمد المسوري اليمني ولد سنة 1007 هـ بناحية الشرف، كان عظيم الشأن جليل القدر.

من مصنفاته: "الرسالة المنقذة من الغواية في طريق الرواية" مجموع الأسانيد. توفي سنة 1079 هـ. انظر: "الروض الأغن"(1/ 42 - 43 رقم 70)، "البدر الطالع"(1/ 58).

ص: 1985

المعروفة (1) مشككا في شأن ما لاح له في تناقض الأدلة، حرس الله ذلك عنه، ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم:"والذي نفسي بيده .. إلخ". مع قول الله تعالى: {وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم} (2) هذا تناقض.

قال في صوارم اليقين لقطع شكوك أحمد بن سعد الدين: "إن الآية الكريمة لها محمل صحيح، وذكره، ولعل معناه أن الآية مسوقة لعدم الإتيان بالواجب من الزكاة ونحوها، وأنه متعذر المجيء بآخرين، لأنه إن كان من الملائكة فهم معصومون، وإن كان من الجنس غير في الصفات فهم غير معصومين، ويحضرني أنه قال في الكشاف (3):

(1)"الرسالة المنقذة من الغواية في طريق الرواية".

(2)

[محمد: 38]. قال ابن جرير الطبري في "جامع البيان"(13 جـ 26/ 66): وقوله تعالى: (وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم) أي وإن تتولوا أيها الناس عن هذا الدين الذي جاءكم به محمد صلى الله عليه وسلم، فترتدوا راجعين عنه:(يستبدل قوما غيركم) أي يهلككم ثم يجيء بقوم آخرين غيركم بدلا منكم يصدقون به، ويعملون بشرائعه (ثم لا يكونوا أمثالكم) يقول: ثم لا يبخلوا بما أمروا به من النفقة في سبيل الله، ولا يضيعون شيئا من حدود دينهم، ولكنهم يقومون بذلك كله على ما يؤمرون به.

(3)

أي الزمخشري في "الكشاف"(5/ 532).

قال ابن كثير في تفسيره (7/ 324): قوله: (وإن تتولوا) أي: عن طاعته واتباع شرعه يستبدل قوما غيركم (ثم لا يكونوا أمثالكم) أي ولكن يكونون سامعين مطيعين له ولأوامره.

ثم ذكر حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية: (وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم) قالوا: يا رسول الله، من هؤلاء الذين إن تولينا استبدل بنا ثم لا يكونوا أمثالنا؟ قال: فضرب بيده على كتف سلمان الفارسي ثم قال: "هذا وقومه، ولو كان الدين عند الثريا لتناوله رجال من الفرس".

أخرجه الترمذي رقم (3260) وقال: هذا حديث غريب، في إسناده مقال، وابن حبان رقم (7123) والحاكم (3/ 458) والبيهقي في "الدلائل"(6/ 333 - 334) كلهم من طرق مختلفة عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة به.

ص: 1986

{وإن تتولوا} معطوف على: {وإن تؤمنوا وتتقوا} فيكون المراد بالتولي الكفر، وهو غير ما أراده صاحب الرسالة من أن المراد عدم الذنب، بل أعم من ذلك.

وقال فيها أيضا: إن (لو) في الحديث المذكور في اللغة لامتناع الشيء (1) لامتناع غيره، ثم بين الامتناع بما معناه، فلم يكن عندي ليؤخذ بلفظه: إن الذنب متعذر عدم كونه من المتكلفين، فالمجيء بآخرين ممتنع كذلك، وذكر مما أجيب به عن معنى الحديث قولا ونقلا، ولم يكن منه ما لاح لي هو أن الذي ينبغي أن يكون (لو) في هذا المقام من قبيل لو لم يخف الله لم يعصه، فيكون معنى الحديث: فأولى أن يذهب لكم، وأنتم تذنبون ويكون المراد بالذهاب الموت.

قال في الأفعال: ذهب (2) الإنسان ذهابا وذهوبا مات. وهي لأمر مضى، ويكون المراد بالمجيء بآخرين من الجنس غايته تحصيل ما اشتمل عليه التكوين من الأسلاف والأخلاق.

(1) وهو المشهور على ألسنة النحاة، ومشى عليه المعربون أنها حرف امتناع لامتناع، أي يدل على امتناع الجواب لامتناع الشرط، فقولك: لو جئت لأكرمتك؛ دال على امتناع.

وقيل: هي مجرد ربط الجواب بالشرط دالة على التعليق في الماضي كما دلت (إن) على التعليق في المستقبل، ولم تدل بالإجماع على امتناع ولا ثبوت.

واعترض عليه ابن هشام وقال: هذا القول كإنكار الضروريات إذ فهم الامتناع منها كالبديهي.

وهناك أقوال أخرى انظرها في "معترك الأقران في إعجاز القرآن"(2/ 294 - 298).

(2)

انظر لسان العرب (5/ 66) و"الصحاح"(1/ 130).

ص: 1987

وإن ذلك لازم حكمه. وأبان الحديث وجه أولوية [1] لزوم ذلك من تبيين أن لله في ذلك حكمة، ولا بد منه، لا كما ظنه من فهم أن الذنب مقصود للشارع، وأنه يلزم أن يكون الذنب منهي عنه، مأمور به، فذلك باطل فيجب المصير إلى أي جمع. وإن يكاد أبعد تأويل وارتكاب أبعد تأويل، كيف وهذه وجوه صحيحة صريحة يجب المصير إليها أولى من نسبة التناقض إلى الشريعة المطهرة، صانها الله عن ذلك:{وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى} (1). هذا ما لاح لي، وفوق كل ذي علم عليم. انتهى السؤال بلفظه. الجواب نقل من خط المولى العلامة الرباني محمد بن علي الشوكاني، كثر الله فوائده.

(1)[النجم: 3 - 4].

ص: 1988

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين، وآله الطاهرين، وبعد:

فإنه وصل هذا البحث من سيدي العلامة عماد الدين محمد بن مطهر بن إسماعيل بن يحيى بن الحسين بن الإمام القاسم - رضوان الله عليهم جميعا - وأقول: إن وجه وقوع الإشكال في هذا الحديث لجماعة من أهل العلم أنهم ظنوا أنه يدل على أن وقوع الذنوب من العصاة مطلوب للشارع، وهذا تخيل مختل، وفهم فاسد معتل، فإن الحديث لا يدل على ذلك لا بمطابقة، ولا تضمن، ولا التزام. فإن قوله: "لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم

إلخ". لا يدل إلا على أن هذا النوع الإنساني (1) باعتبار مجموعة لا

(1) قال ابن الجوزي: "هفوات الطبائع البشرية لا يسلم منها أحد". انظر: "فتح الباري"(11/ 101).

قال ابن تيمية في "منهاج السنة"(2/ 431): إذا ابتلي العبد بالذنب وقد علم أنه سيتوب منه ويتجنبه، ففي ذلك من حكمة الله ورحمته بعبده أن ذلك يزيده عبودية وتواضعا وخشوعا وذلا ورغبة في كثرة الأعمال الصالحة ونفرة قوية عن السيئات.

وذلك يدفع عنه العجب والخيلاء ونحو ذلك مما يعرض للإنسان، وهو أيضًا يوجب الرحمة لخلق الله، ورجاء التوبة والرحمة لهم إذا أذنبوا وترغيبهم في التوبة.

وهو أيضًا يبين من فضل الله وإحسانه وكرمه ما لا يحصل بدون ذلك كما قال: صلى الله عليه وسلم: "لو لم تذنبوا .. ".

وهو أيضًا يبين قوة حاجة العبد إلى الاستعانة بالله والتوكل عليه واللجء إليه في أن يستعمله في طاعته ويجنبه معصيته وأنه لا يملك ذلك إلا بفضل الله عليه وإعانته له، فإن من ذاق مرارة الابتلاء وعجزه عن دفعه إلا بفضل الله ورحمته، كان شهود قلبه وفقره إلى ربه واحتياجه إليه في أن يعينه على طاعته ويجنبه معصيته أعظم ممن لم يكن كذلك، ولهذا قال بعضهم: كان داود صلى الله عليه وسلم بعد التوبة خيرا منه قبل الخطيئة. وقال بعضهم: لو لم تكن التوبة أحب الأشياء إليه لما ابتلى بالذنب أكرم الخلق عليه.

ولهذا تجد التائب الصادق أثبت على الطاعة وأرغب فيها وأشد حذرا من الذنب من كثير من الذين لم يبتلوا بالذنب.

وقد تكون التوبة موجبة له من الحسنات ما لا يحصل لمن يكن مثله تائبا من الذنب. فمن يجعل التائب الذي اجتباه الله وهداه منقوصا بما كان من الذنب الذي تاب منه، وقد صار بعد التوبة خيرا مما كان قبل التوبة، فهو جاهل بدين الله.

وانظر: "فتح الباري"(11/ 104 - 108).

ص: 1989

يخلو عنه الذنب قط. ولو فرضنا أنه يخلو عنه لم يكن إنسانا بل غير إنسان، لأن العصمة لجملة النوع باطلة، وما استلزم الباطل باطل.

وقد قضى الله في سابق علمه كما أخبرنا بذلك في كتابه (1) على لسان رسله أن فريقا من هذا النوع في الجنة، وفريقا في السعير. وأن منهم الشقي والسعيد، والبر والفاجر، والمسلم والكافر. وأخبرنا أيضًا على لسان (2) رسله أنه خلق الجنة وخلق لها أهلا، وخلق النار وخلق لها أهلا، وأخبرنا أيضًا أنه الغفور الرحيم، المنتقم الجبار، شديد العقاب ونحو

(1) منها قوله تعالى: (وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا لتنذر أم القرى ومن حولها وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه فريق في الجنة وفريق في السعير)[الشورى: 7].

(2)

منها ما أخرجه أحمد (1/ 44 - 45) وأبو داود رقم (4703) والنسائي في "تفسيره" رقم (210) والترمذي (5/ 226 رقم 3075) وقال: هذا حديث حسن. وابن حبان (1804 - موارد) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عنها (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى). [الأعراف: 172]، فقال:"إن الله خلق آدم عليه السلام ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية، قال: خلقت هؤلاء للجنة، وبعمل أهل الجنة يعملون. ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية، فقال: خلقت هؤلاء للنار، وبعمل أهل النار يعملون" فقال رجل: يا رسول الله ففيم العمل؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا خلق الله العبد للجنة استعمله بأعمال أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال الجنة فيدخل به الجنة، وإذا خلق الله العبد للنار استعمله بأعمال أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخل به النار".

وهو حديث صحيح لغيره.

ص: 1990

ذلك من الأسماء والصفات (1). فلو فرضنا أن مجموع هذا النوع الإنساني لا يصدر من ذنب أصلا كانت هذه الإخبارات الإلهية باطلة، وما استلزم الباطل باطل. وبيان الملازمة أنه إذا لم يوجد المذنب لم يوجد الشقي منهم. ولا الكافر ولا الفاجر، ولا من هو من أهل النار. وأيضا لم يوجد من يستحق العفو عنه، والرحمة له، والانتقام منه، والعقوبة له.

وأما بطلان اللازم فظاهر، فتقرر بهذا أن الحديث مسوق لبيان أن العصمة عن مجموع هذا النوع الإنساني (2) منتفية، وأنهم على [2] ما حكاه الله في محكم كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ومنهم المطيع، ومنهم العاصي، ومنهم من جمع بين الطاعة والمعصية، وأنهم مظاهر الأسماء الحسنى والصفات المتضمنة للغضب والرضا، والرحمة والعقوبة، والنعيم

(1) قال ابن القيم في مفتاح دار السعادة (2/ 261): أنه سبحانه له من الأسماء الحسنى، ولكل اسم من أسمائه أثر من الآثار في الخلق والأمر، لا بد من ترتبه عليه كترتب المرزوق والرزق على الرازق، وترتب المرحوم وأسباب الرحمة على الرحيم، وترتب المرئيات والمسموعات على السميع والبصير

فلو لم يكن في عباده من يخطئ ويذنب ليتوب عليه ويغفر له ويعفو عنه لن يظهر أثر أسمائه الغفور والعفو والحليم والتواب، وما جرى مجراها، وظهور أثر هذه الأسماء ومتعلقاتها في الخليقة كظهور آثار الأسماء الحسنى ومتعلقاتها، فكما أن اسمه الخالق يقتضي مخلوقا، والباري يقتضي مبروءا، والمصور يقتضي مصورا ولا بد، فأسماؤه الغفار التواب تقتضي مغفورا له وما يغفره له كذلك من يتوب عليه، وأمورا يتوب عليه من أجلها، ومن يحلم عنه ويعفو عنه، وما يكون متعلق الحلم والعفو، فإن هذه الأمور متعلقة بالغير ومعانيها مستلزمة لمتعلقاتها.

(2)

قال ابن القيم في "مفتاح دار السعادة"(2/ 292): إن الحكمة الإلهية اقتضت تركيب الشهوة والغضب في الإنسان، وهاتان القوتان فيه منزلة صفاته الذاتية، لا ينفك عنهما، وبهما وقعت المحنة والابتلاء، عرض لنيل الدرجات العلى، واللحاق بالرفيق الأعلى، والهبوط أسفل سافلين

والمقصود أن تركيب الإنسان على هذا الوجه هو غاية الحكمة، ولا بد أن يقتضي كل واحد من القوتين أثره، فلا بد من وقوع الذنب والمخالفات والمعاصي، ولا بد من ترتب آثار هاتين القوتين عليهما، ولو لم يخلقا في الإنسان لم يكن إنسانا، بل كان ملكا، فالترتب من موجبات الإنسانية، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون".

ص: 1991

والعذاب والعفو والعقاب، وأن منهم فريق الجنة (1)، ومنهم فريق النار.

فمن رام أن يكونوا جميعا معصومين عن الذنوب فقد رام شططا، وخالف الشرائع بأسرها، كما خالف الواقع ونفس الأمر. ولم يبق على ما زعمه ثمرة لإنزال الكتب، وبعثة الرسل. هذا حاصل ما يظهر لي في معنى هذا الحديث الصحيح. ومن رام الوقف على جميع ما قيل في ذلك فليبحث مطولات شروح الحديث.

وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية، والله ولي التوفيق. (وذكر اسمه هنا)[3].

(1) أخرجه أحمد (3/ 198) والترمذي رقم (2501) وابن ماجه رقم (4251) والدارمي (2/ 303) والحاكم (4/ 244) عن أنس. وهو حديث حسن.

ص: 1992