الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بحث في حديث "لعن الله اليهود لاتخاذهم قبور أنبيائهم مساجد
" (1)
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب
(1) عنوان الرسالة في (أ): "بحث في الصلاة في مكان أو مسجد فيه قبر".
وصف المخطوط (أ):
1 -
عنوان الرسالة: (بحث في الصلاة في مكان أو مسجد فيه قبر).
2 -
موضوع الرسالة: في "الحديث".
3 -
أول الرسالة: (بسم الله الرحمن الرحيم، وبه نستعين، أحمدك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأصلي وأسلم على رسولك وحبيبك وعلى آله الأطهار الأخيار وبعد: فإنه:
…
).
4 -
آخر الرسالة:
…
إلى هنا انتهى المراد، وفيه كفاية لمن له هداية. حرره الحقير محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما في نهار يوم السبت لعله سادس شهر جمادى الأولى سنة 1209.
5 -
نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 -
الناسخ: المؤلف: محمد بن علي الشوكاني.
7 -
عدد الصفحات: 7 صفحات.
8 -
عدد الأسطر في الصفحة: (22 - 30) سطرًا
9 -
عدد الكلمات في السطر: (11 - 13) كلمة.
10 -
الرسالة من المجلد الثالث من "الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني".
وصف المخطوط (ب):
1 -
عنوان الرسالة: (بحث في حديث لعن الله اليهود لاتخاذ قبور أنبيائهم مساجد). وهو العنوان الذي اعتمدته.
2 -
موضوع الرسالة: في "الحديث".
3 -
أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، وبه نستعين، أحمدك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأصلي وأسلم على رسولك وحبيبك، وعلى آله الأطهار الأخيار، وبعد: فإنه وصل من سيدي العلامة
4 -
آخر الرسالة: في تحويل الأحكام الشرعية بإجماع المسلمين، إلى هنا انتهى المراد، وفيه كفاية لمن له هداية، انتهى من تحريره القاضي النحرير عمدة الإسلام، وعمادهم محمد بن علي الشوكاني حفظه الله، وحفظه الله في نهار السبت لعله 4\ شهر جمادى أولى سنة 1209.
5 -
نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 -
عدد الصفحات: 7 صفحات.
7 -
عدد الأسطر في الصفحة: (14 - 26) سطرًا.
8 -
عدد الكلمات في السطر: (14) كلمة.
9 -
الرسالة من المجلد الثالث من "الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني".
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين، أحمدك لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، وأصلي وأسلم على رسولك وحبيبك، وعلى آله الأطهار الأخيار، وبعد:
فإنه وصل من سيدي العلامة جمال الكمال، كمال الجمال علي بن محمد بن (1) شمس الدين - لا برح على بقاء تردي الليالي في نعم تفوت عد العادين - سؤال عن حديث: لعن اليهود لاتخاذ قبور أنبيائهم مساجد، ولفظه: والمطلوب منكم والمعول عليكم أولا النظر في صحة الحديث، ثم بعد الصحة النظر في الهيئة التي لعنوا على فعلها، هل كانت السجود إلى القبر، أو كانوا يعتقدون الصلاة عند قبورهم قربة إلى الله - عز جل -، أو كان الواقع كالموجود في قبور الأئمة أن يكون القبر في مؤخر القبة أو في جانب منها، ويستدبره المصلي، أو يجعله في جانب منه. ثم بعد ذلك هل يقتضي الحديث الحظرية أو التنزيه فقط؟ فالباعث على ذلك أنها وقعت مذاكرة عن الصلاة في قبة سيدي محمد بن الحسن في الروضة، وقبره في مؤخر القبة في الجانب الأيمن. انتهى المقصود من السؤال.
(1) العلامة الأديب علي بن محمد بن علي بن أحمد بن الناصر بن عبد الرب بن علي بن شمس الدين بن الإمام المتوكل على الله يحيى شرف الدين الحسني الكوكباني.
مولده في المحرم سنة 1149 هـ بكوكبان وبه نشأ وأخذ النحو والصرف والبيان.
وقال الشوكاني في "البدر الطالع" رقم (339): برع في النحو والصرف والمعاني والبيان والأصول، وله نظم جيد، فمنه ما كتبه إلي، وقد اطلع على بعض رسائلي. توفي سنة 1212 هـ.
"البدر الطالع" رقم (339) و"نيل الوطر"(2/ 161 - 162).
وأقول: الجواب بعون الله الملك الوهاب ينحصر في أبحاث أربعة:
الأول: في الكلام على طرق الحديث المسئول عنه.
الثاني: في الكلام على متنه.
الثالث: في العلة التي لأجلها ورد ذلك الحديث.
الرابع: في حكم الصلاة في المكان الذي فيه قبر.
أما الكلام عن الأول فاعلم أن هذا الحديث مما وقع الاتفاق بين جميع علماء الحديث على صحته، ولم يتكلم أحد منهم عليه بما يقتضي تضعيفه، ويغلب في ظني أنه متواتر (1) المعنى، وذلك لأنه رواه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جماعة من الصحابة، منهم: أبو هريرة، أخرج حديثه الشيخان (2)، وأبو داود (3)، والنسائي (4)، وعائشة
(1) المتواتر: هو ما رواه جمع كثير، تحيل العادة تواطؤهم على الكذب، أو وقوعه منهم من غير قصد التواطؤ، عن جمع مثلهم، حتى يصل المنقول إلى منتهى السند، ويكون مستند علمهم بالأمر المنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم المشاهدة أو السماع.
وقد تكون السنة المتواترة قولية، أو فعلية، والأولى قليلة، والثانية كثيرة، وهي نوعان: لفظي، ومعنوي.
اللفظي هو: ما اتفق رواته في لفظه - ولو حكمًا - وفي معناه وذلك كحديث: "من كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار".
والمعنوي: هو ما اختلفوا في لفظه ومعناه مع رجوعه لمعنى كلي، وذلك بأن يخبروا عن وقائع مختلفة تشترك في أمر واحد، فالأمر المشترك المتفق عليه بين الكل هو المتواتر، فمنه أحاديث رفع اليدين في الدعاء، فقد روي عنه صلى الله عليه وسلم نحو مائة حديث فيه رفع يديه في الدعاء لكنها في قضايا مختلفة، فكل قضية منها لم تتواتر، والقدر المشترك فيها وهو الرفع عند الدعاء تواتر باعتبار المجموع.
"إرشاد الفحول"(ص 188) بتحقيقنا، "الكوكب المنير"(2/ 324)، "المحصول"(4/ 83، 227).
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه رقم (437). ومسلم رقم (530 و532).
(3)
في "السنن" رقم (3227).
(4)
في "السنن" رقم (4/ 95، 96 رقم 2047). وله عندهم ألفاظ، منها: من حديث أبي هريرة قال: قال: "لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". ومنها "قاتل الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد".
أخرج حديثها أيضًا الشيخان (1)، والنسائي (2)، وابن عباس أخرجه أيضًا الشيخان (3)، والنسائي (4).
وله حديث آخر من طريق أخرى عند أبي داود (5) والترمذي (6)، وحسنه، وجندب بن عبد الله البجلي عند مسلم (7) والنسائي (8)، وأسامة بن زيد عند أحمد (9)
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1330). ومسلم رقم (19/ 529).
(2)
في "السنن"(4/ 95 رقم 2046). عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي لم يقم منه: "لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد".
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه رقم (435، 436). ومسلم رقم (22/ 531)
(4)
في "السنن"(2/ 40 - 41 رقم 703). ولفظه: "لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد".
(5)
في "السنن" رقم (3236).
(6)
في "السنن" رقم (320) وقال: حديث حسن.
قلت: وأخرجه النسائي (4/ 94 رقم 2043) وابن ماجه رقم (1575). وهو حديث حسن دون قوله: "متخذين عيها السرج".
عن ابن عباس قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج".
(7)
في صحيحه رقم (23/ 532).
(8)
في "التفسير"(1/ 406 رقم 143).
عن جندب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس، وهو يقول:"إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله تعالى قد اتخذني خليلاً، كما اتخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنت متخذًا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلاً. ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، إني أنهاكم عن ذلك" وهو حديث صحيح.
(9)
في "المسند"(5/ 204).
والطبراني (1) بإسناد جيد.
وعن أمير المؤمنين عند البزار (2)، وعن زيد بن ثابت عن الطبراني (3) بإسناد جيد، وعن ابن مسعود عند الطبراني (4) أيضًا بإسناد جيد، وعن أبي عبيدة بن الجراح عند البزار (5)، وعن أبي سعيد عند البزار (6) أيضًا، وفي إسناده عمر بن صهباء، وهو ضعيف.
(1) في "المعجم الكبير"(1/ 164 رقم 393).
قلت: وأخرجه الطيالسي (2/ 113).
وأورده الهيثمي في "المجمع"(2/ 27) وقال: رجاله موثقون. وقال الشوكاني في "نيل الأوطار"(2/ 114) سنده جيد. من حديث أسامة بن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مرضه الذي مات فيه: "أدخلوا علي أصحابي، فدخلوا عليه وهو متقنع ببردة معافري فكشف القناع فقال: لعن الله اليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد".
(2)
في "مسنده"(1/ 219 رقم 438 - كشف) عن علي بن أبي طالب قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه، قال:"ائذن للناس علي، فأذنت، فقال: لعن الله قومًا اتخذوا قبور أنبيائهم مسجدًا، ثم أغمي عليه فلما أفاق قال: يا علي! ائذن للناس علي، فأذنت للناس عليه فقال: لعن الله قومًا اتخذوا قبور أنبيائهم مسجدًا، ثم أغمي عليه فلما أفاق قال: ائذن للناس، فأذنت لهم، فقال: لعن الله قومًا اتخذوا قبور أنبيائهم مسجدًا، ثلاثًا في مرض موته" وإسناده ضعيف.
(3)
في "المعجم الكبير"(5/ 150 رقم 4907).
وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد"(2/ 27). وقال: "رواه الطبراني في "الكبير" ورجاله موثقون. قلت: وأخرجه أحمد (5/ 184).
(4)
في "المعجم الكبير"(10/ 332 رقم 10413) عن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، ومن يتخذ القبور مساجد".
وأورده الهيثمي في "المجمع"(2/ 27) وقال: رواه الطبراني في "الكبير" وإسناده حسن.
وأخرجه أحمد رقم (3844، 4143 - شاكر) وابن خزيمة رقم (789). وإسناده حسن.
(5)
في مسنده (1/ 220 رقم 439 - كشف). وقال الهيثمي في "المجمع"(2/ 28) رجاله ثقات.
(6)
في مسنده (1/ 220 رقم 440 - كشف).
وأورده الهيثمي في "المجمع"(2/ 28) وقال: رواه البزار وفيه عمر بن صهبان وقد اجتمعوا على ضعفه.
وعن جابر (1) عن ابن عدي؛ فهؤلاء أحد عشر صحابيًا. وقد رواه جماعة كثيرون من التابعين يزيدون على عدد الصحابة بأضعاف مضاعفة، ثم رواه من التابعين [1] عالم، ورواه بعد ذلك من لا يمكن حصره، إذا انفرد هذا فقد رواه من أهل كل عصر من لا سبيل إلى تجويز تواطئهم على الكذب، وما كان كذلك فهو المتواتر (2) على ما هو المذهب المختار في الأصول.
وأما الكلام الثاني، وهو ما يتعلق بمتن الحديث فاعلم أن له ألفاظًا منها:"لعن الله اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". ومنها: "قاتل الله اليهود؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". ومنها: "اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد".
ومنها: "أن من كان قبلكم يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، فلا تتخذوا القبور مساجد، إني أنهاكم عن ذلك".
واللفظ الأول أخرجه الشيخان (3)، وأهل السنن (4) من حديث أبي هريرة، واللفظ الثاني أخرجه أيضًا أبو داود (5) وغيره من حديثه، واللفظ الثالث أخرجه مالك في الموطأ (6) من حديث عطاء بن يسار، واللفظ الرابع (7) أخرجه مسلم والنسائي من
(1) لم أعثر عليه الآن في الكامل.
(2)
تقدم تعريف ذلك.
(3)
تقدم تخريجه.
(4)
تقدم تخريجه.
(5)
تقدم تخريجه.
(6)
(1/ 172 رقم 85) مرسلاً.
(7)
تقدم تخريجه.
حديث جندب. وللحديث ألفاظ أخرى. ولا يخفى على من له علم بمدلولات الألفاظ أن اللعن والدعاء عليهم بالمقاتلة من الله، واشتداد غضبه عليهم من أعظم الأدلة على التحريم.
وقد تقرر في الأصول (1) أن النهي بمجرده حقيقة في التحريم؛ فلفظ: أنهاكم كاف في استفادة التحريم مع عدم وجود الموجب للصرف إلى الكراهة. ولم يوجد هاهنا، إنما وجد ما لو انفرد عن النهي لكان قاضيًا بالتحريم، وهو اللعن والدعاء بالغضب ونحوهما.
وقوله: اتخذوا جملة مستأنفة على سبيل البيان الموجب اللعن، كأنه قيل: ما سبب لعنهم؟ فأجيب بقوله: اتخذوا. وقد استشكل ذكر النصارى فيه؛ لأن اليهود لهم أنبياء بخلاف النصارى، فليس بين عيسى عليه السلام وبين نبينا صلى الله عليه وآله وسلم نبي غيره، وليس له قبر. وأجيب أيضًا بأن الجمع في قوله أنبيائهم باعتبار المجموع من اليهود والنصارى، لا باعتبار طائفة اليهود وحدها وطائفة النصارى وحدها، وقيل الأنبياء وكبار (2) أتباعهم، فاكتفى بذكر الأنبياء تغليبًا.
(1) فإن تجردت صيغة النهي عن المعاني المذكورة والقرائن فهي للتحريم.
انظر: "الرسالة"(ص 217، 343)، "اللمع"(ص 14)، "التبصرة"(ص 99)، "المسودة"(ص 81).
(2)
عن عائشة أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة فيها تصاوير، فذكرتا للنبي صلى الله عليه وسلم فقال:"إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدًا، وصوروا فيه تلك الصور، فأولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة".
أخرجه البخاري رقم (427) ومسلم رقم (16/ 528) وأحمد (6/ 51).
قال القرطبي في "المفهم"(2/ 127 - 128): قوله أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدًا وصوروا تلك الصور، قال الشيخ: إنما فعل ذلك أوائلهم ليستأنسوا برؤية تلك الصورة، ويتذكروا بها أحوالهم الصالحة، فيجتهدون كاجتهادهم، ويعبدون الله تعالى عند قبورهم. فمضت لهم بذلك أزمان ثم إنهم خلف من بعدهم خلف جهلوا أغراضهم، ووسوس لهم الشيطان: أن آباءهم وأجدادهم كانوا يعبدون هذه الصور، ويعظمونها فعبدوها فحذر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مثل ذلك، وشدد النكير والوعيد على فعل ذلك، وسد الذرائع المؤدية إلى ذلك".
ويؤيد هذا حديث جندب (1) السابق بلفظ: كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد. والمراد بالاتخاذ أعم من أن يكون ابتداعًا واتباعًا؛ فاليهود ابتدعت، النصارى اتبعت. ولا ريب أن النصارى تعظم قبور كثير من الأنبياء الذين تعظمهم اليهود، والمساجد جمع مسجد، قال في القاموس (2) والمسجد معروف، ويفتح جيمه، والمفعل من باب نصر بفتح العين اسمًا كان أو مصدرًا إلا أحرفا كمسجد، ومطلع، ومشرق، ومسقط، ومفرق، ومجزر، ومسكن، ومرفق، ومنبت، ومنسك، ألزموها كسر العين، والفتح جائز وإن لم نسمعه. وما كان من باب جلس فالموضع بالكسر والمصدر بالفتح نزل منزلا أي نزولاً، وهذا [2] منزله بالكسر؛ لأنه بمعنى الدار. انتهى.
وكلام أهل الصرف مثل هذا الكلام، كما وقع في شافية ابن الحاجب (3) أن ما كان مضارعه مفتوح العين أو مضمومها فهو على مفعل، بفتح العين ومن مكسورها. والمثال على مفعل بكسرها إلا مواضع جاءت على خلاف القياس. إذا تقرر هذا فمعنى اتخاذهم (4) لقبور أنبيائهم مساجد أن يعمروا عليها أو حولها مكانًا يصلى فيه، وإن لم
(1) تقدم تخريجه.
(2)
(ص: 366).
(3)
شرح شافية ابن الحاجب (1/ 117 - 120).
(4)
الذي يفهم من هذا الاتخاذ إنما هو ثلاث معان:
الأول: الصلاة على القبور بمعنى السجود عليها.
الثاني: السجود إليها واستقبالها بالصلاة والدعاء.
الثالث: بناء المساجد عليها وقصد الصلاة فيها.
* قال ابن حجر الهيتمي في "الزواجر"(1/ 121): "واتخاذ القبر مسجدا معناه الصلاة عليه أو إليه".
* قال الصنعاني في "سبل السلام"(1/ 214): "واتخاذ القبر مساجد أعم من أن يكون بمعنى الصلاة إليها أو بمعنى الصلاة عليها".
وجملة القول أن الاتخاذ المذكور في الأحاديث المتقدمة يشمل كل هذه المعاني الثلاثة فهو من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم.
قال الشافعي في "الأم"(1/ 246): وأكره أن يبنى على القبر مسجد وأن يسوى، أو يصلى عليه، وهو غير مسوى (يعني أنه ظاهر معروف) أو يصلى إليه، قال: وإن صلى إليه أجزأه وقد أساء، أخبرنا مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"قاتل الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" قال: وأكره هذا للسنة والآثار، وأنه كره - والله تعالى أعلم - أن يعظم أحد من المسلمين، يعني يتخذ قبره مسجدًا ولم تؤمن في ذلك الفتنة والضلال على ما يأتي بعده".
* قال المحدث الألباني تعليقًا على قول الشافعي "وأكره": هي كراهة التحريم.
وقال الشيخ علي القارئ في "مشكاة المصابيح"(1/ 456) نقلا عن بعض أئمة الحنفية: "سبب لعنهم: إما لأنهم كانوا يسجدون لقبور أنبيائهم تعظيمًا لهم، وذلك هو الشرك الجلي، وإما لأنهم كانوا يتخذون الصلاة لله تعالى في مدافن الأنبياء، والسجود على مقابرهم والتوجه إلى قبورهم حالة الصلاة، نظرًا منهم بذلك إلى عبادة الله والمبالغة في تعظيم الأنبياء، وذلك هو الشرك الخفي لتضمنه ما يرجع إلى تعظيم مخلوق فيما لم يؤذن له فنهى النبي صلى الله عليه وسلم أمته عن ذلك إما لمشابهة ذلك الفعل سنة اليهود، أو لتضمنه الشرك الخفي".
حكم هذا الاتخاذ:
اتفقت المذاهب الأربعة على تحريم ذلك، ومنهم من صرح بأنه كبيرة. قال ابن حجر الهيتمي في "الزواجر " (1/ 120):"الكبيرة الثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة والثامنة والتسعون: اتخاذ القبور مساجد، وإيقاد السرج عليها واتخاذها أوثانًا، والطواف بها، واستلامها والصلاة إليها".
يكن السجود على نفس القبر لأن المسجد يطلق على المكان الذي يصلى في بعضه، مثلا تقول: المسجد الفلاني مسجد فلان، إذا كان يصلي فيه، وإن لم يقع السجود في جميع أجزائه. وعلى هذا يقال لمن بنى حول القبر مسجدًا، وجعل القبر في موضع منه أن جعل القبر مسجدًا، هذا باعتبار عدم الفرق بين مسجد بفتح الجيم وبكسرها.
وأما على ما روي عن سيبويه (1) أن المسجد بفتح الجيم لمكان السجود، وبكسرها للمكان المعروف؛ فإن كان لفظ مساجد في الحديث جمعًا لمسجد بكسر الجيم فالكلام كما تقدم، وإن كان جمعًا لمسجد بفتح الجيم فالمحرم إنما هو اتخاذ القبر نفسه مكانًا يسجد عليه، فيكون عمارة المساجد في القبور من ذلك القبيل، من غير فرق بين كون القبر في جهة القبلة أو في غيرها، هذا ما يتعلق بمتن الحديث من الكلام.
(1) ذكره ابن منظور في "لسان العرب"(6/ 175).
وأما الكلام على البحث الثالث؛ وهو بيان العلة التي لأجلها ورد النهي فقال العلماء: إنما نهى (1) النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن اتخاذ قبره وقبر غيره مسجدًا خوفًا من المبالغة في تعظيمه، والافتتان به، وربما أدى ذلك إلى الكفر كما جرى لكثير من الأمم الخالية، ولما احتاجت الصحابة رضي الله عنهم والتابعون إلى الزيادة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين كثر المسلمون، وامتدت الزيادة إلى أن دخلت بيوت أمهات المؤمنين وفيها حجرة عائشة التي دفن فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبو بكر، وعمر بنوا على القبر حيطانًا مرتفعة مسندين حوله لئلا يظهر في المسجد، فيصلي إليه العوام، ويؤدي إلى المحذور، ثم بنوا جدارين من ركني القبر (2) الشماليين حرفوهما حتى التقيا، بحيث لا يتمكن أحد من استقبال (3) القبر.
وقد حمل بعضهم الوعيد على من كان في ذلك الزمان لقرب العهد بعبادة الأوثان، وهو تقييد بلا دليل، لأن التعظيم والافتتان لا يختصان بزمان دون زمان، أو مكان دون مكان، فعليه البرهان. وقد قيل إنه يؤخذ من قوله: كانوا يتخذون [3] قبور أنبيائهم مساجد كما في بعض أحاديث الباب، ومن قوله: والمتخذين عليها المساجد كما في بعض آخر أن محل الذم على ذلك أن تتخذ المساجد على القبور بعد الدفن لا لو بني
(1) قال القرطبي في "المفهم"(2/ 128): "ولهذا بالغ المسلمون في سد الذريعة في قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعلوا حيطان تربته، وسدوا المداخل إليها وجعلوها محدقة بقبره صلى الله عليه وسلم ثم خافوا أن يتخذ موضع قبره قبلة - إذ كان مستقبل المصلين - فتتصور الصلاة إليه بصورة العبادة، فبنوا جدارين من ركني القبر الشماليين وحرفوهما حتى التقيا على زاوية مثلث من ناحية الشمال، حتى لا يتمكن أحد من استقبال قبره ولهذا الذي ذكرناه كله قالت عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبره".
(2)
ذكره القرطبي في "المفهم"(2/ 128).
(3)
هذا في العصر الذي عاش فيه القرطبي ولكن قد طرأ تعديل في العصر المملوكي ثم العثماني بحيث أصبح القبر ضمن حجرة مربعة تعلوه القبة الخضراء. فمن صلى خلف الحجرة لم يكن مستقبلا القبر لوجود الساتر.
المسجد أولاً، وجعل القبر في جانبه ليدفن فيه، واقف المسجد أو غيره، فليس بداخل في ذلك.
قال العراقي (1) والظاهر أنه لا فرق، فإنه إذا بني المسجد لقصد أن يدفن في بعضه أحد فهو داخل في اللعنة، بل يحرم الدفن في المسجد، وإن شرط أن يدفن فيه لم يصح الشرط لمخالفته لمقتضى وقفه مسجدًا انتهى.
إذا تقرر ما حكيناه عن العلماء من أن العلة في زجره صلى الله عليه وآله وسلم عن اتخاذ قبره مسجدًا هي خشية الافتتان (2) لاح من ذلك المنع من عمارة المساجد في مكان فيه قبر، والمنع من القبر في جانب من جوانب المسجد من غير فرق بين القبلة وغيرها، لأن ذلك كله مما يدعو إلى المبالغة في التعظيم التي هي ذريعة (3) الافتتان.
(1) انظر: "طرح التثريب في شرح التقريب"(4/ 298).
(2)
تقدم توضيح ذلك.
(3)
قال ابن تيمية في "التوسل والوسيلة"(ص 25): ولهذا كانت زيارة قبور المسلمين على وجهين: زيارة شرعية، وزيارة بدعية.
فالزيارة الشرعية: أن يكون مقصود الزائر الدعاء للميت كما يقصد بالصلاة على جنازته الدعاء له. فالقيام على قبره من جنس الصلاة عليه، قال تعالى:{ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره} [التوبة: 84]. فنهى عن الصلاة عليهم والقيام على قبورهم لأنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم كافرون فلما نهى عن هذا وهذا لأجل هذه العلة وهي الكفر دل ذلك على انتفاء هذا النهي عن انتفاء هذه العلة
…
".
ولهذا كانت الصلاة على الموتى من المؤمنين والقيام على قبورهم من السنة المتواترة فكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على موتى المسلمين، وشرع ذلك لأمته وكان إذا دفن الرجل من أمته يقوم على قبره ويقول:"سلوا له التثبيت فإنه الآن يسأل" - أخرجه أبو داود رقم (3221) من حديث عثمان - وغيره. وكان يزور قبور أهل البقيع والشهداء بأحد ويعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقول أحدهم: "السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله تعالى بكم لاحقون ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم". - أخرجه مسلم رقم (975) من حديث بريدة رضي الله عنه.
وأما الزيارة البدعية: فهي التي يقصد بها أن يطلب من الميت الحوائج أو يطلب منه الدعاء والشفاعة، أو يقصد الدعاء عند قبره لظن القاصد أن ذلك أجوب للدعاء.
فالزيارة على هذه الوجوه كلها مبتدعة لم يشرعها النبي صلى الله عليه وسلم ولا فعلها الصحابة لا عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم ولا عند غيره. وهي من جنس الشرك وأسباب الشرك ولو قصد الصلاة عند قبور الأنبياء والصالحين من غير أن يقصد دعاءهم والدعاء عندهم مثل أن يتخذ قبورهم مساجد لكان ذلك محرمًا منهيًا عنه، ولكان صاحبه متعرضًا لغضب الله ولعنته
…
". وانظر: "إغاثة اللهفان" (1/ 283 - 284).
ولهذا ترى كثيرًا من العامة إذا رأى قبرًا في مسجد، أو في شهدٍ مرغ فيه خده والتمسه مرة بعد مرة، ولا سيما إذا كان فيه زخرفة، أو عليه أعواد منقوشة، أو ثياب ملونة؛ فإن العامي الغليظ إذا أراد على تلك الصفة ظن أنه النافع الضار، كما وقع مثل ذلك في كثير من الأقطار.
ومن ههنا يظهر سر مبالغته صلى الله عليه وآله وسلم في الزجر عن اتخاذ القبور مساجد، وتكرير ذلك مرة بعد أخرى، بل ما زال ينهى عن ذلك إلى أيام مرضه.
وقد أخرج مسلم (1) عن جندب بن عبد الله البجلي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول: "إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد". الحديث، بل وقع منه النهي صلى الله عليه وآله وسلم عن مجرد رفع القبور لتلك العلة، كما في حديث أبي الهياج (2) عن علي عليه السلام قال: أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا تدع تمثالا إلا طمسته، ولا قبرًا إلا سويته" رواه الجماعة (3) إلا البخاري.
وعن جابر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يجصص القبر، وأن
(1) تقدم تخريجه.
(2)
أخرجه أحمد (1/ 89) ومسلم في صحيحه رقم (93/ 969) وأبو داود رقم (3218) والنسائي (4/ 88 رقم 2031). وهو حديث صحيح.
(3)
أخرجه أحمد (1/ 89) ومسلم في صحيحه رقم (93/ 969) وأبو داود رقم (3218) والنسائي (4/ 88 رقم 2031). وهو حديث صحيح.
يقعد عليه، وأن يبنى عليه". رواه أحمد (1)، ومسلم (2)، والنسائي (3)، وأبو داود (4)، والترمذي (5)، وصححه (6) ولفظه: "نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن تجصص القبور، وأن يكتب عليها، وأن يبنى عليها وأن توطأ". وفي لفظ النسائي (7) نهى أن يبنى أو يزاد عليه، أو يجصص، أو يكتب عليه".
وكل هذا إنما هو لسد ذرائع (8) ما نشأ عن ذلك من المفاسد التي يبكي لها الإسلام.
من ذلك ما يسمع به كل أحد من جماعة كثيرة من سكان تهامة، فإنه لم يدعوا شيئًا مما كانت الجاهلية تفعله [4] بالأصنام إلا فعلوه، بل زادوا على ذلك؛ فإن الجاهلية قالوا: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى، وهؤلاء القبوريون (9) قالوا: نعبدهم ليضروا وينفعوا،
(1) في "المسند"(3/ 399).
(2)
في صحيحه رقم (970).
(3)
في "السنن"(4/ 86 رقم 2027).
(4)
في "السنن" رقم (3225).
(5)
في "السنن" رقم (1052).
(6)
في "السنن"(3/ 368). وهو حديث صحيح.
(7)
في "السنن"(4/ 86 رقم 2026).
(8)
الذرائع جمع ذريعة وهي - أي الذريعة (ما) أي شيء من الأفعال أو الأقوال (ظاهره مباح، ويتوصل به إلى محرم). ومعنى سدها: المنع من فعلها لكي لا تؤدي إلى حرام.
انظر: "الكوكب المنير"(4/ 234)"الموافقات"(2/ 285).
(9)
قال ابن القيم في "إغاثة اللهفان"(1/ 284): "
…
لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام، عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم، إذ لم يدخلوها بها تحت أمر غيرهم".
قال: وهم عندي كفار بهذه الأوضاع مثل تعظيم القبور وإكرامها بما نهى عنه الشرع: من إيقاد النيران، وتقبيلها وتخليقها وخطاب الموتى بالحوائج وكتب الرقاع فيها: يا مولاي افعل بي كذا وكذا. وأخذ تربتها تبركًا وإفاضة الطيب على القبور، وشد الرحال إليها. وإلقاء الخرق على الشجر. ومن جمع بين سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبور وما أمر به ونهى عنه وما كان عليه أصحابه وبين ما عليه أكثر الناس اليوم رأى أحدهما مضادًا للآخر مناقضًا له بحيث لا يجتمعان أبدًا.
فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة إلى القبور وهؤلاء يصلون عندها ونهى عن اتخاذها مساجد، وهؤلاء يبنون عليها، ويسمونها مشاهد مضاهاة لبيوت الله تعالى.
ونهى عن إيقاد السرج عليها، وهؤلاء يوقفون الوقوف على إيقاد القناديل عليها.
ونهى أن تتخذ عيدًا، وهؤلاء يتخذونها أعيادًا ومناسك ويجتمعون لها كاجتماعهم للعيد أو أكثر.
وأمر بتسويتها، وهؤلاء يبالغون في مخالفة أمره ويرفعونها عن الأرض كالبيت، ويعقدون عليها القباب.
ونهى عن تجصيص القبر والبناء عليه ونهى عن الكتابة عليها، وهؤلاء يتخذون عليها الألواح ويكتبون عليها القرآن وغيره ونهى أن يزاد عليها غير ترابها وهؤلاء يزيدون عليه سوى التراب الآجر والأحجار والجص.
ويحيوا ويميتوا، وغير ذلك. ولا شك أن دخول القبب والمشاهد والمساجد المعمورة على القبور تحت الأحاديث القاضية بالمنع من رفع القبور وزخرفتها ثابت بفحوى الخطاب.
لا يقال أن قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "اللهم لا تجعل قبري وثنًا يعبد"(1)
(1) وهو حديث صحيح.
- أخرجه مالك (1/ 185 - 186) مع تنوير الحوالك مرسلاً.
- وأخرجه ابن سعد في "الطبقات"(2/ 240 - 241) من طريق عطاء بن يسار مرسلا بسند صحيح.
- وأخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(1/ 406 رقم 1587)، عن زيد بن أسلم مرسلاً.
- وأخرجه ابن أبي شيبة (34513) عن زيد بن أسلم مرسلا بسند صحيح.
- وأخرجه أحمد موصولا (2/ 246) والحميدي (2/ 445 رقم 1025) وأبو نعيم في "الحلية"(6/ 283) و (7/ 317) عن أبي هريرة بسند حسن بلفظ: "اللهم لا تجعل قبري وثنًا، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد".
- وأخرج عبد الرزاق في "المصنف"(3/ 577 رقم 6726) وابن أبي شيبة (3/ 345) عن ابن عجلان، عن سهيل، عن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب أنه قال - ورأى رجلا وقف على البيت الذي فيه قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو له ويصلي عليه - فقال حسن للرجل: لا تفعل فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تتخذوا قبري عيدًا
…
". والحديث مرسل، وسهيل ذكره ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (4/ 249) ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلاً.
* وله شاهد من حديث أبي هريرة أخرجه أحمد (2/ 367) وأبو داود (2/ 534 رقم 2042) مرفوعًا "لا تتخذوا قبري عيدًا
…
" وهو حديث حسن. حسنه ابن تيمية في "اقتضاء الصراط المستقيم" (321 - 323).
* وله شاهد آخر أخرجه إسماعيل الجهضمي في "فضل الصلاة على النبي" رقم 20 بتحقيق الألباني. وأبو يعلى في "المسند"(1/ 361 رقم 209/ 469)، والحديث بهذه الطرق صحيح، والله أعلم.
يدل على أن النهي لذلك، فمهما لم تحصل العبادة لم يحصل تحريم جعل المساجد على القبور؛ لأنا نقول: هذا الحديث مع كونه مرسلا كما سلف ليس فيه إلا وقوع الدعاء منه صلى الله عليه وآله وسلم بأن لا يجعل قبره وثنًا يعبد، وذلك لا يستلزم أن يكون هو العلة في الزجر عن اتخاذ القبور مساجد. ولو سلم ذلك لم يكن دليلا على جواز جعل المساجد على القبور؛ لأن جعلها كذلك وسيلة للعبادة، أو ما في حكمها، وذريعة إلى تلك العلة المدعاة. وما كان وسيلة إلى محرم فهو محرم، وكل محرم يجب تركه. فتلك الوسيلة يجب تركها وهو المطلوب.
وأما الكلام على البحث الرابع، وهو في حكم الصلاة في الموضع الذي فيه قبر فاعلم أن حديث:"جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا"(1) حديث صحيح يدل على جواز الصلاة في جميع المواضع إلا ما خصصه حديث صحيح، والمخصص من ذلك مواضع. واختلف في عددها، منها المقبرة والمراد بها المكان الذي يقبر فيه.
وقد أخرج أحمد (2)، وأبو داود (3)، والترمذي (4) ..................
(1) أخرجه البخاري رقم (335) ومسلم رقم (3/ 521) من حديث جابر.
(2)
في "المسند"(3/ 83، 96).
(3)
في "السنن" رقم (492).
(4)
في "السنن" رقم (317).
وابن ماجه (1) أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام"، وأخرجه أيضًا الشافعي (2)، وابن خزيمة (3)، وابن حبان (4)، والحاكم (5).
قال الترمذي (6): وهذا حديث فيه اضطراب. رواه سفيان الثوري عن عمرو بن يحيى، عن أبيه مرسلاً، قال: وكان عامة روايته عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرسلة، ورواه حماد بن سلمة عن عمرو بن يحيى، عن أبيه عن أبي سعيد ورواه محمد بن إسحاق عن عمرو بن يحيى عن أبيه قال: وكان عامة روايته عن أبي سعيد، وكأن رواية الثوري أصح وأثبت.
وقال الدارقطني في العلل (7): المرسل المحفوظ، ورجح البيهقي (8) المرسل، وقال النووي (9): هو ضعيف، وقال صاحب الإمام (10): حاصل ما علل به الإرسال، وإذا كان الواصل له ثقة فهو مقبول. قال الحافظ (11) وأفحش ابن دحية (12) فقال في كتاب
(1) في "السنن" رقم (745).
(2)
في "ترتيب المسند"(3/ 83 - 96).
(3)
في صحيحه رقم (792).
(4)
في صحيحه رقم (1699).
(5)
في المستدرك (1/ 251)
(6)
في "السنن" رقم (2/ 131).
(7)
(11/ 319 - 320 رقم 2310)
(8)
في "السنن الكبرى"(2/ 434 - 435).
(9)
في "خلاصة الأحكام"(1/ 321 - 322 رقم 938).
(10)
عزاه إليه الحافظ في "التلخيص"(1/ 501) ط قرطبة.
(11)
في "التلخيص"(1/ 501).
(12)
عزاه إليه الحافظ في "التلخيص"(1/ 501). وقال الألباني في "الإرواء"(1/ 320): "وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين، وقد صححه كذلك الحاكم والذهبي، وأعله بعضهم بما لا يقدح، وقد أجبنا عن ذلك في صحيح أبي داود رقم (507) وذكرت له هناك طريقًا آخر صحيحًا هو في منجاة من العلة المزعومة، ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية: أسانيد جيدة، ومن تكلم فيه فما استوفى طرقه. وقد أشار إلى صحته الإمام البخاري في "جزء القراءة" (ص 4). وخلاصة القول: أن الحديث صحيح.
التنوير له: لا يصح من طريق من الطرق، كذا قال، ولم يصب. انتهى.
والحديث صححه الحاكم في المستدرك، وابن حزم الظاهري، وأشار ابن دقيق العيد [5] في الإمام (1) إلى صحته.
وفي الباب عن علي عليه السلام عند أبي داود (2)، وعن عمر عند الترمذي (3) وابن ماجه (4)، وعن عمر عند ابن ماجه (5)، وعن أبي مرثد الغنوي عند مسلم (6)، وأبي داود (7)، والترمذي (8)، والنسائي (9)، ولفظه:"لا تصلوا ولا تجلسوا عليها"، وعن جابر وعبد الله بن عمرو، وعمران بن الحصين، ومعقل بن يسار، وأنس بن مالك، جميعهم عند ابن عدي في الكامل (10)، وفي إسناد حديثهم عباد بن (11) كثير، وهو
(1) عزاه إليه الحافظ في "التلخيص"(1/ 501) ط قرطبة.
(2)
في "السنن" رقم (490) وهو حديث ضعيف.
(3)
في "السنن" رقم (346).
(4)
في "السنن" رقم (746) وهو حديث ضعيف.
(5)
في "السنن" رقم (747) وهو حديث ضعيف.
(6)
في صحيحه رقم (98/ 972).
(7)
في "السنن" رقم (3229).
(8)
في "السنن" رقم (1050).
(9)
في "السنن" رقم (2/ 67 رقم 760) وهو حديث صحيح.
(10)
(4/ 1640 - 1641).
(11)
وهو عباد بن كثير الثقفي البصري. قال البخاري: تركوه. وقال النسائي: متروك الحديث. وقال العجلي: ضعيف. انظر: "تهذيب التهذيب"(5/ 87 - 89 رقم 169).
ضعيف، ضعفه أحمد، وابن معين.
قال ابن حزم (1): أحاديث النهي عن الصلاة إلى القبور والصلاة في المقبرة أحاديث متواترة، ولا يسع أحدًا تركها، قال العراقي (2) إن أراد بالتواتر ما يذكره الأصوليون من أنه رواه عن كل واحد من رواته جمع يستحيل تواطؤهم على الكذب في الطرفين والواسطة، فليس كذلك؛ فإنها أخبار آحاد، وإن أراد بذلك وصفها بالشهرة فهو قريب. وأهل الحديث غالبًا إنما يريدون بالمتواتر المشهور انتهى.
وفيه أن المعتبر في التواتر (3) هو أن يروي الحديث جمع عن جمع يستحيل تواطؤهم على الكذب لا أن يرويه جمع كذلك عن كل واحد من رواته؛ فإنه بما لم يعتبره أهل الأصول إلا أن يريد لكل واحد من رواته كل رتبة من رتب رواته.
فهذه الأحاديث تدل على المنع من الصلاة في المقبرة، وإلى القبور. وقد ذهب إلى ذلك أحمد بن حنبل (4)، ولم يفرق بين المنبوشة وغيرها، ولا بين أن يفرش عليها شيء يقيه من النجاسة أم لا؟ ولا بين أن يكون في القبور، أو في مكان متفرد عنها كالبيت. وإلى ذلك ذهبت الظاهرية.
قال ابن حزم (5): وبه يقول طوائف من السلف، فحكي عن خمسة صحابة النهي عن ذلك؟ وهم علي، وعمر، وأبو هريرة، وأنس، وابن عباس، وقال: ما نعلم لهم مخالفًا من الصحابة، وحكاه (6) عن جماعة من التابعين: إبراهيم النخعي، ونافع بن جبير بن مطعم، وطاووس، وعمرو بن دينار، وخيثمة، وغيرهم.
(1) في "المحلى"(4/ 30 - 32).
(2)
في "التقييد والإيضاح"(ص 265).
(3)
تقدم توضيح ذلك.
(4)
ذكره ابن حزم في "المحلى"(4/ 31 - 32).
(5)
في "المحلى"(4/ 30 - 31).
(6)
أي ابن حزم في "المحلى"(4/ 30 - 31).
وقوله: لا نعلم لهم مخالفًا في الصحابة إخبار عن علمه، وإلا فقد حكى الخطابي في معالم (1) السنن عن عبد الله بن عمر أنه رخص في الصلاة في المقبرة. وحكي أيضًا عن الحسن أنه صلى في المقبرة. وقد ذهب إلى تحريم الصلاة على القبر من أهل البيت عليهم السلام المنصور بالله، والهادوية (2). وصرحوا بعدم صحتها إن وقعت فيها، وإن وقعت بينها فمكروهة فقط. وذهب الشافعي (3) إلى الفرق بين المقبرة المنبوشة وغيرها فقال: إذا كانت مختلطة بلحم الموتى وصديدهم، وما يخرج منهم لم تجز الصلاة فيها للنجاسة (4)؛
(1)(1/ 330).
(2)
في "البحر الزخار"(1/ 216 - 217).
(3)
في "الأم"(2/ 95 - 96).
(4)
قال ابن القيم في "إغاثة اللهفان"(1/ 274): أن النهي عن الصلاة في المقبرة لأجل النجاسة قول باطل من عدة أوجه:
1 -
أن الأحاديث كلها ليس فيها فرق بين المقبرة الحديثة والمنبوشة كما يقول المعللون بالنجاسة.
2 -
أنه صلى الله عليه وسلم لعن اليهود والنصارى على اتخاذ قبور أنبيائهم مساجد، ومعلوم قطعًا أن هذا ليس لأجل النجاسة. فإن ذلك لا يختص بقبور الأنبياء؛ ولأن قبور الأنبياء من أطهر البقاع، وليس للنجاسة عليها طريق البتة، فإن الله حرم على الأرض أن تأكل أجسادهم، فهم في قبورهم طريون.
3 -
أنه نهى عن الصلاة إليها.
4 -
أنه أخبر أن الأرض كلها مسجد، إلا المقبرة والحمام، ولو كان ذلك لأجل النجاسة لكان ذكر الحشوش والمجازر ونحوها أولى من ذكر القبور.
5 -
أن موضع مسجده صلى الله عليه وسلم كان مقبرة للمشركين، فنبش قبورهم وسواها واتخذه مسجدًا، ولم ينقل ذلك التراب بل سوى الأرض ومهدها وصلى فيه كما ثبت في الصحيحين عن أنس بن مالك - أخرجه البخاري في صحيحه رقم (428) ومسلم رقم (524) -.
6 -
أنه لعن المتخذين عليها المساجد، ولو كان ذلك لأجل النجاسة لأمكن أن يتخذ عليها المساجد مع تطينها بطين طاهر. فتزول اللعنة وهو باطل قطعًا.
7 -
أنه قرن في اللعن بين متخذي المساجد عليها وموقدي السرج عليها فهما في اللعنة قرينان، وفي ارتكاب الكبيرة صنوان. فإن كل ما لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو من الكبائر، ومعلوم أن إيقاد السرج عليها إنما لعن فاعله لكونه وسيلة إلى تعظيمها، وجعلها نصبًا يوفض إليه المشركون، كما هو الواقع، فهكذا اتخاذ المساجد عليه. ولهذا قرن بينهما، فإن اتخاذ المساجد عليها تعظيم لها، وتعريض للفتنة بها.
ثم قال ابن القيم في "إغاثة اللهفان"(1/ 275): فمن له معرفة بالشرك وأسبابه وذرائعه، وفهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم مقاصده جزم جزما لا يحتمل النقيض أن هذه المبالغة منه باللعن والنهي بصيغتيه: صيغة "لا تفعلوا" وصيغة "إني أنهاكم" ليس لأجل النجاسة بل هو لأجل نجاسة الشرك اللاحقة بمن عصاه، وارتكب ما عنه نهاه، واتبع هواه، ولم يخش ربه ومولاه".
وقال الأشرم: إنما كرهت الصلاة في المقبرة للتشبه بأهل الكتاب؛ لأنهم يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد.
"إغاثة اللهفان"(1/ 276).
فإن صلى رجل في مكان ظاهر منها أجزته. وإلى مثل ذلك ذهب أبو طالب، وأبو العباس، والإمام يحيى، وقال الرافعي: أما المقبرة فالصلاة مكروهة فيها بكل حال.
وذهب الثوري، والأوزاعي، وأبو حنيفة إلى كراهة الصلاة في المقبرة، ولم يفرقوا كما فرق الشافعي (1) ومن معه بين المنبوشة وغيرها. وذهب مالك إلى جواز الصلاة في المقبرة وعدم الكراهة. والأحاديث ترد عليه.
وقد احتج له بعض أصحابه بأنه صلى الله عليه وآله وسلم صلى على قبر المسكينة (2) السوداء، وهذا من أعجب ما يتفق لمن لا عناية له بعلم الرواية. والحاصل أن اسم المقبرة يصدق على المكان الذي هو موضع للقبر وإن اتسع من غير فرق بين ما فيه قبر واحد أو قبور متعددة، قال في القاموس (3): القبر مدفن الإنسان، الجمع قبور، والمقبرة مثلثة الباء، وكمكنسة موضعها. انتهى.
والمراد بالمكان الذي يصدق عليه اسم المقبرة هو ما كان له حائط، أو حدود معلومة، أو نحو ذلك مما يمتاز به عن غيره، فإذا جعلت مثلا قطعة من الأرض للقبر فيها، ثم دفن
(1) في "الأم"(2/ 95 - 96).
(2)
أخرجه البخاري رقم (1337) ومسلم رقم (956) وأبو داود رقم (3203) وابن ماجه رقم (1527) وأحمد (2/ 353) والبيهقي (4/ 47) من حديث أبي هريرة.
(3)
(ص 590).
فيها ميت واحد قيل لها مقبرة لغة وعرفا. والمسجد الذي فيه قبر من هذا القبيل، وغلب اسم المسجد عليه لا يرفع صدق اسم المقبرة عليه، وإلا لزم أن المقبرة إن سميت باسم خاص غير اسم المقبرة مثل خزيمة مثلا التي هي مقبرة صنعاء أن لا يثبت لها حكم المقبرة، واللازم باطل فالملزوم مثله.
أما الملازمة فظاهرة، وأما بطلان اللازم فلأن الأسماء لا تأثير لها في تحويل الأحكام الشرعية بإجماع المسلمين. إلى هنا انتهى المراد، وفيه كفاية لمن له هداية.
[حرره الحقير محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما في نهار يوم السبت لعله سادس شهر جمادى الأولى سنة 1209](1).
[انتهى من تحريره القاضي النحرير عمدة الإسلام وعمادهم محمد بن علي الشوكاني حفظه الله، وحفظه الله في نهار السبت لعله 6 شهر جمادى أول سنة 1209](2).
(1) زيادة من (أ).
(2)
زيادة من (ب).