المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌تنبيه الأعلام على تفسير المشتبهات بين الحلال والحرام - الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني - جـ ٤

[الشوكاني]

فهرس الكتاب

- ‌بحث في قول أهل الحديث " رجال إسناده ثقات

- ‌القول المقبول في رد خبر المجهول من غير صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم

- ‌بحث في الجواب على من قال أنه لم يقع التعرض لمن في حفظه ضعف من الصحابة

- ‌سؤال عن عدالة جميع الصحابة هل هي مسلمة أم لا

- ‌رفع البأس عن حديث النفس والهم والوسواس

- ‌الأبحاث الوضية في الكلام على حديث (حب الدنيا رأس كل خطية)

- ‌سؤال عن معنى بني الإسلام على خمسة أركان وما يترتب عليه

- ‌الأذكار (جواب على بعض الأحاديث المتعارضة فيها)

- ‌بحث في الكلام على حديث " إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن اجتهد وأخطأ فله أجر واحد

- ‌جواب عن سؤال خاص بالحديث " لا عهد لظالم " وهل هو موجود فعلا من عدمه

- ‌فوائد في أحاديث فضائل القرآن

- ‌بحث في حديث "لعن الله اليهود لاتخاذهم قبور أنبيائهم مساجد

- ‌إتحاف المهرة بالكلام على حديث: "لا عدوى ولا طيرة

- ‌بحث في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "إنما الأعمال بالنيات

- ‌بحث في حديث: "لو لم تذنبوا لذهب الله بكم .. إلخ

- ‌بحث في بيان العبدين الصالحين المذكورين في حديث الغدير

- ‌بحث في حديث (أجعل لك صلاتي كلها) وفي تحقيق الصلاة على الآل ومن خصهم

- ‌تنبيه الأعلام على تفسير المشتبهات بين الحلال والحرام

الفصل: ‌تنبيه الأعلام على تفسير المشتبهات بين الحلال والحرام

‌تنبيه الأعلام على تفسير المشتبهات بين الحلال والحرام

تأليف العلامة

محمد بن علي الشوكاني

حققته وعلقت عليه وخرجت أحاديثه

محفوظة بنت علي شرف الدين

أم الحسن

على صفحة المجلد ما نصه:

(الحمد لله:

هذا المجلد هو أحد المجلدات التي سميتها "الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني" غفر الله له) وقد كملت خمسة مجلدات، جزى الله مؤلفه عن المسلمين خيرا وأسكنه بحبوحة جنانه وتغشاه بواسع رضوانه.

ص: 2041

وصف المخطوط:

1 -

عنوان الرسالة: "تنبيه الأعلام على تفسير المشتبهات بين الحلال والحرام".

2 -

موضوع الرسالة: في "الحديث".

3 -

أول الرسالة: "بسم الله الرحمن الرحيم" وبعد حمد الله حق حمده وصلاته وسلامه على سيدنا محمد وآله، فإنه وصل سؤال على أحسن منوال من سيدي العلامة صفي الإسلام نبراس الآل الكرام أحمد بن يوسف زبارة ثبت الله إيراده.

4 -

آخر الرسالة: قال في "الأم" التي بخط مؤلفها حفظه الله وكثر فوائده، ما لفظه: وكان الفراغ من تحريره في نهار الجمعة، لعله تاسع عشر من محرم الحرام سنة خمس عشرة ومائتين وألف هجرية، انتهى والحمد لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا، وصلى الله على سيدنا محمد وآله، وكان الفراغ من فعله صبح يوم الخميس شهر صفر سنة سبع عشرة ومائتين وألف هجرية بقلم إبراهيم بن عبد الله الحوثي

بلغ قراءة ومقابلة على نسخة منقولة من خط المؤلف عافاه الله شهر صفر سنة 1343 حرره الحقير محمد بن أحمد الشاطبي.

5 -

نوع الخط: خط نسخي جيد.

6 -

عدد الصفحات: (29) صفحة مع صفحة العنوان.

7 -

عدد الأسطر: (22) سطرا.

8 -

عدد الكلمات في السطر: (10 - 12) كلمة.

9 -

الناسخ: إبراهيم بن عبد الله الحوثي.

10 -

الرسالة من المجلد الثالث من "الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني".

ص: 2043

[صفحة عنوان المخطوط]

ص: 2044

[الصفحة الأولى من المخطوط]

ص: 2045

[الصفحة ما قبل الأخيرة من المخطوط]

ص: 2046

[الصفحة الأخيرة من المخطوط]

ص: 2047

[السؤال]

بسم الله الرحمن الرحيم. وبعد حمد الله حق حمده وصلاته وسلامه على سيدنا محمد وآله، فإنه وصل سؤال على أحسن منوال من سيدي العلامة صفي الإسلام، نبراس الآل الكرام، أحمد بن يوسف زبارة (1) - ثبت الله إيراده وإصداره - إلى الحقير إلى رحمة القدير محمد بن علي الشوكاني - غفر الله ذنوبه، وستر عن عيون الناس عيوبه - مضمونه الاستفهام عن معنى ما في حديث النعمان بن بشير مرفوعًا بلفظ:(الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات)(2).

قال - كثر الله فوائده - ما لفظه: هل المراد بالحلال والحرام والشبهة فيما يتعلق

(1) هو أحمد بن يوسف بن الحسين بن أحمد بن صلاح بن أحمد بن الحسين بن علي زبارة. نسبة إلى محل يقال له: (زبار) في بلاد خولان، ولد سنة 1166 هـ، أو في التي بعدها، وقرأ على مشايخ صنعاء.

قال الشوكاني في البدر الطالع (1/ 130 - 131): وحضر في قراءة الطلبة علي في شرحي للمنتقى، وطلب مني إجازته له، وقد كنت في أيام الصغر حضرت عنده وهو يقرأ في شرح الفاكهي للملحة. وهو أكبر مني، فإنه كان إذ ذاك في نحو ثلاثين سنة، وهو حسن المحاضرة، جميل المروءة، كثير التواضع. توفي سنة 1252 هـ. وانظر:"نيل الوطر"(1/ 249).

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه رقم (52) بلفظ: "الحلال بين والحرام بين وبينهما مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا إن حمى الله في أرضه محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب".

وقد روي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عمر، وعمار بن ياسر، وابن مسعود، وسلمان الفارسي، وجابر الأنصاري، وابن عباس، وأنس بن مالك، والحسن بن علي، وأبي الدرداء، ووابصة بن معبد، وواثلة، وغيرهم. وحديث النعمان أصح حديث في الباب وأتم.

ص: 2049

بأفعال الآدميين وسائر ما يباشرونه من المأكولات والمشروبات والمنكوحات، وسائر ما يتعلق به [من] الإنشاءات والمعاملات. وما المراد بالاتقاء للشبهة في ذلك؟ وما تمثيله؟ فهل المراد مثلا ما وقع لبعض العلماء أنه وقع نهب أموال في جهة من جهات الإسلام بالقرب من بلده، فترك جميع المأكول من اللحم والحب، وسائر ما جلب إلى محله، واقتصر على أكل العشب سنة؟ وقد مقت عليه كثير من علماء عصره. ذكره ابن القيم أو معناه في الكلم الطيب، ومثلا لو علم أن له في صنعاء محرما، أو رضيعة، فنقول: لا يجوز له الإقدام إلى تزوج امرأة على ظاهر الحديث، وإن غلب على الظن كونها غير رحمه؟ أو يكون تمثيل اتقاء الشبهة بأنه لا يقدم على الفعل المباح، أو المندوب خوفا من عدم القيام بالواجب، أو فعل المحظور، كلو ترك التزوج بزايد على الواحدة خوفا من الميل عن أحد الضرتين، لأنه لا يأمن على نفسه تعدي الحمى الوارد في متن الحديث:(ألا وإن حمى الله محارمه). فنقول: على هذا ينبغي عدم التزوج بزايد على الواحدة، لا سيما [2] مع ورود الدليل القرآني بقوله تعالى، قال تعالى:{ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء} الآية (1) أو يكون اتقاء الشبهات عاما في الأفعال والاعتقادات والعبادات، كعدم تفسير المتشابه مثلا، ورده إلى المحكم خوفا من الدخول في شبهة من فسر القرآن برأيه الوارد النهي (2) عنه، والتوقف عن الخوض في الصفات ونحوها مما يتعلق بأفعال المكلفين (3) من القدر والإرادات والحكم فيها، هل هي مخلوقة للخالق، أو محدثة من المخلوق؟ وغيرها من سائر ما ذكره المتكلمون من أهل هذه المقالات، وكعدم

(1)[النساء: 129].

(2)

يشير إلى الحديث الذي أخرجه الترمذي برقم (5952) وقال: حديث غريب. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قال في القرآن برأيه فأصاب، فقد أخطأ". وهو حديث ضعيف.

(3)

انظر الرسالة رقم (1)، (2) من القسم الأول العقيدة.

ص: 2050

سجود التلاوة في الصلاة، حيث يقول مثلا الشافعي:"سجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم للتلاوة في صلاة الفجر"(1). فيقول المخالف له: زيادة على القطعي، وهي لا

(1) أخرجه البخاري رقم (1078) ومسلم رقم (110/ 578) من حديث أبي رافع، قال: صليت مع أبي هريرة العتمة فقرأ: (إذا السماء انشقت)[الانشقاق: 1] فسجد فقلت: ما هذه السجدة؟ فقال: سجدت فيها خلف أبي القاسم فلا أزال أسجد فيها حتى ألقاه.

قال ابن رشد في "بداية المجتهد ونهاية المقتصد"(1/ 516 وما بعدها) فأما حكم سجود التلاوة فإن أبا حنيفة وأصحابه قالوا: هو واجب.

وقال مالك والشافعي: هو مسنون وليس بواجب، وسبب الخلاف: اختلافهم في مفهوم الأوامر بالسجود، والأخبار التي معناها معنى الأوامر بالسجود مثل قوله تعالى:(إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا)[مريم: 58].

هل هي محمولة على الوجوب أم على الندب؟ فأبو حنيفة حملها على ظاهرها من الوجوب، ومالك والشافعي اتبعا في مفهومها الصحابة، إذ كانوا هم أقعد بفهم الأوامر الشرعية، وذلك أنه لما ثبت أن عمر بن الخطاب قرأ السجدة يوم الجمعة، فنزل وسجد الناس، فلما كان في الجمعة الثانية وقرأها، تهيأ الناس للسجود، فقال: على رسلكم، إن الله لم يكتبها علينا، إلا أن نشاء، قالوا: وهذا بمحضر الصحابة، فلم ينقل عن أحد منهم خلاف، وهم أفهم بمغزى الشرع وهذا إنما يحتج به من يرى قول الصحابي إذا لم يكن له مخالف حجة.

وقد احتج أصحاب الشافعي في ذلك بحديث زيد بن ثابت أنه قال: "كنت أقرأ القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأت سورة الحج، فلم يسجد ولم نسجد".

أخرجه البخاري رقم (1072 و1073) ومسلم رقم (106/ 577) وأبو داود رقم (1404) والترمذي رقم (576) والنسائي (2/ 160) والدارقطني (1/ 410 رقم 15) والبيهقي (2/ 320 - 321).

وكذلك أيضًا يحتج لهؤلاء بما روي عنه صلى الله عليه وسلم: "أنه لم يسجد في المفصل" أخرجه أبو داود رقم (1403) من حديث ابن عباس، وهو حديث ضعيف.

وبما روي أنه سجد فيها، لأن وجه الجمع بين ذلك يقتضي ألا يكون السجود واجبا، وذلك بأن يكون كل واحد منهم حدث بما رأى، من قال: إنه سجد، ومن قال: إنه لم يسجد.

وأما أبو حنيفة: فتمسك في ذلك بأن الأصل هو حمل الأوامر على الوجوب، والأخبار التي تتنزل منزلة الأوامر، وقد قال أبو المعالي: إن احتجاج أبي حنيفة بالأوامر الواردة بالسجود في ذلك لا معنى له، فإن إيجاب السجود مطلقا ليس يقتضي وجوبه مقيدا وهو عند القراءة، أعني: قراءة آية السجود.

قال: ولو كان الأمر كما زعم أبو حنيفة، لكانت الصلاة تجب عند قراءة الآية التي فيها الأمر بالصلاة، وإذا لم يجب ذلك فليس يجب السجود عند قراءة الآية التي فيها الأمر بالسجود من الأمر بالسجود.

ولأبي حنيفة أن يقول: قد أجمع المسلمون على أن الأخبار الواردة في السجود عند تلاوة القرآن هي بمعنى الأمر، وذلك في أكثر المواضع، وإذا كان ذلك كذلك فقد ورد الأمر بالسجود مقيدا بالتلاوة - أعني: عند التلاوة - وورد الأمر به مطلقا فوجب حمل المطلق على المقيد، وليس الأمر في ذلك بالسجود، كالأمر بالصلاة، فإن الصلاة قيد وجوبها بقيود أخرى، وأيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد سجد فيها، فبين لنا بذلك معنى الأمر بالسجود الوارد فيها - أعني أنه عند التلاوة - فوجب أن يحمل مقتضى الأمر في الوجوب عليه" اهـ.

ص: 2051

تقبل إلا بدليل قطعي كحكم النقصان مع المقطوع به، فإنه لم ينقص عنه إلا بدليل قطعي، كقوله تعالى:{فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة} (1).

فهل هذا الذي يقول بعدمه ممن اتقى الشبهة أم لا؟ وهل يدخل في ذلك المقلد بتقليد إمامه، لأنه مثلا قد اتقى الشبهة بسنية السجود أو عدمه؟ أم هو باق فيمن لم يتق هذه الشبهة؟ وهل يجوز مثلا مع تضييق الحادثة كتركة رجل لا تكفي (2) إلا دينه أو تكفينه؟ فماذا يصنع مثلا من لم يرجح تقديم الكفن على الدين، كونه كالمستثنى له من حال حياته؟ أو تقديم قضاء الدين على الكفن بتقديم الدليل العقلي على قول من يقول به، لأنه لا تضرر من الميت في تلك الحال، بخلاف صاحب الدين فالتضرر [3] معه حاصل، فكيف يجوز اتقاء الشبهة مع تضييق الحادثة! والاتقاء يؤدي إلى حرمان الميت وأهل الدين جميعا، وكلو خشي فوت الجماعة، وحصل له مدافعة الأخبثين، أو الريح، وكاستعمال الماء مع

(1)[النساء: 101].

(2)

سيأتي توضيح ذلك.

ص: 2052

خروج الوقت، أو التيمم وإدراك الصلاة في الوقت؟ فنقول لا يبرأ عن الشبهة إلا من صلى صلاتين: واحدة بالتيمم، والأخرى بعد خروج الوقت بالوضوء، كقول المرتضى أو الناصر: وكامرأة خطبها معيب بما يفسخ به عالم ورع، وصحيح جاهل فاسق، فنقول بترك الكل أم يكون الخروج من الشبهة بتزويج المعيب أو الصحيح الموصوفين، بما ذكر؟ فهذه أطراف ذكرتها لكم على جهة التنبيه، وكيف يكون الحكم فيما هذا حاله؟ وما هو المشتبه فيها وما لا؟ ومثل المسألة التي نحن بصددها في الحدود المحدودة بين القبائل، وشجار الزكوات والحرفة والمعاش. هل يكون الإجمال في ذلك والوصف للواقع من دون جزم بأن هذا الوجه الشرعي اتقاء للحرام أو الشبهة؟ أم يكون الإجمال في ذلك ليس اتقاء (1)؟

فأفضلوا بالإفادة في ذلك، ومن أفضالكم إذا ثم بحث في ذلك غير ما أشكل على المسترشد أفضلتم بإدخاله في الجواب، فليس المراد إلا طلب الفائدة

انتهى.

(1) انظر: إكمال المعلم بفوائد مسلم (5/ 287 - 290).

ص: 2053

[الجواب]

وأقول: الجواب بمعونة الملك الوهاب يشتمل على أبحاث:

الأول: لفظ الحديث في الصحيحين وغيرهما عن النعمان بن بشير أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "الحلال بين، والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهة، فمن ترك ما يشتبه عليه من الإثم كان لما استبان أترك، ومن اجترأ على ما شك فيه من الإثم أو شك أن يواقع ما استبان، والمعاصي حمى الله تعالى، من يرتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه [4] " يواقعه.

وفي لفظ للبخاري (1)"لا يعلمها كثير من الناس"، وفي لفظ للترمذي (2)"لا يدري كثير من الناس أمن الحلال هي أم من الحرام". وفي لفظ لابن حبان (3)"اجعلوا بينكم وبين الحرام سترة من الحلال، من فعل ذلك استبرأ لعرضه ودينه".

وللحديث ألفاظ كثيرة، ولم يثبت في الصحيح إلا من حديث النعمان بن بشير فقط، وقد ثبت في غير الصحيح من حديث عمار (4)، وابن عمر (5) عند الطبراني في

(1) في صحيحه رقم (52).

(2)

في "السنن" رقم (1205).

(3)

في صحيحه رقم (5569).

(4)

أخرجه الطبراني في "الأوسط" رقم (1756). وأورده الهيثمي في "المجمع" في موضعين (4/ 293) وقال: رواه أبو يعلى - في مسنده رقم (1653) - وفيه موسى بن عبيدة، وهو متروك.

وأورده الهيثمي في "المجمع"(4/ 73) وقال: رواه الطبراني في الأوسط وفيه موسى بن عبيدة وهو ضعيف.

بلفظ: "إن الحلال بين والحرام بين وبينهما شبهات، من توقاهن كن وقاء لدينه، ومن توقع فيهن أوشك أن يواقع الكبائر، كمرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه، لكل ملك حمى".

(5)

أخرجه الطبراني في الأوسط رقم (2889) عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحلال بين والحرام بين، وبينهما شبهات، فمن اتقاها كان أنزه لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات أوشك أن يقع في الحرام، كالمرتع حول الحمى، يوشك أن يواقع الحمى وهو لا يشعر". ورواه الطبراني عن ابن عمر كذلك في "الصغير"(1/ 19): بلفظ: "الحلال بين، والحرام بين، فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك".

وأشار الزيلعي في نصب الراية (2/ 472) إلى ضعفه. وذكر هذا الحديث ابن أبي حاتم في كتابه "العلل" رقم (1887) عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الحلال بين والحرام بين".

قال أبي: ثم كتب إلينا أحمد بن شبيب عن سعيد، اجعلوا هذا الحديث عن عبد الله بن عمر.

ص: 2054

الأوسط. ومن حديث ابن عباس عنده في الكبير (1)، ومن حديث واثلة عند الأصفهاني في الترغيب (2)، وفي أسانيدها مقال. وقد ادعى أبو عمرو الداني (3) أن هذا الحديث لم يروه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم غير النعمان بن بشير، وهو مردود (4) بما

(1) أي للطبراني في "الكبير" رقم (10824). وأورده الهيثمي في "المجمع"(10/ 294) وقال: وفيه "سابق الجزري" ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات.

عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الحلال بين والحرام بين، وبين ذلك شبهات، فمن أوقع بهن فهو قمن أن يأثم، ومن اجتنبهن فهو أوفر لدينه كمرتع إلى جنب حمى أوشك أن يقع فيه، ولكل ملك حمى، وحمى الله الحرام".

(2)

(2/ 44 رقم 1118) وهو حديث ضعيف جدا. وأورده الهيثمي في "مجمع الزوائد"(10/ 294) وقال: رواه أبو يعلى والطبراني وفيه "عبيد الله بن القاسم". وهو متروك.

(3)

هو عثمان بن سعيد بن عثمان، أبو عمرو الداني، يقال له: ابن الصيرفي من موالي بني أمية، أحد حفاظ الحديث، ومن الأئمة في علم القرآن وروايته وتفسيره.

انظر: "الأعلام" للزركلي (4/ 206).

(4)

قال الحافظ في "الفتح"(1/ 126): فائدة: ادعى أبو عمرو الداني أن هذا الحديث لم يروه عن النبي صلى الله عليه وسلم غير النعمان بن بشير، فإن أراد من وجه صحيح، فمسلم، وإلا فقد رويناه من حديث ابن عمر، وعمار في "الأوسط" للطبراني، ومن حديث ابن عباس في "الكبير" له ومن حديث واثلة في "الترغيب" للأصبهاني، وفي أسانيدها مقال، وادعى أيضًا أنه لم يروه عن النعمان غير الشعبي، وليس كما قال، فقد رواه عن النعمان أيضًا خيثمة بن عبد الرحمن، عند أحمد وغيره، وعبد الملك بن عمير عند أبي عوانة وغيره، وسماك بن حرب عند الطبراني، لكن مشهور عن الشعبي، رواه عنه جمع جم من الكوفيين ورواه عنه من البصريين عبد الله بن عوف" اهـ.

ص: 2055

تقدم

ولعله يريد أنه لم يثبت في الصحيح إلا من طريقه كما سلف.

البحث الثاني: في ذكر كلام أهل العلم في تفسير الشبهات (1)، وبيان ما هو الراجح لدى المجيب - غفر الله له -. فقيل: إنها ما تعارضت فيه الأدلة وقيل: إنها ما اختلف فيه العلماء، وقيل: المراد بها قسم المكروه، لأنه يجتذبه جانبا الفعل والترك، وقيل: هي المباح. ويؤيد الأول والثاني ما وقع في رواية للبخاري (2) بلفظ: "لا يعلمها كثير من الناس". وفي رواية للترمذي (3)"لا يدري كثير من الناس أمن الحلال هي أم من الحرام". ومفهوم قوله: "كثيرا" أن معرفة حكمها ممكن، لكن للقليل من الناس، وهم المجتهدون؛ فالشبهات على هذا في حق غيرهم.

وقد يقع لهم حيث لا يظهر لهم ترجيح أحد الدليلين. ويؤيد الثالث والرابع ما وقع في رواية لابن حبان (4) بلفظ: "اجعلوا بينكم وبين الحرام سترة من الحلال، من فعل استبرأ لعرضه ودينه".

فعلى هذين قد تضمن الحديث [5] تقسيم الأحكام إلى ثلاثة أشياء (5)، وهو تقسيم صحيح، لأن الشيء إما أن ينص الشارع على طلبه مع الوعيد على تركه، أو ينص على تركه مع الوعيد على فعله، أو لا ينص على واحد منهما. فالأول: الحلال البين. والثاني الحرام البين. والثالث: المشتبه لخفائه، فلا يدرى أحلال هو أم حرام؟.

وما كان هذا سبيله ينبغي اجتنابه، لأنه إن كان في نفس الأمر حراما فقد برئ من

(1) انظر "إكمال المعلم بفوائد مسلم"(5/ 287).

(2)

رقم (52).

(3)

في "السنن" رقم (1205).

(4)

في صحيحه رقم (5569).

(5)

انظر "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (17/ 385).

ص: 2056

التبعة، وإن كان حلالا فقد استحق الأجر على الترك بهذا القصد (1).

(1) قد أكثر العلماء من الكلام على تفسير المشتبهات، ونحن ننبهكم على أمثل طريقة، فاعلم أن الاشتباه هو الالتباس، وإنما يطلق في مقتضى هذه التسمية هاهنا على أمر ما أشبه أصلا ما، ولكنه مع هذا يشبه أصلا آخر يناقض الأصل الآخر، فكأنه كثرت أشباهه، وقيل: اشتبه بمعنى اختلط، حتى كأنه شيء واحد من شيئين مختلفين.

وإذا أحطت بهذا علما فيجب أن تطلب هذه الحقيقة، فنقول: قد تكون أصول الشرع المختلفة تتجاذب فرعا واحدا تجاذبا متساويا في حق بعض العلماء، ولا يمكنه تصور ترجيح ورده لبعض الأصول يوجب تحريمه، ورده لبعضها يوجب تحليله، فلا شك أن الأحواط تجنب هذا، ومن تجنبه وصف بالورع والتحفظ في الدين، وما أخذه من المسلمين بعيب فاعل هذا، بل المعلوم انتظار الألسنة بالثناء عليه والشهادة له بالورع إذا عرف بذلك.

وقد سئل مالك عن خنزير الماء فوقف فيه لما تعارضت الآي عنده فنظر إلى عموم قوله تعالى: (حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير)[المائدة: 3]. فخاف أن يدخل في عموم فيحرم، ونظر إلى عموم قوله تعالى:(أحل لكم صيد البحر وطعامه)[المائدة: 96]. وأمكن عنده أن يدخل في عموم هذه الآية فيحل، ولم تظهر له طرق الترجيح الواضحة في أن يقدم آية على آية، ووقف فيه، ومن هذا المعنى أن يعلم أصل الحكم ولكنه يلتبس وجود شرط الإباحة حتى يتردد بينه وبين شرط التحريم، وذلك أن الإنسان يحل له أن يأكل ملكه أما في معناه مما أبيح له تملكه، ويحرم عليه أكل ملك غيره وما في معناه.

وقد وجد النبي صلى الله عليه وسلم تمرة ساقطة فترك أكلها واعتل بأنه لولا أنه يخاف أن تكون صدقة لأكلها، فلما كانت الصدقة محرمة عليه وشك، هل حصل هذا التحريم في هذه التمرة تركها، ولحقت بالمشتبهات، وهذا إذا كان الاشتباه من جهة أصول الشرع بعد نظر صحيح فيها، أو في القسم الأخير الذي ذكرناه مع فقد أصول ترد إليها وعدم أمارات وظنون يعول عليها.

وأما إذا كان الأمر خلاف ذلك، فليس من الورع التوقف بل ربما خرج بعضه على ما يكره، وبيان تلك بالمثال: أن من أتى على ماء لم يجد سواه ليتوضأ منه فقال في نفسه: لعل نجاسة سقطت من قبل أن أرد عليه وامتنع من الطهارة به، فإن ذلك ليس بممدوح، وخارج عما وقع في الحديث، لأن الأصل طهارة الماء وعدم الطوارئ واستصحاب هذا كالعلم الذي يظن أنه لم يسقط منه شيء، مع أن هذه النكرة إذا أمر معها تكررت ولم يقف عند حد وأدى ذلك إلى انقطاع عن العبادات.

انظر مزيد من تفصيل ذلك "إكمال المعلم بفوائد مسلم"(5/ 285 - 286).

قال الحافظ في "الفتح"(1/ 127): "وحاصل ما فسر العلماء الشبهات أربعة أشياء:

أحدها: تعارض الأدلة.

ثانيها: اختلاف العلماء، وهي منتزعة من الأولى.

ثالثها: أن المراد بها مسمى المكروه، لأنه يجتذبه جانبا الفعل والترك.

رابعها: أن المراد بها المباح، ولا يمكن قائل هذا أن يحمله على متساوي الطرفين من كل وجه، بل يمكن حمله على ما يكون من قسم "خلاف الأولى" بأن يكون متساوي الطرفين، باعتبار ذاته راجح الفعل أو الترك، باعتبار أمر خارج.

قال النووي في "شرح مسلم"(11/ 208): "وأما الشبهات فمعناه أنها ليست بواضحة الحل ولا الحرمة، فلهذا لا يعرفها كثير من الناس، ولا يعلمون حكمها، وأما العلماء فيعرفون حكمها بنص أو قياس أو استصحاب أو غير ذلك، فإذا تردد الشيء بين الحل والحرمة ولم يكن فيه نص ولا إجماع، اجتهد فيه المجتهد فألحقه بأحدهما بالدليل الشرعي، فإذا ألحقه به صار حلا، وقد يكون غير خال عن الاحتمال البين، فيكون الورع تركه، ويكون داخلا في قوله صلى الله عليه وسلم: "فمن اتقى الشبهات، فقد استبرأ لدينه وعرضه". وما لم يظهر للمجتهد فيه شيء وهو مشتبه، فهل يؤخذ بحله أم بحرمته أم يتوقف؟ فيه ثلاثة مذاهب حكاها القاضي عياض وغيره، والظاهر أنها مخرجة على الخلاف المذكور في الأشياء قبل ورود الشرع - وفيه أربعة مذاهب:

الأصح: أنه لا يحكم بحل ولا حرمة، ولا إباحة ولا غيرها، لأن التكليف عند أهل الحق لا يثبت إلا بالشرع.

والثاني: أن حكمها التحريم.

والثالث: الإباحة.

والرابع: التوقف. والله أعلم اهـ.

ص: 2057

ونقل ابن المنير (1) عن بعض .......................................

(1) هو أحمد بن محمد بن منصور بن أبي القاسم بن مختار الجروي الجذامي الإسكندري، أبو العباس ناصر الدين قاضي الإسكندرية وعالمها، كان إماما بارعا في الفقه والأصلين والعربية، له الباع الطويل في علم التفسير والقراءات والنظر والبلاغة والإنشاء خطيبا مصقعا، وله شعر لطيف ولد سنة 620 هـ وتوفي سنة 683 هـ.

قال عز الدين بن عبد السلام: "ديار مصر تفتخر برجلين في طرفيها، ابن المنير بالإسكندرية، وابن دقيق العيد بقوص".

"طبقات المفسرين" للداودي (1/ 86). "معجم المفسرين" لعادل نويهض (1/ 66).

ص: 2058

مشايخه (1). أنه كان يقول: المكروه عقبة بين العبد والحرام، فمن استكثر من المكروه تطرق إلى الحرام. والمباح عقبة بينه و [بين] المكروه، فمن استكثر منه تطرق إلى المكروه.

قال الحافظ ابن حجر في الفتح (2) "والذي يظهر لي رجحان الأول - يعني أن المشتبهات هي ما تعارضت فيه الأدلة - ثم قال: ولا يبعد أن يكون كل من الأوجه مرادا، ويختلف ذلك باختلاف الناس: فالعالم الفطن لا يخفى عليه تمييز الحكم، فلا يقع له ذلك إلا في الاستكثار من المباح أو المكروه، ومن دونه تقع له الشبهة في جميع ما ذكر بحسب اختلاف الأحوال، ولا يخفى أن المستكثر من المكروه يصير فيه جرأة على ارتكاب المنهي عنه بالجملة، أو يحمله اعتياده لارتكاب المنهي غير المحرم على ارتكاب المنهي المحرم، أو يكون ذلك لستر فيه، وهو أن من تعاطى ما نهي عنه يصير مظلم القلب

(1) هو القباري، قال الحافظ في "الفتح" (1/ 127): وقال ونقل ابن المنير في مناقب شيخه القباري عنه، أنه كان يقول: المكروه عقبة بين العبد والحرام، فمن استكثر من المكروه تطرق إلى الحرام، والمباح عقبة بينه وبين المكروه، فمن استكثر منه تطرق إلى المكروه. وهو منزع حسن، ويؤيده رواية ابن حبان من طريق ذكر مسلم إسنادها، ولم يسق لفظها، فيها من الزيادة:"اجعلوا بينكم وبين الحرام سترة من الحلال، من فعل ذلك استبرأ لعرضه ودينه، ومن أرتع فيه كان كالمرتع إلى جنب الحمى يوشك أن يقع فيه".

(2)

(1/ 127 - 128) حيث قال: "والذي لي رجحان الوجه الأول

، ولا يبعد أن يكون كل من الأوجه مرادا، ويختلف ذلك باختلاف الناس: فالعالم الفطن لا يخفى عليه تمييز الحكم فلا يقع له ذلك إلا في الاستكثار من المباح أو المكروه كما تقرر قبل، ودونه تقع له الشبهة في جميع ما ذكر بحسب اختلاف الأحوال، ولا يخفى أن المستكثر من المكروه تصير فيه جرأة على ارتكاب المنهي في الجملة، أو يحمله اعتياده ارتكاب المنهي غير المحرم على ارتكاب المنهي المحرم إذا كان من جنسه، أو يكون ذلك لشبهة فيه وهو أن من تعاطى ما نهي عنه يصير مظلم القلب لفقدان نور الورع فيقع في الحرام ولو لم يختر الوقوع فيه .. ".

ص: 2059

لفقدان نور الورع، فيقع في الحرام، ولو لم يختر الوقوع فيه، ولهذا قال صلى الله عليه وآله وسلم:"فمن ترك ما يشتبه عليه من الإثم" إلى آخر الحديث. انتهى ما ذكره الحافظ في الفتح (1).

ولا يخفى عليك أن تفسير المشتبهات بكل واحد من التفسيرين الأولين صحيح، لأنه يصدق على كل واحد [6] منهما أنه مشتبه، وبيانه: أن ما تعارضت فيه الأدلة، ولم يتميز للناظر فيها الراجح من المرجوح، لا يصح أن يقال هو من الحلال البين، ولا من الحرام البين، لأن الأمر الذي تعارضت أدلته، وخفي راجحه من مرجوحه لم يتبين أمره بلا ريب؛ إذ المتبين هو ما لم يبق فيه إشكال، وما تعارضت أدلته فيه أعظم الإشكال، وهكذا ما اختلف فيه العلماء، لكن بالنسبة إلى المقلد، لأنه لا يعرف الحق والباطل، ويميز بينهما إلا بواسطة أقوال أهل العلم الذين يأخذ عنهم ويقلدهم، وليست له من الملكة العلمية ما يقتدر به على الوصول إلى دلائل المسائل، ومعرفة العالي منها والسافل. فإذا اختلف عالمان في شيء، فقال أحدهما: إنه حلال. وقال الآخر: إنه حرام، وكان كل واحد منهما بمحل من العلم يساوي الآخر في اعتقاد المقلد، فلا شك ولا ريب أن هذا الشيء الذي اختلف فيه هذان العالمان، فقال أحدهما: حلال، وقال الآخر: حرام؛ لا يصح أن يقال هو من الحلال البين، ولا من الحرام البين بالنسبة إلى ذلك المقلد.

وكل شيء لا يصح أن يكون أحد هذين الأمرين لا ريب أنه من المشتبهات. فإن قلت: فماذا يصنع هذا المقلد عند هذا الاختلاف؟ إن قلت يتورع ويقف عند هذه الشبهة استلزم ذلك أن يترك أكثر الأحكام الشرعية، بل جميعها إلا القليل النادر؛ إذ أكثر المسائل الشرعية قد وقع الاختلاف فيها بين أهل العلم، فهذا يثبت هذا الحكم، وهذا ينفيه، وهذا يحلله، وهذا يحرمه؟.

قلت: ليس المراد بالوقوف عند الشبهات أن يترك القولين جميعا، بل المراد الأخذ بما

(1)(1/ 128).

ص: 2060

لا يعد حرجا عند القائلين كليهما. مثلا لو قال أحدهما: لحم الخيل (1) أو الضبع (2)

(1) اختلف العلماء في حكم لحم الخيل إلى مجيز وإلى مانع، فالذين ذهبوا إلى جواز أكل لحم الخيل استدلوا بما يلي:

أخرج البخاري برقم (5520) ومسلم رقم (1941) من حديث جابر رضي الله عنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية، وأذن في لحوم الخيل".

أخرج البخاري رقم (5510) ومسلم رقم (1942) من حديث أسماء رضي الله عنها قالت: "ذبحنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرسا ونحن بالمدينة فأكلها".

قال ابن رشد في "بداية المجتهد"(2/ 518): "وأما الخيل فذهب مالك وأبو حنيفة إلى أنها محرمة، وذهب الشافعي، وأبو يوسف ومحمد وجماعة إلى إباحتها".

استدل المحرمون بقوله تعالى في سورة النحل الآية (8): (والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة).

قال ابن رشد على هذا الخلاف في "بداية المجتهد"(2/ 519): "وأما سبب اختلافهم في الخيل، فمعارضة دليل الخطاب في هذه الآية لحديث جابر، ومعارضة قياس الفرس على البغل والحمار له، لكن إباحة لحم الخيل نص في حديث جابر، فلا ينبغي أن يعارض بقياس ولا بدليل خطاب". وانظر: "فتح الباري"(9/ 649).

(2)

اختلف العلماء بين مجيز ومحرم، أما المجيزون فقد استدلوا بما يلي:

أخرج أحمد (3/ 318، 322) والدارمي (2/ 74 - 75) والترمذي رقم (1791) وقال حديث حسن صحيح. والنسائي (7/ 200) وابن ماجه رقم (3236) والطحاوي في "شرح المعاني"(2/ 164) والبيهقي (9/ 318). وهو حديث صحيح.

عن عبد الرحمن بن أبي عمار قال: "سألت جابر بن عبد الله عن الضبع، آكلها؟ قال: نعم. قلت: أصيد هي؟ قال: نعم. قلت: فأنت سمعت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم".

وأما المحرمون فقد استدلوا بما أخرج البخاري رقم (5530) ومسلم رقم (1932) من حديث أبي ثعلبة الخشني أنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع، إن السباع محرمة".

قال الشافعي: وما زال الناس يأكلونها - أي الضبع - ويبيعونها بين الصفا والمروة من غير نكير. وحرمها الحنفية عملا بحديث أبي ثعلبة الخشني.

انظر: "سبل السلام"(7/ 291) و"بداية المجتهد"(2/ 514 - 515).

ص: 2061

حلال، وقال [7] الآخر: لحم الخيل أو الضبع حرام، أو قال أحدهما: شراب النبيذ أو المثلث (1) حلال، وقال الآخر: حرام، أو قال أحدهما: بيع النساء حلال، وقال الآخر: حرام، ونحو ذلك من الأحكام. فالوقف الذي هو من شأن أهل الإيمان أن يترك المقلد أكل لحم الخيل، ولحم الضبع، وشرب النبيذ والمثلث، ولا يعامل ببيع النساء، فهذا الوقف مسلك يرضى به كل واحد من العالمين المختلفين (2).

(1) المثلث من الشراب الذي طبخ حتى ذهب ثلثاه. "لسان العرب"(2/ 120).

(2)

قال ابن تيمية في "مجموع فتاوى"(29/ 315 - 331): "الورع من قواعد الدين، ثم ذكر الحديث: "الحلال بين .. " وحديث: "دع ما يريبك .. " وحديث: "التمرة .. ". ثم قال: وهذا يتبين بذكر أصول:

أحدها: أنه ليس كل ما اعتقد فقيه معين أنه حرام كان حراما، إنما الحرام ما ثبت تحريمه بالكتاب، أو السنة، أو الإجماع، أو قياس مرجح لذلك وما تنازع فيه العلماء رد إلى هذه الأصول، فمن الناس من يكون نشأ على مذهب إمام معين، أو استفتى فقيها معينا، أو سمع حكاية عن بعض الشيوخ فيريد أن يحمل المسلمين كلهم على ذلك وهذا غلط.

الثاني: أن المسلم إذا عامل معاملة يعتقد هو جوازها وقبض المال جاز لغيره من المسلمين أن يعامله في مثل ذلك المال وإن لم يعتقد جواز تلك المعاملة.

الثالث: أن الحرام نوعان:

حرام لوصفه: كالميتة والدم ولحم الخنزير، فهذا إذا اختلط بالماء والمائع وغيره من الأطعمة، وغير طعمه أو لونه أو ريحه حرمه، وإن لم يغير ففيه نزاع.

حرام لكسبه: كالمأخوذ غصبا، أو بعقد فاسد، فهذا إذا اختلط بالحلال لم يحرم، فلو غصب الرجل دراهم أو دنانير، أو دقيقا، أو حنطة، أو خبزا وخلط ذلك بماله، لم يحرم الجميع، لا على هذا ولا على هذا.

الرابع: المال إذا تعذر معرفة مالكه صرف في مصالح المسلمين، عند جماهير العلماء، كمالك وأحمد وغيرهما، فإذا كان بيد الإنسان غصوب أو عواري أو ودائع أو رهون قد يئس من معرفة أصحابها فإنه يتصدق بها عنهم، أو يصرفها في مصالح المسلمين، أو يسلمها إلى قاسم عادل يصرفها في مصالح المسلمين.

الخامس: وهو الذي يكشف سر المسألة، وهو أن المجهول في الشريعة كالمعدوم والمعجوز عنه، فالله إذا أمرنا بأمر كان ذلك مشروطا بالقدرة عليه، والتمكن من العمل به، فما عجزنا عن معرفته، أو عن العمل به سقط عنا

".

ص: 2062

أما القائل بالتحريم فظاهر. وأما القائل بالحل فإنه لا يقول يجب على الإنسان أن يأكل لحم الخيل، أو لحم الضبع، أو شرب النبيذ، أو المثلث، أو يعامل ببيع النساء. بل غاية ما يقول به أن ذلك حلال يجوز فعله، ويجوز تركه. فالتارك عند كل من القائلين مصيب، إنما يختلف الحال عندهما أن القائل بالتحريم يقول: يثاب التارك ثواب من ترك الحرام، والقائل بالتحليل لا يقول بالإثابة في الترك، لأنه فعل أحد الجائزين.

وكما أن الوقوف المحمود للمقلد هو ما ذكرناه؛ كذلك الوقوف للعالم المجتهد عند تعارض الأدلة هو أنه يترك ما فيه البأس إلى ما لا بأس به (1). مثلا إذا تعارضت عنده أدلة تحليل لحم الخيل والضبع والتحريم، وأدلة تحليل شرب النبيذ والمثلث وبيع النسا (2)، والتحريم، ولم يهتد إلى الترجيح، ولا إلى الجمع بين الأدلة، فالورع المحمود هو الوقف الذي أرشد إليه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، وهو أن لا يأكل لحم الخيل والضبع، ولا يشرب النبيذ والمثلث، ولا يعامل ببيع النساء، ولا يفتي بحل شيء من ذلك.

ولا ريب أنه إذا وفد إلى عرصات القيامة، ووقف بين يدي الرب - سبحانه - وجد صحايف سيئاته خالية عن ذكر هذه الأمور؛ لأن تركها ليس بذنب؛ فإن الله - سبحانه - لا يحاسب أحدا من عباده على ترك مثل هذه الأمور، بل ربما وجد ما وقع منه من الكف للنفس عن هذه الأمور [8] المشتبهة في صحايف حسناته، لأنه قد وقف عندما أمر

(1) يشير إلى الحديث الذي أخرجه الترمذي رقم (2451) وابن ماجه رقم (4215) من حديث عطية السعدي وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا لما به البأس". وهو حديث ضعيف.

(2)

سيأتي برسالة كاملة. المراد بيع النسيئة. رقم (114).

ص: 2063

بالوقوف عنده، واستبرأ لعرضه ودينه، والله - سبحانه - لا يضيع ترك تارك كما لا يضيع عمل عامل:{فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره} (1).

وكما أن الورع قد يكون في الترك (2) فقد يكون في الفعل مثلا: لو تعارضت عند

(1)[الزلزلة: 7 - 8].

(2)

قال ابن تيمية في "مجموع فتاوى"(17/ 385): وأما في الواجبات فيقع الغلط في الورع من ثلاث جهات:

أحدها: اعتقاد كثير من الناس أنه من باب الترك، فلا يرون الورع إلا في ترك الحرام لا في أداء الواجب، وهذا يبتلى به كثير من المتدينة المتورعة. ترى أحدهم يتورع عن الكلمة الكاذبة وعن الدرهم فيه شبهة، لكونه من مال ظالم أو معاملة خاسرة، ويتورع عن الركون إلى الظلمة من أجل البدع في الدين وذوي الفجور في الدنيا. ومع هذا يترك أمورا واجبة عليه إما عينا وإما كفاية وقد تعينت عليه، من صلة رحم، وحق جار، ومسكين، وصاحب، ويتيم، وابن سبيل، وحق مسلم، وذي سلطان وذي علم، وعن أمر بمعروف ونهي عن منكر وعن الجهاد في سبيل الله، إلى غير ذلك مما فيه نفع للخلق في دينهم ودنياهم مما وجب عليه، أو يفعل ذلك لا على وجه العبادة لله تعالى، بل من جهة التكليف ونحو ذلك.

وهذا الورع قد يوقع صاحبه في البدع الكبار، فإن ورع الخوارج والروافض والمعتزلة ونحوهم من هذا الجنس، تورعوا عن الظلم وعما اعتقدوه ظلما من مخالطة الظلمة في زعمهم، حتى تركوا الواجبات الكبار، من الجمعة والجماعة، والحج، والجهاد، ونصيحة المسلمين، والرحمة لهم، وأهل هذا الورع ممن أنكر عليهم الأئمة، كالأئمة الأربعة، وصار حالهم يذكر في اعتقاد أهل السنة والجماعة.

الثانية: من الاعتقاد الفاسد أنه إذا فعل الواجب والمشتبه، وترك المحرم والمشتبه فينبغي أن يكون اعتقاد الوجوب والتحريم بأدلة الكتاب والسنة، وبالعلم لا بالهوى وإلا فكثير من الناس تنفر نفسه عن أشياء لعادة ونحوها. فيكون ذلك مما يقوي تحريمها واشتباهها عنده، ويكون بعضهم في أوهام وظنون كاذبة. فتكون تلك الظنون مبناها على الورع الفاسد، فيكون صاحبه ممن قال الله تعالى فيه:(إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس)[النجم: 23].

وهذه حال أهل الوسوسة في النجاسات - فإنهم من أهل الورع الفاسد المركب من نوع دين وضعف عقل وعلم، وكذلك ورع قوم يعدون غالب أموال الناس محرمة أو مشتبهة أو كلها، وآل الأمر ببعضهم إلى إحلالها لذي السلطان، لأنه مستحق لها، وإلى أنه لا يقطع بها يد السارق ولا يحكم فيها بالأموال المغصوبة.

وقد أنكر حال هؤلاء الأئمة كأحمد بن حنبل وغيره، وذم المتنطعين في الورع، وقد روى مسلم في صحيحه عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هلك المتنطعون" قالها ثلاثا.

وورع أهل البدع كثير منه من هذا الباب، بل ورع اليهود والنصارى والكفار عن واجبات دين الإسلام من هذا الباب، وكذلك ما ذمه الله تعالى في القرآن من ورعهم عما حرموه ولم يحرمه الله تعالى كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحام.

ومن هذا الباب الذي ذمه الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي في الصحيح لما ترخص في أشياء فبلغه أن أقواما تنزهوا عنها فقال: "ما بال رجال يتنزهون عن أشياء أترخص فيها؟ والله إني لأرجو أن أكون أعلمهم بالله وأخشاهم" وفي رواية: "أخشاهم وأعلمهم بحدوده له".

ولهذا يحتاج المتدين المتورع إلى علم كثير بالكتاب والسنة والفقه في الدين، وإلا فقد يفسد تورعه الفاسد أكثر مما يصلحه، كما فعله الكفار وأهل البدع من الخوارج والروافض وغيرهم.

الثالثة: جهة المعارض الراجح، هذا أصعب من الذي قبله، فإن الشيء قد يكون جهة فساده تقتضي تركه.

وقد تبين أن من جعل الورع الترك فقط، وأدخل في هذا الورع أفعال قوم ذوي مقاصد صالحة بلا بصيرة من دينهم، وأعرض عما فوتوه بورعهم من الحسنات الراجحة، فإن الذي فاته من دين الإسلام أعظم مما أدركه، فإنه قد يعيب أقواما هم إلى النجاة والسعادة أقرب".

وقال ابن تيمية (21/ 310 - 311): "إنما يقتضي اتقاء الشبهات التي يشتبه فيها الحلال بالحرام، بخلاف ما إذا اشتبه الواجب أو المستحب بالمحظور، وقد ذكر ذلك أبو طالب المكي.

ولهذا لما سئل الإمام أحمد عن رجل مات أبوه وعليه دين، وله ديون فيها شبهة أيقضيها ولده؟ فقال: أيدع ذمة أبيه مرهونة؟ وهذا جواب سديد، فإن قضاء الدين واجب، وترك الواجب سبب للعقاب، فلا يترك لما يحتمل أن يكون فيه عقاب، ويحتمل أن لا يكون .. " اهـ.

ص: 2064

العالم الأدلة القاضية بوجوب الغسل يوم الجمعة، والأدلة القاضية بعدم الوجوب، فإن الورع والوقوف عن المشتبهات هو أن يغتسل، لأن ................

ص: 2065

الأدلة (1) القاضية بعدم الوجوب ليس فيها المنع من الغسل، بل فيها الترغيب إليه، كحديث:"من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل"(2).

وهكذا المقلد إذا سمع أحد العالمين يقول بوجوب الغسل، والآخر يقول لا يجب. فالورع والوقوف عند المشتبه هو أن يغتسل، لأن القائل بعدم الوجوب لا يقول بعدم الجواز، بل يقول بأن الغسل مسنون أو مندوب (3).

(1) منها: ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (858) ومسلم رقم (846) وأبو داود رقم (341) والنسائي (3/ 93) وابن ماجه رقم (1089) وأحمد (3/ 6) من حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "غسل الجمعة واجب على كل محتلم".

ومنها: ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (877) ومسلم رقم (844) والترمذي رقم (492) والنسائي (3/ 93) ومالك رقم (5) من حديث ابن عمر قال: قال صلى الله عليه وسلم: "إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل".

(2)

أخرجه أبو داود رقم (354) والترمذي رقم (497) والنسائي (3/ 94) وأحمد (5/ 8، 11، 16، 22) من حديث سمرة بن جندب. وله شواهد من حديث أنس وأبي سعيد الخدري وأبي هريرة وجابر وعبد الرحمن بن سمرة، وابن عباس، انظر:"نصب الراية"(1/ 91 - 93). وهو حديث حسن بمجموع طرقه.

(3)

قال النووي في "المجموع"(4/ 405): وغسل الجمعة سنة، وليس بواجب وجوبا يعصي بتركه بلا خلاف عندنا وفيمن يسن له أربعة أوجه:

الصحيح: المنصوص - وبه قطع المصنف والجمهور - يسن لكل من أراد حضور الجمعة، سواء الرجل والمرأة والصبي والمسافر والعبد وغيرهم لظاهر حديث ابن عمر، ولأن المراد النظافة وهم في هذا سواء، ولا يسن لمن لم يرد الحضور، وإن كان من أهل الجمعة لمفهوم الحديث والانتفاء المقصود ولحديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من أتى الجمعة من الرجال والنساء فليغتسل، ومن لم يأتها فليس عليه غسل من الرجال والنساء". رواه البيهقي (3/ 190) بهذا اللفظ بإسناد صحيح.

الثاني: يسن لكل من حضرها ولمن هو من أهلها - ومنعه عذر حكاه الماوردي والروياني والشاشي وغيرهم، لأنه شرع له الجمعة والغسل فعجز عن أحدهما فينبغي أن يفعل الآخر.

الثالث: لا يسن إلا لمن لزمه حضورها، حكاه الشاشي وآخرون.

الرابع: يسن لكل أحد سواء من حضرها وغيره لأنه كيوم العيد وهو مشهود ممن حكاه المتولي وغيره.

ص: 2066

والضابط لذلك بالنسبة إلى المجتهد أن الدليلين المتعارضين إذا كان أحدهما يدل على التحريم أو الكراهة، والآخر يدل على الجواز فالورع الترك، وإن كان أحدهما يدل على الوجوب أو الندب، والآخر يدل على الإباحة. فالورع الفعل، وأما إذا كان أحدهما يدل على التحريم أو الكراهية، والآخر يدل على الوجوب أو الندب فهذا هو المقام الضنك، والموطن الصعب. ومثاله ما ورد من النهي عن الصلاة في أوقات الكراهة (1) وما ورد من الأمر بصلاة التحية (2)، والنهي عن تركها. فإن الظاهر النهي عن الصلاة يعم صلاة التحية وغيرها، وظاهر الأمر بها يعم، والنهي عن تركها عند دخول المسجد يعم الأوقات المكروهة وغيرها. فبين الدليلين عموم وخصوص من وجه، وليس أحدهما [9] بالتخصيص أولى من الآخر في مادة الاجتماع، لأن كل واحد منهما صحيح مشتمل على النهي، ولم يبق إلا الترجيح بدليل خارج عنهما، ولم يوجد فيما أعلم دليل خارج عنهما يستفاد منه ترجيح أحدهما على الآخر.

وقد قال قائل: إن الترك أرجح، لأنه وقع الأمر بالصلاة، والأوامر مقيدة

(1) منها ما أخرجه مسلم رقم (831) وأبو داود رقم (3192) والترمذي رقم (1030) والنسائي (1/ 275) وابن ماجه رقم (1519) من حديث عقبة بن عامر الجهني أنه قال: "ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيها، وأن نقبر فيها موتانا: حتى تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل، وحين تضيف الشمس للغروب". ومنها ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (588) ومسلم رقم (825) وأحمد (2/ 462) من حديث أبي هريرة عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، وعن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس".

(2)

منها ما أخرجه البخاري رقم (444) ومسلم رقم (69، 70/ 714) وأبو داود رقم (467) والترمذي رقم (316) والنسائي (2/ 53) وابن ماجه رقم (1013) وأحمد (5/ 295). من حديث أبي قتادة قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا جاء أحدكم المسجد فليركع ركعتين".

ص: 2067

بالاستطاعة: {فاتقوا الله ما استطعتم} (1)، "وإذا أمرتم بأمر فأتوا منه ما استطعتم"(2)

وأقول: إنما يتم هذا لو كان الوارد في صلاة التحية ليس إلا مجرد الأمر بها عند دخول المسجد فقط، وليس الأمر كذلك، بل قد ورد النهي عن الترك في الصحيح بلفظ:"فلا يجلس حتى يصلي ركعتين" إذا عرفت هذا فظاهر حديث الأمر بصلاة التحية أنها واجبة، وظاهر حديث النهي عن تركها أن الترك حرام، وظاهر حديث النهي عن الصلاة في الأوقات المكروهة كبعد صلاة العصر، وبعد صلاة الفجر أن فعلها حرام، فقد تعارض عند العالم العارف بكيفية الاستدلال دليلان: أحدهما يدل على تحريم الفعل، والآخر يدل على تحريم الترك، فلا يكون الورع والوقوف عند المشتبه إلا بترك دخول المسجد في تلك الأوقات، فإن ألجت الحاجة إلى الدخول فلا يقعد، وهذا على فرض أنه لا يوجد عند العالم ما يدل على عدم وجوب صلاة التحية (3)، وعلى أن الأمر فيها للندب، والنهي عن الترك للكراهة، أما إذا وجد عنده دليل ...................

(1)[التغابن: 16].

(2)

يشير إلى الحديث الذي أخرجه البخاري رقم (6858) ومسلم رقم (1337) من حديث أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "دعوني ما تركتكم، فإنما أهلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم".

(3)

قال النووي في "المجموع"(4/ 80 - 81): فإذا دخل المسجد في بعض هذه الأوقات فقد ذكرنا أن مذهبنا أنه يستحب أن يصلي تحية المسجد للحديث فيها، والجواب عن أحاديث النهي أنها مخصوصة .. فإن قيل: حديث النهي عام في الصلوات خاص في بعض الأوقات، وحديثه التحية عام في الأوقات خاص في بعض الصلوات فلم رجحتم التخصيص بالأحاديث التي ذكرناها في صلاة العصر وصلاة الصبح، وبالإجماع الذي نقلناه في صلاة الجنازة، وأما حديث تحية المسجد فهو على عمومه لم يأت له مخصص، ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم الداخل يوم الجمعة في حال الخطبة بالتحية بعد أن قعد، ولو كانت التحية تترك في وقت لكان هذا الوقت، لأنه يمنع في حال الخطبة من الصلاة إلا التحية، ولأنه تكلم في الخطبة وبعد أن قعد الداخل وكل هذا مبالغة في تعميم التحية.

ص: 2068

كحديث ضمام بن ثعلبة (1) حيث قال له صلى الله عليه وآله وسلم لما قال: هل علي غيرها؟ قال: "لا إلا أن تطوع" ونحوه، فلا يصلح ما ذكرناه للمثال. وقد حررت في ذلك رسالة مستقلة، وأبحاثا مطولة في شرحي [10] للمنتقى (2)، وفي "طيب النشر في جوابي على المسائل العشر"(3)، وغير ذلك، وليس المقصود هاهنا إلا مجرد المثال لما نحن بصدده.

وكما أن الورع للعالم في تعارض الأدلة على صفة التي قدمنا هو ما ذكرناه، كذلك الورع للمقلد إذا اختلف عالمان فقال أحدهما: هذا الشيء يحرم تركه، وقال الآخر: يحرم فعله، أو قال أحدهما يكره فعله، وقال الآخر: يكره تركه، فالورع له أن يفعل مثل ما ذكرناه في صلاة التحية.

وإذا قد فرغنا من بيان كون التفسير الأول والثاني - أعني ما تعارضت أدلته، وما اختلف فيه العلماء - كلاهما من المشتبهات، وإن اختلف الحال فإن الأول منهما مشتبه باعتبار المجتهد. والثاني: مشتبه باعتبار المقلد، فلنبين: هل التفسير الثالث والرابع - أعني المباح والمكروه - من المشتبهات أم لا؟.

اعلم أنا قد قررنا أن الحلال البين هو ما وقع النص على تحليله، والحرام البين هو ما

(1) أخرج البخاري في صحيحه رقم (46) ومسلم رقم (8 - 11) وأبو داود رقم (391) والنسائي (1/ 226 - 227) وأحمد (1/ 162) من حديث طلحة بن عبيد الله يقول: "جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل نجد، ثائر الرأس، يسمع دوي صوته ولا يفقه ما يقول، حتى دنا، فإذا هو يسأل عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خمس صلوات في اليوم والليلة". فقال: هل علي غيرها؟ قال: "لا إلا أن تطوع". قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "وصيام رمضان". فقال: هل علي غيره؟ قال: "لا إلا أن تطوع". قال: وذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم: الزكاة، قال: هل علي غيرها؟ قال: "لا إلا أن تطوع". قال: "فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفلح إن صدق".

(2)

"نيل الأوطار"(3/ 84 - 85).

(3)

سيأتي تحقيق هذه الرسالة ضمن مجلد الفتح الرباني. رقم (97).

ص: 2069

وقع النص على تحريمه، ولا ريب أن المباح إن وقع النص من الشارع على كونه مباحا أو حلالا فهو من الحلال البين، وهكذا إن سكت عنه ولم يخالف دليل العقل، ولا شرع (1) من قبلنا فهو أيضًا من الحلال البين، لأنه صلى الله عليه وآله وسلم قد أخبرنا أن ما سكت عنه فهو (2) عفو، فمثل ما ذكرناه من المباح إذا لم يكن فعله ذريعة للوقوع في الحرام لا شك أنه لا يصح إدراجه في المشتبهات، ولا تفسيرها به بل من المباح قسم يصح أن يكون من جملة ما تفسر به الشبهات المذكورة في الحديث، وهو ما كانت العادة تقتضي أن الاستكثار منه يكون [11] ذريعة إلى الحرام ولو نادرا، وذلك كالاستمتاع من الزوجة بما عدا القبل والدبر، فإن الشارع قد أباحه، ولكنه ربما تدرج به بعض من لا يملك نفسه إلى الحرام، وهو الوقوع في القبل والدبر. ولهذا تقول أم المؤمنين عائشة: وأيكم (3) يملك إربه كما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يملك إربه! فإن هذا النوع المباح وما شابهه وإن كان حكمه معلوما من الشريعة وأنه من الحلال البين، ولكنه يدخل تحت قوله صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث المذكور:"والمعاصي حمى الله من يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه"(4)، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:"اجعلوا بينكم وبين الحرام سترة من الحلال، من فعل استبرأ لعرضه ودينه".

(1) انظر "البحر المحيط"(6/ 41 - 48). "الإحكام في أصول الأحكام" للآمدي (4/ 145 - 154).

(2)

أخرجه الترمذي رقم (1726) عن سلمان، قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السمن والجبن والفراء فقال: "الحلال ما أحل الله في كتابه، والحرام ما حرم الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفا عنه". وهو حديث حسن بمجموع طرقه.

(3)

أخرجه البخاري رقم (302) ومسلم رقم (293) وأبو داود رقم (268) والترمذي رقم (132) وابن ماجه رقم (635) وأحمد (6/ 174).

(4)

تقدم في بداية الرسالة.

ص: 2070

فهذا الدليل يدل على أن ما كان من المباحات ذريعة إلى الحرام ولو نادرا فالورع الوقوف عنده وتركه.

ولهذا قال بعض السلف (1): إن الورع ترك ما لا بأس به حذرا مما به البأس. وقد كان السلف الصالح يأخذون من ذلك بأوفر نصيب حتى كان كثير منهم تمر عليه السنون الكثيرة فلا يرى مبتسما.

ومن هذا الجنس ما حكاه صاحب (2) النبلاء (3) عن محمد بن سيرين رحمه الله أنه اشترى زيتا ليتجر بأربعين ألف درهم، فوجد في زق منه فأرة فظن أنها وقعت في المعصرة فأراق الزيت كله، ولم ينتفع بشيء منه. وروي عنه أيضًا أنه اشترى شيئا فأشرف فيه على ربح ثمانين ألف درهم فعرض في قلبه شيء فتركه. قال هشام ما هو والله بربا.

ومثله ما يروى عن بعض الأئمة من أهل البيت رضي الله عنهم أنه كان له دجاج فمر بهن حب لبيت المال فانتشر منه شيء يسير فتسابقت إليه الدجاج فأكلت منه حبات فأخرجها [12]رضي الله عنه عن ملكه وجعلها لبيت المال، وهذا الإمام هو المؤيد بالله (4) أحمد بن الحسين بن هارون - رحمه الله تعالى - ويروى عنه أيضًا أنه كان ينظر في بعض الأمور المتعلقة ببيت المال في ضوء الشمعة، فجاءت امرأته في تلك الحال فأطفأ الشمعة فظنت المرأة أنه كره النظر إليها فأخبرها أن الشمعة لبيت المال، وأنه ينظر بضوئها ما كان من الأشغال يختص ببيت المال، ولا يجوز له أن ينظر بها إلى وجه امرأته.

وكذلك روي عنه أنه كان يكتب الأمور المتعلقة ببيت المال في دروج ويغرم لبيت المال ما تبقى من البياض بين السطور يقدره ويسلم قيمته.

(1) انظر "الزهد والورع والعبادة" لابن تيمية (ص 50).

(2)

أي الذهبي في "سير أعلام النبلاء".

(3)

(4/ 609).

(4)

وانظر الأعلام (1/ 116).

ص: 2071

ويحكى عن النووي (1) - رحمه الله تعالى - أنه كان لا يأكل من ثمرات دمشق، فقيل له في ذلك فقال: إنها كانت في الأيام القديمة بأيدي جماعة من الظلمة، ولا يدري كيف كان دخولها إليهم وخروجها عنهم، أو نحو هذه العبارة.

وبالجملة فالسلف قد كان لهم في الورع مسالك يعجز عن سلوكها الخلف. وقد أرشد الشارع إلى ذلك فقال: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك". أخرجه الترمذي (2)، والحاكم (3)، وابن حبان (4)، من حديث الحسن السبط رضي الله عنهم، وصححوه جميعا.

وحديث: "استفت قلبك وإن أفتاك المفتون" أخرجه أحمد (5)، وأبو يعلى (6)، والطبراني (7)، وأبو نعيم (8) من حديث وابصة مرفوعا.

(1) انظر "طبقات الشافعية" للسبكي (5/ 165).

(2)

في "السنن" رقم (2518).

(3)

في المستدرك (2/ 13) و (4/ 99) وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.

(4)

في صحيحه رقم (722).

قلت: وأخرجه أبو داود رقم (1178) عن الحسن بن علي رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الصدق طمأنينة والكذب ريبة".

وأخرج أحمد (3/ 112) والدارمي (2/ 245) والبيهقي (5/ 335) من حديث أنس. وأورده الهيثمي في "المجمع"(10/ 152). وقال: رواه أحمد، وأبو عبد الله الأسدي لم أعرفه وبقية رجاله رجال الصحيح. والخلاصة: أن الحديث صحيح بشواهده.

(5)

في "المسند"(4/ 227 - 228).

(6)

في مسنده رقم (1586، 1587).

(7)

في "الكبير"(22 رقم 403).

(8)

في "الحلية"(2/ 24)(9/ 44). قلت: وأخرجه البخاري في "التاريخ الكبير"(1/ 145) والدارمي (2/ 245 - 246) من طريق الزبير عن أيوب ولم يسمعه منه قال حدثني جلساؤه وقد رأيته، قال الحافظ ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" (2/ 94 رقم 27): ففي إسناد هذا الحديث أمران يوجب كل منهما ضعف:

أحدهما: الانقطاع بين أيوب والزبير فإنه رواه عن قوم لم يسمعه منهم.

الثاني: ضعف الزبير هذا، قال الدارقطني "روى أحاديث مناكير"، وضعفه ابن حبان أيضًا لكن سماه أيوب بن عبد السلام، وأخطأ في اسمه". وله شواهد عند أحمد (4/ 194). وله شواهد منها في الصحيح ولذا حسنه النووي. وحسنه الألباني بمجموع طرقه.

ص: 2072

وفي الباب عن واثلة (1)، والنواس وغيرهما .. وحديث:"ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد عما عند الناس يحبك الناس" أخرجه ابن ماجه (2)، والحاكم (3) وصححه من حديث سهل بن سعد مرفوعا، وأخرجه أبو (4) نعيم من حديث أنس، ورجاله ثقات. ومن ذلك حديث:"الإثم ما حاك في صدرك، وكرهت أن يطلع عليه الناس"(5) وهو معروف، ولو لم يرد إلا حديث الشبهات المسئول عنه فإنه قد شمل ما لا يحتاج معه إلى

(1) ذكره الهيثمي في "المجمع"(1/ 175 - 176).

(2)

في "السنن" رقم (4102).

(3)

في المستدرك (4/ 313). وهو حديث ضعيف لأن مداره على خالد بن عمر. وهو ضعيف جدا، ولذلك أخرجه العقيلي في "الضعفاء" (2/ 11) وقال عقبه: وليس له من حديث الثوري أصل وقد تابعه محمد بن كثير الصنعاني، ولعله أخذ عنه، ودله، لأن المشهور به خالد هذا. وقال الحافظ في "التقريب" (1/ 216): رماه ابن معين بالكذب ونسبه صالح جزرة وغيره إلى الوضع.

(4)

في "الحلية"(8/ 41).

(5)

أخرجه مسلم في صحيحه رقم (2553) وأحمد (4/ 182) والدارمي (2/ 322) والبخاري في "الأدب المفرد"(1/ 110 - 113) والحاكم (2/ 14). من حديث النواس بن سمعان قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم، فقال:"البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس".

ص: 2073

غيره في هذا الباب ..

ولهذا عظم العلماء (1)[13] أمر هذا الحديث فعدوه رابع أربعة تدور عليها الأحكام كما نقل عن أبي داود (2) وغيره. وقد جمعها من قال (3) شعرا:

(1) قال الإمام النووي في شرحه لصحيح مسلم (11/ 27 - 30): "أجمع العلماء على عظم وقع هذا الحديث وكثرة فوائده وأنه أحد الأحاديث التي عليها مدار الإسلام، قال جماعة: هو ثلث الإسلام وأن الإسلام يدور عليه وعلى حديث "إنما الأعمال بالنية" وحديث "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه".

وقال أبو داود: يدور على أربعة أحاديث، هذه الثلاثة وحديث "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" وقيل: حديث: "ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد ما في أيدي الناس يحبك الناس".

وإنما نبه أهل العلم على عظم هذا الحديث، لأن الإنسان إنما يعتبر بطهارة قلبه وجسده، فأكثر الذم والمحظورات إنما تنبعث من القلب، فأشار صلى الله عليه وسلم لإصلاحه على أن صلاحه هو صلاح الجسد، وأنه الأصل وهذا صحيح، يؤمن به حتى من لا يؤمن بالشرع، وقد نص عليه الفلاسفة والأطباء. والأحكام والعبادات التي ينصرف الإنسان عليها بقلبه وجسمه، تقع فيها مشكلات وأمور ملتبسات التساهل فيها وتعويد النفس الجرأة عليها يكسب فساد الدين والعرض أعظم قبولا، فأخبر صلى الله عليه وسلم أن الملوك لهم حمية، لا سيما وهكذا كانت العرب تعرف في الجاهلية أن العزيز فيهم يحمي مروجا وأبنية، فلا تجاسر عليها، ولا يدنى منها، مهابة من سطوته، وخوفا من الوقوع في حوزته، وهكذا محارم الله - سبحانه - من ترك منها ما قرب فهو من متوسطها أبعد ومن تحامى طرف الشيء أمن عليه أن يتوسط، ومن طرف توسط، وهذا كله صحيح.

وانظر: "إكمال المعلم بفوائد مسلم"(5/ 285).

(2)

وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي في "جامع العلوم والحكم"(ص 6): "وعن أبي داود قال: نظرت في الحديث المسند، فإذا هو أربعة آلاف حديث، ثم نظرت فإذا مدار الأربعة آلاف حديث على أربعة أحاديث: حديث النعمان بن بشير "الحلال بين والحرام بين" وحديث عمر "إنما الأعمال بالنيات" وحديث أبي هريرة: "إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين" وحديث:"من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" قال: فكل حديث من هذه الأربعة ربع العلم".

(3)

الحافظ أبي الحسن طاهر بن مفوز المعافري الأندلسي، تلميذ أبي عمر بن عبد البر وخصيصه. كما ذكره الحافظ ابن رجب في "جامع العلوم"(1/ 63).

ص: 2074

عمدة الدين عندنا كلمات

مسندات من قول خير البرية

اترك الشبهات وازهد ودع

ما ليس يعنيك واعملن بنيه

والإشارة بقوله "ازهد" إلى الحديث المذكور قريبا. وكذلك قوله "ودع ما ليس يعنيك". أراد به الحديث المشهور بلفظ: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه"(1)، وأشار بقوله:"واعملن بنية" إلى حديث: "إنما الأعمال بالنيات"(2). والمشهور عن أبي داود أنه عد حديث "ما نهيتكم عنه فاجتنبوه"(3) مكان حديث "ازهد" المذكور. وعد حديث الشبهات بعضهم ثالث ثلاثة وحذف الثاني.

وأشار ابن العربي إلى أنه يمكن أن ينتزع من الحديث الذي نحن بصدد الكلام عليه جميع الأحكام. قال القرطبي (4) لأنه اشتمل على التفصيل بين الحلال وغيره، وعلى تعلق جميع الأعمال بالقلب، فمن هنا يمكن أن ترد جميع الأحكام إليه.

فعرفت بما أسلفنا أن الورع الذي يعد الوقوف عنده زهدا واتقاء للشبهة ليس هو ترك جميع المباحات، لأنها من الحلال المطلق، بل ترك ما كان منها مدخلا للحرام،

(1) أخرجه أحمد (1/ 201) والترمذي رقم (2318) وقال: وهكذا روى غير واحد من أصحاب الزهري، عن الزهري، عن علي بن حسين، عن النبي صلى الله عليه وسلم، نحو حديث مالك مرسلا

إلى أن قال: وعلي بن الحسين لم يدرك علي بن أبي طالب ورواه مالك في الموطأ رقم (1629) والحديث ضعيف لإرساله.

وأخرجه الترمذي رقم (2317) وابن ماجه رقم (3976) من حديث أبي هريرة. وقال الترمذي: هذا حديث غريب، لا نعرفه من حديث أبي سلمة، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من هذا الوجه. الخلاصة: أن الحديث حسن بمجموع طرقه.

(2)

أخرجه البخاري رقم (1) ومسلم رقم (1907) وأبو داود رقم (2201) والترمذي رقم (1647) والنسائي رقم (75 - 3437، 3794) وابن ماجه رقم (4227)، وأحمد (1/ 25، 43).

(3)

تقدم آنفا.

(4)

انظر المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (4/ 488 - 490).

ص: 2075

ومدرجا للآثام كالصور التي قدمناها، وما يشابهها، لا ما كان، ليس كذلك فلا وجه لجعله شبهة، وأما المكروه فجميعه شبهة، لأنه لم يأت عن الشارع أنه الحلال البين، ولا أنه الحرام البين بل هو واسطة بينهما وهو أحق شيء بإجراء اسم الشبهات عليه. والمجتهد يعرفه بالأدلة كالنهي الذي ورد ما يصرفه عن معناه الحقيقي إلى معناه المجازي، وكذلك ما تركه صلى الله عليه وآله وسلم وأظهر تركه، ولم يبين أنه حلال ولا حرام.

ويدخل تحت هذا [14] كثير من الأقسام. ومن جملة ما يصلح لتفسير الشبهات، ما لم يتبين أنه مباح بل حصل الشك فيه، لا لتعارض الأدلة، ولا لاختلاف أقوال العلماء، بل لمجرد التردد، هل سكت عنه صلى الله عليه وآله وسلم أو بينه؟.

ومن جملة ما يصلح لتفسير الشبهات، ما ورد في النهي عنه حديث ضعيف (1) لم يبلغ إلى درجة الاعتبار، ولا ظهر فيه الوضع (2)، وإنما كان من جملة الشبهات، لأن العلة التي

(1) الحديث الضعيف: هو ما لم يبلغ مرتبة الحسن ولا مرتبة الصحة المفهومة بالأولى. وذلك بفقد شرط من شروط القبول الشامل للصحيح والحسن، وهي: اتصال السند، والعدالة والضبط وفقد الشذوذ وفقد العلة القادحة والعاضد عند الاحتياج إليه.

حكم العمل بالحديث الضعيف:

قال ابن حبان في كتاب المجروحين (1/ 25): ولسنا نستجيز أن نحتج بخبر لا يصح من جهة النقل في شيء من كتبنا، ولأن فيما يصح من الأخبار بحمد الله ومنه يغني عنا عن الاحتجاج في الدين بما لا يصح منها

وانظر: منهاج السنة لابن تيمية (2/ 191)، أعلام الموقعين (1/ 31).

(2)

الحديث الموضوع: الخبر الموضوع الكذب المختلق المصنوع. أي الخبر المكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا ينسب إليه أصلا - والمصنوع - من واصفه. فتح الباقي (ص 215).

حكم العمل به: تحرم روايته مع العلم بوصفه في أي معنى كان، سواء في الأحكام والقصص والترغيب والترهيب وغير ذلك إلا أن يقرنه ببيان وضعه لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"من روى عني حديثا وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكذابين".

أخرجه أحمد (1/ 178 - الفتح الرباني) ومسلم (1/ 62 - نووي) وابن ماجه رقم (39) من حديث سمرة بن جندب. وأخرجه أحمد (1/ 178 - الفتح الرباني) ومسلم (1/ 62 - نووي) وابن ماجه رقم (41) من حديث المغيرة بن شعبة. وأخرجه ابن ماجه رقم (40) من حديث المغيرة بن شعبة.

ص: 2076

ضعف بها لا توجب الحكم عليه أنه ليس من الشريعة، فإن العلة إن كانت مثلا ضعف الحفظ، أو الإرسال، أو الإعضال، أو نحو ذلك من العلل الخفية، فضعيف الحفظ لا يمتنع أن يحفظ في بعض الأحوال (1) ...................................

(1) بل قد ذكر الشوكاني في "وبل الغمام على شفاء الأوام"(1/ 53 - 56): وقد سوغ بعض أهل العلم العمل بالضعيف في ذلك مطلقا، وبعضهم منع من العمل بما لم تقم به الحجة مطلقا وهو الحق، لأن الأحكام الشرعية متساوية الأقدام، فلا يحل أن ينسب إلى الشرع ما لم يثبت كونه شرعا، لأن ذلك من التقول على الله بما لم يقل، وما كان في فضائل الأعمال إذا جعل ذلك العمل منسوبا إليه نسبة المدلول إلى الدليل، فلا ريب أن العمل به وإن كان لم يفعل إلا الخير من صلاة أو صيام أو ذكر، لكنه مبتدع في ذلك الفعل، من حديث يجوز اعتقاد مشروعية ما ليس بشرع، وأجر ذلك العمل لا يوازي وزر الابتداع، فلم يكن فعل، ما لم تثبت له مصلحة خالصة، بل معارضة بمفسدة، هي إثم البدعة ودفع المفاسد أهم من جلب المصالح، ثم مثل هذا مما يندرج تحت عموم حديث "كل بدعة ضلالة".

وقيل: إن كان ذلك العمل الفاضل الذي دل عليه الحديث الضعيف داخلا تحت عموم صحيح يدل على فضله ساغ العمل بالحديث الضعيف في ذلك، وإلا فلا، مثلا: لو ورد حديث ضعيف يدل على فضيلة صلاة ركعتين غير وقت الكراهة، فلا بأس بصلاة تلك الركعتين لأنه قد دل الدليل العام على فضيلة الصلاة مطلقا، إلا ما خص، ويقال: إن كان العمل بذلك العام الصحيح، فلا ثمرة للاعتداد بالخاص الذي لم يثبت إلا مجرد الوقوع في البدعة، وإن كان العمل بالخاص، عاد الكلام الأول، وإن كان العمل بمنهي عنهما، كان فعل الطاعة مشوبا بفعل بدعة، من حيث إثبات عبادة شرعية دون شرع، هذا إذا قيل باستقلال كل واحد من العام والخاص في الاستدلال به على فعل الطاعة، وإن كان كل واحد منهما غير مستقل، بل الدلالة باعتبار المجموع، ولا يصلح أحدهما منفردا، فيقال: فالعام الذي زعم الزاعم أنه يدل على تلك الطاعة، لا دلالة عليها على انفراده، إنما هو جزء دليل، فلا تتم دعوى اندراج الطاعة تحت عام يدل عليها، وعجز الدليل الآخر لا يصلح للدلالة مطلقا، ففاعل الطاعة لم يفعلها بمجرد دلالة العموم عليها، بل بها، ولشيء آخر لم يثبت، فكان مبتدعا في هذا الإثبات فلا خروج عن الإثم الناشئ عن البدعة إلا مع قطع النظر عن الاستدلال بالدليل الذي لم يثبت، ونسبة الدلالة إلى العام استقلالا إن وجد وإن لم يوجد، فلا يحل العمل بما لم يبلغ الحد المعتبر، وتخيل كون مدلوله طاعة باطل. لأن الجزم بأن هذا الفعل معصية لا يثبت إلا بشرع صحيح لوجه من الوجوه ومن زعم أن وصف الفعل يكون طاعة تثبت بما لم يثبت، فليطلب من الدليل على ما زعمه". اهـ

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في "منهاج السنة النبوية"(2/ 191): "وأما نحن فقولنا، إن الحديث الضعيف خير من الرأي: ليس المراد به الضعيف المتروك، لكن المراد به الحسن، كحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وحديث إبراهيم الهجري، وأمثالها ممن يحسن الترمذي حديثه أو يصححه وكان الحديث في اصطلاح من قبل الترمذي: إما صحيحا، وإما ضعيفا، والضعيف نوعان: ضعيف متروك، وضعيف ليس بمتروك، فتكلم أئمة الحديث بذلك الاصطلاح فجاء من لا يعرف إلا اصطلاح الترمذي فسمع قول بعض الأئمة: الحديث الضعيف أحب إلي من القياس، فظن أنه يحتج بالحديث الذي يضعفه مثل الترمذي وأخذ يرجح طريقة من يرى أنه أتبع للحديث الصحيح، وهو في ذلك من المتناقضين، الذين يرجحون الشيء على ما هو أولى بالرجحان منه إن لم يكن دونه". اهـ.

ص: 2077

والمرسل (1) أو المعضل (2) قد يكون صحيحا. وكذلك ما كان فيه التدليس (3) ونحوه،

(1) تقدم تعريفه وبيان الحكم به.

(2)

المعضل: هو ما سقط من إسناده اثنان فصاعدا، بشرط التوالي، كقول مالك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقول الشافعي: قال ابن عمر. انظر: شرح منظومة البيقونية (ص 100).

(3)

وهو أن يروي الراوي حديثا عمن لم يسمعه منه. وهو أنواع:

1 -

تدليس الإسناد: وهو أن يروي عمن لقيه ما لم يسمعه منه، موهما أنه سمعه، وقد يكون بينهما واحد أو أكثر، ومن شأنه أنه لا يقول في ذلك: أخبرنا فلان، ولا: حدثنا. وإنما يقول: قال فلان، أو عن فلان ونحو ذلك.

2 -

تدليس الشيوخ: وهو أن يروي عن شيخ حديثا سمعه منه، فيسميه أو يكنيه، أو ينسبه، أو يصفه بما لا يعرف به كي لا يعرف.

3 -

تدليس التسوية: وهو أن يجيء المدلس إلى حديث سمعه من شيخ ثقة وقد سمعه ذلك الشيخ الثقة من شيخ ضعيف، وذلك الشيخ الضعيف يرويه عن شيخ ثقة، فيعمد المدلس الذي سمع الحديث من الثقة الأول، فيسقط منه شيخ شيخه لضعفه، ويجعله من رواية شيخه الثقة عن الثقة الثاني. بلفظ محتمل، كالعنعنة ونحوها. فيصير الإسناد كله ثقات، ويصرح هو بالاتصال بينه وبين شيخه، لأنه قد سمعه منه، فلا يظهر حينئذ في الإسناد ما يقتضي عدم قبوله إلا لأهل النقد والمعرفة بالعلل، ولذلك كان شر أقسام التدليس، ويتلوه الأول ثم الثاني.

"الاقتراح في بيان الاصطلاح"(ص 217 - 220)"تدريب الراوي"(1/ 231).

ص: 2078

ومثل ذلك أحاديث أهل البدع، فهذا القسم والذي قبله وإن لم أقف على من يقول أنهما من جملة الشبهات فهما عندي من أعظمها، لأن أقل أحوال الحديث الضعيف لعلة من تلك العلل أن يكون مشكوكا فيه، ومثله الشك في الإباحة.

وقد ثبت في الحديث الذي نحن بصدد الكلام عليه أنه قال صلى الله عليه وآله وسلم: "ومن اجترأ على ما شك فيه من الإثم، أو شك أن يواقع ما استبان"(1).

فالحاصل أن المشتبهات التي قال فيها صلى الله عليه وآله وسلم: "والمؤمنون وقافون عند الشبهات" هي أقسام:

الأول: ما تعارضت أدلته ولم يظهر الجمع ولا الترجيح، وهذا بالنسبة إلى المجتهد.

القسم الثاني: ما اختلف فيه العلماء على وجه يوقع الشك في قلب المقلد، لا ما كان قد اتفق عليه جمهور أهل العلم، وشذ فيه المخالف على وجه لا يكون لخلافه تأثير في اعتقاد المقلد، وهذا القسم إنما يكون في المقلد كما سبق.

القسم الثالث: بعض المباح، وهو ما يكون في بعض الأحوال ذريعة إلى الحرام، أو وسيلة إلى [15] ترك الواجب، أو مجاوزا لواحد منهما على وجه يكون الإكثار منه مفضيا إلى فعل الحرام، أو ترك الواجب ولو نادرا. وهذا يكون من الشبهات للمقلد والمجتهد، لكن المجتهد يعرف كونه مباحا، ووسيلة إلى فعل محرم أو ترك واجب بالدليل، والمقلد يعرف ذلك بأقوال العلماء.

(1) أخرجه البخاري رقم (2051).

ص: 2079

القسم الرابع: المكروهات بأسرها؛ فإنها مشتبهات بالنسبة إلى المجتهد، وبالنسبة إلى المقلد بالاعتبارين المذكورين في القسم الثالث.

القسم الخامس: ما حصل الشك في كونه مباحا أم لا.

القسم السادس: ما ورد في النهي عنه حديث ضعيف.

وهذان القسمان كما يكونان شبهة للمجتهد يكونان أيضًا شبهة للمقلد بتنزيل شك إمامه بمنزلة شكه، وبتنزيل الرواية الضعيفة عن إمامه بمنزلة الرواية الضعيفة في الحديث بالنسبة إلى المجتهد. وقد تقدم الوجه لكل واحد من هذه الصور التي فسرنا بها المشتبهات.

ومن جملة ما يكون بمنزلة الحديث الضعيف باعتبار المجتهد القياس (1) إذا كان بمسلك من المسالك التي لم يقل بها إلا بعض أهل العلم، وكثر النزاع فيها تصحيحا، وإبطالا، واستدلالا، وردا، فإنه إذا اقتضى مثل هذا القياس تحريم شيء مثلا، وكان المجتهد مترددا في وجوب العمل بهذا المسلك فلا ريب أن ذلك التحريم الثابت به من جملة الشبهات وكذلك التحليل الثابت به على التفصيل الذي قدمنا، فإذا كان الاحتياط في الترك فهو الورع، وإن كان الاحتياط في الفعل فكذلك. ومثل ذلك الأحكام المستفادة من التلازم، ومن الاستحسان لضعفهما، والأحكام المستفادة من بعض المفاهيم كاللقب، والأحكام المستفادة من تعميم بعض الصيغ التي وقع النزاع في عمومها، كالمصدر المضاف.

وبالجملة، فالعالم المحقق العارف بعلوم [16] الاجتهاد لا يخفى عليه الفرق بين الأحكام المأخوذة من المدارك القوية، والأحكام المأخوذة من المدارك الضعيفة، فهذا الذي ذكرناه يلحق بالقسم السادس، فكانت الأمور المشتبهة منحصرة في هذه الأقسام التي ذكرناها، ومن أمعن النظر وجد ما عداه لا يخرج عن كونه إما من الحلال البين، أو الحرام البين، فاحرص على هذا التحقيق؛ فإنه بالقبول حقيق، وما أظنك تجده في غير

(1) انظر "إرشاد الفحول"(ص 736). "تيسير التحرير"(4/ 103). "المسودة"(ص 399).

ص: 2080

هذا الموضع، واضمم إليه ما قدمنا في الضابط في كيفية الورع، والوقوف عند الشبهة إن كان أحد الدليلين يدل على التحريم أو الكراهة، والآخر على الجواز، إلى آخر ما تقدم هناك فإنك إذا ضممته إلى هذه الأقسام الستة المذكورة هنا، وتذكرت ما سبق من الاستدلال على كل قسم منها أنه من المشتبه لم يبق معك ريب في معرفة الفرق بين الحلال والحرام والمشتبه.

البحث الثالث: من أبحاث الجواب في الكلام على الصور التي ذكرها السائل - دامت فوائده - في سؤاله.

قال - عافاه الله تعالى -: هل المراد بالحلال والحرام والشبه فيما يتعلق بأفعال الآدميين، وسائر ما يباشرونه من المأكولات والمشروبات والمنكوحات، وسائر ما يتعلق به [من](1) الإنشاءات والمعاملات؟.

أقول: نعم الشبه تكون في جميع هذه الأمور التي ذكرها، وقد تقدم التمثيل للمأكولات والمشروبات بلحم الخيل والضبع، وللمشروبات بالنبيذ والمثلث، ومثاله في المنكوحات للمجتهد إذا تعارض عليه الأدلة في تحريم نكاح الرضيعة التي أخبرت بوقوع الرضاع بينها وبين من أراد نكاحها المرضعة نفسها. فلم يترجح لديه أحد الدليلين، أعني: دليل قبول قولها، ووجوب العمل به لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:"كيف وقد قيل"(2)، ودليل عدم قبول شهادتها لكونها لتقرير فعلها. وكذلك المقلد إذا اختلف قول من يقلده في العمل بذلك، وعدم العمل به، فلا شك أن الإقدام على النكاح هاهنا

(1) زيادة استلزمها السياق.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه رقم (88) و (1947 و2497، 2516، 2517، 4816) وأحمد (4/ 7) وأبو داود رقم (3603) و (3604) والترمذي (1151) والنسائي رقم (3330) عن عقبة بن الحارث أنه تزوج ابنة لأبي أهاب بن عزيز، فأتته امرأة فقالت: إني قد أرضعت عقبة والتي تزوج، فقال لها عقبة: ما أعلم أنك أرضعتني ولا أخبرتني، فركب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة فسأله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"كيف وقد قيل؟! " ففارقها عقبة، ونكحت زوجا غيره.

ص: 2081

إقدام على أمر مشتبه، والورع الوقوف عند الشبهات.

ومثاله في الإنشاءات العقود الفاسدة إذا تعارض على المجتهد أدلة جواز الدخول فيها، وأدلة [17] عدم الجواز، وكذلك المقلد إذا اختلف قول من يقلده فلا شك أن الدخول في العقود الفاسدة من هذه الحيثية إقدام على أمر مشتبه، والورع الوقوف. وكذلك المعاملات: كالمعاملة ببيع النساء إذا تعارضت الأدلة في جوازه على المجتهد، واختلفت على المقلد أقوال من يقلده، فالأمر كذلك.

قال - عافاه الله -: وما المراد بالاتقاء للشبهة في ذلك؟ وما تمثيله؟ فهل المراد مثلا ما وقع لبعض العلماء أنه وقع نهب أموال في جهة من جهات الإسلام، بالقرب من بلده، فترك جميع المأكولات من اللحم والحب وسائر ما جلب إلى محله، واقتصر على أكل العشب سنة، وقد مقت عليه كثير من علماء عصره؟ ذكره ابن القيم، أو معناه في الكلم الطيب (1) .. انتهى.

أقول: لا شك أن ما كان مظنة للاختلاط بمثل تلك الأموال المنهوبة فاجتنابه الشبه الذي هو شأن أهل الورع، والإقدام عليه من الإقدام على الأمور المشتبهة، ولكن مع تجويز الاختلاط، وليس مثل ذلك من الغلو، ولا مما يكون ممقوتا على فاعله، لكن عدول هذا المتورع إلى أكل العشب لا شك أنه من الغلو (2) في الدين، .............

(1)(ص 18 - 19).

(2)

الغلو في اللغة: "الارتفاع ومجاوزة قدر، يقال: غلا السعر يغلو غلاء وذلك ارتفاعه، وغلا الرجل في الأمر غلوا إذا جاوز حده". "معجم مقاييس اللغة" مادة (غلوي)(ص 812).

قال ابن تيمية في "اقتضاء الصراط المستقيم"(1/ 289): "الغلو: مجاوزة الحد، بأن يزاد في الشيء، في حمده أو ذمه على ما يستحق ونحو ذلك".

قال الحافظ في "الفتح"(13/ 278) الغلو: المبالغة في الشيء والتشديد فيه بتجاوز الحد.

قال ابن القيم في "مدارج السالكين"(2/ 496): "ما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزعتان: إما إلى تفريط وإضاعة، وإما إلى إفراط وغلو، ودين الله وسط بين الجافي عنه والغالي فيه، كالوادي بين الجبلين والهدى بين ضلالتين، والوسط بين طرفين ذميمين فكما أن الجاني عن الأمر مضيع له، فالغالي فيه مضيع له، هذا بتقصيره عن الحد، وهذا بتجاوزه الحد".

ص: 2082

والتضييق على النفس (1)، لأنه إذا كان في مدينة من المدائن، أو قرية من القرى فلا ريب أن الحلال موجود غير معدوم، يمكن استخراجه بإخفاء السؤال والمبالغة في البحث، ولا بد أن يوجد من هو بمحل من العدالة فيكون قوله مقبولا إذا قال ليس هذا الطعام الذي عندي أو الذي عند فلان من المال المنهوب، ثم لو فرضنا أنه لم يبق في ذلك المحل من يعمل بقوله، وكان المال المنهوب قد دخل منه على كل أحد نصيب، فلا يعدم الإنسان في غير ذلك المحل ما يسد به رمقه مما لم يختلط بالطعام المنهوب، كما كان يفعل النووي رحمه الله فإنه كان يتقوت مما يرسل به إليه والده من بلاده التي هي وطنه ومنشؤه، نعم إذا لم يكن لهذا المتورع قدرة [18] على استخراج ما هو خالص عن شائبة الحرام من أهل بلده، ولا يتمكن من استخراجه من غير بلاده، واختلط المعروف بالإنكار، ولم يبق له إلى الحلال المطلق سبيل، وكان ذلك الاشتباه والاختلاط واقعا في نفس الأمر على مقتضى الشرع، ولم يكن ناشئا عن الوسوسة التي هي من مقدمات الجنون، كما نشاهده في وسوسة من ابتلي بالشك في الطهارة فلا بأس بعدوله إلى أكل العشب، بشرط عدم تجويز الضرر والاقتدار على سد الرمق منه، ولا ريب أن هذا هو ورع الورع، وزهد الزاهد. وأما مع تجويز الضرر أو مع الاقتدار على سد الرمق منه فقد

(1) أخرج البخاري رقم (5063) ومسلم رقم (1401) عن أنس رضي الله عنه قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، يسالون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا كأنهم تقالوها، وقالوا: أين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم، قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبدا، وقال الآخر: وأنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال الآخر: وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا. فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فقال: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله تعالى وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني".

ص: 2083

أباح له الشرع أن يتناول من المال الحرام البحت ما يسد به رمقه (1)، فكيف بما لم يكن من الحرام البحت، بل كان حلالا مختلطا بالحرام!.

قال - عافاه الله -: ومثلا لو علم أن له في صنعاء محرما، أو رضيعة فنقول: لا يجوز له الإقدام إلى تزوج امرأة على ظاهر الحديث، وإن غلب على الظن كونها غير رحمه. انتهى.

أقول: إذا كانت الرضيعة المذكورة في تلك البلدة بيقين، وكذلك المحرم فإن كان من فيها من النساء منحصرات بحيث يضطرب الظن، ويختلج الشك في كون المرأة التي أراد نكاحها قد تكون هي المحرم أو الرضيعة فالتجنب لنكاح نسوة ذلك المحل ليس من اتقاء الشبهة بل من اتقاء الحرام غير المجوز، فلا يجوز الإقدام، وإن كان من في ذلك المحل من النساء غير منحصرات (2) بحيث لا يحصل للناكح ظن أن المنكوحة هي المحرم أو الرضيعة

(1) لقوله تعالى: (وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه)[الأنعام: 119]. وقال تعالى: (فمن اضطر غير باغ ولا عاد)[البقرة: 173].

(2)

قال القاضي عياض في "إكمال المعلم بفوائد مسلم"(5/ 286 - 287): "

وقد يكون هذا الشك له مستند ولكن الشرع عفا عنه لعظم الضرورة، كمن تحقق أن امرأة أرضعت معه والتبست عليه بنساء العالم، فإنا إن قطعنا عليه شهوته وحرمنا عليه نساء العالم جملة كان ذلك إضرارا عظيما وكلهن محلل، فلا يغلب حكم محرمة واحدة على مائتي ألوف محللات، ولو اختلطت هذه الرضيعة بنساء محصورات لنهي عن التزوج منهن، لأن الشك هاهنا له مستند وهو العلم بأن هناك رضيعة وقد شك في عينها وله قدرة على تحصيل غرضه، مع القطع بسلامته من الوقوع في الحرام بأن يتزوج من نساء قوم آخرين، وليس من الحرام في الدين أن يكون له طريقان في تحصيل غرضه:

أحدهما: محلل هو أسهل وأكثر، فإن وقع فيه قطع على عين التحليل.

ثانيهما: أقل وأندر وإن وقع فيه خاف أن يقع في عين الحرام، فيعدل عن المتحلل بما يجوز أن يكون محرما.

وبهذا فارقت هذه المسألة التي قبلها، لأنه متى اختلطت بنساء العالم لم يقدر على تحصيل غرضه بطريق أخرى. فوجب ألا يكون للشك تأثير. وإنما ارتبك بهذه المسألة طريقة تسلكها، وإلا فمسائل هذا النوع لا تحصى كثرة، ولكن أصول جميعها لا تنفك عن الأصول التي مهدت لها، وقد يقل الضرر بالتحريم في بعض المسائل ويعظم في أخرى ويتضح كون الشك له مستند في بعض المسائل وتخفى في أخرى، وقد تكثر أصول بعض المسائل، وقد تتضح مساواة الفرع للأصل وقد تخفى

". وانظر: "المفهم" (4/ 490 - 492).

ص: 2084

فالاجتناب للنكاح من ذلك المحل هو الورع، وهو نفس اتقاء الشبهة، لأن الحلال البين هو نكاح من عدا الرضيعة أو المحرم من نساء البلد، والحرام البين هو الرضيعة أو المحرم، فمجموع من في البلد من الرضيعة وغيرها والمحرم وغيرها واسطة [19] بين الحلال والحرام، وما كان واسطة فهو المشتبه الذي يقف المؤمنون عنده. فهذا المثال هو من جملتها يصلح للتمثيل به لما نحن بصدده.

قال - عافاه الله -: أو يكون تمثيل اتقاء الشبه بأنه لا يقدم على الفعل المباح أو المندوب خوفا من عدم القيام بالواجب، أو فعل المحظور لو ترك التزوج بزائد على الواحدة خوفا من الميل عن أحد الضرتين، لأنه لا يأمن على نفسه تعدي الحمى الوارد في متن الحديث:"ألا وإن حمى الله محارمه". فنقول على هذا ينبغي عدم التزوج بزيادة على الواحدة، لا سيما مع ورود الدليل القرآني بقوله تعالى:{ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء} الآية (1) انتهى.

أقول: نكاح ما فوق الواحدة من النساء إلى حد الأربع هو من الحلال البين بنص القرآن الكريم (2)، وتجويز عدم العدل في الجملة حاصل لكل فرد من أفراد العباد، ولهذا

(1)[النساء: 129].

(2)

قال تعالى: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع} [النساء: 3]. ونص الحديث النبوي.

منها: ما أخرجه الترمذي في صحيحه رقم (1128) وابن ماجه رقم (1953) وأحمد (2/ 13) والحاكم (4/ 192 - 193) وابن حبان في صحيحه رقم (1277) قال صلى الله عليه وسلم لغيلان لما أسلم وتحته عشر نسوة: "أمسك أربعا وفارق سائرهن". وهو حديث صحيح.

ومنها: ما أخرجه أبو داود رقم (2241) وابن ماجه رقم (1952) والبيهقي (7/ 183) من حديث الحارث بن قيس، وبعضهم يسميه: قيس بن الحارث، قال: أسلمت وعندي ثمان نسوة، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال:"اختر منهن أربعا". وهو حديث حسن بمجموع طرقه.

ص: 2085

يقول الله تعالى: {ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء} (1). ولكن المحرم هو أن يميل كل الميل (2)، وهذا لا يجوزه الإنسان من نفسه قبل الوقوع فيه، لأن أسباب الميل متوقفة على الجمع بين الزوجين فصاعدا، ولو كان مجرد إمكان الميل شبهة من الشبهات التي يتقيها أهل الإيمان لكان نكاح الواحدة أيضًا مما ينبغي اجتنابه لإمكان أن لا يقوم بما يجب لها من حسن العشرة، وكذلك إمكان الافتتان بما يحصل له منها من الأولاد، ولكان أيضًا ملك المال الحلال من هذا القبيل لإمكان أن لا يقوم بما يجب عليه فيه من الزكاة ونحوها، ونحو ذلك من الصور التي لا خلاف في كونها من الحلال الذي لا شبهة فيه.

نعم إذا كان الرجل مثلا قد جمع بين الضرائر، وعرف من نفسه أنه يميل كل الميل (3)، ثم فارقهن جميعا أو بقيت واحدة تحته، ثم أراد بعد ذلك أن يجمع بين اثنتين

(1)[النساء: 129].

(2)

يشير إلى الحديث الذي أخرجه أحمد (2/ 347) وأبو داود رقم (2133) والترمذي رقم (1141) والنسائي (7/ 63) وابن ماجه رقم (1969) وابن الجارود رقم (722) والحاكم (2/ 186) وقال: صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي.

من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كانت له امرأتان، فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وأحد شقيه مائل". وهو حديث صحيح.

(3)

العدل بين الزوجات واجب للحديث المتقدم ولكن هذا العدل المطلوب هو العدل الظاهر المقدور عليه

قال صلى الله عليه وسلم: "اللهم إن هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك" من حديث عائشة رضي الله عنها.

وهو حديث صحيح، أخرجه أبو داود رقم (2134) والترمذي رقم (1140) وابن ماجه رقم (1969) والنسائي رقم (8/ 64).

ص: 2086

فصاعدا فلا ريب أن ذلك من المباح أو المندوب، الذي يكون ذريعة إلى الحرام، فهو مندرج تحت القسم الثالث من الأقسام الستة التي أسلفنا ذكرها. وهذا على فرض أن الواحدة تعفه وتحصن [20] فرجه، فإن كان لا يعفه إلا أكثر من واحدة مع تجويزه للميل الذي قد عرفه من نفسه فعليه أن يفعل ما هو أقل مفسدة لديه في غالب ظنه باعتبار الشرع. وبعد هذا فلا أحب لمن كان لا يحتاج إلى زيادة على الواحدة أن يضم إليها أخرى، إلا إذا كان واثقا من نفسه بعدم الميل، وعدم الاشتغال عما هو أولى به من أفعال الخير، وعدم طموح نفسه إلى التكثر من الاكتساب، واستغراق الأوقات فيه، أو الاحتياج إلى الناس، فلا ريب أن اتساع دائرة الأهل والولد وكثرة العائلة من أعظم أسباب إجهاد النفس في طلب الدنيا، والاحتياج إلى ما في يد أهلها، ولا سيما في هذه الأزمنة التي هي مقدمات القيامة، بل قد ثبت في الأحاديث (1) الصحيحة ما يفيد أولوية

(1) منها ما أخرجه مسلم في صحيحه رقم (2965) عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي".

ومنها: ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2786) ومسلم (1888) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رجل: أي الناس أفضل يا رسول الله؟ قال: "مؤمن مجاهد بنفسه وماله في سبيل الله" قال: ثم من؟ قال: "ثم رجل معتزل في شعب من الشعاب يعبد ربه".

ومنها: ما أخرجه مسلم في صحيحه رقم (1889) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من خير معاش الناس لهم رجل ممسك عنان فرسه في سبيل الله، يطير على متنه، كلما سمع هيعة أو خزعة، طار عليه يبتغي القتل والموت مظانه، أو رجل في غنيمة في رأس شعفة من هذه الشعف، أو في بطن واد من هذه الأودية، يقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويعبد ربه حتى يأتيه اليقين، ليس من الناس إلا في خير".

ومنها: ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (7088) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال، ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن".

ص: 2087

التعزب والاعتزال في آخر الزمان. وقد جمع السيد الإمام محمد بن إبراهيم الوزير في ذلك مصنفا (1) نفيسا وذكر فيه نحو خمسين دليلا، ولا بد من تقييد هذه الأولوية بالأمن من الفتنة (2) التي هي أشد من فتنة التعزب كالوقوع في الحرام.

قال - عافاه الله تعالى -: أو يكون اتقاء الشبه عاما في الأفعال والاعتقادات والعبادات لعدم تفسير المتشابه مثلا ورده إلى المحكم خوفا من الدخول في شبه من فسر القرآن برأيه الوارد النهي عنه (3)، والتوقف عن الخوض في الصفات ونحوها مما يتعلق بأفعال المكلفين من القدر والإرادات والحكم فيها، هل هي مخلوقة للخالق أو محدثة من المخلوق؟ وغيرها من سائر ما ذكره المتكلمون من أهل هذه المقالات؟ انتهى.

أقول: اتقاء الشبه هو عام في جميع ما ذكره، أو في الأفعال والعبادات فظاهر، وقد سبق مثاله. وأما في الاعتقادات فكذلك؛ فإن الأدلة إذا تعارضت على المجتهد في شيء من مسائل الاعتقاد ولم يترجح له أحد الطرفين، ولا أمكنه الجمع، كان الاعتقاد شبهة، والمؤمنون وقافون عند الشبهات. ومن هذا القبيل المسائل المدونة في علم الكلام المسمى بأصول الدين؛ فإن غالبها [21] أدلتها متعارضة، ويكفي المتقي المتحري لدينه أن يؤمن بما جاءت به الشريعة إجمالا من دون تكلف لقائل، ولا تعسف لقال وقيل، وقد كان هذا المسلك القويم هو مسلك السلف الصالح من الصحابة والتابعين، فلم يكلف الله أحدا من عباده أن يعتقد أنه جل جلاله متصف (4) بغير ما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله صلى الله عليه وآله وسلم. ومن زعم أن الله - سبحانه - تعبد عباده بأن يعتقدوا أن صفاته الشريفة كائنة على الصفة التي تختارها طائفة من طوائف المتكلمين فقد

(1) بعنوان: "الأمر بالعزلة في آخر الزمان" تحقيق وتخريج محمد صبحي بن حسن حلاق.

(2)

قال تعالى: (ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين)[الذاريات: 50].

(3)

تقدم تخريجه وهو حديث ضعيف.

(4)

انظر الرسالة رقم (1)، (2) من الفتح الرباني القسم الأول منه.

ص: 2088

أعظم على الله الفرية، بلى كلف عباده أن يعتقدوا أنه {ليس كمثله شيء} (1). وأنهم {ولا يحيطون به علما} (2)، ولقد تعجرف (3) بعض علماء الكلام بما ينكره عليه جميع الأعلام، فأقسم بالله أن الله تعالى لا يعلم من نفسه غير ما يعلمه هذا المتعجرف (4). فيا لله هذا الإقدام الفظيع، والتجاري الشنيع! وأنا أقسم بالله أنه قد حنث في قسمه، وباء بإثمه، وخالف قول من أقسم به في محكم كتابه {ولا يحيطون به علما} (5)، بل أقسم بالله أن هذا المتعجرف لا يعلم حقيقة نفسه، وماهية ذاته على التحقيق، فكيف يعلم بحقيقة غيره من المخلوقين! فضلا عن حقيقة الخالق تبارك وتعالى.

وهكذا سائر المسائل الكلامية، فإنها مبنية في الغالب على دلائل عقلية هي عند التحقيق غير عقلية، ولو كانت معقولة على وجه الصحة لما كانت كل طائفة تزعم أن العقل يقضي بما دبت عليه ودرجت، واعتقدته حتى ترى هذا يعتقد كذا، وهذا يعتقد نقيضه، وكل واحد منهما يزعم أن العقل يقتضي ما يعتقده. وحاشا العقل الصحيح السالم عن تغيير ما فطره الله عليه أن يتعقل الشيء ونقيضه، فإن اجتماع النقيضين محال عند جميع العقلاء، فكيف تقتضي عقول بعض العقلاء أحد النقيضين! وعقول البعض الآخر النقيض الآخر بعد ذلك الاجتماع! وهل هذا إلا من الغلط البحت الناشئ عن العصبية ومحبة ما نشأ عليه الإنسان. ومن الافتراء البين على دليل العقل ما هو عنه بريء، وأنت إن كنت تشك في هذا فراجع كتب الكلام وانظر المسائل التي قد صارت

(1)[الشورى: 11].

(2)

[طه: 110].

(3)

انظر رسالة التحف في الإرشاد إلى مذاهب السلف رقم (3) المتعجرف هو أبو علي الجبائي من أئمة المعتزلة.

(4)

انظر رسالة التحف في الإرشاد إلى مذاهب السلف رقم (3) المتعجرف هو أبو علي الجبائي من أئمة المعتزلة.

(5)

[طه: 110].

ص: 2089

عند أهله معدودة في المراكز كمسألة التحسين والتقبيح [22]، وخلق الأفعال وتكليف ما لا يطاق، ومسألة خلق القرآن، ونحو ذلك؛ فإنك تجد ما حكيته لك بعينه إن لم تقلد طائفة من الطوائف، بل تنظر كلام كل طائفة من كتبها التي دونتها، فاجمع مثلا بين مؤلفات المعتزلة (1) والأشعرية (2) والماتريدية (3)، وانظر ماذا ترى.

ومن أعظم الأدلة الدالة على خطر النظر في كثير من مسائل الكلام أنك لا ترى رجلا أفرغ فيه وسعه، وطول في تحقيقه باعه إلا رأيته عند بلوغ النهاية، والوصول إلى ما هو منه الغاية يقرع على ما أنفق في تحصيله سن الندامة، ويرجع على نفسه في غالب الأحوال بالملامة، ويتمنى دين العجائز، ويفر من تلك الهزاهز كما وقع من الجويني، والرازي، وابن أبي الحديد، والشهرزوري (4)، والغزالي، وأمثالهم ممن لا يأتي عليه الحصر؛ فإن كلماتهم نظما ونثرا في الندامة على ما جنوا به على أنفسهم مدونة في مؤلفات الثقات. هذا وقد خضع لهم في هذا الفن الموالف والمخالف، واعترف لهم بمعرفته القريب والبعيد.

نعم أصول الدين الذي هو عمدة المتقين ما في كتاب الله تعالى الذي لا يأتيه الباطل

(1) تقدم التعريف بها.

(2)

تقدم التعريف بها (ص 151).

(3)

تقدم التعريف بها (ص 722).

(4)

كذا في المخطوط ولعله (السهروردي). هو عبد القاهر بن عبد الله بن محمد البكري الصديقي، أبو النجيب السهروردي ففيه شافعي واعظ (490 هـ - 563 هـ). من أئمة المتصوفين ولد بسهرورد، وسكن بغداد توفي ببغداد سنة 563 هـ. له "آداب المريدين"، شرح الأسماء الحسنى، "غريب المصابيح". الأعلام (4/ 48)، بغية الوعاة (310).

ص: 2090

من بين يديه ولا من خلفه، وما في السنة المطهرة، فإن وجدت فيهما ما يكون مختلفا في الظاهر فليسعك ما وسع خير القرون (1)، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، وهو الإيمان بما ورد كما ورد، ورد علم المتشابه إلى علام الغيوب، ومن لم يسعه ما وسعهم فلا وسع الله عليه. ولتعلم - أرشدني الله وإياك - أني لم أقل هذا عن تقليد لبعض من أرشد إلى ترك الاشتغال بدقائق هذا الفن كما وقع لجماعة من محققي العلماء، بل قلت هذا بعد تضييع برهة من العمر في الاشتغال به، وإحفاء السؤال لمن يعرفه، والأخذ عن المشهورين به، والإكباب على مطالعة كثير من مختصراته ومطولاته، حتى قلت (2) عند الوقوف على حقيقته من أبيات منها:

وغاية ما حصلت من مباحثي

ومن نظري من بعد طول التدبر

هو الوقف ما بين الطريقين حيرة

فما علم من لم يلق غير التحير

وأقل أحوال النظر في ذلك أن يكون من المشتبهات التي أمرنا بالوقوف عندها [23]، ومن جملة المشتبهات النظر في المتشابه من كتاب الله - سبحانه -، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وتكلف علمه، والوقوف على حقيقته، على أنه لا يبعد أن يقال: قد بين الله في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أنه مما لا يحل الإقدام عليه، وأنه مما استأثر بعلمه. وقد كان السلف الصالح يتحرجون من ذلك، وينعون على من اشتغل به فعله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم. وللصحابة الذين هم خير القرون، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم من الكلام المشتمل على التنفير من ذلك ما لو جمع لكان مؤلفا حافلا.

قال - كثر الله فوائده - وكعدم سجود التلاوة في الصلاة حيث يقول مثلا الشافعي: سجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم للتلاوة في صلاة الفجر (3)، فيقول المخالف له:

(1) تقدم تخريجه (ص 255، 840).

(2)

أي الشوكاني. انظر ديوانه (ص 189).

(3)

تقدم في بداية الرسالة.

ص: 2091

[هذه](1) زيادة على القطعي، وهي لا تقبل إلا بدليل قطعي كحكم النقصان من المقطوع به، فإنه لم ينقص عنه إلا بدليل قطعي كقوله تعالى:{فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة} (2) فهل هذا الذي يقول بعدمه ممن اتقى الشبهات أم لا؟ وهل يدخل في ذلك المقلد بتقليد إمامه أنه مثلا قد اتقى الشبهة بسنية السجود أو عدمه؟ أم هو باق في من لم يتق هذه الشبهة؟ انتهى.

أقول: قدمنا في ذكر الأقسام التي فسرنا بها المتشابه أن اختلاف أقوال أهل العلم لا يكون شبهة إلا في حق المقلد، لا في حق المجتهد. فالشبهة عنده تعارض الأدلة على وجه لا يمكنه الجمع ولا الترجيح، فهذه المسألة المذكورة إن تعارضت أدلتها على المجتهد على وجه لا يمكنه ترجيح أدلة فعل السجود، وأدلة الترك، وتعذر عليه الجمع فلا ريب أنه يقف عند ذلك، ويترك السجود، لأنه لا يكون مسنونا في حقه إلا بعد انتهاض دليله الخالص عن شوب المعارض المساوي، فلا يكون تاركا لمسنون. ولو فعل لم يأمن أن يكون مبتدعا، والمبتدع آثم. فالورع الترك. وأما إذا كان مقلدا فإن كان لاختلاف العلماء [24] تأثير في اشتباه الأمر عليه كما هو شأن أهل التمييز من المقلدين فلا شك أن الورع الترك، لأن ترك سنة مجوزة أحب من ارتكاب بدعة، وإن كان هذا المقلد لا تخالجه الشكوك عند الاختلاف، بل يعتقد صحة قول إمامه، وفساد قول من يخالفه كائنا من كان، كما هو شأن من قل تمييزه من المقلدين، فهذا لا يتأثر معه الاشتباه، بل قول إمامه في معتقده بمنزلة الدليل الخالي عن المعارض في اعتقاد المقلد، فلا يكون الأمر مشتبها في حقه.

قال - عافاه الله -: وهل يجوز مثلا مع تضييق الحادثة كتركة رجل لا تكفي إلا دينه أو تكفينه فماذا يصنع مثلا من يرجح تقديم الكفن على الدين؟ كونه كالمستثنى له من

(1) زيادة يستلزمها السياق.

(2)

[النساء: 101].

ص: 2092

حال حياته، أو يقدم قضاء الدين على الكفن بتقديم الدين على الكفن بتقديم الدليل العقلي على قول من يقول به، لأنه لا تضرر من الميت في تلك الحال بخلاف صاحب الدين، فالتضرر معه حاصل، فكيف يجوز اتقاء الشبهة مع تضيق الحادثة! والاتقاء يؤدي إلى حرمان الميت وأهل الدين جميعا!؟. انتهى.

أقول: إن كان التردد الناشئ عن تعارض الأدلة حاصلا للمجتهد فالمقام شبهة بلا شك، وعليه أن يقف عند ذلك، ولم يكلفه الله أن يفتي بلا علم، إنما تعبد الله بالفتيا والحكم من كان يعلم الحق، وهذا المتردد لا يعلم الحق ولا يظنه لتعارض الأدلة، فلم يحصل له مناط الاجتهاد، وليست هذه الحادثة بمتضيقة عليه، لأنه في الحكم من لا يعلم، هذا إذا كان يرى في اجتهاده عدم جواز التقليد لمثله، وإن كان يرى جواز التقليد إذا عرض مثل ذلك عمل باجتهاده في جواز التقليد له، وقلد من يراه أولى بالتقليد من المختلفين في المسألة من العلماء، فإنه لا يخفى على مثله من هو أولى بالتقليد، وإن كان لا يرى جواز التقليد لمثله فلا يجوز له الإقدام على مثل ذلك الأمر، لأنه إن أقدم أقدم بلا علم، ولم يكلف الله من لا علم عنده [25] أن يقدم على ما لا يعلم بل نهاه عن ذلك في كتابه العزيز (1)، وعلى لسان رسوله - (2) صلى الله عليه وآله وسلم وليست تلك الحادثة بمتضيقة عليه، إنما تتضيق على من يجد منها فرجا ومخرجا.

وأما من لا فرج له عنده ولا مخرج فوجوده بالنسبة إليها كعدمه. وهذا الكلام لا بد

(1) قال تعالى: (ولا تقف ما ليس لك به علم)[الإسراء: 36]. وقال سبحانه تعالى: (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون)[النحل: 116].

(2)

منها: ما أخرجه أبو داود رقم (3657) وابن ماجه رقم (53) والدارمي (1/ 57) والحاكم (1/ 126) من حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من أفتى بفتيا من غير ثبت، فإنما إثمه على من أفتاه". وهو حديث حسن.

ص: 2093

من اعتباره في الحوادث المتضيقة فليحفظ، وأما إذا كان من تضيقت عليه الحادثة مقلدا فإن كان لا يرى الحق إلا ما يقول إمامه ولا يعتد بمن خالفه فعليه أن يفتي أو يقضي بمذهب إمامه، ولا يضره من يخالفه، وإن كان يتبع أقوال العلماء ويحجم عند اختلافهم فالإقدام شبهة، بل من التقول على الشريعة بما ليس منها، ولم يكلفه الله تعالى بذلك، ولا تضيقت عليه الحادثة، فيدع حبل هذه الحادثة على غاربها، ويترك الإقدام على ما ليس من شأنه، ويرفعها إلى من هو أعلم بها منه، إن كان موجودا وإن لم يوجد فلا يجني على نفسه بجهله، وفي الناس بقية يعملون بعقولهم، وهو عن إثمهم بريء. على أن تقديم الكفن على الدين قد صار معلوما من هذه الشريعة في حياته صلى الله عليه وآله وسلم وبعد موته فلم يسمع سامع أن رجلا مديونا سلب أهل الدين كفنه، وقد مات في زمن النبوة جماعة من المديونين، ولم يأمر (1) النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأخذ أكفانهم في قضاء الدين. وما زال ذلك معلوما بين المسلمين قرنا بعد قرن، وعصرا بعد عصر.

قال - كثر الله فوائده -: وكلو خشي فوت الجماعة، وحصل له مدافعة الأخبثين أو الريح .. انتهى.

أقول: ليس هذا من المشتبهات، فإنه قد صح عنه صلى الله عليه وآله وسلم النهي عن الدخول في الصلاة حال مدافعة ..................

(1) منها ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2289) و (2295) عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أتي بجنازة قالوا: صل عليها فقال: "هل عليه دين" قالوا: لا. قال: "فهل ترك شيئا؟ " قالوا: لا، فصلى عليه، ثم أتي بجنازة أخرى، فقالوا: يا رسول الله صل عليها، قال:"هل عليه دين" قيل: نعم. قال: "فهل ترك شيئا؟ " قالوا: ثلاثة دنانير، قال:"فقال بأصابعه ثلاث كيات" فصلى عليها، ثم أتي بالثالثة، فقالوا: صل عليها. قال: "هل ترك شيئا؟ " قالوا: لا. "هل عليه دين" قالوا: ثلاثة دنانير. قال: "صلوا على صاحبكم" فقال رجل من الأنصار يقال له أبو قتادة صل عليه يا رسول الله وعلي دينه.

ص: 2094

الأخبثين (1)، فدخول المدافع في صلاة الجماعة ليس بمشروع، والجماعة إذا فاتته وهو على تلك الحال فلا نقص عليه في فوتها، لأنه تركها في حال قد نهاه الشارع عن قربانها، فهو بامتثاله النهي أسعد منه بالحرص على طلب فضيلة [26] الجماعة.

قال - كثر الله فوائده - وكاستعمال الماء مع خروج الوقت أو التيمم وإدراك الصلاة في الوقت، فنقول: لا يبرأ عن الشبهة إلا من صلى صلاتين: واحدة بالتيمم، والأخرى بعد خروج الوقت بالوضوء، كقول المرتضى أو الناصر (2) .. انتهى.

أقول: إن كان من اتفق له ذلك مجتهدا فالاعتبار بما يترجح له، فإن كان يرى في اجتهاده وجوب التيمم لخشية خروج الوقت، كان فرضه التيمم، وإن كان يرى وجوب الوضوء وإن خرج الوقت كان فرضه ذلك، وإن تردد لتعارض الأدلة كان المقام بالنسبة إليه من المشتبهات يفعل ما يراه أحوط، لكن لا يفعل الصلاة مرتين، فإنه قد صح النهي عن أن تصلى صلاة في يوم مرتين (3). وإذا كان من اتفق له ذلك مقلدا فغرضه العمل بقول من يقلده، إذا كان لا يحصل معه التردد بسبب خلاف من يخالف إمامه، وإلا كان المقام شبهة في حقه على التفصيل المتقدم.

قال - عافاه الله تعالى - وكامرأة خطبها معيب بما يفسخ به عالم ورع، وصحيح

(1) أخرج مسلم رقم (560) وأحمد (6/ 43، 54، 73) وأبو دواد رقم (89) وابن أبي شيبة (2/ 100) والحاكم (1/ 168) والبيهقي (3/ 71) عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا صلاة بحضرة طعام، ولا هو يدافع الأخبثين". وهو حديث صحيح.

(2)

انظر البحر الزخار (1/ 121 - 122).

(3)

أخرج أبو داود رقم (579) والنسائي (2/ 114) والبيهقي (2/ 303) وابن خزيمة (3/ 69) وابن حبان رقم (432) وأحمد (2/ 19) عن سليمان بن يسار - يعني: مولى ميمونة - قال: أتيت ابن عمر على البلاط وهم يصلون، فقلت: ألا تصلي؟ قال: قد صليت إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تصلوا صلاة في يوم مرتين".

وهو حديث صحيح بمجموع طرقه.

ص: 2095

جاهل فاسق، فنقول بترك الكل أم يكون الخروج من الشبهة بتزويج المعيب أو الصحيح الموصوفين بما ذكر

انتهى.

أقول: الصحيح الفاسق ليس ممن ترضى المرأة دينه وخلقه فلا يجب عليها قبول خطبته، بل لا يجوز لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمرنا بقبول خطبة من نرضى دينه وخلقه (1).

وأما المؤمن المعيب فإجابته متوقفة على اغتفار المخطوبة لعيبه، فإن لم تغتفر ذلك كان لها الامتناع ولا تجب عليها الإجابة فليس المقام من المشتبهات التي ينبغي الوقوف عندها، لأن المانع في الخاطب الأول أعني الفاسق راجع إلى الشرع فلا يحل الإجابة له شرعا، والمانع في الخاطب الثاني [27] أعني المؤمن المعيب راجع إلى المخطوبة فيجوز لها إجابته مع الرضا بعيبه.

قال - كثر الله فوائده -: فهذه أطراف ذكرتها لكم على جهة التنبيه، وكيف يكون الحكم فيما هذا حاله؟ وما هو المشتبه منها؟ وما لا؟.

ومثل المسألة التي نحن بصددها في الحدود المحدودة بين القبائل وشجار الزكوات والحرفة والمعاش هل يكون الإجمال في ذلك والوصف للواقع من دون جزم بأن هذا الوجه الشرعي اتقاء للحرام أو الشبهة؟ أم يكون الإجمال في ذلك ليس اتقاء؟ .. انتهى.

أقول: قد قدمنا في البحث الثاني من أبحاث هذا الجواب في تحقيق الشبهة، وما هو الذي ينبغي لمن اشتبه عليه أمر من الأمور ما لا يحتاج إلى إعادته هنا فليرجع إليه، ومسألة الحدود وما ذكر بعدها إن كان المجتهد يرى عدم ثبوتها وبطلانها. فلينظر لنفسه المخرج

(1) أخرج الترمذي في "السنن" رقم (1085) وقال: حديث حسن غريب من حديث أبي حاتم المزني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير، قالوا: يا رسول الله وإن كان فيه؟ قال: إذا جاءكم من ترضون دينه، وخلقه، فأنكحوه ثلاث مرات". وهو حديث حسن. انظر: "الإرواء"(6/ 266).

ص: 2096

إذا ابتلي بشيء منها، وألجئ إلى الفتيا فيها، أو الحكم بشيء ولم يجد بدا من ذلك، وأقل الأحوال إذا لم يمكنه الصدع بالحق والقضاء بأمر الشرع أن يتخلص عن ذلك بالإحالة على غيره، فإن لم يتمكن من ذلك كأن يفوت بترك الخوض في مثل هذه الأمور مصالح دينية، أو ينشأ عن هذا الترك مفاسد في أمور أخرى فعليه أن يحكي ما جرت به الأعراف، واستمرت عليه العادات، ويحيل الأمر على ذلك، ولا يحيله على الشرع المطهر فيكون قد أعظم الفرية على الدين الحنيف، وخلط أحكام العادة بأحكام الوضع والتكليف، وإذا كان قد تقدمه من يجوز تقرير ما فعله من الأئمة والحكام الأعلام فليقل في مثل هذه الأمور التي لا تجري على مناهج الشرع، قال [28] بهذا فلان، وفعله فلان، وحكم به فلان، وأفتى به فلان. وينبه على أن مسلك الشرع معروف، ومنار الدين مكشوف، ومنهج الحق مألوف مثلا إذا اضطر إلى فصل بعض الخصومات المتعلقة بالحدود التي بين أهل البوادي، ووجد بأيديهم ما يفيد بأن الواضع لذلك بينهم أحد المرجوع إليهم في العلم والدين، وأنه لا سبيل إلى الحكم بالشركة (1) الذي هو المنهج

(1) أخرج أبو داود رقم (3477) وأحمد (5/ 364) والبيهقي (6/ 150) عن أبي خداش، عن رجل من المهاجرين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا، أسمعه يقول:"المسلمون شركاء في ثلاث: في الكلأ، والماء، والنار".

وهو حديث صحيح.

فوائد لا بد من الوقوف عليها في هذا الحديث:

1 -

سلامة الدين باتقاء الشبهات:

"فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه": فمن ترك ما يشتبه عليه سلم دينه مما يفسده، أو ينقصه، وعرضه مما يشينه، ويعيبه فيسلم من عقاب الله وذمه، ويدخل في زمرة المتقين الفائزين بثناء الله تعالى وثوابه.

2 -

من وقع في الشبهات وقع في الحرام، وذلك بوجهين:

أ - أن من لم يتق الله تعالى، وتجرأ على الشبهات، أفضت به إلى المحرمات بطريق اعتياد الجرأة، والتساهل في أمرها، فيحمله ذلك على الجرأة على الحرام المحض ولهذا قال بعض المتقين: الصغيرة تجر إلى الكبيرة، والكبيرة تجر إلى

قال تعالى: (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون)[المطففين: 14].

ب - أن من أكثر من مواقعة الشبهات أظلم عليه قلبه، لفقدان نور العلم ونور الورع، فيقع في الحرام ولا يشعر به، وإلى هذا النور الإشارة إلى قوله تعالى:(أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه)[الزمر: 22]. وإلى ذلك الإظلام والإشارة بقوله: (فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله)[الزمر: 22].

3 -

قوله: "كالراعي حول الحمى يوشك أن يرتع فيه" هذا مثل ضربه النبي صلى الله عليه وسلم لمحارم الله تعالى، وأصله: أن ملوك العرب كانت تحمي مراعي لمواشيها الخاصة بها، وتحرج بالتوعد بالعقوبة على من قربها، فالخائف من عقوبة السلطان يبعد بماشيته من ذلك الحمى، لأنه إن قرب فالغالب الوقوع وإن كثر الحذر، إذ قد تنفرد الفاذة، وتشذ الشاذة ولا تنضبط، فالحذر أن يجعل بينه وبين ذلك الحمى مسافة بحيث يأمن فيها من وقوع الشاذة والفاذة، وهكذا محارم الله تعالى، لا ينبغي أن يحوم حولها مخافة الوقوع فيها.

4 -

قوله: "ألا وهي القلب" هذا اللفظ في الأصل مصدر: قلبت الشيء أقلبه قلبا: إذا رددته على بدأته. وقلبت الإناء: إذا رددته على وجهه، وقلبت الرجل عن رأيه، إذا صرفته عنه، وعن طريقه كذلك. ثم نقل هذا اللفظ، فسمي به هذا العضو الذي هو أشرف أعضاء الحيوان، لسرعة الخواطر فيه، ولترددها عليه، وقد نظم بعض الفضلاء هذا المعنى فقال:

ما سمي القلب إلا من تقلبه

فاحذر على القلب من قلب وتحويل

ثم لما نقلت العرب هذا المصدر لهذا العضو التزمت فيه تضخيم قافه، تفريقا بينه وبين أصله، وليحذر اللبيب من سرعة انقلاب قلبه، إذ ليس بين القلب والقلب إلا التفخيم. وما يعقلها إلا كل ذي فهم مستقيم.

5 -

واعلم أن هذا القلب لم يشرف من حيث صورته الشكلية، فإنها موجودة لغيره من الحيوانات البهيمية، بل من حيث هو مقر لتلك الخاصية الإلهية، علمت أنه أشرف الأعضاء، وأعز الأجزاء، إذ ليس ذلك المعنى الموجود في شيء منها، ثم إن الجوارح مسخرة له، ومطيعة فما استقر فيه ظهر عليها، وعملت على مقتضاه، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. وعند هذا انكشف لك معنى قوله صلى الله عليه وسلم:"إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله" ولما ظهر ذلك وجبت العناية بالأمور التي يصح بها القلب، ليتصف بها، وبالأمور التي تفسد القلب ليتجنبها ومجموع ذلك علوم وأعمال وأحوال.

العلوم وهي ثلاثة:

1 -

العلم بالله تعالى، وصفاته، وأسمائه، وتصديق رسله فيما جاءوا به.

2 -

العلم بأحكامه عليهم ومراده منها.

3 -

العلم بمساعي القلوب من خواطرها، وهمومها، ومحمود أوصافها، ومذمومها.

الأعمال:

- وأما أعمال القلوب، فالتحلي بالمحمود من الأوصاف.

- والتخلي عن المذموم منها.

- منازلة المقامات والترقي عن مفضول المنازلات إلى سني الحالات.

الأحوال:

- مراقبة الله تعالى في السر والعلن.

- التمكن من الاستقامة على السنن.

انظر: "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم" للقرطبي (4/ 490 - 497)، و"إكمال المعلم بفوائد مسلم"(5/ 284 - 286).

ص: 2097

الشرعي فليقل في مرقومه: قال فلان كذا، ومنهج الشرع الاشتراك في الماء والكلأ، ولكنه قد حكم بما رآه صوابا. ولا سبيل إلى نقض حكمه أو نحو ذلك من المعاريض التي فيها لمن وقع في مثل هذه الأمور مندوحة. وهكذا سائر ما ذكره السائل - دامت فوائده -

وإلى هنا انتهى الجواب.

قال في الأم التي بخط مؤلفه حفظه الله وكثر فوائده ما لفظه:

وكان الفراغ من تحريره في نهار الجمعة لعله تاسع عشر شهر محرم الحرام سنة 1215 هـ.

انتهى والحمد لله أولا وآخرا، وظاهرا وباطنا، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم، وكان الفراغ من نقله صبح يوم الخميس 8 شهر صفر سنة 1217 بقلم إبراهيم

ص: 2099

ابن عبد الله الحوثي لطف الله به.

بلغ قراءة ومقابلة على نسخة منقولة من خط المؤلف عافاه الله شهر صفر سنة 1343 حرره الحقير محمد بن أحمد الشاطبي [29].

تم القسم الثالث - الحديث وعلومه - من

الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني

ولله الحمد والمنة

ويليه القسم الرابع - الفقه وأصوله -

إن شاء الله

* * *

تم ولله الحمد والمنة

المجلد الثاني من كتاب

الفتح الرباني

ويليه

المجلد الثالث إن شاء الله

ص: 2100